( المسكوت عنه من تاريخ الخلفاء الراشدين ) : الكتاب كاملا

آحمد صبحي منصور في الثلاثاء ١٠ - نوفمبر - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً

من يقرأ هذا الكتاب لن ينساه . ربما يلعن المؤلف ، وربما يمدحه ، ولكن لن يكون نفس الشخص بعد قراءة هذا الكتاب الذى يفضح الخلفاء ( الراشدين ) من خلال المكتوب عنهم فى التاريخ المعتمد لدى السنيين أنفسهم .

الفهرس :

الباب الأول : صحابة الفتوحات : مقدمة الباب الاول

 الفصل الأول : الفتوحات العربية أساس الانتهاك وبدايته : ( أولا : الفتوحات إنتهاك لتشريع القتال وانتهاك للشهر الحرام . ثانيا : تطرف صحابة الفتوحات فى الكفر أكثر من الجاهلية أصحاب النسىء .    ثالثا : بالفتوحات تأسست أديان المسلمين الأرضية . رابعا: تطرف صحابة الفتوحات فى الكفر أكثر من حواريى عيسى عليهما السلام .  أخيرا : ضع أعصابك فى ثلّاجة. )

 الفصل الثانى  : صحابة الفتوحات ليسوا من السابقين وليسوا من أهل اليمين  : ( أولا : نوعيات الصحابة بين القرآن والتاريخ . ثانيا : صحابة الفتوحات ليسوا من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار . ثالثا : صحابة الفتوحاتليسوا من أصحاب اليمين . رابعا : فضل السابقين على أصحاب اليمين .  خامسا :الصحابة السابقون واصحاب اليمين كانوا مغمورين وليسوا من سادة القوم كصحابة الفتوحات .  أخيرا )

 الفصل الثالث :  صحابة الفتوحاتهم الذين لم يتوبوا   : ( مقدمة  . أولا : الصحابة المهاجرون القرشيون المتمسكون بالولاء لقريش . ثانيا : عُصاة الصحابة من المهاجرين القرشيين الذين لم يتوبوا .  ثالثا : صحابة عُصاة متنوعون لم يتوبوا . رابعا : التوبة هى الفيصل وصحابة الفتوحات لم يتوبوا. خامسا : قادة الفتوحات أنبأ الله جل وعلا مقدما بعدم توبتهم . )

 الفصل الرابع : صحابة الفتوحات كانوا من مشاهير الصحابة حول النبى عليه السلام : ( أولا : أبوبكر صاحب النبى فى الغار .  ثانيا : تعلّق النبى محمد بصُحبة المشركين الأغنياء دون المؤمنين الفقراء. ثالثا : السبب فى تعلّق النبى محمد بصُحبة المشركين الأغنياء دون المؤمنين الفقراء . رابعا : الوضع السياسى هو الذى حتّم ذلك على النبى عليه السلام .أخيرا: المعنى المّراد ممّا سبق . )

الباب الثانى : مكر قريش أدّى للفتوحات

 الفصل الأول  : صحابة الفتوحات صناعة قرشية فرعونية لا إسلامية : ( مقدمة : قريش الفرعونية . أولا : آل فرعون أئمة للطغاة بعدهم  وكذلك قريش . ثانيا : الطغيان الفرعونى والقرشى . ثالثا : مهابة فرعون ومهابة قريش . رابعا :  المكر الفرعونى والمكر القرشى . خامسا : خامسا : الكيد والتآمر لعموم  السابقين . أخيرا . )

 الفصل الثانى : صحابة الفتوحات عملاء لقريش زرعتهم حول النبى عليه السلام : ( مقدمة  : بين المكر الفرعونى  والمكر القرشى . أولا : من الملفت للنظر .. ثانيا : تنوع المكر القرشى الذى ( تزول منه الجبال )  ثالثا  : مكر قريش بتهجير المسلمين من مكة . رابعا : زرع عملاء حول النبى . أخيرا . )

  الفصل الثالث : مكر قريش باستغلال الأعراب ضد النبى والمسلمين : ( أولا : إستعراض موجز لسورة الأنفال . ثانيا : مكر قريش وإستخدامها الأعراب فى حرب النبى . )

 الفصل الرابع  : مكر قريش وراء حرب الردّة : ( اولا :  الهدوء الذى يسبق العاصفة. ثانيا ـ قريش تستغل الاسلام لإعادة هيمنتها بعد أن فقدت الكعبة أهميتها التجارية  . ثالثا : شواهد من التاريخ المكتوب .  أخيرا . )

الفصل الخامس  :  أبو سفيان هو رأس المكر القرشى : ( أولا : المُخرج أبوسفيان . ثانيا : التعتيم على دور أبى سفيان فى التآمر على النبى فى مكة . ثالثا : مكانة ابى سفيان فى قريش وفى العالم وقتها . رابعا : أبو سفيان يستعيد مكانته بعد أن دخل الاسلام متأخرا . خامسا :أبوسفيان يضع عينه على الشام.) 

 الفصل السادس :   خالد وعمرو عملاء لأبى سفيان ( أولا:  مكر أبى سفيان الذى تزول منه الجبال . ثانيا : بين ( عمرو ) و ( خالد ) . ثالثا :  عمرو بن العاص . رابعا :  خالد بن الوليد بن المغيرة .  وعن  الروايات التاريخية التى يرد فيها ذكر النبى عليه السلام مع خالد . أخيرا. )

الباب الثالث  : مكر قريش مع صحابة الفتوحات

 

الفصل الأول :  ( عُمر)  العميل الأكبر لأبى سفيان  ( مقدمة : أيهما الأعزّ والأقدس الاسلام أم عمر ؟ القرآن أم الروايات السّنية التى تقدس عمر كذبا وإفتراءا ؟.  أولا : نبدأ بتقرر الحقائق القرآنية  . ثانيا  : ابو جهل هو خال عمر بن الخطاب . ثالثا :إسلام عمر المفاجىء . رابعا : فرح المسلمين باسلام عمر .  خامسا :علاقة عمر بأبى سفيان فى حياة النبى . )

 

 الفصل الثانى :  ( عُمر)  فى خلافة ابى بكر : ( مقدمة : رؤية للتخطيط السفيانى  . أولا : عُمر هو بطل تولية أبى بكر وتهميش الأنصار . عمر يقتل سعد بن عبادة . ثانيا : عمر وتهميش (على ) والهاشميين . ثالثا : عمر يهدّد بحرق بيت (علي ) والسيدة فاطمة الزهراء . رابعا : متى بايع (على ) أبا بكر ؟.  خامسا : حرمان السيدة فاطمة من ميراثها من أبيها . سادسا :  عّمر كان هو الحاكم الفعلى فى خلافة أبى بكر ، وكان المستفيد أبا سفيان . أخيرا . )

الفصل الثالث   :  ( عُمر)  هو قاتل أبى بكر : ( أولا : موت أبى بكر المفاجىء والغامض  .  ثانيا : إغتيال أبى بكر بالسّم  . ثالثا  : عمر هو قاتل أبى بكر . رابعا : عمر يسارع بدفن أبى بكر ليلا وبلا جنازة . رابعا : عمر يسارع بالاستيلاء على بيت مال أبى بكر. ).

الفصل الرابع :  خالد هو سبب قتل أبى بكر  :  (  مقدمة .  أولا : أبو بكر يرفض عزل خالد بسبب قتله مالك بن نويرة  . ثانيا : إنتصارات خالد وغنائمه فى العراق . ثالثا : اموال خالد  وإهانة أبى سفيان هما الأسباب المباشرة فى قتل أبى بكر . رابعا : توجّه خالد من العراق  للشام ثم عزله  . خامسا : موتة خالد الغامضة .

الفصل الخامس   : انتهاك الأشهر الحرم فى خلافة أبى بكر  ( مقدمة .  أولا : انتهاك شرع الاسلام فى الفتوحات فى عهد أبى بكر. ثانيا : إنتهاك الأشهر الحُرم فى خلافة أبى بكر وفتوحاته . ثالثا : لماذا إنتصر العرب ؟. أخيرا . )

الفصل السادس   :  أبو سفيان فى خلافة ( عُمر)  ( أولا : تولى عمر الخلافة بمجرد موت أبى بكر ودفنه. ثانيا : محاسبة عمر للولاة بالمصادرة والضرب والعزل . ثالثا : محاباة عمر ( العادل ) لمعاوية . )

الفصل السادس  : انتهاك الأشهر الحّرم فى خلافة عمر  : ( مقدمة . أولا  :  أمثلة لانتهاك ( عمر ) الأشهر الحرم فى فتح فارس . ثانيا : فى فتح مصر . ثالثا : الانتقام الالهى  من عمر ومن العرب . )

 الباب الرابع : مكر قريش والفتنة الكبرى

الفصل الأول  : انتهاك الأشهر الحّرم فى خلافة عثمان : ( أولا : البلاد المفتوحة أسوأ حالاً في عهد عثمان .  ثانيا : مؤامرة إستخلاف عثمان بدلا من ( على ). ثالثا : كان مستحيلا أن تنشب ثورة ضد عمر للأسباب التالية . رابعا : حتمية الثورة على عثمان . خامسا : تآمر قريش على عثمان . )

الفصل الثانى   : الانتقام الالهى من عثمان  : ( أولا : تقرير موجز عن احداث الثورة على عثمان . ثانيا : الروايات فى قتل عثمان  ودفنه . أخيرا . )

الفصل الثالث  ( خلافة على والانتقام الالهى فى موقعة الجمل )   ( مقدمة  :هذه الفتنة الكبرى التى لازلنا نعيش فى ظلامها . أولا : خلافة ( على ) فى سطور من ( الطبقات الكبرى ) لابن سعد  . ثانيا : تحليل معركة الجمل كلعنة الاهية .  أخيرا . )

 الفصل الرابع  إنتهاك الأشهر الحرم فى معركة صفين فى خلافة (على )  : ( مقدمة  :هذه الفتنة الكبرى التى لازلنا نعيش فى ظلامها .  أولا : خلافة ( على ) فى سطور من ( الطبقات الكبرى ) لابن سعد  . ثانيا : تحليل معركة الجمل كلعنة الاهية . أخيرا . )

الفصل الخامس  : (على : خليفة فاشل ، قهره عصره )  : ( مقدمة  :  تقييم (على  بن أبى طالب ). أولا : بين معاوية ( العلمانى ) و( على ) الذى يخلط السياسة بالدين . ثانيا : بين عبقرية ( على ) الجنسية وعبقرية معاوية السياسية .   ثالثا : نموذج للمقارنة السياسية بين ( على ) ومعاوية . رابعا : من مظاهر الفشل السياسى لعلى .   أخيرا . ) :

 المقدمة

1 ـ أعلم تماما إن من لم يقرأ لنا من قبل ثم يقرأ هذا الكتاب ستصيبه صدمة كبرى ، فقد عاش كما عاش السلف على تقديس الخلفاء الراشدين قرونا، وعاش كما عاش السلف على تقديس الفتوحات (الاسلامية ) . وقد كنت أسيرا لهذا الإفك وأنا طالب فى الأزهر ثم إستمر إيمانى به بعد حصولى على الدكتوراة وعملى فى الجامعة وتأليفى 11 كتابا . ثم تحررت من هذا الأفك بفضل القرآن الكريم والاحتكام اليه فى تاريخ المسلمين وتراثهم وأديانهم الأرضية . وكان من بوادر هذا التحرر كتابة بحث ( المسكوت عنه من تاريخ عمر فى الفكر السّنى ) والذى كوفئت عليه بآلاف اللعنات من الذين يقدسون ( عمر ) ، مع أننى ـ وكالعادة ـ لا أكتب إلا بالاستشهاد بالتراث نفسه ومن خلال مصادره ، ثم أحتكم فيها الى القرآن الكريم . وهنا يقع المعترض فى أزمة ، فهو لا يستطيع إنكار القرآن ولا يستطيع تكذيب المصادر التراثية ، فلا يجد سبيلا سوى التطاول علينا بالتكفير والسّب والشتم . وهذا أعتبره نجاحا ليس فقط فى إظهار الخصوم على حقيقتهم جهلا و بذاءة ، ولكن الأهم أن هذ يعنى أننى ضغطت على موضع الجُرح ، وهو تقديس البشر فانطلق المريض يصرخ . أى إن الرسالة وصلت ، وتم إستقبالها بما لديهم من سوء خُلق .

1 ـ أخشى أن يتكرر هذا لمن يقرأ لنا أول مرة ، ولم يتعود على أبحاثنا الصادمة . القارىء لنا هذا الكتاب والذى لم يقرأ لنا من قبل سينطلق فينا سبّا وشتما ، وسنغفر له مقدما . ولكن نرجوه أن يهدأ بعد الصدمة الأولى ، ويدعو الله جل وعلا بإخلاص أن يهديه الى الصراط المستقيم ، وان يعيد قراءة الكتاب بهدوء ، وأن يراجع ما فيه من آيات قرآنية وأحداث تاريخية ، وسيرى أننى أنقل من القرآن الكريم ومن كتب التاريخ المعتبرة المعتمدة المتاحة للجميع ، ثم إننى أقوم بواجبى كباحث فى القرآن وفى التاريخ ، أنشد الاصلاح ، ولا أطلب أجرا من أحد . كل ما أتمنّاه هو أن ألقى رب العزة وقد ألحقنى بالصالحين .

والله جل وعلا هو المستعان

فبراير 2014 .

