الباب الثانى الفصل 11
ßÊÇÈ الصيام ورمضان : دراسة اصولية تاريخية
أوبئة حدثت في رمضان!!

في الخميس ٢١ - نوفمبر - ٢٠٢٤ ١٢:٠٠ صباحاً

كانت الأوبئة والمجاعات من المعالم الأساس في تاريخ العصور الوسطى والقديمة. وإن كان العصر الحديث قد تمكن من القضاء على معظم الأوبئة وحصر المجاعات في أضيق حدود فإن علينا أن نسترجع ذكريات التاريخ المؤلمة لنرى ما أنعم الله علينا من نعمة التقدم ولنكون أحرص على استمرار تلك الحرب المقدسة ضد الجوع والمرض لتكون الكرة الأرضية في المستقبل القريب وطناً للرخاء والشفاء..
* وكانت المجاعة تحدث في مصر على فترات دورية مرتبطة بجفاف النيل الذي لم يستطع أجدادنا السيطرة عليه،وبعد المجاعة يأتي الوباء غالباً بعد أن تمتلئ الأرض بالجثث والعفن، وقد يأتي الوباء منفرداً وله هو الآخر دورته الخاصة إذ ينتشر سريعاً ثم يهدأ وينكشف بعد أن يكون قد أباد مئات الألوف ، خصوصاً من الأطفال الذين لم تكن لديهم حصانة من قبل .. 

ولم يكن رمضان بعيداً عن الأوبئة والمجاعات ، إذ كان له فيهما نصيب مثل باقي الأشهر ..

وقد أدرك المقريزي وهو طفل تلك المجاعة التي حدثت قبل شهر رمضان سنة 776هـ واستمرت إلى آخر شوال، وجاء بعدها وباء أهلك الكثيرين ممن نجوا من المجاعة, يقول المقريزي " إبتدأ الوباء في نصف جمادى الآخرة وكثر موت الفقراء والمساكين بالجوع فكنت أسمع الفقير يصرخ بأعلى صوته :لله لبابة ــ أي كسرة خبز ــ قدر شحمة أذني أشمها وخذوها " ..!!. فلا يزال كذلك حتى يموت ..!!

* ويتحدث المقريزي عن الكساد الذي ساد بسبب هذه المجاعة: " هذا وقد توقفت أحوال الناس من قلة المكاسب لشدة الغلاء وعدم وجود ما يقتات به ، وشح الأغنياء وقلة رحمتهم ، ومع ذلك لم يزدد اجر العمال من البنائين والفعلة والحمالين ونحوهم من أرباب الصنائع بل استقرت على ما كانت عليه قبل الغلاء، فمن كان يكتسب في اليوم درهماً يقوم بحاله ويفضل له منه شيئ صار الدرهم لا يجدي شيئاً، فمات ومات أمثاله من الأجراء والعمال والصناعين .." أى دفع الفقراء والعمال و الحرفيون الثمن جوعا وموتا ..!!

* ثم يتحدث المقريزي عن الغلاء فيقول " وفي شهرى رجب وشعبان اشتد الغلاء فبلغ الأردب القمح مائة وخمسة وعشرون درهما ًوالأردب الشعير تسعين درهماً والأردب الفول ثمانين درهماً والبطة الدقيق زنة خمسين رطلاً بأربعة وثلاثين درهماً ، وشنع الموت في الفقراء من شدة البرد والجوع والعرى وهم يستغيثون فلا يغاثون، وأكل الناس خبز الفول والنخالة عجزاً عن خبز القمح، وبلغ الخبز الأسود كل رطل ونصف بدرهم، وكثر خطف الفقراء له ما قدروا عليه من أيدي الناس ."..!!.. والمصريون يتقاتلون اليوم ليس فى سبيل الله جل وعلا ولكن فى سبيل الخبز .. فهل تقترب مصر اليوم من هذه الحالة . نرجو من الله تعالى السلامة ..!!

