1 ـ نبدأ بتحديد ماهية ( الذين آمنوا ) هنا . والواضح أن التنزيل القرآنى يتعامل معهم بما هو كائن وموجود وعلى أساس الاصلاح .
وقد كررنا كثيرا ـ الى حدّ الملل ـ أن الاسلام ظاهريا وسلوكيا هو السلام ، وأن المسلم هو المسالم ، وأن لنا المرجعية فى الحكم على هذا السلوك الظاهرى ، وأن التشريعات الاسلامية تعطى السُّلطة الاسلامية التعامل على هذا السلوك الظاهرى على أساس العدل والسلام وحرية الدين . وأن الاسلام القلبى المقبول عند الله جل وعلا هو الاستسلام والانقياد طاعة له ، وهذا مرجعه لرب العزة ليحكم فيه وحده يوم القيامة . وأن الايمان القلبى هو الايمان بالله جل وعلا وملائكته وكتبه ورسله دون تفريق بين الرسل ، ومرجع هذا الايمان لرب العزة يحكم فيه يوم القيامة .
أما الايمان السلوكى الذى للبشر الحكم عليه فهو الايمان من ( الأمن ) ، أى من يؤثر الأمن والأمان ويكون مأمونا يأمن الناس اليه ويقون به لأنه لا يعتدى على أحد . وبالتالى فالايمان والاسلام يتفقان فى المعنى السلوكى والقلبى . وبالتالى فإن الشرك والكفر هما معا النقيض ، أى سلوكيا ( الاعتداء والإكراه فى الدين ) وقلبيا ( تقديس المخلوقات من بشر وحجر ) . ولنا الحكم على الكفر والشرك من حيث السلوك القولى والفعلى ، لذا يترادف وصف المشركين الكافرين بالظلم والفسق والاعتداء والاجرام . اما من حيث الاعتقاد القلبى فمرجعه لرب العزة يوم الدين . إنطلاقا من هذا فإن الخطاب القرآنى للمؤمنين كان على حسب واقعهم السلوكى لاصلاحهم .
2 ـ وفى التنزيل المكى كان واضحا أن النبى محمدا عليه السلام فى تقربه للملأ المستكبر من قريش كان يتحرج من إلتفاف المؤمنين الفقراء المستضعفين حوله ، ووصل الأمر الى أنه كان يطردهم فعوتب فى ذلك ( عبس 1 ـ ، الكهف 28 ، الانعام 52 ). وبالتالى نفهم أن معظم المؤمنين فى مكة كانوا مؤمنين ظاهريا وسلوكيا ممّن كان وضعهم الاجتماعى والإقتصادى يجعلهم يدخلون فى الاسلام الداعى للحرية والعدل والرحمة خلافا للدين القُرشى العملى القائم على الظلم والسيطرة ، كانوا مستضعفين فى الأرض يريدون التحرر من تلك القرية الظالم أهلها ، لذا جاء فى بعض مسوغات التشريع للقتال الدفاعى فى الاسلام إنقاذ هؤلاء الضحايا المستضعفين فى الأرض ( وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا ) النساء 75 ). هذا هو المفهوم فى تحديد المؤمنين فى التنزيل المكى ( سلوكيا )
3 ـ هذا التحديد للمؤمنين ( حسب السلوك الظاهرى من الأمن وألمان وليس الايمان القلبى بدين الاسلام ) هو الذى نفهم من خلاله نوعى الخطاب الالهى لهم فى التنزيل المدنى ، فى إصلاحهم ، وفى علاقتهم بسادتهم السابقين من الملأ القرشى .
4 ـ الخطاب الاصلاحى لهم فى التنزيل المدنى كان يدعوهم الى الايمان القلبى إضافة الى إيمانهم السلوكى المُسالم، يقول جل وعلا : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِن قَبْلُ ۚ وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا )النساء 136 ): قوله جل وعلا لهم : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) أى آمنوا سلوكيا بإيثار الأمن والأمان والسلام ،( آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِن قَبْلُ ۚ ) أى عليهم أن يؤمنوا قلبيا بالله جل وعلا ورسوله وكتبه . أى كان معهم الايمان السلوكى دون الايمان بدين الاسلام فى ( لا إله إلا الله ) ، أى كانوا مشركين فى عقيدتهم بما إستلزم إصلاحهم قلبيا ليجمعوا الايمان القلبى مع إيمانهم السلوكى ، وكما يفوزون بالأمن فى الدنيا فى الدولة الاسلامية التى تضمن الحرية المطلقة فى العقيدة يفوزون أيضا بالجنة فى الآخرة أو بالأمن والسلام فى الآخرة ،وحيث يقال لهم على أعتاب الجنة (ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ ) الحجر 46 ).