 

الباب الأول : صحابة الفتوحات

مقدمة الباب الاول

قريش ناصبت الاسلام العداء طبقا لمصالحها الدنيوية ، ثم أجبرتها الظروف على الدخول فيه طبقا لمصالحها الدنيوية ، واستغلت الاسلام فى أكبر جريمة وقع فيه الصحابة وهى الفتوحات التى حملت اسم الاسلام زورا وبهتانا ، والتى هى ردّة حقيقية عن الاسلام وكُفر هائل بالاسلام ، والتى تسببت فى تزعم قريش للعالم وسيطرتها على معظم المعروف منه، والتى أيضا أسست للمسلمين حروبا أهلية نسميها ترفقا بالفتنة الكبرى ، والتى تزعمها من بقى من صحابة الفتوحات . ولا زلنا نسير فى نفق الحروب الأهلية حتى الآن ، لأن هذه الفتنة الكبرى أسّست للمسلمين اللاحقين أديانا أرضية ، وأرست فيهم تقديس وتأليه الخلفاء الراشدين ـ أو واحد منهم وهو ( على ) عند الشيعة . كسبت قريش بالفتوحات حطاما دنيويا وشهرة تاريخية ولكن أضاعت الاسلام ، وأقامت على أنقاضه أديان السّنة والتشيع وغيرهما . وانتقلت قريش ـ تقريبا ـ الى متحف التاريخ ، ولكن ما فعلته بالاسلام والمسلمين لا نزال ندفع فاتورته وتكاليفه حتى الآن ، ونخسر به الدنيا والآخرة . وحين نقول ( قريش ) فإننا نقصد ( الملأ ) من قريش ، وبالتحديد الأمويين . هم الذين مكروا بالمسلمين ، وهم الذين حاربوا النبى عليه السلام ، ثم هم الذين اسرعوا بعد موته بقيادة الصحابة والمسلمين من وراء ستار ، وهم الذين أدخلوا المسلمين فى الفتوحات ثم فى الفتنة الكبرى ، وبها قفزوا لحكم المسلمين وتأسيس الدولة الأموية . نعرض لهذا كله تاريخيا وقرآنيا فى هذا الكتاب .  ونبدأ بهذا الباب بالتعرف على ( صحابة الفتوحات ) من خلال أربعة فصول .

الفصل الأول : الفتوحات العربية أساس الانتهاك وبدايته

أولا : الفتوحات إنتهاك لتشريع القتال وانتهاك للشهر الحرام

1 ـ فى الفتوحات نوعان فظيعان من الانتهاك وقع فيهما الصحابة بزعامة أبى بكر وعمر ثم عثمان : إنتهك تشريع الاسلام فى الاعتداء على أمم لم تقم بالاعتداء عليهم ، وارتكبوا انتهاكا آخر هو أن يتم هذا فى الشهر الحرام . بدأت الفتوحات بالاعتداء فى الشهر الحرام واستمرت متصلة سنوات بما فيها من أشهر حرم وغير حرم ، واستمرت أجيال من المسلمين تمارس هذا الانتهاك حتى تم نسيان الأشهر الحرم تماما . وعندما تذكرها فقهاء العصر العباسى أخطأوا فى تحديدها . أى بعد ان كانت موصوفة فى القرآن بالأشهر المعلومات التى يمكن تأدية فريضة الحج خلالها فقد تناسى المسلمون فى العصر العباسى هذه الأشهر المعلومات ، وحددوا اشهرا حرما جعلوا فيها رجب المفرد وذا القعدة ضمن الأشهر الحرم بالاضافة الى ذى الحجة ومحرم . وحتى لم يلتزم أحد بحرمة هذه الأشهر ، فظل إنتهاك المسلمين لها حتى الآن ، فالحرب الأهلية بين المسلمين لم تتوقف إحتراما لشهر حرام ، ونراها الآن فى عصرنا حروبا مستعرة تتوقف أو تستمر من افغانستان وباكستان مرورا بالعراق وسوريا الى الجزائر وتونس والشيشان . والاخوان المسلمون فى مصر بدءوا حكمهم بقتل المتظاهرين المسالمين فى شهر محرم الماضى . وسيظل انتهاك الشهر الحرانم ساريا لأنه تحصّن بأديان أرضية تحارب الله جل وعلا ورسوله .

2 ـ ولمجرد الذكرى فقط : نقرأ قوله جل وعلا فى تشريع القتال وأنه للدفاع فقط ، ورد للعدوان بمثله ، وتحريم الاعتداء على الغير : ( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) (البقرة ). فالمسالمون المخالفون فى العقيدة يجب التعامل معهم بالبرّ والقسط ، وليس باحتلال أرضهم عنوة وقتلهم ونهب اموالهم وسبى نسائهم ، يقول جل وعلا :( لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) الممتحنة ) . القتال هو لمواجهة المعتدى الظالم، والذى يحرم موالاته والتحالف معه ، يقول جل وعلا : ( إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ (9)( الممتحنة).

3 ـ لقد أباح الله جل وعلا القتال الدفاعى فقط خلال الشهر الحرام ، حين كانت قريش تتابع المسلمين فى المدينة بالهجوم حتى خلال الأشهر الحرم ، فأباح الله جل وعلا للمؤمنين أن يقاتلوا دفاعا عن أنفسهم إذا هوجموا فى الشهر الحرام ، يقول جل وعلا :( يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا )(217) البقرة ) . وقال جل وعلا فى إباحة القتال الدفاعى فقط فى الشهر الحرام (الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)( البقرة ) 

 ثانيا : تطرف صحابة الفتوحات فى الكفر أكثر من الجاهلية أصحاب النسىء 

1 ـ يقول جل وعلا عن الأشهر الحرم وتحريم الظلم فيها يقول جل وعلا :( إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِوَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ ) (36)، أى يحرم فيها الظلم عموما ، فكيف بالاعتداء الحربى على شعوب وإحتلال أرضها واسترقاق أهلها وسلب أموالها ونهب كنوزها وسبى وإغتصاب نسائها وقتل وإذلال رجالها؟ وهذا ما ارتكبه الصحابة فى الفتوحات وفى الأشهر الحرم .  

2 ـ والعجيب أن العرب فى الجاهلية كانوا يعرفون الأشهر الحرم ويحترمون حرمتها ، ولكن الخطأ الذى وقعوا فيه هو مجرد النسىء ، أى تبديل شهر حرام واستحلاله مقابل شهر أخر يجعلونه حراما ، وقد أعتبره رب العزّة زيادة فى الكفر ، وأن الشيطان قد زيّن لهم سوء أعمالهم ، وأنهم بهذه الزيادة فى الكفر قد أصبحوا محجوبين من الهداية ، يقول جل وعلا : ( إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَاماً يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37) ( التوبة ).

3 ـ قرأ أبو بكر وعمر وعثمان وعلى وصحابة الفتوحات هذه الآية ، وتصرفوا عكسها على طول الخط . فإذا كان النسىء زيادة فى الكفر وحجابا من الهداية فما هو وضع أبى بكر وعمر وسائر صحابة الفتوحات ؟ . ليست هناك أدنى مقارنة بين غارات القبائل العربية المحدود والمتفرقة فى الشهر الحرام وبين إعتداء الفتوحات العربية التى هاجمت أمما ودولا فى قارات ثلاث، فقتلت ملايين الأبرياء فى القرن الأول الهجرى ، ونهبت كنوزا واسترقت شعوبا . هذا الظلم الهائل الذى أوقعه صحابة الفتوحات بالناس مع فظاعته فهو لا يساوى ظلم أولئك الصحابة لرب الناس جل وعلا ، إذ إرتكبوا كل هذا باسم الاسلام ، وتحت لواء الجهاد الاسلامى . وسار على سنّتهم أجيال ، سواء فى الفتوحات أو فى الحروب الأهلية . وصحابة الفتوحات بدءا من أبى بكر وعمر وغيرهم يحملون أوزارهم وأوزار من تبعهم من المسلمين فى ضلالهم الى يوم القيامة . من هنا نفهم استحالة الهداية على صحابة الفتوحات ومن يسير على سنتهم ، فقد تحصّن ضلالهم بأديان أرضية تستحل الحرمات بل تجعل القتل والقتال جهادا .

 ثالثا : بالفتوحات تأسست أديان المسلمين الأرضية

1 ـ أسفرت الفتوحات وتوطيدها عن تأسيس امبراطورية عربية كبرى حكمتها قريش خلال الخلفاء الراشدين والأمويين والعباسيين والفاطميين . كان تأسيس هذه الامبراطورية عصيانا فظيعا للاسلام وتشريعه القائم على السلام والعدل والاحسان والحرية . ولكن هذه الفتوحات صعدت بالعرب الصحراويين الى قمة العالم وجعلتهم متحكمين فى أغنى بقاع العالم ويملكون كنوز معظم العالم المعروف وقتها . وكان مستحيلا أن يتخلّوا عن هذا كله ويرجعوا الى صحرائهم تائبين مما ارتكبوه فى حق الاسلام والشعوب التى ظلموها . ورب العزة قد أوضح أن مجرد الوقوع فى النسىء الذى هو زيادة فى الكفر يترتب عليه انحدار فى الكفر الى أحط درجة: ( إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَاماً يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37) ( التوبة ).هذا عن النسىء البسيط باستحلال شهر وتأجيله ، فماذا بالفتوحات ؟ لذا كان كفر صحابة الفتوحات فظيعا بما فعلوه من عدوان واستحلال وانتهاك لحرمة الأشهر الحرم ، ثم نسبة هذه الجرائم الى دين الاسلام ، وجعلها فتوحات اسلامية .

2 ـ على ان صحابة الفتوحات ومن تبعهم فى ضلالهم قد تفرغوا للحكم والفتوحات والحروب الأهلية فى الأشهر الحرم وغير الأشهر الحرم ، وبالتالى لم يتوفر لهم وقت لصناعة تشريع يبرر لهم ما فعلوه . أى انهمكوا فى ( الكفر السلوكى ) بالاعتداء والحروب والظلم ، الى أن استقرت الامور فى العصر العباسى فكان تشريع هذا الظلم بتأسيس وتدوين ديانات أرضية ، أهمها السّنة التى تعبر عن العرب وهيمنتهم ، والتشيع الذى يعبر عن الشعوبية الفارسية ، ثم التصوف الذى يعبر عن عوام الشعوب المفتوحة .

3 ـ فى التشريع السّنى تم صنع أحاديث من نوعية ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا .. ) ، وفى الفتوحات بالذات ظهرت مصطلحات فقهية عن الأرض المفتوحة ( عنوة ) أى بالهجوم الحربى عليها واحتلالها واسترقاق شعبها بالقوة والقهر. وأسهب الفقهاء فى هذا التشريع بكل صراحة بلا أى ضمير ، وبلا أى وعى بما يعنيه ( الفتح عنوة ) من مخالفة لتشريع الاسلام فى القرآن الكريم. وانتشرت هذه التشريعات الظالمة فى كتب الفتوحات وكتب الفقه والخراج والنظم والأحكام السلطانية ، وكانت شيئا عاديا يعبر عن دين أرضى قائم على الفتوحات والهيمنة والطغيان والظلم والاستبداد ، والذى تمثله الوهابية الآن ونظمها السياسية فى السعودية والخليج .

4 ـ فى تشرسع الدين السّنى الأرضى المناقض للاسلام يقول البلاذرى فى كتاب ( فتوح البلدان ) عن (أحكام أراضي الخراج ) : ( 1016- قال أبو يوسف: إيما أرض أخذت عنوة، مثل السواد والشام وغيرهما، فإن قسمها الامام بين من غلب عليها فهى أرض عشر، وأهلها رقيق.) أى إن أهل الشام والعراق رقيق لأن الصحابة إستولوا عليها عنوة ، وبالتالى فلا ملكية للسكان الرقيق ، فهم وبلادهم ملك للخليفة و( المسلمين ) العرب الفاتحين . والخليفة أو ( الامام ) هو صاحب الشأن فى كون أولئك السكان المساكين رقيقا أو أحرارا ، يقول البلاذرى نقلا عن أبى يوسف : ( وإن لم يقسمها الإمام وردها للمسلمين عامة- كما فعل عمر بالسواد- فعلى رقاب أهلها الجزية، وعلى الأرض الخراج ، وليسوا برقيق.). هذا ما قاله أبو يوسف شيخ المذهب الحنفى وأول قاض للقضاة فى الدولة العباسية. وهو لم يستشهد بآية قرآنية ولم يقم حتى بصناعة حديث  يؤيد فتواه ، فالفتوى كافية فى دين ظالم فاجر يملكه أصحابه .

رابعا: تطرف صحابة الفتوحات فى الكفر أكثر من حواريى عيسى عليهما السلام

1 ـ وقلنا إن للاسلام معنيين : معنى عقيدى فى التعامل مع الله جل وعلا هو الاستسلام والانقياد و الخضوع لله جل وعلا وحده لا شريك له (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ) ( الأنعام 162). وهذا الجانب العقيدى خاص بعلاقة كل فرد من البشر بالله جل وعلا ، ويرجع لحريته فى الايمان و الكفر ، وليس لأحد أن يتدخل فى هذه العلاقة بين الانسان وربه ، وكل انسان مسئول عن اختياره أمام الواحد القهار يوم القيامة . أما المعنى السلوكى فالاسلام هو السلام ، وكل إنسان مسالم فهو مسلم ظاهريا بغض النظر عن عقيدته و دينه الرسمى و مذهبه . وللناس هنا الحق فى الحكم علىأى إنسان طبقا لسلوكه ، هل هو مسالم أم معتد مجرم ، وهناك من القوانين الالهية و الوضعية التى تحافظ على حقوق الانسان من تعد يقع عليه من أخيه الانسان .

ولذلك فللكفر و الشرك أيضا معنيان ، فى التعامل مع الله تعالى هو تغطية الفطرة السليمة بالاعتقاد فى شريك مع الله جل وعلا واتخاذ أولياء و شركاء مع الله ، وتلك العلاقة مع الله تعالى فى العقيدة و العبادة مرجعها الىالله تعالى ليحكم فيها بين الناس لأن كلواحد من الناس يرى نفسه على الحق ويرى مخالفيه على الباطل . الذى يهمنا هو الكفر السلوكى بمعنى الاعتداءو الظلم الذى يقع من إنسان على أخيه الانسان . هذا الكفر السلوكى بالاعتداء والظلم و القتل للبشر حق الحكم عليه ومحاسبة الواقع فيه حفظا لحقوق الانسان وحق المجتمع .