* ويقول المقريزي أن المساجين كانوا أشد الناس جوعاً ، وقد حدث أن أقيم بالسجن حائط من طين فأكله المساجين من شدة جوعهم!! وقد أصبحت الدواب نادرة لموتها بالجوع .
* وفي يوم 24 شعبان قررت السلطات المملوكية أن تفرق الفقراء على الأمراء والميسورين ليطعموهم فجمعوا الفقراء وفرقوهم عليهم ، كل حسب حاجته ، ثم نودي بالقاهرة بألا يتصدق أحد على حرفوش ( الحرافيش هم العوام )، وإن أى حرفوش تسول شيئاً فجزاؤه الصلب .
وبذلك التزم كل واحد بمن معه من الفقراء [الحرافيش] فخفت الصراعات التي كانت تحدث في الشوراع ، إلا أن الوباء انتشر وزداد عدد الموتى خصوصاً في شهر رمضان مع نفاذ الأقوات حتى بلغ الموتى في القاهرة يومياً حوالي 500 . ولم يعد بوسع أحد أن يدفن كل هذا العدد فشوهدت الكلاب تأكل الجثث ، وهنا تدخلت السلطات المملوكية فأعلنت أن من أتى بميت أعطوه درهما فأتاهم الناس بالموتى ، فقامت السلطات بتغسيلهم وتكفينهم ودفنهم ، فلما أفنى الوباء الفقراء بدأ عمله في الأغنياء فازداد سعر الأدوية ، وفي نفس الوقت أصبحت الفراريج نادرة حتى كان السلطان يبعث في طلبها من الأقاليم.. وهكذا كان الفقير قبل موته يتمنى ان يشم كسرة خبز، أما الغني فقد كان يعاني في مرضه لا من الجوع بل من غلاء سعر الدواء . 

وكان الوباء ينتقل من بلد إلى آخر ، وفي موسم الحج كان يجد الفرصة للإنتشار. وفي رمضان سنة 837هـ تناقص الوباء بمكة بعد ان أخذ دورته، وفي رمضان 839هـ ظهر الوباء بمدينة تعز في بلاد اليمن وشمل سائر نواحيها . وفي سنة 841هـ بدأ الوباء في الصعيد ودمشق وحلب في شهر رجب فأظهر أهلها التوبة على حد قول المقريزي ــ وأغلقوا حانات الخمر ومنعوا البغايا من الوقوف بالشوارع ( وكان البغاء حرفة مصرحا بها فى معظم فترات العصر المملوكى للزنا والشذوذ، وكانت الدولة تجبى منه الضرائب ) ، فتناقص الموت وخف الوباء حتى كاد يرتفع ، يقول المقريزي " وجعلوا شكر النعمة أن فتحوا الخمارات وأوقفوا البغايا والأحداث (أى الصبيان )للفساد ، وضربوا عليهم الضرائب فأصبحوا وقد مات من الناس ثمانمائة انسان ، واستمر الوباء في ازدياد في شعبان ووصل القاهرة في رمضان.
* وفي يوم الثلاثاء أول رمضان وصل عدد الموتى بالقاهرة 18فرداً ثم تزايد العدد حتى فشا الطاعون في القاهرة ومصر خصوصاً في الأطفال والعبيد والجواري ، ووصل إلى أطراف مصر في الواحات بينما تضاءل في الصعيد. 

هذا الغضب الالهى سببه الفساد العقيدى و السلوكى من الظلم الى انتشار الفواحش مع رفع راية الالتزام بتطبيق الشريعة ( السنية وحكم قضاة الشرع الشريف ) على حد قولهم فقد كان من العادة أن يقام حفل لختم البخاري في القلعة ، ويحضره السلطان وكبار العلماء والقضاة ، وفي هذا العام كان الحديث مع السلطان حول الوباء الذي يصرع الناس وكيفية الخلاص منه وقال العلماء ان السبب في الطاعون هو انتشار الزنا وخروج المراة متبرجة فأمر السلطان برسباي بمنع خروج النساء جميعهن من بيوتهن ومن خرجت فعقوبتها القتل . فامتنعت النساء من الخروج ، وتتبع والي القاهرة من تخرج منهن وكان يضربهن ، فلم تعد إمرأة تخرج من بيتها , فثرتب على ذلك تعطل أحوال النساء الأرامل والعاملات والساعيات في الرزق ، وتعطل البيع والشراء وكسدت الأحوال فاضطرت الدولة في 27رمضان للسماح بخروج الجواري للأسواق لقضاء الحوائج ولكن لا يتنقبن،وأن تخرج العجائز لقضاء مصالحهن ، وسمح للنساء بالخروج إلى الحمامات ولكن لايقمن بها إلى الليل، يقول المقريزي فكان في ذلك نوع من الفرج.