ونفس المعنى يأمر رب العزة الذين آمنوا ( سلوكيا ) بالتقوى القلبية ليستحقوا الرحمة والغفران يوم الدين ، يقول جل وعلا لهم : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) الحديد 28 )، ونفس المعنى فى أمرهم بالتوبة القلبية الصادقة ليكفر رب العزة جل وعلا عنهم سيئاتهم ويدخلهم مع النبى عليه السلام فى الجنة ، يقول جل وعلا : (ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ۖ نُورُهُمْ يَسْعَىٰ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) التحريم 8 ).
ولم ينفع هذا الخطاب الاصلاحى معهم فظلوا فى المدينة يعكفون على أوثانهم متمتعين بالحرية المُطلقة فى الدين لكل إنسان مُسالم ( مسلم سلوكيا ) مأمون الجانب ( مُؤمن سلوكيا ) . فى التنزيل المدنى أمرهم رب العزة بإجتناب الأوثان وإجتناب قول الزور عن خرافاتها ، قال لهم جل وعلا فى خطاب مباشر : ( فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِوَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ) الحج 30 ). لم يجتنبوا الأوثان ولم يجتنبوا قول الزور ، فكان من أواخر ما نزل فى المدينة قوله جل وعلا للذين ( آمنوا ) سلوكيا فقط : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.) هنا أمر للذين ( آمنوا ) بإجتناب الخمر واليسر والأنصاب أى القبور المقدسة والأزلام أى مزاعم الزور فى علم الغيب للالهة المصنوعة ، لعلهم يفلحون فى الآخرة ، وفى الآية التالية يقول جل وعلا لهم بنفس الخطاب المباشر : ( إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ ۖ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ. ) ، أى أن الشيطان هو الصانع لهذه الأباطيل ليوقع بينهم العداوة والبغضاء وليصدهم عن ذكر الله جل وعن الصلاة، أى كانوا يشربون الخمر ويعكفون على الأنصاب ولا يذكرون الله جل وعلا ولا يؤدون الصلاة. ويأتى الخطاب الالهى لهم بتساؤل شديد الدلالة : (فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ ) .!!. ثم يأتيهم فى الآية التالية تحذير إن لم يطيعوا الله جل وعلا ورسوله ، وإن لم ينتهوا فليس على الرسول سوى البلاغ وليتحملوا هم عاقبة أمرهم يوم القيامة ، يقول لهم جل وعلا : ( وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا ۚ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ) المائدة ).
5 ــ وفى علاقتهم بسادتهم السابقين من الملأ القرشى وعلاقتهم بالنبى عليه السلام تنوع الخطاب الاصلاحى للمؤمنين المهاجرين على النحو التالى :
5 / 1 : ـ غلب عليهم حنينهم الى مكة موطنهم السابق ، وموالاتهم لسادتهم الملأ القرشى وأهاليهم الكافرين المعتدين الظالمين برغم ما نالهم من إضطهاد . وهذا كان مألوفا فى الثقافة العربية التى كان يسودها الانتماء للقبيلة والأهل والعشيرة . وفى الموازنة بين الانتماء الى الاسلام وما يعنيه من قيم عليا وتقوى لرب العزة جل وعلا والانتماء للقبيلة تغلب الانتماء للقبيلة لدى الذين ( أمنوا ) من المهاجرين . وهذا واضح فى التنزيل المدنى . وقد سبق التعرض لسورة الممتحنة فى التأنيب الالهى للذين ( أمنوا ) الذين كانوا يُسرُّن المودة للكافرين المعتدين الذين أخرجوا النبى والمؤمنين . ولقد إستمر هذا التأنيب لهم فى التنزيل المدنى فى قوله جل وعلا لهم تهديدا لهم : (لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ۚ أُولَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ ۖ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۚ أُولَٰئِكَ حِزْبُ اللَّهِ ۚ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) المجادلة 22 )، أى فهم آمنوا سلوكيا ولكنهم فى موادتهم للكافرين من أقاربهم لا يمكن أن يكونوا مؤمنين قلبيا برب العزة واليوم الآخر . والموالاة لا تقتصر على المودة القلبية بل الانحياز قلبيا الى عدو فى حالة الحرب .
