كان جان جاك روسو يفترض الطيبة والوداعة في الإنسان الأول البدائي، مما حدا بفولتيير لأن يقول له "أنك تغريني بالمشي على أربع"!!. . الحقيقة أن الطبيعة الأولية الخام للإنسان هي طبيعة وحشية، تعصف بها شتى أنواع الغرائز بلا ضابط ولا رابط. مسيرة الإنسان الحضارية وتنامي وتنوع احتياجاته هي التي أجبرته على التهذيب من غرائزة، عبر محاولته إشباع هذه الاحتياجات بالتواجد في مجتمعات. هذا الرقي والتحضر لم يغير من طبيعته البيولوجية الوحشية، التي ظلت تجذبه دوماً إلى أسفل عودة لأصوله، فيما يعمل المجتمع وظروف الحياة من حوله على منعه من السقوط، بل ودفعه للمزيد من الرقي، الذي اصطلحنا الآن على تسميته "الإنسانية".
من هنا ندرك سر جاذبية الإيديولوجيات الفطرية البدائية، التي تسحب الإنسان إلى هاوية الوحشية الأولى، التي يتوافق معها ويتوق إليها تكوينه البيولوجي الأصيل.
لعل غريزة الخوف وما يترتب عليه من حالة قلق دائم، هي أهم ما تميز به الإنسان طوال مسيرته من البدائية والوحشية إلى عصور الحضارة. فاستشعار الأمان المطلق كفيل بقعود الإنسان، وتوقف عقله عن الفكر الابتكاري، وانخفاض حجم الجهد الذي يبذله إلى حد أدنى. ولعل هذا وراء ما شهدناه من فشل وانهيار للنظم الاشتراكية، التي حاولت توفير الأمان التام والمساواة بين سائر الأفراد اقتصادياً، بما لابد وأن يحولهم إلى كما لو هياكل خشبية، لا تخشى شيئاً ولا تطمع في شيء، فيتوقفون ساكنين مكانهم، فيما العالم الحر يتغير ويتطور.
كان الخوف وما يترتب عليه من بحث عن ملجأ يحميه من أسباب ومصادر مخاوفه، هو قوة الدفع للإنسان منذ بداية مسيرته الحضارية، فور نزوله من مصاحبة القردة على الأشجار، وهي اللحظة التي امتزج فيها الخوف بالشجاعة والإقدام على المواجهة. الخوف من مظاهر الطبيعة من أمطار وبرق ورعود، وحتى من توالي الليل والنهار في صورة نور وظلمة، والخوف من الحشرات والحيوانات المفترسة وغير المفترسة، وبين بينها سائر البشر الآخرين، الذين اندرجوا جميعاً في البداية في ذهنه مع سائر مكونات "المملكة الغيرية". ففي هذه المرحلة المبكرة من الوعي الإنساني، تمحور الإنسان حول نفسه فقط، وتملكته حالة جزع من كل ما هو خارج هذا الجسد. وهذا ما ولد لديه بالتالي نزعة عدوانية، يستبق بها ما يتوقع أن يلحق به من ضرر من الآخر، والتي مازلنا نعيش آثارها حتى الإنسان لدى كثيرين.
مع تقدم ورقي الوعي الإنساني، بدأ الإنسان في تكوين الأسرة، ليخرج أفرادها من نطاق الغيرية، إلى دائرة توحد مع الذات، في مواجهة باقي مكونات "المملكة الغيرية". وقد لعبت الأنثى/ الأم هنا دوراً رئيسياً، في جذب الرجل نحو الاستقرار، وفي قبوله واعتباره باقي أفراد أسرته جزءاً من كيانه. ومع الوقت بدأت التكوينات الأسرية تتجمع في جماعات، لتحمي وتأتنس ببعضها البعض، مكونة قرى ثم عشائر وقبائل. في مرحلة القبائلية توحد الأفراد المنتمين إليها، فأصبح الكيان القبلي هو ذات الفرد، يحتمي به ويدين له بالولاء، لينحصر خوف الإنسان في سائر ما يحيط به خارج دائرة قبيلته. كانت هذه المرحلة بداية جادة قوية، لانتقال الإنسان من "الأنا" إلى "نحن".
