التشريع الاسلامى بين التنزيل المكى والتنزيل المدنى فى لمحة سريعة

آحمد صبحي منصور في الخميس ١٠ - ديسمبر - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً

التشريع الاسلامى بين التنزيل المكى والتنزيل المدنى  فى لمحة سريعة:

 أولا :  بين الايجاز والتفصيل   

نزل التشريع فى مكة يتحدث عن عموميات لأن التركيز فى الوحى المكى كان على العقيدة وتطهيرها من الشرك ، ثم جاء التنزيل المدنى بالتفصيلات .  ونعطى أمثلة

فى الزينة والطيبات والمحرمات

  يقول جل وعلا فى سورة الأعراف المكية : ( يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (33) الاعراف ) . ونضع ملاحظات :

  1 : عمومية الخطاب للبشر ذكورا وإناثا فى قوله جل وعلا:( يَا بَنِي آدَمَ ) و(عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ) أى عند أى إجتماع ، والأرض كلها موضع للسجود والصلاة ، و( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ ). وهذا خطاب للجميع .

 2 : القاعدة الكلية فى التشريع الاسلامى ، وهو أن الأصل هو الإباحة ، وأن التحريم هو الاستثناء ، وأن التحريم حق لله جل وعلا وحده ، وأنه لايصح لمخلوق أن يحرم شيئا مباحا .

  3 : جاءت المحرمات باسلوب القصر ( إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي ). وبالصيغة العامة : ( الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ). وعلى صيغتها العامة فهى تنقسم الى : محرمات سلوكية : الفواحش ، والإثم والبغى ظلما . والإشراك بالله جل وعلا والإفتراء عليه جل وعلا بوحى كاذب ، كالأحاديث السنية والمنامات الصوفية . ومع الإيجاز فى صياغتها فقد جاء شرحها : فالفواحش ( ما ظهر منها وما بطن ) والبغى ( بغير الحق ) تمييزا عن رد البغى بمثله ، وجاء تنويع الشرك الى الشرك (العملى ) بعبادة وتقديس غير الله والشرك (العلمى ) بالتقوّل على الله جل وعلا .

وجاءت تفصيلات له فى التنزيل المدنى :

1 ـ موضوع الزينة الذى جاء فى الايات السابقة جاءت له تفصيلات لاحقة فى سورة النور المدنية عن زينة المرأة وزينتها ( النور 30 : 31 ، 60 )

2 ـ التحريم الاجمالى للإثم جاء تفصيلاته فى تحريم الخمر ، فالخمر من ضمن الإثم المحرم. وجاء تحريمه على سبيل الإجمال فى مكة ضمن عموميات التشريع المكى، ثم جاءت التفصيلات فى المدينة حين سئل النبى عليه السلام عن حكم الخمر فنزل قوله تعالى:  ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نّفْعِهِمَا﴾ (البقرة 219) . وطالما كان فى الخمر إثم كبير فهى محرمة فى مكة قبل المدينة، لأن الإثم القليل حرام فكيف بالإثم الكبير؟!! ثم يأتى تفصيل آخر يؤكد تحريم الخمر وذلك بالأمر باجتنابها فى قوله جل وعلا  : ﴿يَـَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِنّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنصَابُ وَالأزْلاَمُ رِجْسٌ مّنْ عَمَلِ الشّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (المائدة 90). إذن لم تكن الخمر حلالاً ثم نزل تحريمها، ولم ينزل وحى بالسماح بالخمر ثم نزل تشريع آخر يلغى ذلك السماح.. وإنما نزل تحريمها اجمالا ضمن تحريم الإثم، ثم نزل التفصيل يؤكد ما سبق.  أما قوله تعالى ﴿يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَىَ حَتّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ﴾ (النساء 43) فلا شأن لها بالخمر وسكرة الخمر، بل أن كلمة (سكر) و(سكارى) لم تأت فى القرآن عن الخمر، إذ جاءت بمعنى الغفلة عند المشرك فى قوله تعالى ﴿لَعَمْرُكَ إِنّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ (الحجر 72). وجاءت بمعنى المفاجأة عند قيام الساعة ﴿وَتَرَى النّاسَ سُكَارَىَ وَمَا هُم بِسُكَارَىَ﴾ (الحج 2). وجاءت بمعنى الغيبوبة عند الموت فى ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ﴾ (ق 19). وجاءت بمعنى الغفلة وعدم الخشوع وغلبة الكسل والانشغال عن الصلاة عند أداء الصلاة فى قوله تعالى ﴿يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَىَ﴾ وإذا قام الإنسان للصلاة وعقله غائب وقلبه مشغول بأمور الدنيا فهو فى حالة غفلة ولن يفقه شيئاً مما يقول فى صلاته، لذا تقول الآية ﴿لاَ تَقْرَبُواْ الصّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَىَ حَتّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ﴾.