جمعت قريش بين نوعى الكفر ؛ السلوكى والعقيدى . وقال عنهم رب العزة :( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) الانفال ) ومن أشد أنواع الصّد عن سبيل الله الهجوم الحربى والقتال إعتداءا على قوم مسالمين ، وهذا ما ارتكبته قريش ضد المسلمين فى المدينة ، وعرض رب العزة عليهم التوبة بالكف عن القتال العدوانى مقابل الغفران لهم : ( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ (38) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنْ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) الانفال ) . وبعد موت النبى عليه السلام عادت قريش بزعامة الصحابة الى سيرة قريش الأولى بالاعتداء على أقوام لم يعتدوا عليهم بقتال يهدف للسلب والنهب والسبى والاحتلال والظلم .

2 ـ وهنا نعقد مقارنة بين أصحاب محمد وأصحاب عيسى عليهم السلام . أغلب الفريقين آمن ثم كفر بعد موت الرسول ، ولكن إختلفت نوعية الكفر .

وقع بعض صحابة عيسى فى الكفر العقيدى ، بعضهم خانه وبعضهم تخلى عنه كما يقول تاريخ المسيحية ، ولكن القرآن يذكر وقوعهم فى الكفر العقيدى ، وخروجهم عن الاسلام بمعناه القلبى ( لا اله الا الله ) ، يقول جل وعلا : ( فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمْ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54)( آل عمران ) ويقول جل وعلا يأمر أصحاب النبى محمد أن يكونوا مثل الصالحين من أصحاب عيسى ، أى أن يكونوا أنصار الله جل وعلا: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)( الصف ). ثم تطور الأمر بتأليههم عيسى رسول الله . كان كفرا قلبيا بلا كفر سلوكى بالاعتداء والغزو ، بسبب الطبيعة المسالمة لقوم عيسى عليه السلام .

وهذا خلاف العرب الذين كانوا قبائل تعيش على التقاتل ، ورجال القبيلة هم أنفسهم الجيش المهاجم والمدافع. لذا بادر أصحاب محمد عليه السلام بتحويل الاسلام ـ دين السلام ـ الى دين حرب وغزو ، تبعا للسنّة القرشية ورغبتها فى الهيمنة .  أسرعوا بالكفر السلوكى بالاعتداء الظالم على من لم يقم بالاعتداء عليهم . فكانت الفتوحات الردة الكبرى عن الاسلام ، ثم جاء فيما بعد تسويغها وتشريعها بكفر عقيدى وأديان أرضية . فجمعوا بين نوعى الكفر السلوكى والعقيدى . ودفعوا الثمن بالفتنة الكبرى .!! وعلى أثرهم يقتدى المسلمون حتى اليوم .

أخيرا : ضع أعصابك فى ثلّاجة :

1 ـ هذا الانقلاب السريع المفاجىء لصحابة الفتوحات بعد موت النبى محمد عليه السلام يستدعى وقفة بحثية . من المؤكد أن له جذورا وأرضية داخل قلوب أولئك الصحابة ، ولكن منعها الوحى الذى كان ينزل على النبى من الاعلان عنها ، فلما مات النبى وانقطع الوحى نزولا ظهر المستور . تتّضح هذه الفجوة حين نتذكّر أن رب العزة وصف عموم المهاجرين المكييّن فى بداية عهدهم بالمدينة بعد الهجرة بأنهم أهل البيت الحرام ، الذين أخرجهم مستكبرو قريش من مكة والبيت الحرام وهم ( أهله ) ، وهذا ظلم أكبر فى شرع الله جل وعلا ، يفوق جريمة القتل وجريمة انتهاك الشهر الحرام :( يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِ   )(217) البقرة ). كان المهاجرون الذى أخرجتهم قريش ( أهل المسجد الحرام )، وبعدها بعشر سنوات تقريبا كان صحابة الفتوحات من أولئك المهاجرين هم الذين ينتهكون الشهر الحرام وتشريعات الاسلام . هذا الانقلاب السريع المفاجىء يستدعى تفسيرا .

2 ـ لقد كان هناك منافقون من الأوس والخزرج ، فضحوا أنفسهم بأقوالهم ومواقفهم وتآمرهم ، فنزل القرآن ينبىء بما يفعلون ، ويحذّرهم . ومع ذلك ، كان أولئك المنافقون المعروفون المشهورون يخشون أن ينزل القرآن يخبر بكل ما فى قلوبهم ، يقول جل وعلا : (يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64) التوبة ). كانوا صنفا من المنافقين معلومين للنبى بسبب مواقفهم وأقوالهم ،لذا نبّأ رب العزة مقدما بأن النبى لو سألهم سيقولون إنهم كانوا يخوضون ويلعبون ، ويأتى الرد عليهم مقدما بكفرهم ولعنهم وعدم قبول توبتهم :( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66).التوبة ).  كانوا فى معارضتهم العلنية للدولة الاسلامية يستخدمون الحرية المطلقة الى كفلها الاسلام فى المعارضة القولية بالتظاهر والأمر بمنكر والنهى عن المعروف ، فكانوا يطوفون بالمدينة رجالا ونساء يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف :(الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمْ الْفَاسِقُونَ (67)،التوبة )، ولا عقاب عليهم من الدولة الاسلامية إكتفاء يالعذاب الذى ينتظرهم يوم القيامة : (وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمْ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68)( التوبة ).

3 ـ الى جانب هؤلاء المنافقين المعروفين بأطيافهم المختلفة كان هناك منافقون مردوا وأدمنوا وتعودوا على النفاق ، كتموا نفاقهم خوفا من أن يفضحهم الوحى ، فلم يعرفهم النبى ، بينما كانوا يعيشون الى جانبه يقدمون فروض الطاعة والولاء ويكتمون فى أعماق قلوبهم النفاق ، قال جل وعلا عنهم : ( وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنْ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101) ( التوبة ). بعد موت النبى زال خوفهم من نزول الوحى الذى يفضحهم ، فظهروا على الساحة يستثمرون مكانتهم.  كانوا مقرّبين من النبى فى حياته ولهم منزلة بين المسلمين ، وعندهم مكر وخُبث جعلهم يستمرون فى خداع النبى وغيره طيلة هذه المدة . وبعد موته كانوا هم القادة الذين ذكرهم التاريخ . كانوا قادة الفتوحات .!!

4 ـ أى دخلوا بالمسلمين فى الكفر الأعظم وهو الفتوحات ، فماتوا بنفاقهم وكيدهم للاسلام والمسلمين دون توبة ، وهذا ما توعدهم به مقدما رب العزة فقال :( سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ ). أى سيتعذبون مرتين فى الدنيا ، ثم ينتظرهم العذاب العظيم فى الآخرة . ومن التاريخ نعرف أن الفتوحات تلاها ( عذاب ) عام هو ( الفتنة الكبرى) ، أو الحروب ألأهلية التى أكلتهم جميعا . والعذاب الدنيوى الثانى لم يذكره التاريخ ، ربما كان عذابا فرديا لكل منهم ، من مرض ونحوه ، وعلمه عند الله جل وعلا .

5 ـ ولكن هذا الأمر الخطير يستدعى منّا تفصيلا. ويستدعى من القارىء العزيز أن يضع أعصابه فى ثلّاجة .

6 ـ هل لديك ثلّاجة ؟

 الفصل الثانى  : صحابة الفتوحات ليسوا من السابقين وليسوا من أهل اليمين     

أولا : نوعيات الصحابة بين القرآن والتاريخ 

1 ـ قبيل موت النبى عليه السلام أنزل الله جل وعلا فى سورة التوبة عرضا لدرجات الصحابة من حيث الايمان والعمل ؛ منهم السابقون فى العمل والايمان من المهاجرين والانصار ، ومنهم من خلط عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم ، ومنهم من أرجأ الله جل وعلا الحكم عليهم إنتظارا لتوبتهم فإما يعذبهم إن ماتوا على عصيانهم دون توبة مقبولة وإما أن يتوب عليهم إن تابوا توبة نصوحا ، ومنهم المنافقون ، وهم نوعان ؛ منهم من فضحهم نفاقهم ، ومنهم من مرد على النفاق وكتم عواطفه ، وقد توعدهم رب العزة بالعذاب مرتين فى الدنيا ، علاوة على عذاب عظيم ينتظرهم يوم القيامة. وبدأت السورة بالبراءة من كافرى قريش الذين نقضوا العهد وهموا بإخراج الرسول من مكة ، وإعطائهم مهلة أربعة أشهر تبدأ بافتتاح موسم الحج والأشهر الحرام ، ثم حث للمؤمنين على القتال الدفاعى واتهام لبعضهم بالتحالف مع ذويهم من قريش المعتدين.

2 ـ رب العزة تكلم عن صفات للصحابة دون ذكر لشخصياتهم بالاسم. وهذا عكس التاريخ الذى يحدد الأسماء والزمان والمكان . رءوس الصحابة فى التاريخ هم الخلفاء الراشدون وغيرهم ممّن نطلق عليهم ( صحابة الفتوحات ) .

3 ـ ونحتكم للقرآن الكريم فيما قام به صحابة الفتوحات طبقا لتاريخهم المسجل فى أوثق المصادر السّنية . وهذا فى محاولة لفهم هذا الانقلاب السريع المفاجىء الذى وقع فيه صحابة الفتوحات بعد موت النبى محمد عليه السلام ، وكان من مظاهره انتهاك الأشهر الحرم بأبشع مما عرفه العرب فى الجاهلية فى النسىء الذى كان زيادة فى الكفر . هذه الفتوحات اقامت امبراطوريات قرشية، وجعلت قريش أشهر  قبيلة فى التاريخ العالمى، ومع ذلك فهى أكبر ردّة عن الاسلام ، وبها أدخل صحابة الفتوحات  المسلمين فى نفق شيطانى لم يخرجوا منه حتى الآن ، إذ تأسست بالفتوحات أديان أرضية للمسلمين قامت بتشريع شيطانى ، بتقديس البشر والحجر وانتهاك الشهر الحرام والبيت الحرام . ولهذا ظل صحابة الفتوحات محل تقديس فى تلك الأديان الأرضية ، بدليل رعب القارىء عندما يقرأ هذه السطور ، إذ تجذّر فى القلوب رهبة وقداسة لأولئك الصحابة حتى أصبح نقدهم كفرا. ونبدأ فى التعرف على موقع صحابة الفتوحات بين نوعيات الصحابة المذكورين فى القرآن الكريم .

ثانيا : صحابة الفتوحات ليسوا من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار : 

1 ـ يقول جل وعلا :( وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)التوبة). السبق هنا لا يعنى السبق زمنيا فى دخول الاسلام ، بدليل ذكر الأنصار وهم قد تأخر اسلامهم بعد المهاجرين ، وبدليل قوله جل وعلا (  وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ ).

إنّه سبق فى الايمان والعمل الصالح تفوق به أولئك الصحابة المتّقون على غيرهم ، وحافظوا على هذا التميز بالايمان والعمل الصالح حتى مماتهم فلم يرتكبوا كفرا سلوكيا ولا كفرا عقيديا ، ولم يقعوا فى  كبيرة من الكبائر ، بل ماتوا متقين ، ينطبق عليهم قوله جل وعلا ( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلاً مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) ( الذاريات ).

2 ـ هؤلاء السابقون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان من البشر سيكونون يوم القيامة ضمن فئة السابقين المقربين من عموم البشر . إذ سينقسم البشر حسب الايمان والعمل يوم القيامة الى ثلاثة أنواع : السابقون وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال ، وهذا ما جاء فى سورة الواقعة : (وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْئَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْئَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنْ الأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنْ الآخِرِينَ ). العبرة هنا بأن يموت الفرد وقد أمضى حياته سابقا فى الايمان وفى العمل الصالح ، بحيث تبشره ملائكة الموت عند الاحتضار بروح وريحان وجنة نعيم ، يقول جل وعلا فى خاتمة سورة الواقعة ( فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89) الواقعة ) .

 3 ـ نفس التقسيم الثلاثى للصحابة ( سابقون مقتصدون ، ظالمون )هو للمؤمنين الذين ورثوا القرآن الكريم  ، يقول جل وعلا : ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)( فاطر ). وبالتالى سيكون من الأجيال التالية  سابقون بالخيرات، وقد وصف رب العزة النعيم الذى ينتظرهم فقال فى الآية التالية:( جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35) فاطر ).  ثم قال جل وعلا عن الظالمين الذين يسيرون على سنّة صحابة الفتوحات:( وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) فاطر ) جاءهم القرآن نذيرا ، وعاشوا عُمرا فلم يستغلوه فى التذكر والهداية ..!!

4 ـ يستحيل قرآنيا أن يكون أولئك السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار من ( الملأ ) ، ممّن يريد الدنيا وحطامها بحيث يستهلك حياته طلبا للعلوّ فى الأرض مستخدما السياسة وفسادها لكى يكون قائدا أو حاكما ، هذا الصنف لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر ، ولا مكان له فى الجنة ، يقول جل وعلا :( تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) القصص ).