ولقد إستمر هذا التأنيب للذين آمنوا من المهاجرين ــ بسبب موالاتهم الكفار المعتدين ــ الى سورة التوبة وهى من أواخر ما نزل من القرآن الكريم . يقول جل وعلا لهم : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) التوبة 23 )، وفى الآية التالية نعرف أسبابا جديدة غير التعصٌّب القبلى لقريش ، وهو عوامل إقتصادية ودنيوية من تجارة مع الكفار ومساكن للذين آمنوا فى مكة ، وبسببها توارى حُبُّهم لله جل وعلا ورسوله والجهاد فى سبيله .يقول جل وعلا يحذرهم : ( قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) التوبة 24 ).
5 / 2 : إنعكس هذا فى تكاسلهم عن القتال الدفاعى لأنه قتال ضد ( الأهل والعشيرة ) الذين يُسرٌّون اليهم بالمودة ويوالونهم . كانت قريش قد دأبت على الهجوم على المدينة وقت أن كان القتال الدفاعى ممنوعا والأمر بكفّ اليد سائدا ، فلما نزل الإذن بالقتال الدفاعى للمؤمنين الذين ( يُقاتلون ) اى يقع عليهم القتال ( الحج 38 : 41 ) ضجّ بعض الذين آمنوا إحتجاجا يطلبون التأجيل ، وردّ عليهم رب العزة فقال : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ۚ وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ ۗ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَىٰ وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا ) النساء 77 ). ومع هذا ظلوا يكرهون فرض القتال الدفاعى ع أنه خير لهم ، لأنه بدونه سيستأصلهم الكافرون المعتدون ، يقول جل وعلا لهم يعظهم فى رفق : ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) البقرة 216 ).
وكانت موقعة ( بدر ) إختبارا حقيقيا لهم ، أسماها رب العزة ( يوم الفرقان يوم التقى الجمعان )( الأنفال 41 ) . الاختبار ليس فقط فى أن المؤمنين خرجوا ليأخذوا حقهم من القافلة ، حيث صادر الملأ القرشى أموال المهاجرين وبيوتهم وإسهاماتهم فى القوافل التجارية ، وليس فقط فى أنه تحتم عليهم أن يواجهوا جيشا يفوق عددهم ، ولكن السبب الأكبر أنه يواجهون قريش بكل ما تعنيه قريش من سطوة . لذا حين تحتمت عليه المواجهة الحربية كرهوها وأخذوا يجادلون النبى فى الحق الذى تبين ،كأنما يُساقون الى الموت وهم ينظرون ، وإستلزم الأمر تثبيتهم بالملائكة لينتصروا ، ولترتفع ( روحهم المعنوية ) بتعبير عصرنا ( الأنفال 5 : 12 ) .
ولازمهم هذا التثاقل عن القتال الدفاعى الى آواخر التنزيل المدنى فى سورة التوبة ، يقول جل وعلا للذين ( آمنوا ) : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ ۚ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ ۚ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ) التوبة 38 ) لاحظ هنا ( الثقل ) فى التعبير القرآنى المُعجز فى تعبيره ودلالته : (اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ )، ولاحظ التأنيب القاسى : (أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ ۚ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ )، ثم يقول جل وعلا لهم مهددا بعذاب أليم وأن يستبدلهم بقوم آخرين : (إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) التوبة 39 ) .
5 / 3 : أى وصل التهديد الى ( إستبدالهم بقوم آخرين ) ، وهذا يعنى إهلاكهم. وقد تكرر هذا التهديد للذين ( آمنوا ) فى سورة ( المائدة ) فى موضوع موالاة أولئك الذين آمنوا ــ سلوكيا وليس قلبيا ــ للكفار، حين وصل الأمر الى إحتمال ردتهم عن الاسلام سلوكيا ، فقال جل وعلا يهددهم :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) المائدة 54 ) ولأنه فى موضوع الموالاة للكافرين المعتدين قال جل وعلا ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ) المائدة : 55 :56 ) . ونفهم هنا أن الاختيار هو بين حزب الله جل وعلا أوحزب الشيطان كما جاء من قبل فى سورة ( المجادلة 22 ) وأن هذا التهديد الذى جاء لاحقا فى سورة المائدة كان تحذيرا من تحول الموالاة القلبية الى موالاة بالسلاح للكافرين المعتدين ، أى أن يفقد ( الذين آمنوا ) بمعنى المُسالمة والأمن صفة المسالمة والأمن فيصبحوا كافرين بالسلوك العدوانى .