3 ــ وبالنسبة لقيام بعضهم تحريم الطيبات من الرزق  وإستنكار ذلك فى الآية : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ  ) فقد تكرر فى التنزيل المدنى تحديد المحرمات فى الطعام ومنع تحريم اى طعام خارجها وإعتبار تحريم الحلال الطيب إعتداءا على حق رب العزة فى التشريع . جاء هذا فى الايات المدنية الآتية : ( النحل : 114 : 119  ) ( الأنعام  118: 121، 136 : 150) ( البقرة 172: 173 ). ( المائدة 1 ، 3 : 5 ،  87 : 88  )

الشورى

نزل الأمر بالشورى فى سورة الشورى المكية :( وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38). وجاءت تفصيلاتها فى أواخر سورة النور : ( 62 : 64 ) مع أمر للنبى بممارستها بالتأكيد على ان الأمة هى مصدر السلطة فى قوله جل وعلا فى سورة آل عمران : ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)

  تحريم الربا ( ربا الصدقة )،

 جاءت الاشارة اليه فى سورة الروم المكية فى رفض إقراض الفقير بالربا مع الحث على إعطائه الصدقة    فى قوله جل وعلا : (فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (38) وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُضْعِفُونَ (39)   ) وجاءت التفاصيل فى سورة البقرة ( 261 : 281 ) ، مع إباحة الربا فى التجارة إن كان عن تراض ، وبدون فوائد مركبة .يقول الله جل وعلا فى سورة آل عمران -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )  130 ) ويقول الله جل وعلا فى سورة النساء : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ ۚ ) 29 ). والتفاصل فى مقال منشور هنا عن (معركة الربا )

الهجرة

  جاء الحث على الهجرة فى سورة مكية هى العنكبوت ( 56 57   ) ثم نزل فرضها وتكفير من يتعرض للإضطهاد فى دينه ثم لا يهاجر مع قدرته على الهجرة فى سورة النساء ( 97  100  ) .

ثانيا : فى تفصيلات لأصل تشريعى سابق :

توارث العرب العبادات من ملة ابراهيم ، ونزل فى المدينة إصلاحات وإضافات لهذه العبادات فى الصلاة و  الصوم والزكاة المالية والحج  . وتعرضنا لهذا بالتفصيل فى كتب لنا منشورة هنا .

ثالثا : فى تشريعات جديدة :

 فى الدولة الاسلامية المدنية جاء تشريع العقوبات فى موضوع  الفواحش والبغى الظالم فى التنزيل المدنى ، مثل عقوبة الزنا والقذف ( النور ) وتشريعات اجتماعية ودينية مثل كفارة اليمين ( المائدة 89 البقرة  224 225 ) والحيض ( البقرة  222 ) الأحوال الشخصية فى الزواج والطلاق والانفصال والعدة والميراث والوصية ورضاعة الطفل فى سور البقرة والطلاق والنساء والأحزاب والممتحنة . وجاء تشريع العقوبات فى موضوع البغى الظالم فى تشريعات القتال الدفاعى فى سور: الحج  و الانفال والبقرة والنساء والتوبة ، وفى قتال الحاربين البُغاة فى سورة المائدة وفى عقوبة السرقة فى سورة المائدة والقصاص فى سورة البقرة .