5 ـ هناك عظماء بمقياس التاريخ ، فالتاريخ يسعى بين يدى الحكام والقادة والزعماء يسجّل أعمالهم وفتوحاتهم ، ناسيا ضحايا تلك الفتوحات من ملايين الأبرياء من الرجال والنساء والأطفال . يسجّل التاريخ فتوحات الاسكندر الأكبر ويوليوس قيصر وجنكيزخان وهولاكو وتيمورلنك وعمر بن الخطاب وخالد بن الوليد وعمرو بن العاص ونابليون وهتلر وستالين .الخ .. ولكنه يتناسى ضحاياهم من ملايين البشر الذين داستهم سنابك الخيل ، والذين وقعوا فى الأسر والاسترقاق . هذه العظمة التاريخية مكانها القرآنى فى الجحيم ، ولا تتفق مع عدل الاسلام وقيمه فى الرحمة والسلام ، إذ كيف يجوز فى ميزان العظمة الحقيقية القرآنية أن يكون من حق فرد من البشر أن يقيم صرح عظمته فوق أهرامات من جماجم آلاف البشر.؟!! ثم تكون الفاجعة حين يقيم  بعضهم مئات الأهرامات من جماجم البشر الأبرياء باسم الله جل وعلا ورسوله الكريم الذى بعثه الله جل وعلا رحمة للعالمين ولليس لظلم وقتل العالمين .

6 ـ يستحيل أن يسعى التاريخ لتسجيل هذه النوعية ( المغمورة ) من الصحابة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ، فالتاريخ متخصص فى التأريخ للمشاهير من أصحاب السوابق الاجرامية ؛أهل الاستبداد  الساعين الى العلو فى الأرض والفساد . وفى عصرنا قد يوجد مسلمون مؤمنون يتبعون طريق السابقين من المهاجرين والأنصار ، لا يريدون علوا فى الأرض ولا فسادا ، ولكن  لا يأبه بهم الاعلام ثم التاريخ ، كلاهما (الاعلام ثم التاريخ ) يسعى خلف المشاهير من الحكّام وشيوخ الضلال ونجمات ونجوم السينما والرياضة واللهو واللعب والحرامية من أصحاب البلايين . ومثلا ، حين كان محمد مرسى العيّاط طالبا بسيطا مجتهدا فى قريته وفى أفضل حالاته ، لم يهتم به أحد ، فلما صار فى أسوأ حالاته رئيس مصر باسم الاخوان وبانتهاك إسم الاسلام أصبح الآن نجما فى الاعلام، وهنيئا له بدخول التاريخ .!!

7 ـ لا يهتم الاعلام أو التاريخ بالفرد العادى إلّا إذا ارتكب جريمة أو وقع ضحية لجريمة ، فتذكره صفحة الحوادث أو الجرائم ، عندها فقط قد يضطر الاعلام ـ ثم التاريخ ـ لأن يلتفت اليه . تخيّل فردا مؤمنا مسالما يتقى الله جل وعلا ويعمل صالحا إبتغاء مرضاته دون رياء أو سعى الى شهرة هل يمكن ان يكون له مكان فى ( سيرك ) الاعلام ؟ هذا هو وضع من يتقى الله جل وعلا الى لحظة الاحتضار . ينشغل بعمله الصالح وخشية ربه الى أن يلقى الموت ، ولا يأبه بمواكب الدنيا ومهرجاناتها ، وهكذا كان السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ، كانوا مغمورين وجنودا للحق مجهولين ، لا يأبهون بمراءاة الخلق لأنهم مخلصون لله جل وعلا ( الحق ّ) ، وهذا يكون من يتبعهم بإحسان الى يوم الدين .

8 ـ وقد أسرف صحابة الفتوحات فى جرائم القتل والسلب والسبى والظلم لمئات الآلاف من الأبرياء وباسم الاسلام مخالفة لشرع الله جل وعلا فلا يمكن أن يتمتعوا يوم القيامة برضى الله جل وعلا عنهم وبالخلود فى الجنة كالسابقين من المهاجرين والأنصار الذين قال عنهم رب العزّة :( رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)التوبة)، فالله جل وعلا لا يحبّ المعتدين:( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) البقرة ) وصحابة الفتوحات معتدون ظالمون ، والذى لا يحبه الله لا يمكن أن يرضى عنه الله .!!

ثالثا : صحابة الفتوحاتليسوا من أصحاب اليمين :

1 ـ أصحاب اليمين هم المقتصدون أو المؤمنون الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ثم تابوا توبة مقبولة عند الله جلّ وعلا . وقد وصف رب العزة طائفة من الصحابة بهذا، فقال جل وعلا :( وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) التوبة). قال الله جل وعلا (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِم )، فلم ينزل التأكيد لهم بالغفران لأنه حين وصفهم جل وعلا بهذا الوصف كانوا أحياء يسعون فى الأرض ، أى كانت لديهم فرصة للتوبة والتطهّر من الذنوب لو أرادوا . لذا جاءت الآية التالية تدعوهم للتطهر بأن يقدموا الصدقات : ( خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) التوبة ) ، وبالتالى فعسى أن يغفر الله جل وعلا ذنوبهم إذا تابوا وحافظوا على التوبة الى الرمق الأخير من الحياة . ولو فعلوا ستلقى عليهم ملائكة الموت السلام عند الاحتضار ، فقد أصبحوا من أهل اليمين:( وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) الواقعة). ويوم القيامة سيكون كل أصحاب اليمين فى الدرجة الثانية من الجنة : (وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً (36) عُرُباً أَتْرَاباً (37) لأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنْ الأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنْ الآخِرِينَ (40) الواقعة ) .

2 ـ وطبقا لما جاء فى تاريخ صحابة الفتوحات من جرائم قتل وسلب وسبى وظلم لمئات الآلاف من الأبرياء وباسم الاسلام مخالفة لشرع الله جل وعلا فلا يمكن أن يكون صحابة الفتوحات ضمن أصحاب اليمين ، لافتقاد شرط التوبة ، فأولئك الصحابة ظلوا فى غيّهم وظلمهم عاشوا به وماتوا به .

رابعا : فضل ألسابقين على أصحاب اليمين

1 ـ (السابقون) أعلا درجة من أصحاب درجة من ( أصحاب اليمين ) . يقول جل وعلا عن أولى الألباب الذين يتفكرون فى خلق السماوات والأرض ويدعون ربهم أن ينجيهم من النار : ( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلْ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194) آل عمران ). وتأتى الإجابة من الله جل وعلا بأنه لا يضيع عمل صالحا ، ولكن فى قمة أصحاب الأعمال الصالحة يأتى أولئك الذين وهبوا حياتهم فى سبيل الله جل وعلا تمسكا بالحق ، فتعرضوا للأذى والاضطهاد ، واضطروا للهجرة ، ثم للقتال الدفاعى ، ثم قُتلوا فى سبيل الله جل وعلا : (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195) آل عمران ).

2 ـ ولأن التبرع بالمال او الجهاد بالمال وسيلة فى الجهاد الاسلامى فإنه لا يستوى الصحابة المؤمنون جميعا فى هذا ، منهم من له سابقة واستمرارية فى الجهاد بالمال والنفس ومنهم من جاء متأخرا ، ولا يستوى هذا وذاك ، مع استحقاق الفريقين للجنة ، ولكنه الفارق بين السابقين وأصحاب اليمين فى الجنة ، يقول جل وعلا: ( وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) الحديد ) ، ثم بعدها فى الحث على التبرع فى سبيل الله جل وعلا يقول جل وعلا بعدها (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) ( الحديد ).أى يجعل التبرع بالمال فى سبيل الجهاد إقراضا لله جل وعلا ، ويتعهّد رب العزة بمضاعفة الجزاء ، وهى صياغة مؤثرة.!!.

3 ـ ومن الناحية الواقعية أيضا فإن الله جل وعلا أكّد للصحابة فى المدينة بأنه لا يستوى المجاهدون بأموالهم وأنفسهم فى سبيل الله مع القاعدين أصحاب الأعذار من المؤمنين ، مع إن مصير الفريقين الجنة ، ولكنه الفارق بين السابقين وأصحاب اليمين ، يقول جل وعلا:( لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (95)( النساء )

خامسا :الصحابة السابقون واصحاب اليمين كانوا مغمورين وليسوا من سادة القوم كصحابة الفتوحات

1 ـ ثقافتنا الذكورية تجعلنا نتخيل السابقين الأولين من الصحابة ذكورا فقط . وننسى أن رب العزة قد ذكر   صفاتهم ذكورا وإناثا فقال جل وعلا :(إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (35) الاحزاب ). ونتساءل : هل يصلح للسياسة وطلب ( العلوّ) فى الأرض من يتّصف بالايمان والقنوت والصدق والتصدق والصوم والعفة والذى لا يفتر لسانه عن ذكر الله جل وعلا ؟  وهل بهذه الصفات يستطيع خداع الجماهير ، وقيادتهم الى حروب دينية تقتل وتنهب وتسترق وتسبى ؟

2 ـ أوّل ملامح السابقين فى الميزان القرآنى هو الجهاد بالمال وبالنفس فى سبيل الله جل وعلا وإبتغاء مرضاة الله جل وعلا ، وليس لهدف دنيوى بالسلب والنهب والطغيان . فى معركة ( أُحُد ) حين إنهزم المسلمون بسبب الغنائم قال جل وعلا فى معرض نقدهم ( مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ  (152) آل عمران ) أى كان المؤمنون فى هذه المعركة نوعين ، أحدهما من السابقين يريد الآخرة ، والآخر من غيرهم يريد الدنيا وقاتل فى سبيلها .

3 ـ وعموما فالقتال هنا إما أن يكون دفاعيا وفى سبيل الله جل وعلا ، وإمّا أن يكون فى سبيل الدنيا إعتدءا وظلما فهذا يكون فى سبيل الشيطان ، ولا توسط هنا ، إما قتال دفاعى فى سبيل الله ضد معتد ظالم ، وإما قتال فى سبيل الشيطان بالاعتداء على من لم يقم بالاعتداء . يقول جل وعلا : ( فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (74) النساء). هؤلاء المقاتلون فى سبيل الله باعوا الدنيا واشتروا بها الجنة فى الآخرة . والآية التالية تتحدث عن سبب لجوئهم للقتال الدفاعى لمواجهة القرية الظالمة المتعدية :( وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (75) النساء ) لذا فلا توسط هنا فى موضوع القتال ، إما قتال فى سبيل الله طلبا للحق والعدل وحرية الدين ، وإما قتال البغى والعدوان فى سبيل الشيطان،يقول جل وعلا فى الآية التالية:(الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً (76) ( النساء ).ومن هنا نحكم على جهاد صحابة الفتوحات ومن سار على سنّتهم حتى عصرنا الراهن من السلفيين بأنه جهاد فى سبيل السلطة والثروة والتحكم والطغيان ، أى جهاد فى سبيل الشيطان ، بدأ به صحابة الفتوحات وصاروا به أئمة الطغيان لمن أتى بعدهم .

4 ـ  وبرغم ما كتبه المؤرخون فى ظل الامبراطوريات القرشية العربية، فقد كانت كل حروب النبى عليه السلام دفاعية ، ومن يقول غير هذا فهو كافر بالقرآن وعدو للنبى محمد عليه السلام ، لأنه عليه السلام لو حارب معتديا لكان عدوا لله رب العالمين ، فالله جل وعلا يقول :(  وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) البقرة ). ولو حارب معتديا لنزل الوحى يتبرأ منه . كانت حروبه عليه السلام دفاعية فقط ، بذل فيها جهده وماله ومعه جنود مؤمنون مغمورون ولكن كانوا سابقون بالايمان والعمل الصالح . لم يسع أحدهم أن يكون قائدا أو زعيما بل رضوا بالجهاد خلف النبى بالمال والنفس وبقدر المستطاع .

5 ـ ونؤكّد على دور المال الذى يحتلّ موقعا فارقا فى موضوع القتال . يكون التطوع بالمال وسيلة هامة فى دعم القتال فى سبيل الله دفاعا عن الوطن وسكانه المسالمين وحريتهم ضد عدو يهاجمهم معتديا ، لذا يأتى النسق القرآن يأمر بالجهاد بالمال مقدما على النفس : ( وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) (41) التوبة )( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (11)( الصف )،  فالتبرع بالمال وسيلة فى الجهاد فى سبيل الله ، سواء كان هذا الجهاد دعوة سلمية ، أو قتالا دفاعيا . أما فى القتال الهجومى المعتدى فى سبيل الشيطان فالمال هو الغاية ، فأولياء الشيطان يقاتلون شعوبا لم تعتد عليهم للسيطرة على مواردها وأموالها ، كما حدث من صحابة الفتوحات ومن سبقهم ومن جاء بعدهم من المستعمرين والمستبدين.

6 ـ ونعيد التأكيد أيضا على أنّ الفيصل فى الجهاد للسابقين عملا وإيمانا هو أن يكون فى سبيل الله عهدا قلبيا بين المجاهد وربه جل وعلا . وفى موقعة الأحزاب التى حوصر فيها المسلمون فى المدينة برز دور الجنود المؤمنين المخلصين الذين عاهدوا الله جل وعلا بقلوبهم على الفداء فى سبيله جل وعلا بينما ارتعب المنافقون وتقهقروا ، يقول الله جل وعلا يصف هذه الحالة الواقعية :( مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23) الأحزاب ) لم يكونوا ( كل المؤمنين ) بل ( من المؤمنين ) أى بعضهم من الذين عاهدوا الله جل وعلا وصدقوا فى عهدهم ، منهم من قضى نحبه ومنهم من كان لا يزال حيا ، ولكنهم جميعا تمسكوا بالتقوى والسبق فى الايمان والاحسان حتى الموت ، وما بدلوا تبديلا . هؤلاء نقول : رضى الله عنهم.!.  كان هذا فى غزوة الأحزاب .

7 ـ وقد ظلّ هذا ساريا بين أولئك المؤمنين المجاهدين حتى وقت نزول سورة التوبة ، وهى من أواخر ما نزل ، يقول جل وعلا عن نفس العهد من أولئك السابقين من المجاهدين الذين بايعوا ربهم جل وعلا على التضحية بأنفسهم واموالهم فى سبيل الدفاع عن الحق : (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ )، ثم يأتى وصفهم فى الآية التالية بأروع الصفات:( التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنْ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ (112) ( التوبة ). جاهد أولئك الجنود المغمورون مع خاتم المرسلين يبتغون مرضاة الله جل وعلا بقلوبهم، فقال عنهم رب العزّة فى تعريض بمن تقاعد عن الجهاد :( لَكِنْ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89)التوبة ) . 