احتاج الإنسان إلى فترة زمنية أخرى، للانتقال من مرحلة القبيلة إلى مرحلة تكاملية، تجمع قبائل شتى تحت مسمى ما عرف بالوطن. لتدخل التكوينات القبلية مرحلة التفكك، ليذوب المنتمون إليها في الكيان الجديد المسمى الوطن. وكانت هذه خطوة أخرى في مسيرة ا لانتقال من "الأنا" إلى "نحن".
الآن تعيش المسيرة الإنسانية في مرحلة أرقى، هي عصر العولمة، الذي يذهب باتجاه زوال الخوف السلبي الإنساني البدائي من تركيبة الإنسان السيكولوجية تماماً، لينفتح على مجمل "القبيلة الإنسانية"، بل وأيضاً على "عالم الحيوان" وسائر مكونات البيئة، التي كانت في البداية مصدر قلق وتخوف دائم له. فنحن نشهد الآن محاولات إنسانية واسعة لحماية حيوانات وطيور برية من الانقراض، وإنشاء محميات للنبات والحيوان في سائر أنحاء العالم. الدافع المستقبلي للإنسان العولمي المأمول لن يكون بعد هو الخوف من الآخر، وإنما سيكون الرغبة الإيجابية في الاندماج والتكامل مع البيئة وكل ما عليها من كائنات، ليستطيع الإنسان التمتع بما يحققه هذا التألف من سعادة ورفاهية عيش. هي إذن مرحلة استبدال الرغبة في الإيجابيات كقوة دافعة للتطور والتغيير، بالدافع السلبي البدائي، الذي هو الخوف مما قد يلحق به من أضرار. وتتقلص غريزة الخوف في مجرد الحرص على عدم ضياع ما يُحَصِّله الإنسان من مكاسب. هنا نكون قد وصلنا إلى المحطة النهائية من مسيرة انتقال الإنسان من "الأنا" إلى "نحن". حيث "نحن" هنا هي القبيلة البشرية جمعاء. أو حتى يصح القول أن "نحن" هي الكون بكل ما فيه من مظاهر طبيعية وكائنات حية.
هذا التطور المستمر لسيكولوجية الإنسان لم يكن متساوياً بين جميع أفراد الجنس البشري. وتنوعت درجة مسايرته بين الأفراد والجماعات، وفقاً لعناصر ذاتية وبيئية، ومع اختلاف طبيعة الثقافات السائدة بين مكونات الكيانات التي تتشكل منها المجتمعات الموسعة، من حيث مدى صلاحيتها للانفتاح وقبول الآخر. فمازلنا نجد أفراداً محاصرين في ذاتيتهم الفردية بدرجة أو بأخرى. كما نجد جماعات قد تختلف في مدى تحول أفرادها السيكولوجي، من مرحلة الأسرة إلى القبيلة إلى الوطن والعالمية.
تبدو شعوب الشرق الأوسط هكذا سجينة عصر القبائلية والطائفية العنصرية، عاجزة عن مغادرتها. نلمس هذا الآن بوضوح فيما تشهد المنطقة من تفجيرات داخلية لمكوناتها الوطنية. وفيما يشيع بين الناس، من "نظرية المؤامرة" العالمية على كياناتها الدينية والطائفية والعرقية والوطنية. فما نشهده الآن من رواج غير مسبوق لنظرية المؤامرة، هو بمثابة ارتداد أو سقوط مروع إلى حالة سيكولوجية بدائية، كان يفترض أن الإنسان عموماً قد غادرها إلى غير رجعة، منذ ما يقرب من 50 ألف عام، من عمر الإنسان الذي يرجع إلى حوالي 200 ألف عام. في هذا السياق أيضاً نرى تفشي الأعمال العدوانية، ترافقها ثقافة وسيكولوجية الكراهية، كمجرد عرض من أعراض الارتداد إلى الخوف الإنساني البدائي من الآخر.
هنا يبرز تساؤل، إن كان هذا العجز عن مسايرة التطور الطبيعي للإنسان والإنسانية، هو نتيجة قصور ذاتي في شخصية إنسان المنطقة، أم أنه يرجع لعناصر بيئية وظروف محيطية، أم لكلا العاملين معاً؟
Kamal Ghobrial
Alexandria- Egypt