 رابعا : التشريع فى العلاقات المتغيرة

 العلاقات  متغيرة بين الدول والجماعات ـ ويشمل هذا المسلمين وأعداءهم  ــ وهى تتذبذب بين الضعف والقوة، والقرآن يضع التشريع المناسب لكل حالة.. فإذا كان المسلمون أقلية مستضعفة مضطهدة فالهجرة واجبة على القادر ، وليس مطلوباً منهم أن يقاتلوا وإلا كان ذلك انتحاراً.وإذا كان المسلمون فى دولة فعليهم أن يقرنوا المٌسالمة بالاستعداد الحربى لردع من يفكر فى الاعتداء عليهم ، ثم إذا تعرضوا لعدوان فعليهم أن يردوا العدوان بمثله، وإذا كان المشركون يقاتلونهم كافة فعليهم أن يردوا العدوان بمثله . وعلى المسلمين فى كل حالة أن ينفذوا التشريع الملائم لهم.

ان تشريع القرآن فيما يخص العلاقات بين المسلمين وأعدائهم فى أروع ما يكون التشريع، إذ أن له ركائز ثابتة تتمثل فى المبادئ الأخلاقية الدائمة من السلام والاحسان والعدل وحسن الخلق والتسامح والصبر على الأذى والاعراض عن الجاهلين ورد السيئة بالتى هى أحسن ورعاية الجواروحفظ حق الجار والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة وأن يقولوا للناس حسنا . ثم له قوانين متغيرة حسب الأحوال ، فالمسلمون فى ضعفهم لا يجب عليهم القتال لدفع الاضطهاد، وإنما عليهم الصبروالتحمل والهجرة اذا أمكن . أما إذا كانت لهم دولة فدولتهم الاسلامية تقوم أساسا على قيم الاسلام الكبرى من السلام والحرية المطلقة للعقيدة وتحريم الاكراه فى الدين وتطبيق العدل الصارم والمساواة بين الناس جميعا والديمقراطية المباشرة وهى التوصيف الحقيقى للشورى الاسلامية ، ورعاية حقوق العباد أو حقوق الانسان.

دولة بهذه المواصفات لا يمكن أن تعتدى على دولة أخرى بل تلجأ للحرب الدفاعية اذا هوجمت فقط اذا لم يكن هناك من سبيل آخرلتفادى الحرب لأن الحرب فى تشريع القرآن هى مجرد استثناء . وحتى اعداد القوة القصوى ( الانفال60) ليس للاعتداء وانما للردع وتخويف القوة الباغية من الهجوم على الدولة المسلمة المسالمة. وبهذا الاستعداد الحربى يمكن اقرار السلام ومنع الحرب وحقن دماء العدو المتحفز للحرب والذى يغريه ضعف الآخر. وطبيعى أنه لا يوجد دولة مستضعفة للأبد كما لا توجد قوة مسيطرة إلى مالا نهاية، وبذلك تظل تشريعات القرآن سارية فوق الزمان والمكان بجوانبها الأساسية الثابتة والقانونية المتغيرة.وعلى المسلمين ـ أفرادا وجماعات ودولا ـ تطبيق التشريع الملائم حسب وضعهم من القوة أو الضعف ، وتطبيق القيم العليا الثابتة فى كل حال من العدل والاحسان والسلام والتراحم وحُسن الخلق .

هذه القيم العليا عى القاسم المشترك فى التشريع الاسلامى ، سواء ما نزل منه فى مكة أو المدينة . وهو يحتاج وقفة .

اجمالي القراءات 9037