8 ـ واصحاب الأعذار المؤمنون يمكنهم تعويض عجزهم وقعودهم عن القتال بأن يبذلوا النُصح المخلص : ( لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) التوبة ). ليس عليهم حرج . والآية واضحة فى أن الحديث هنا ليس عن المشاهير من الصحابة الذين صاروا فيما بعد (صحابة الفتوحات) بل عن الفقراء الضعفاء والمُعاقين .

9 ـ كما إنه ليس هناك حرج على الفقراء المؤمنين المخلصين الذين لا يجدون ما ينفقون وجاءوا للنبى للجهاد أملا أن يعطيهم خيلا أو ناقة يستعينون بها على القتال ، فاعتذر لهم النبى ، فرجعوا تفيض أعينهم من الدمع حزنا ألّا يجدوا ما يستعينون به على الجهاد فى سبيل الله :( وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ (92) التوبة ). الحديث هنا ليس عن الكبار والمشاهير من الصحابة ، والذين صاروا فيما بعد (صحابة الفتوحات) ولكن عن جنود مغمورين مؤمنين فقراء مخلصين ممّن نطلق عليهم ( العوام ) وآحاد الناس.

10 ـ وهذا يسرى حتى على الأعراب ، فأغلبية الأعراب فى عهد النبوة كانوا الأشد كفرا ونفاقا (التوبة 97 : 98 ) ، ولكنّ منهم أقلية من السابقين وأصحاب اليمين ( وَمِنْ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمْ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) ( التوبة 99 ). وحين تكون الأغلبية من الأعراب أشد الناس كفرا ونفاقا ووجود أقلية بينهم سابقة فى الايمان والعمل فالمنتظر أن تكون هذه الأقلية من ( عوام الأعراب ) وفقرائهم.

11ـ وفى الوقت الذى كان فيه المنافقون يبخلون عن الانفاق فى سبيل الله كان فقراء المدينة المؤمنين يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ، وفى أول ما نزل من القرآن فى المدينة مدحهم رب العزّة بمحبة الفقراء المهاجرين وإستضافتهم ، يقول جل وعلا يصف ( عوام ) أو فقراء المهاجرين وقتئذ : (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ (8) الحشر ) ، ثم يقول عن فقراء الأنصار وكرمهم الزائد عن الحدّ : ( وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (9) الحشر ) . أيضا الكلام هنا عن عوام المؤمنين وفقرائهم فى ذلك الوقت من المهاجرين والأنصار، وليس عن الكبار والمشاهير من الصحابة ، والذين صاروا فيما بعد (صحابة الفتوحات).

12 ـ الطريف أنه فى أواخر ما نزل من القرآن ، وفى سورة التوبة كان أولئك المؤمنون الفقراء يتبرعون للجهاد مع وجود خصاصة وفقر لديهم ، يتبرعون بما يملكون ، فيسخر منهم الأغنياء المنافقون : ( الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79) التوبة ). وتوعد رب العزة أولئك المنافقين الساخرين بألّا يغفر لهم مهما إستغفر لهم النبى : ( اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80)التوبة ).أولئك المنافقون الساخرون كانوا من ( الملأ ) والمشاهير والقادة وأثرى أهل المدينة ، والحديث هنا عن الفقراء المؤمنين الذين يسخر بهم الذين أجرموا . هؤلاء الفقراء الؤمنون الصالحون لا يأبه بهم التاريخ ، ولكن ذكرهم القرآن الكريم . ويكفيهم فخرا وشرفا أن ينالوا رضا الله جل وعلا فى جنة نعيم : ( وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)التوبة).

أخيرا

1 ـ تناقض هائل بين المغمورين من الصحابة السابقين وأصحاب اليمين من المهاجرين والأنصار وبين المشهورين من صحابة الفتوحات ، هو نفس التناقض بين القمة والحضيض. هو نفس التناقض بين سمو الخلق للمؤمنين كما جاء فى القرآن والعظمة المزورة التى يمنحها التاريخ للطغاة والمستبدين وسفاكى دماء الشعوب .

2 ـ ولكن طالما لا يوجد مكان لصحابة الفتوحات بين السابقين وأصحاب اليمين ، فلا يتبقى لهم سوى حضيض أصحاب الشمال ، وهذا ما نفهمه من القرآن .. إنتظرونا .

 

 الفصل الثالث :  صحابة الفتوحاتهم الذين لم يتوبوا    

مقدمة : صحابة الفتوحات  هم عصاة لم يتوبوا . منهم الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ثم لم يتوبوا ، ومنهم الذين ارجأ الله جل وعلا الحكم عليهم وماتوا بلا توبة ، ومنهم الذين نزل القرآن يوبّخهم بسبب تحالفهم مع قريش ولم يتوبوا ، وعُصاة آخرون ماتوا بلا توبة ، ثم أولئك  الذين مردوا على النفاق . 

أولا : الصحابة المهاجرون القرشيون المتمسكون بالولاء لقريش

1 ـ  نشير الى الفصل السابع من الباب الثانى ، وعنوانه ( لماذا إنتصر التواتر القرشى فى الحج ؟)، وفيه تفصيل عن وقوع معظم المهاجرين القرشين فى جريمة الولاء لأهاليهم القرشيين فى مكة والذين كانوا يهاجمون المدينة كراهية فى الاسلام والمسلمين . وقد تكرّر تحذير رب العزّة لأولئك الصحابة بلا جدوى ، بداية من سورة الممتحنة وهى من أوائل ما نزل فى المدينة : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنْ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1)، وتوالى التحذير فى سورة المجادلة (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (22)، وفى سورةالمائدة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ (57)،  بل يصف رب العزة أولئك الصحابة بالمنافقين فى سورة النساء (بَشِّرْ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمْ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (139)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُبِيناً (144) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145). واستمر التحذير الى آخر ما نزل فى سورة التوبة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنْ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24) . أى استمر عصيان أولئك الصحابة وموالاتهم الاعداء القرشيين المعتدين من بداية الهجرة الى آخر ما نزل من القرآن.

2 ـ ثم كانت النهاية قبيل موت النبى عليه السلام وفى ظروف غاية فى الدقة والحرج حين قام متطرفو قريش بعد فتح مكة سلميا بحركة حربية نقضت فيها العهد وقت أن كان النبى فى مكة ، وهمّوا بإخراج الرسول من مكة والحرم ، ولم يتمكنوا، ولولا أن الله جل وعلا سجّل هذا فى كتابه المحفوظ ما عرفنا هذه الحقيقة التاريخية المنسية ، يقول جل وعلا فى سياق التحريض على قتالهم:( أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) التوبة ). فهم الذين بدءوا بالحرب على حين غفلة بنقض العهد ورفع السلاح فى بيت الله الحرام ، وكان النبى وقتها فى الحرم ، فعصمه الله جل وعلا منهم.  

3 ـ كان موت النبى فرصة لهؤلاء الصحابة الذين يدينون بالولاء لقومهم قريش على حساب الاسلام والنبى عليه السلام . إذ بعد موته عليه السلام تمّ ( لمّ الشمل ) القرشى كله من المهاجرين القدماء الى من كان يطلق عليهم ( الطلقاء ) الداخلين فى الاسلام عند فتح مكة ، وأهمهم زعماء مكة من بنى أمية بالذات . وكانت الفتوحات فرصتهم الكبرى لقيادة العرب والمسلمين تحت زعامة  قريش ، وكان هذا توطئة لعودة السيادة القرشية القديمة التى كانت تُعادى الاسلام ( بنو أمية ) فأصبحوا بعد نصف قرن يحكمون المسلمين ومعظم العالم باسم الاسم بدءا بمعاوية بن أبى سفيان .

ثانيا : عُصاة الصحابة من المهاجرين القرشيين الذين لم يتوبوا :

أنزل رب العزة فى سورة الأنفال نقدا قاسيا للمهاجرين العُصاة بعد موقعة ( بدر ) يحذّرهم ويعظهم ، يقول جل وعلا : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (21) ، أى كانوا لا يطيعون الله ورسوله ، وكانوا يعرضون عن الطاعة . لذا يصف رب العزة من يقع فى ذلك بأنهم شر الدواب :( إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) . ويأمرهم رب العزة بالاستجابة والطاعة حتى لا يتعرضوا للعقاب الالهى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25). ثم يذكّرهم رب العزة بأنهم كانوا من قبل فى مكة مستضعفين يخافون أن تتخطفهم قريش فآواهم الله جل وعلا فى المدينة وأنعم عليهم بالرزق لعلهم يشكرون : ( وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26). ولكنهم لم يشكروا بل وقعوا فى خيانة الله ورسوله ، لذا قال جل وعلا لهم : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) الأنفال ). كان هذا مبكرا بعد موقعة بدر . ومن لم يتب فالمفهوم أنه أصبح من صحابة الفتوحات .

ثالثا : صحابة عُصاة متنوعون لم يتوبوا

1 ـ منهم الذين كانوا يؤذون الرسول عليه السلام ، ونزل فيهم قوله جل وعلا : ( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً (58) الأحزاب ) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً (69) ( الأحزاب ).

واستمر هذا الأذى فقال جل وعلا فى سورة التوبة : (وَمِنْهُمْ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62) ( التوبة ).

2 ـ ومنم أطياف من المؤمنين ضعاف الايمان ، تعاونوا مع المنافقين بإطلاق الإشاعات وقت محنة حصار المدينة فى معركة ( الأحزاب ) ، فتوعّدهم رب العزة بالعقاب فقال : (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (61)  ) ( الأحزاب ) .

3 ـ ومنهم أجلاف كانوا يزايدون على رسول الله وشرع الله ـ كما فعل الخوارج فيما بعد ، فقال جل وعلا يحذّر ويُنذر فى سورة الحجرات :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) الحجرات ). ومنهم أجلاف كانوا لا يحترمون النبى فيرفعون أصواتهم عليه :(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) الحجرات ).

4 ـ ومنهم فاسقون كاذبون : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) الحجرات ).

5 ـ ومنهم من كان يتكاسل عن صلاة الجمعة منشغلا بالهو والتجارة : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ اللَّهْوِ وَمِنْ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)( الجمعة ).

6 ـ ومنهم من يقول ولا يفعل ، ويعد ولا يفى ، فنزل قوله جلّ وعلا يستنكر ذلك : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ (3)  ) ( الصف ).

7 ـ هؤلاء الصحابة جميعا ـ وأمثالهم ـ جميعا دعاهم رب العزّة للتوبة وحذّرهم من أن يكونوا وقودا لنار جهنم : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ )(6) التحريم ) فإن لم يتوبوا فسيحشرون كفّارا ولن يغنى عنهم يومئذ إعتذلرهم أو توبتهم:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (7)التحريم )  لذا جاء نصح المؤمنين ـ وفى مقدمتهم  أولئك الصحابة العُصاة بالتوبة :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً )(8)( التحريم ). ومن لم يتب منهم وعاش بعد موت النبى فالمرجّح أنه كان من صحابة الفتوحات .

رابعا : التوبة هى الفيصل وصحابة الفتوحات لم يتوبوا :

1 ـ ولأن التوبة هى الفيصل هنا فإن هناك من الصحابة من أرجأ الله جل وعلا الحكم فيه إمّا أن يعذّبه وإمّا أن يتوب عليه طبقا لتوبته ؛ موعد التوبة ، ومدى إخلاصه فيها . والحكم لله جل وعلا فى هذا الأمر ، يقول جل وعلا : (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106) التوبة)، فهو أن تاب سريعا وقام بحق التوبة تاب الله جل وعلا عليه وكان من أصحاب اليمين، وإلّا فمصيره العذاب ، وأصبح من أصحاب الشمال، تبشره ملائكة الموت بالحميم والجحيم : ( وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94)(الواقعة )، ويؤتى به يوم القيامة ضمن أصحاب الشمال : ( وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (44) ) ( الواقعة )

2 ـ إن للتوبة ملمحين : إرجاع الحقوق لأصحابها وإسترضائهم وطلب عفوهم علنا ، ثم تجديد الايمان وتكثيف العمل الصالح . أى هى تعامل ظاهرى مع الناس ، وتعامل قلبى عقيدى مع رب الناس .

فى التعامل الظاهرى مع الناس يقول جل وعلا فيمن خلط عملا صالحا وآخر سيئا ظالما :( وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (105) التوبة ) أى إعلان التوبة أمام المجتمع ظاهريا ، ثم يكون الحساب على مدى الاخلاص فيها مؤجّل الى يوم لقاء عالم الغيب والشهادة . ونفس الوضع فى توبة المنافقين الذين جاءوا يعتذرون للنبى والمؤمنين كذبا وخداعا ، فقال جلّ وعلا : (يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (94) ( التوبة ). (لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ ) يعنى لن نثق فيكم ، وستأتى الثقة بعمل صالح معلن يراه الله ورسوله ، وفى النهاية يكون الحكم على مدى الاخلاص أو الخداع لرب العزّة يوم القيامة .

أما التوبة القلبية فهى تعامل خاص بين التائب وربه جل وعلا يستلزم الاستغفار الدائم المخلص وتصحيح الايمان وبدء حياة نقية يتركّز ويتكثّف فيها العمل الصالح فيما تبقى من عُمر تعويضا على العمل السىء ، أملا فى أن يبدّل الله جل وعلا سيئاته حسنات ، يقول جل وعلا عمّن يرتكب القتل بغير الحق ويقع فى الشرك والزنا ثم يتوب توبة مقبولة من ربّ العزّة : (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً (69) إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (70) ( الفرقان )، وعن إرتباط التوبة القلبية بتصحيح الايمان وتكثيف العمل الصالح يقول جل وعلا : (إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً (61)  مريم )( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى (82)( طه ).