* وجدير بالذكر أن رمضان كان دافعا في حد ذاته للتقليل من خروج المراة المملوكية للشارع بدون أزمة الوباء الذي حدث 841هـ ، ففي 28رمضان سنة 825هـ نودى بالقاهرة بمنع النساء من الخروج إلى الترب والمقابر في أيام العيد وهددن بالعقوبة إن خرجن، فامتنعت نساء كثيرة من الخروج ، وفي رمضان 835هـ كان دولات فجا والي القاهرة مشهورا بعنفه وقسوته وكان يكثر من الخروج بفرسانه للتفتيش على الشوارع وأمر الناس بكنس الشوارع ورشها بالماء ويعاقب من لايفعل ، وهو الذي منع النساء من الخروج للترب والمقابر في أيام الجمعة.. 

ونعود إلى تاريخ الأوبئة في رمضان ، *ونذكر الوباء الذي حدث في رمضان سنة 843هـ في الطائف وعامة بلاد الحجاز،وهلك فيه من قبائل ثقيف وغيرهم عالم لا يحصيه إلا خالقهم بحيث صارت أنعامهم هملاً وأخذها من ظفر بها ، وامتد الوباء إلى نخلة وهي على مسيرة يوم من مكة.
* وفي رمضان 841 انتشر الطاعون في العراق ، وفي نفس الوقت انتشر الجراد الكثير بالقاهرة وضواحيها .
وبعض الأوبئة كان يصيب المواشي ، ففي رمضان 691هـ كثر موت الجمال في الشام حتى حمل الأمراء المسافرون أثقالهم على الخيل وذلك في سلطنة الأشرف خليل .
وبعدها بحوالي قرن أى فى رمضان 794هـ وقع وباء فى البقر حتى بيعت البقرة في مصر بعشرين درهماً بعد ما كانت بخمسمائة درهم ، ثم ازداد انتشار الموت فيها فأصبحت البقرة تباع بخمس دراهم، وترك الناس أكل البقر استقذاراً له وعم الوباء في البقر في مصر كلها وأفنى الجزء الأكبر منها .

* وفي أول رمضان{ يوم الأربعاء} سنة 873هـ الموافق 15 مارس 1468 م كانت بداية الطاعون في مصر والشام ومات فيه ابن صغير للسلطان قايتباي ، وانتشر المرض في هذا الشهر وما بعده ووصل سائر المدن والقرى المصرية.

وقد تحدث بعض الأمراض الموسمية فيزداد غلاء الأدوية * كما حدث في رمضان سنة807هـ وفيه كانت أسعار الأدوية كالآتي :
بذر الرجلة من 60 إلى 80 درهماً القدح ، وقنطار الشيرخشك من 1400 : 30 ألف درهم، قتطارالترنجبين من 400 : 15 ألف درهم وهو دواء ملين وينفع مع السعال والصفراء ، ووصف طبيب دواء لمريض فبلغ ثمن الدواء 120 درهماً ... 

وأخيرا ..!! * واليوم فان الوباء الأساس والمرض المتوطن فى نفس المناطق هو نفس ما توارثناه من العصرين المملوكى و العباسى ،أى الفساد والاستبداد . وبينما ينعم الغرب بالديمقراطية وحقوق الانسان فان الانسان العربى والمسلم لا يزال يعانى من الظلم والقهر والتضييق فى الرزق . صحيح أن التقدم العلمى المستورد من الغرب و المساعدات التى تأتى من الغرب قد أفلحت فى الحد من خطورة الأوبئة والأمراض المتوطنة ولكن أخطر الأمراض المتوطنة وأخطر الأوبئة لا تزال تلتهم الناس ، ليس بالموت السريع المريح ولكن بالموت البطىء المؤلم المخيف .مرض الاستبداد والفساد هو المسئول عن خسارة المسلمين للدنيا والآخرة معا .
على هامش الاستبداد والفساد نشأت تلك الأديان الأرضية للمسلمين لتشرع الخنوع للحاكم ولتنشر ثقافة العبيد ، وبها يعانون العذاب المؤقت فى الدنيا والعذاب الخالد فى الآخرة ..فهل بعد ذلك خسران ؟ .
*فى الدنيا يعانى المصريون العرب والمسلمون من التلوث البيئى والتلوث الأخلاقى والتلوث العقيدى ..وقد يتجمع كل ذلك فى مولد أحد الأولياء وحول ضريحه المقدس ..
ونضع كلمة ( الفساد ) مكان كلمة التلوث ، ونقرأ قوله تعالى يصف عصرنا : (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) ( الروم 41 )
ونتدبر قوله تعالى (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) ونسأل أنفسنا : هل هناك أمل فى أن نرجع لكتاب الله جل وعلا نحتكم اليه فيما وجدنا عليه آباءنا من أديان أرضية وثقافات عباسية ومملوكية وعثمانية ؟
لعل .. وعسى ..!!