5 / 4 : ومن الطبيعى أن يبخل أولئك ( الذين آمنوا ) عن الانفاق الحربى فى سبيل الله جل وعلا . وهذا البُخل عن الانفاق فى سبيل يعنى التهلكة ، لذا قال جل وعلا بعد تشريع القتال الدفاعى يأمر بالاتفاق فى سبيل الله : (وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِوَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) البقرة 195 ) ، وتالت الأوامر بالانفاق فى سبيل الله ( المنافقون 9 : 11 ) ( النساء 37 )، ثم نزل التحذير بأن يستبدل الله جل وعلا قوما غيرهم لاستمرار بخلهم ، يقول جل وعلا محذرا : ( هَا أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ ۖ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ ۚ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاءُ ۚ وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم) محمد 38 ).
6 ـ وهذا التهديد بالاهلاك ( الجزئى ) حدث فى عصر الخلفاء الراشدين ، بالفتوحات والفتنة الكبرى. وهنا نضع بعض الملاحظات :
6 / 1 : ( الذين آمنوا ) من المهاجرين لم يكونوا كلهم من المستضعفين ، كان منهم بعض المنتمين للملأ ، ومنهم من ( مرد على النفاق ) وحافظ على موقع الصدارة ، وعلى العكس كان منهم السابقون إيمانا وعملا ( التوبة 100 : 101 ) وهذا ضمن التقسيم الأخير لأهل المدينة قبيل موت النبى عليه السلام .
6 / 2 : ولكن الأغلبية من قوم النبى ( قريش ) كذبوا بالحق القرآنى ، يقول جل وعلا فى التنزيل المكى يحذرهم مقدما بالعذاب الدنيوى وبتقسيمهم الى شيع متقاتلة يذيق بعضهم باس بعض : (قل هُوَ الْقَادِرُ عَلَىٰ أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ ۗ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ )الأنعام 65 )، والسبب هو تكذيبهم للقرآن الكريم ، يقول جل وعلا فى الآية التالية : ( وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ ۚ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ ) الانعام 66) ، ويؤكد أن هذا سيحدث وسوف يعلمونه فى أوانه : ( لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّوَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ) الانعام 67 ) . وفعلا فإن الملأ القرشى هو الذى قام بالفتوحات منتهكا شريعة الاسلام ومنتهكا الأشهر الحرم ومُكذّبا للقرآن الكريم ، ثم بعدها وقعوا فى الفتنة الكبرى بسبب التنازع على غنائم وثروات الأمم المفتوحة .
6 / 3 : ومن العجيب أن هذا هو الذى حذّر منه رب العزة مسبقا فى سورة ( الأنفال ) والأنفال تعنى ( الغنائم ) . القافلة التى سار النبى واصحابه للإستيلاء عليها كانت من أموالهم ، وهم أصحاب حق فيها . وتنازع المؤمنون حول الغنائم ، فليس كل من حارب كانت له حقوق ضائعة لدى قريش ، ولذا بدأت سورة الأنفال بالتأكيد على أن الانفال لله جل وعلا ورسوله والأمر باصلاح الخلاف بينهم وتقوى الله ، ثم جاء توزيع تلك الغنائم والأكل منها حلالا طيبا ( الأنفال 1 ـ ، 41 ، 69 ). ومعنى وصف رب العزة الأكل من هذه الغنائم (حلالا طيبا) أنها كانت حقا للمؤمنين الذين أخرجتهم قريش من ديارهم وأموالهم (الحج 40 ) ، وبدليل تحريم أخذ الفداء المالى من أسرى بدر ( الأنفال 67 : 71 ) . الغنائم الحلال هنا مرتبطة بوضع خاص ، لايجوز تعيميمه إلا فيما يشابهه فقط فى قتال دفاعى ضد عدو معتد قام بالسلب والنهب .
فى نفس السورة نتعرف على صفات سلبية للذين آمنوا ، فقد كانوا لا يستجيبون طاعة لله جل وعلا ورسوله وكانوا يخونون الله جل وعلا ورسوله فحذرهم رب العزة من فتنة لا تصيب الذين ظلموا منهم فقط ، وأعلمهم أن أموالهم وأولادهم فتنة وأن الله جل وعلا عنده الأجر العظيم، يقول جل وعلا فى سورة ( الأنفال 24 : 29): (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ واعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ).
الذين آمنوا ظاهريا وكذبوا بالحق القرآنى ما لبث أن تناسوا هذا فقرنوا الكفر القلبى بالكفر السلوكى ووقعوا فى جريمة الفتوحات ، فحاقت بهم الفتنة التى قال عنها رب العزة فى سورة الأنفال:(وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ). والتفصيل فى كتابنا عن ( المسكوت عنه فى تاريخ الخلفاء الراشدين ).