إن الله جل وعلا لا يقبل التوبة من الكافر الذى يظل على كفره حتى لحظة الاحتضار ، ولا يقبل التوبة ممّن أدمن العصيان حتى أحاطت به خطيئته ، أى تراكمت ولوثت قلبه وظل أسيرا لها حتى وقت الاحتضار : ( وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (18) النساء )، ( بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) ( البقرة ).

3 ـ صحابة الفتوحات لم يتوبوا توبة ظاهرية علنية بإرجاع الحقوق لأصحابها . لو كان هدفهم تحرير الشعوب من قهر حكامها كان عليهم أن يرجعوا لصحرائهم بعد تحرير هذه الشعوب وهزيمة الحكام الطغاة ، ولكن الذى حدث أن أولئك الصحابة بعد أن قتلوا مئات الآلاف من نفس الشعوب المسالمة واسترقوا ابناءهم وبناتهم وسلبوا أموالهم حكموا تلك الشعوب بنفس النظم السائدة ، وأخذوا منهم الجزية بل وجعلوهم رقيقا ومسخرين فى الارض . ثم أختلفوا على الغنائم والمال السُحت فاقتتلوا فى الفتنة الكبرى . وبالتالى لم يتوبوا أيضا توبة قلبية طبقا لما جاء فى سيرتهم فى التراث السّنى نفسه .

خامسا : قادة الفتوحات أنبأ الله جل وعلا مقدما بعدم توبتهم

1 ـ الكافرون بسلوكهم المعتدى الظاهرى يظل هناك امل فى توبتهم ، ولو تابوا وجنحوا للسلم باخلاص فإنّ وعد الله قائم لهم بالغفران : ( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ (38)( الانفال ). بل  توجد فرصة التوبة للمنافقين الذين فضحهم سلوكهم ، فإن تابوا وأصلحوا وأخلصوا دينهم لله فسينجون من الدرك الأسفل من النار ، يقول جلّ وعلا :( إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (146) النساء ).

2 ـ الصنف الوحيد من المنافقين الذين لا توبة لديهم لأنهم لا يتوبون هم من قال عنهم جل وعلا لرسوله الكريم : ( وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنْ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101) التوبة ). هم لم يعترفوا للنبى بذنوبهم كما فعل صحابة آخرون ، قال عنهم جل وعلا فى الآية التالية : ( وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) التوبة )

3 ـ بعض قادة صحابة الفتوحات فى رأينا ينتمون الى هذه الفئة من المنافقين الذين مردوا على النفاق . يقول جل وعلا عنهم ( وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101 ). (مَرَدُوا ) أى تعودوا وأدمنوا وأتقنوا النفاق ، أى ظلوا الى جانب النبى وحوله يصاحبونه مدة سنين ، حتى (مَرَدُوا ) وتخصصوا وأتقنوا وتعودوا النفاق بحيث صاروا يتنفسون  النفاق  بطول الخبرة . وهذا ينطبق على منافقى المهاجرين بالذات ، خصوصا وأن ربّ العزة لم يقل هنا ( المهاجرون والأنصار ) وإنّما قال (  وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ )، أى الذين طال بهم العيش فى المدينة حتى أصبحوا من أهلها، ومع طول صحبتهم للنبى ووجودهم حوله ومعرفته بهم كاشخاص ومعاونين فلم يكن يعرف سريرتهم (لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ )، لأنه عليه السلام لم يكن يعلم الغيب ولا يعلم السرائر ، ولأن هؤلاء (مَرَدُوا ) على النفاق بحيث لم يصدر منهم لفظ أو قول أو حركة أو تصرف ينبىء بحقدهم على الاسلام والرسول عليه السلام . لم يكن فيهم ضرر على الاطلاق يستدعى أن ينزل القرآن الكريم يحكى أقوالهم وأفعالهم وتآمرهم ، فلم تكن لهم أقوال وأفعال ضارة كما كان يحدث من بقية المنافقين الصرحاء . ولذلك إكتفى رب العزّة بذكرهم ، مع إشارة الى أنهم سيموتون على كفرهم ، وأنهم سيلقون العذاب مرتين فى الدنيا قبل العذاب العظيم فى الآخرة . لماذا هذا العذاب المضاعف فى الدنيا ؟ لأنهم سيرتكبون جرائم فى حق الاسلام بعد موت النبى عليه السلام . بعد موته سيتصدرون الساحة بحكم موقعهم القريب من النبى ، وستكون فرصتهم لارتكاب ما يريدون دون أن يفضحهم الوحى . أى إنهم لن يتوبوا ، بل سيرتكبون الفظائع باسم الاسلام ، وهم فى موقع القيادة للمسلمين .

 

 الفصل الرابع : صحابة الفتوحات كانوا من مشاهير الصحابة حول النبى عليه السلام

أولا : أبوبكر صاحب النبى فى الغار:

المشهور أن أبا بكر هو صاحب النبى فى الغار فى قوله جل وعلا : ( إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا ) (40)( التوبة ). ونتدبر ألاية الكريمة بالاستعانة بالله جل وعلا ، ونقول :

1 ـ ليس حقيقة قرآنية إيمانية كون أبى بكر هو صاحب النبى عليه السلام المقصود فى هذه الآية ، الحقيقة الايمانية المُطلقة القرآنية هى قوله جلّ وعلا (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ )، أى كان هناك صاحب للنبى فى الغار دون تحديد إسمه . من يُنكر قوله جل وعلا ( إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِه  ) يكفر بالقرآن الكريم . أما كون هذا الصاحب فلانا أو غيره فهذا يدخل فى الحقائق التاريخية النسبية ، وهى قضية علمية تاريخية موضعها مجال البحث التاريخى . وبناء عليه لو قلت إن صاحب النبى فى الغار كان ( عمر بن الخطّاب أو عمر بن عبد العزيز ) فلن تكون كافرا ، لكن تكون جاهلا بالتاريخ .  

2 ـ لم يقل جلّ وعلا : ( إذ يقول  لصاحبه فى الغار ) لأن المعنى هنا هو قصر الصحبة على وقت الاختفاء فى الغار ، وهذا مخالف لمعنى الصاحب . فطبقا للقرآن الكريم فإنّ الصاحب هو الملازم فى الصحبة مدة طويلة تصل الى سنين فى نفس المكان والزمان ، مثل قول يوسف لصاحبيه فى السجن :( يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ (39)(يوسف )، فهنا صُحبة إجبارية فى السجن استمرت سنينا . ويقول جل وعلا عن عذاب الآخرة:( يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12)(المعارج ).(الصاحبة ) هنا هى الزوجة التى تدوم عشرتها لزوجها، تصحبه فى الزمان والمكان سنينا طوالا كالابن والأخ وليست    مجرد زوجة تزوجها وانفصل عنها بعد مدة يسيرة ، بل صاحبته فى مسيرة حياته . وبالتالى فإن قوله جل وعلا عن أبى بكر (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ) يفيد دوام صُحبة أبى بكر للنبى عليه السلام سنين طوالا ، خصوصا حين نتذكر الفارق الزمنى بين الاختفاء فى الغار وبين وقت نزول هذه الآية قبيل موت النبى عليه السلام .

3 ـ هذا الصاحب المُلازم للنبى لا يشير رب العزة فى الآية الكريمة الى هدايته وتقواه ، فلم يقل (إذ يقول لصديقه)، لأن (الصديق) من (الصدق ). و(الصديق) مصطلح قرآنى ورد مع الأقارب الذين يجوز الأكل عندهم( النور61 ).ولو كان أبوبكر صديقا صادقا للنبى مستحقا للقب (الصديق الصادق ) لقال جل وعلا ( إذ يقول لصديقه ) . ولو قالها رب العزّة يصف أبا بكر بالصدق فستكون له شهادة الاهية بالصدق فى الايمان بالاسلام . ولكن إكتفى بوصفه بالصاحب وحرمه من وصف ( الصديق ). ثم جاء أئمة الدين السّنى ولم يكتفوا بوصف أبى بكر بأنه ( صديق ) النبى ، بل جعلوا لقبه ( الصّدّيق ).!

4 ـ ولقد قال النبى لصاحبه :( إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)، وكان السياق أن يُقال بعدها :( فانزل الله سكينته عليهما وأيدهما ) ، أى يكون الكلام عنهما معا فقد كانا معا إثنين فى الغار والحديث عنهما معا بالمثنى (ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا )،ولكنّ عند الحديث عن السكينة والتأييد الالهى تمّ حرمان أبى بكر منها ، وجاء هذا مقصورا على النبى دون صاحبه : (فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا ). وهذا يشير بقوّة الى أن الصفة المشتركة بين النبى وصاحبه أبى بكر هى مجرد الصحبة فقط ، دون الصدق والتأييد الالهى .

5 ـ ثم ، إن مصطلح الصاحب يأتى فى القرآن ـ غالبا ـ بين المختلفين فى العقيدة . جاء مرة واحدة فى القرآن الكريم يفيد المشاركة فى نفس العقيدة فى قوله جلّ وعلا عن ثمود وصاحبهم الذى عقر الناقة: (فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29)( القمر ). وما عداه يأتى مصطلح الصاحب فى سياق الاختلاف العقيدى بين الصاحبين فى الايمان والكفر ، كقوله جل وعلا :(فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنقَلَباً (36) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (37)( الكهف ).فهنا إثنان من الأصحاب أحدهما كافر والآخر مؤمن ، وكلاهما يعبّر عن عقيدته لصاحبه .

6 ـ الأكثر تأكيدا هو وصف النبى محمد عليه السلام بأنّه كان صاحبا للملأ المشركين برغم التناقض العقيدى بينهما. وقد إتّخذ رب العزة من صُحبة النبى للمشركين حُجّة عليهم . فمن خلال صُحبته لهم كانوا يعرفون رجاحة عقله ، لذا قال جلّ وعلا عنهم :( أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (184)الاعراف)،( قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46)سبأ ). أى يدعوهم رب العزّة فى التفكر فى معرفتهم بصاحبهم محمد الذى صحبوه سنينا طويلا وخالطوه وعرفوا عقله وحكمته ، فكيف يتهمونه بالجنون عندما أصبح نبيا ؟ لقد عرفوه قبل النبوه حكيما رشيدا فكيف يتهمونه بالضلال والغواية بعد أن أنزل الله جلّ وعلا عليه القرآن الكريم :(وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) النجم ).

7 ـ نخلّص مما سبق الى أن وصف أبى بكر بالصاحب تعنى طُول صحبته للنبى ، ولكنها ليست دليلا على هدايته ، بل تومىء الآية الى غير ذلك . ونستفيد منها أن الله جلّ وعلا لم يُعط أبا بكر تزكية بالهداية وهو فى أواخر حياته ، لأن الآية فى سورة التوبة التى نزلت قبيل موت النبى عليه السلام ، أى كان أبو بكر   وقت نزولها فى أواخر عمره ، ثم مات بعدها بحوالى ثلاث سنوات. وفى السنتين الأخيرتين من عمره كان مسئولا عن فاجعة الفتوحات. من هنا نفهم تلك   الإشارة التى تومىء الى أنه مجرد صاحب للنبى ، ضمن صحبة النبى لمشركين غيره .

8 ـ يكفى هنا أن وصف النبى بالصاحب ربطته بالمشركين دون المؤمنين أى كان صاحبا للمشركين وليس المؤمنين :( أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (184)الاعراف )،( قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46)سبأ ).(وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) النجم ). كما وُصف أبو بكر بأنه صاحب النبى (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ ..(40)( التوبة ).

9 ـ أى يمكن طبقا لمصطلحات القرآن الكريم أن نقول أن أصحاب النبى  المحيطين به هم المشركون المعاندون ، أمّا المؤمنون المخلصون من عوام الناس وفقرائهم فقد كانوا عنه بعيدين . 

ثانيا : تعلّق النبى محمد بصُحبة المشركين الأغنياء دون المؤمنين الفقراء

1 ـ هنا نتدبر قوله جل وعلا : ( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28) الكهف ). ونفهم من ظاهر الآية الكريمة ثلاث قضايا مترابطة : تحرّج النبى من المؤمنين الفقراء الى درجة طرده لهم ، وتقرّبه للمشركين الأثرياء الى درجة طاعته لهم ، وحبه لمتاع الدنيا .

2 ـ فى حُبّه لمتاع الدنيا وزينتها جاء فى الاية الكريمة الأمر له عليه السلام بأن يصبّر نفسه مع المؤمنين وألّا تنفر عيناه منهم لتنظر الى زينة الحياة الدنيا ومترفيها:( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) . وتكرر هذا النهى للنبى فى مكة بألّا يمدّ عينيه لأولئك المترفين ومتاعهم الدنيوى : (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131) ( طه ). وبعد هجرته للمدينة لم يفارقه شغفه بالنظر لأصحاب الثروات والاعجاب بنعيمهم وجاههم شأن معظم البشر، وكان منافقو المدينة هم الأكثر أموالا وأولادا فقال جل وعلا للنبى مرتين فى سورة التوبة : ( فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)،( وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85) التوبة ). وتكرار الأمر والنهى يدل على عدم طاعة النبى للأمر والنهى الأول فاستلزم تكرار الأمر والنهى .

3 ـ فى ضيق النبى من المؤمنين الفقراء الى درجة طرده لهم ، وتقرّبه للمشركين الأثرياء الى درجة طاعته لهم نلاحظ الآتى :

3 / 1 : قوة التعبير القرآنى للنبى:( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ )،أى أن يقوم النبى بإجبار نفسه على الصبر على معايشة المؤمنين الفقراء ولا تتركهم عيناه لتنظر للمترفين . هنا أمر بأن يصبر نفسه مع المؤمنين ، مع نهى عن إنبهاره بالأثرياء . ثم يأتى نهى آخر عن طاعة الكفرة المترفين المتطرفين (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28) الكهف ).

3/ 2 :  قبل هذه ألاية الكريمة تعرّض النبى عليه السلام لتأنيب شديد حين أعرض وتجهّم وعبس فى وجه مؤمن ضرير أملا فى رضى شخص كافر مترف من المستكبرين ، يقول جلّ وعلا : ( عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنْ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) عبس ).

3/ 3 : إستكبار الملأ الكافر لا يتغير، فالملأ من قوم نوح وصفوا المؤمنين الذين إتّبعوا نوحا بأنهم ( الأرذلون ) وعلّلوا عدم إيمانهم بوجود هؤلاء الأرذلين مع نوح : ( قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ (111)الشعراء ) ( وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِي الرَّأْيِ ) (27) هود ). ولكن النبى نوحا عليه السلام رفض طرد إخوانه المؤمنين ،وقال للكفرة المستكبرين :( وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا )(29)( هود) (وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114)( الشعراء ). أمّا خاتم النبيين محمد عليهم السلام لم ينتظر أن يقول له الملأ القرشى هذا ، بل بادر بطرد المؤمنين تقرّبا منه لهم ، وطاعة مسبّقة منه لتوجيهات الكفرة المترفين الذين يستنكفون من الجلوس مع المؤمنين الفقراء أو النظر اليهم . فنزل نهى آخر للنبى ينهاه عن طرد المؤمنين الفقراء حتى لا يكون ظالما:( وَلا تَطْرُدْ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنْ الظَّالِمِينَ (52)الانعام ). وتكرار الأمر والنهى يدل على عدم طاعة النبى للأمر والنهى الأول فاستلزم تكرار الأمر والنهى .

4 : فى طاعة النبى للمشركين نلاحظ الآتى :

4/ 1 : تكرار الأوامر للنبى تنهاه عن طاعة الكفرة من قريش ، بدءا من اوائل ما نزل فى القرآن الكريم ، ففى سورة القلم : ( فَلا تُطِعْ الْمُكَذِّبِينَ (8))،( وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (10))، الى سورة الانسان:( وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (24) الى سورة الفرقان : ( فَلا تُطِعْ الْكَافِرِينَ )(52 )). وتكرار الأمر والنهى يدل على عدم طاعة النبى للأمر والنهى الأول فاستلزم تكرار الأمر والنهى .

 4/ 2 : وصلت طاعته لهم الى حدّ أنهم كادوا أن يفتنوه عن الوحى لولا أن ثبّته الله جل وعلا : ( وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنْ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِي عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73) وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (74) الاسراء ).

4/ 3 :بعد الهجرة للمدينة وترك قريش إستمر النبى فى طاعة الملأ من أهل النفاق والكفر ممّا إستلزم أن يتكرّر له النهى مرتين فى سورة الأحزاب عن طاعة الكافرين والمنافقين :( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ )(1)،(وَلا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ )(48) (الأحزاب).

4/ 4 : ومع إشتداد المعارضة من المنافقين ووضوح كراهيتهم للنبى والاسلام والمسلمين فقد كان النبى حريصا على صُحبتهم ، حتى إنهم عندما أقاموا مسجد الضرار وكرا للتآمر كان النبى نفسه يقيم فى هذا المسجد حرصا على صُحبة اولئك المنافقين الكبار. ومن أجلهم هجر المسجد الأول الذى تم تأسيسه على التقوى ، وكان يقيم فيه المؤمنون الفقراء الذين يحبّون أن يتطهّروا، والله جل وعلا يحب المتطهرين. قال جل وعلا :( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) قال له ربه جلّ وعلا:( لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) التوبة ).

4/ 5 : وكان المنافقون فى حضور النبى يسخرون من المؤمنين الفقراء الذين كانوا يتبرعون بما لديهم من مال للنبى :( الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79) التوبة ). وكان النبى لا يغضب مراعاة لخاطر المؤمنين المظلومين ، بل يستغفر للمنافقين الساخرين  ، فتوعد رب العزة أولئك المنافقين الساخرين بألّا يغفر لهم مهما إستغفر لهم النبى : ( اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80)التوبة ).

ثالثا : السبب فى تعلّق النبى محمد بصُحبة المشركين الأغنياء دون المؤمنين الفقراء:

1 ـ كان عليه السلام متأكّدا من إسلام أولئك الفقراء وإخلاصهم ، ولكن قلّة حيلتهم جعله عليه السلام أكثر خوفا عليهم وأكثر حرصا على هداية الأقوياء من الملأ ، يأمل أن يكون فى إسلامهم نُصرة للإسلام . كان هذا هو السبب فى تعلّق النبى محمد بصُحبة المشركين الأغنياء دون المؤمنين الفقراء. هذا ، مع إن ربه جل وعلا أكّد له بأن أكثر الناس لن يؤمنوا مهما بلغ حرصه على هدايتهم : ( وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103)( يوسف )، ثم إنّ الملأ القرشى لم يكن ضالّا فقط بل إحترف إضلال الآخرين ، والذى يبلغ هذه الدرجة يستحيل أن يهتدى مهما بلغ حرص النبى على هدايته :(إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ (37)( النحل )

2 ـ ظل مستمرا حرصه عليه السلام على هدايتهم ، بل تطوّر الى درجة الالحاح أو الإكراه على دخولهم  الاسلام ما إستطاع ، فقال له ربه جلّ وعلا :( أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) ( يونس ).

3 ـ ولأنهم لم يهتدوا ، فكان يحزن حزنا شديدا يكاد يهلك به نفسه ، فقال له ربّه جل وعلا :(فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (6)( الكهف )، وينهاه ربه جل وعلا أن تذهب نفسه عليهم حسرات ، لأن الشيطان زيّن لهم سوء عملهم فكانوا يرونه حسنا ، ومن يبلغ هذه الدرجة من الضلال فمستحيل هدايته : (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ )(8) ( فاطر ).

4 ـ الخُلاصة : إنّ صُحبته عليه السلام كانت للكبار مبتعدا عن الفقراء وعوام المؤمنين . كانت هذه عادته فى مكة ، واستمرّ بها النبى فى المدينة.

رابعا : الوضع السياسى هو الذى حتّم ذلك على النبى عليه السلام

1 ـ لقد تصرّف النبى عليه السلام بجهده البشرى وبدون ما يعرف بالمعجزات أو الآيات التى كانت للأنبياء السابقين . تعيّن عليه أن يكافح بنفسه ومعه المخلصون من المؤمنين ، هو الذى كان يخطّط ويشارك فى التنفيذ . وعندما يقع فى خطأ كان ينزل عليه الوحى بالتوجيه والنقد . واجه عليه السلام أكبر تحديات تواجه فردا من البشر ، فنجح فيها ، وأقام باسم الاسلام دولة إسلامية تحقّق أكبر قدر من اليوتوبيا التى كان ولا يزال يحلم بها الفلاسفة . حقّق هذا الإعجاز البشرى فى الصحراء العربية حيث أقام دولة ديمقراطية حقوقية تسبق عصرها ، وتسبق عصرنا فى مجال الحريات ، وفى عصر تسيّده الاستبداد والاستعباد .

2 ـ كان الاسلام جُملة إعتراضية إستثنائية فى هذا العصر بعقيدته وشريعته وبقيمه العليا من العدل والقسط والحرية المطلقة وديمقراطيته المباشرة وما فيه من رحمة وإحسان وحُقوق الانسان . كانت الثقافة السائدة فى العصور الوسطى هى الاستبداد والاستعباد والاسترقاق والفساد وحق المستبد فى قتل من يشاء ، كانت عصور الحروب الدينية ومحاكم التفتيش ، وقد كانت هكذا قرونا قبل النبى محمد ، واستمرت قرونا بعده ، وظهر الاسلام نقطة ضوء وسط هذا الرُكام من الظلمات ، فأضاءت وقت حياة النبى بتطبيق النبى ، ثم خفُت الضوء وتوارى بموته ، وإنطفأ بالفتوحات ، وإختفى تقريبا من الحياة العملية للمسلمين ، وبقى نور الاسلام محصورا فى القرآن المحفوظ رغم أنوف المسلمين .!!

3 ـ والفارق هائل بين نصوص القرآن وتطبيقها ، ووقع عبء التطبيق على خاتم النبيين ، وتلك هى سنّته الحقيقية . ومأساة التطبيق هنا أن النبى عليه السلام كان عليه أن يتعامل مع ثقافة مغايرة متحكّمة مسيطرة ، يمثلها تواتر قريش فى تحريف ملة ابراهيم وتجارتها بالدين ، طبق الشائع السائد فى العالم وقتها من الفرس والروم الى الصين والهند . والتطبيق قد يحتاج الى مرونة ومواءمة فى تعامل مع مراكز القوى . ونجح النبى عليه السلام ، وحين كان يخطىء لأنه بشر كان الوحى ينزل يصحّح وينبّه وينذر وينقد ويوبّخ .

وفى كل هذا لا ننسى أنه عليه السلام كان رجلا ينتمى لنفس القوم : (أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرْ النَّاسَ وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2) ( يونس )، كان رجلا منهم ولكنه خرج عن ثقافة عصره، وقام بتطبيق ثقافة مغايرة وسط مجتمع يرفضها ، فجاهد ونجح فى تأسيس دولة . ويكفى فى تقدير عظمة نجاحه عليه السلام ان نتذكر أن نفس ثقافة الاستبداد والاستعباد والفساد لا تزال سائدة فى معظم العالم اليوم ، خصوصا فى بلاد ( المسلمين ) وعلى رأسها ( محور الشّر فى العالم ) ( السعودية ).!!. لا لوم عليه ـ عليه السلام أن عادت ثقافة الاستبداد والاستعباد بعد موته بالفتوحات التى قام بها صحابة الفتوحات المنتمون للثقافة الجاهلية . فيكفيه فخرا عليه السلام أنه حقّق المستحيل ، وأثبت أنه يمكن تطبيق اليوتوبيا القرآنية حتى فى القرون الوسطى ، وفى منطقة صحراوية أبعد ما تكون عن التحضّر ، ولكنه عليه السلام أقام فيها شرع الاسلام الذى لا مثيل له فى التحضّر .. عليه سلام الله جل وعلا. ومن الظلم له عليه السلام أن نصدّق تلك السيرة التى كتبوها عنه بعد موته تصوّره فاتحا غازيا سفّاكا للدماء قاتلا للأسرى يسبى ويسلب الأموال ويأمر بإغتيال خصومه . تلك الروايات فى السيرة والأحاديث صنعها أئمة الأديان الأرضية ليصنعوا نبيا من ثقافتهم العصر أوسطية ، والذى يحب النبى محمدا عليه السلام ويواليه لا بد أن يبرئه من هذه الصورة البشعة التى كتبها ابن اسحاق والبخارى ومسلم وغيرهم .

4 ـ فى مصر وحضارتها وحين إحتكر فرعون موسى القوة والثروة أمر الله جل وعلا موسى وهارون أن يقولا له قولا ليّنا لعله يتذكّر أو يخشى ( طه 44 )، وهنا إستعمال للمواءمة السياسية مع طاغية متألّه . إختلف الوضع فى مكة التى كان فيها نوع من توازن القوى متأرجح ، فجزء من قريش آمن بالرسول ، وبنو هاشم مع محمد يدافعون عنه بحُكم العصبية الأُسرية. لذا جرى هذا الصراع فى هذه المساحة الرمادية . ومن هنا كان حرص النبى على تحييد عتاة كفار مكة ما استطاع،أملا فى هداية بعضهم وحماية للمستضعفين المؤمنين. وبالهجرة الى المدينة أصبح الوضع أكثر تعقيدا ، فالمطلوب هنا تكوين دولة الاسلام وتطبيق شريعته ، وسط ألغام  يمثّلها المنافقون ، وحيث حوصرت المدينة باليهود فترة وبالأعراب ، وبهجوم قريش ، أى كانت فى حالة طوارىء مستمرة ، ولكنها لم تستوجب مطلقا وجود أحكام عُرفية ،لأن الحرية المطلقة كانت الحل ؛ حرية الدين ، وحرية المعارضة السلمية بالقول والفعل بدون حمل سلاح . المنافقون من ناحيتهم إستغلوا الحرية الدينية وحرية المعارضة حتى سقفها الأعلى ، ولم يمنعهم من حمل السلاح إلّا خوفهم ، كانوا مُصابين من الخوف، وصف رب العزة خوفهم بصورة رائعة (فى سورة التوبة 56 :57)، ففى داخل المدينة يوجد مؤمنون مخلصون صدقوا الله جل وعلا ما عاهدوا الله عليه ، ومستعدون للفداء بالنفس ، وفارق هائل بين الفريقين ( آل عمران  151، 172 : 173 ). وجود هؤلاء المؤمنين المخلصين ( الفدائيين ) أخاف الملأ المنافقين فى المدينة ، فكانوا يُظهرون ما فى قلوبهم من غلّ بالقول والفعل ، ثم يتراجعون خوفا ، ويحلفون كذبا ليحموا أنفسهم ، أى إتخذوا أيمانهم وقاية ( المنافقون 2 ). بسبب خوفهم من الصدام مع المؤمنين المخلصين .

5 ـ بإختصار كانت هناك خطوط حمراء للجانبين إستلزمت نوعا من المواءمة ، والتعامل فى منطقة رمادية فى مجال تشابكت فيه العلاقات وتعقّدت ، وتداخلت فيه مراكز القوى وتوزّعت .

6 ـ والنبى عليه السلام كان بالمؤمنين رءوفا رحيما ، وكان رحمة للذين آمنوا ( التوبة 128 ،61 ) ، وقد خلقه الله جل وعلا لينّا وليس فظّا غليظ القلب ، فكان يعفو عمّن يسىء اليه ويستغفر للمؤمنين ( آل عمران 159 ) بل كان يستغفر أيضا للمشركين حتى عوتب من ربه فى ذلك ( التوبة 113 : 115 ). لذا كان حريصا على تجميع مراكز القوى فى المدينة حوله ليأمن شرّهم من ناحية ، وليحاول التأثير فيهم من ناحية أخرى . وفى نفس الوقت هو مطمئن لاخلاص المؤمنين من عوام الناس الذين لا يطمعون فى الظهور والرياء ومواكب الشهرة لأنّ غايتهم هى رضا الله جل وعلا ، عاشوا بهذا وماتوا على هذا فصاروا من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار الذين رضى الله جل وعلا عنهم ورضوا عنه ( التوبة 100 ). تركوا الساحة ليملأها مريدو الدنيا الذين أرادو الاستفادة من الوضع الجديد أو تحييده لأنهم بالفعل ينتمون الى ثقافة العصور الوسطى . ثقافة السلب والنهب والسبى والقتال فى سبيل الثروة والسلطة . وبعد موت النبى عليه السلام صاروا القادة و( صحابة الفتوحات ) بينما توارى فى الظل واختفى السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار يحافظون على إيمانهم من طوفان الرجس الذى جاءت به الفتوحات ،والتى طبقت ثقافة العصور الوسطى تحت إسم الاسلام ، والاسلام منها ومن أصحابها برىء

أخيرا: المعنى المّراد ممّا سبق :

 إن المحيطين بالنبى كانوا من الأثرياء والقادة والمشاهير فى مجتمع العرب حيث القبيلة والعشيرة وشيوخها ونفوذ المجتمع الذكورى . هؤلاء الكبار هم الذين أحاطوا بالنبى عليه السلام حرصا على استمرار وضعهم ومكانتهم ، ثم تولوا السّلطة بعد موته ـ وصاروا ( صحابة الفتوحات ) الذين سار التاريخ فى ركابهم ورضى عنهم ، بينما تجاهل المؤمنين المخلصين الفقراء من العوام ، لم يرض عنهم التاريخ ، ولكن رضى الله جل وعلا عنهم ، ورضوا عنه .

 

 

 

الباب الثانى : مكر قريش أدى للفتوحات   

الفصل الأول  : صحابة الفتوحات صناعة قرشية فرعونية لا إسلامية

مقدمة : قريش الفرعونية

1 ـ حمل صحابة الفتوحات نفس التواتر الجاهلى القرشى والثقافة الجاهلية وثقافة العصور الوسطى فى الغزو والسلب والنهب والاسترقاق . كان العرب يمارسونها فى حروب مستمرة بين القبائل ، ثم أتيح لهم بزعامة قريش ممارستها عالميا تحت شعار الاسلام ، مع أن الاسلام هو دين السلام والعدل والحرية . أى إن صحابة الفتوحات آثروا إخفاء هذه الثقافة طيلة وجودهم الى جانب النبى ، ثم ما لبثوا أن أظهروها وطبقوها بعد موته بوصولهم إلى موقع السلطة . هاجروا من مكة وتركوا قريش ، ولكنهم حملوا ثقافة قريش فى داخلهم ، وانتظروا الوقت المناسب لتطبيق هذه الثقافة الجاهلية باسم الاسلام .

2 ـ  أمر كهذا لا يمكن أن يحدث عفويا . لا بد من وجود خطّة محكمة من خلفه ، خصوصا أنّ الطرف المستفيد هو قريش التى كانت العدو الأكبر للاسلام والتى تخصّصت فى التآمر على الاسلام وحرب النبى عليه السلام ، فإذا بها بعد موت النبى وانتهاء القرآن الكريم نزولا تصبح هى زعيمة الاسلام ، وتستخدم إسمه فى فتوحاتها التى تتناقض مع شريعة الاسلام .

3 ـ قريش فى خطتها هذه لا بد أن تقوم بزرع عملاء لها حول النبى ، وهذا منتظر فى حالات الحرب والصراع . وعن طريق هؤلاء العملاء نجحت قريش فى قيادة المسلمين الى حرب عالمية أقامت بها امبراطورية عاتية . وهذا يستلزم تحقيقا بحثيا ، كيف مكرت قريش ؟ وماهى خططها ؟ وما هى طبيعة تآمرها ؟  موضوع هذا التحقيق سيكون فى الفصل التالى ( رقم 6 ) . ولكن فى البداية نشرح فى هذا الفصل كيف أنّ صحابة الفتوحات هم إمتداد لقريش زرعتهم حول النبى ، هم صناعة قرشية وليسوا صناعة اسلامية . وحتى نتعرف على هذا المنتج الصناعى ( صحابة الفتوحات ) لا بد أن نتجول فى المصنع نفسه : ( قريش ) لنتعرف فى هذا الفصل على ملامح قريش من خلال القرآن الكريم ، وكيف أنها كانت تسير على سُنّة فرعون .

4 ـ لقد جاء فى القرآن الكريم وصف قريش ثلاث مرات بأنها فى حربها للنبى تسير على ( دأب آل فرعون ) والسابقين له ؛ فى التعقيب على معركة بدر قال جل وعلا عن قريش :( كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمْ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11) ( آل عمران )، أى إنهم ساروا على طريق آل فرعون وسيتعرضون مثلهم للعقاب بذنوبهم . ونفس التعقيب على معركة بدر جاء مرتين فى سورة الأنفال :( كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمْ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54 ).  ولهذا فإن أوصاف فرعون وملئه تنطبق على الملأ القرشى . ونتعرض لملامح قريش من هذه الزاية على سبيل الاختصار.

أولا : آل فرعون أئمة للطغاة بعدهم  وكذلك قريش

1 ـ أتّبع آل فرعون سُنّة الطغاة من قبلهم ، ثم صاروا أئمة للطغاة والطغيان من بعدهم . يقول جل وعلا عن نهايتهم : (فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ )(41)(القصص). وحتى الان فأى نظام مستبد يُقال عنه إنّه فرعونى ، وكل مستبد هو فى الحقيقة يسير على دأب فرعون وسُنّته ، وقد يصل به إستبداده وعلوه فى الأرض الى إدّعائه الألوهية صراحة ، أو يزعم أن الله جل وعلا إختاره ليحكم الناس ، ويؤسس دولة دينية ، وهذا ما فعله صحابة الفتوحات والخلفاء الراشدون وغير الراشدين. ولهذا تكرّر القصص القرآنى عن فرعون ونظامه وعدائه لرب العزّة ، تحذيرا مسبّقا للمسلمين ، ولتوضيح أن الاسلام يرفض هذا النهج فى الحكم الدينى ، وليكون هذا حُجّة على المسلمين من صحابة الفتوحات ومن جاء بعدهم متّبعا سُنّة فرعون فى الظلم والاستبداد والفساد والحكم الدينى .  ومع هذا فلا يزال العرب المسلمون فى اغلبهم خاضعا للحكم الدينى ( الدولة الدينية ) من الخليج الى المغرب . وحتى المستبد العلمانى يتّكىء على شيوخ دين أرضى ؛ يركبهم ويركب بهم الشعب . وأصبح حديث رب العزة عن فرعون آيات لا نفقهها، فقد أتّخذنا القرآن مهجورا ،إذ صار القرآن كقصائد للتغنّى بها فى سرادقات العزاء..!!

2 ـ ولقد وصف رب العزّة طغاة قريش الذين نقضوا العهد وإحتلّوا الحرم المكّى بأنهم أئمة الكفر : ( وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ (12) التوبة )، أى أنّ أولئك المعتدين هم أئمة لكل طاغية يسير على سنّة فرعون وسّنة الملأ القرشى. وهذا هو واقع المسلمين الذين يقتدون بصحابة الفتوحات والفتنة الكبرى حتى اليوم. أولئك الصحابة هم طبقا للقرآن الكريم أئمة الكفر ، ومع ذلك يزعم الدين السّنى أنهم كالنجوم من إقتدى بهم إهتدى . وفعلا ، اقتدى بهم المسلمون ، ولذلك لا يزالون يقتتلون فيما بينهم ، من مقتل عثمان وحتى الآن .  وليس هناك بين البشر أمّة تجعل الاقتتال بينها دينا وواقعا مستمرا 14 قرنا من الزمان سوى السّنة والشيعة .!!

ثانيا : الطغيان الفرعونى والقرشى :

1 ـ نكتفى فى طغيان فرعون بقوله جل وعلا لموسى :( اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17)(النازعات). والطغيان هو مجاوزة الحد فى الظلم والاعتداء والبغى . وهكذا كان فرعون ، وهكذا أيضا كانت قريش ، فتكرر وصفهم بأنهم فى طغيانهم يعمهون أى يسيرون فى طريق الطغيان عُميا يعمهون ، ويذرهم ربهم فى طريقهم يعمهون الى أن يلقوا جزءاهم فى الدنيا والآخرة كأى طاغية . ونقرأ قوله جل وعلا عن قريش :( وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110) الأنعام )،( وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186) الأعراف)( فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) يونس )

2 ـ ويقول جل وعلا يخاطب النبى عليه السلام عن التواتر القرشى الباطل الذى حرّف ملة ابراهيم :( فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ (109)( يونس). أى هم يعبدون وفق التراث الباطل الذى وجدوا عليه آباءهم ، وسينالون جزاءهم.

3 ـ المُلفت للنظر قوله جل وعلا فيما بعد يخاطب النبى آمرا وناهيا ومحذّرا بلهجة شديدة :( فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) يونس ) ، فهنا أمر بالاستقامة ونهى عن الوقوع فى الطغيان الذى وقعت فيه قريش ، ثم تأتى الآية التالية تنهى وتحذّر من الوثوق بقريش الظالمة حتى لا يقع علي النبى والمؤمنين نفس العقاب :( وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ (113) يونس ). أى لا يكفى فقط الابتعاد عن الطغيان بل لا بد أيضا من عدم الوثوق بالطغاة . وهى نصيحة غالية لكل إنسان يريد الاستقامة الفعلية . والمستفاد هنا من هذه الآيات المكّية أنها بادرت مقدما بالتحذير ؛ تحذير النبى ومن تاب معه من الوثوق فى طُغاة قريش . وهو تحذير قاله مسبقا رب العزّة جل وعلا الذى يعلم الحاضر والمستقبل . والمستفاد ايضا أن صدور هذا التحذير بهذه القوة جاء نتيجة تآمر فعلى من الطُغاة وقتها، فلا بد من الحذر منهم وعدم الركون اليهم .

ثالثا : مهابة فرعون ومهابة قريش

1 ـ الطاغية يُرعب ويُرهب قومه ويخيفهم . وهكذا كان فرعون . حتى لقد إرتعب موسى عندما قال له ربه جل وعلا : (اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24) طه ) فطلب موسى أن يكون معه أخوه هارون ( قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) ) . وأصبح هارون رسولا مع أخيه الى فرعون ، وقال رب العزّة لهما :( اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُطَغَى (43) طه )، وأمرهما ربهما أن يترفقا فى الكلام مع هذا الطاغية : ( فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) ، ولكن خوف موسى وهارون إزداد من طغيان فرعون وغضبه ( قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) فطمأنهما رب العزة بحمايته لهما : ( قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) طه ). هنا طغيان متطرف إستلزم أن يتدخّل رب العزة القاهر الجبّار لكى يهدّىء روع رسولين من الرسل المكرّمين . وإذا كان هذا هو حال إثنين من الأنبياء فكيف ببقية أفراد الشعب تحت حُكم فرعون وقهره ، وهو القائل عن بنى اسرائيل (  قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) الاعراف  ).

2 ـ ونفس الحال فى طغيان قريش ومهابتها . ونتعرف على هذا من هلع المسلمين قبيل إشتباكهم مع جيش قريش فى موقعة بدر . عندما أفلتت منهم القافلة وتعين عليهم مواجهة جيش قريش كرهوا ذلك ، وأخذوا يجادلون النبى يريدون تفادى هذه المواجهة رُعبا وهلعا من قريش ، وعندما تحتّمت المواجهة كانوا كأنما يُساقون الى الموت وهم ينظرون .هذا مع إن الوعد الالهى جاء للنبى بأنّ لهم إمّا القافلة وإمّا النصر ، وطالما أفلتت القافلة فإن النصر من نصيبهم . كان المقصد الالهى من المواجهة أن يتخلّص المسلمون من عُقدة الرعب من قريش ومهابتها ، وهذا لا يمكن حدوثه إلّا بالانتصار الحربى على جيش قريش الذى يفوقهم ثلاث مرات فى العدد .  إستغاث المؤمنون بربهم جل وعلا فأنزل على قلوبهم ملائكة تقوّى عزائمهم وتزيل عنهم الرعب والمهابة من قريش . هذا التدخل الالهى بملائكة تثبّت المؤمنين فى المعركة يؤكّد لنا أن مهابة قريش كانت هائلة ، ولهذا كانت موقعة بدر فاصلة ، إذ حطّمت اسطورة قريش وطغيانها ، فأصبح يوم بدر إسمه ( يوم الفرقان ) دلالة على التحوّل الخطير بتحطيم اسطورة قريش ومهابتها : ( الأنفال 5 : 12 ، 41 ).

3 ـ وفى الوقت الذى كان فيه المؤمنون مرتعبين قبل المواجهة كان جيش قريش يتحرّك فى أبّهة وعظمة وخُيلاء يضمن النصر ، أو بالتعبير القرآنى :  (.. خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) الانفال ).

رابعا :  المكر الفرعونى والمكر القرشى

1 ـ ارتباط الاستكبار والعلوّ بالمكر : الطُغاة هم أكابر المجرمين فى أى مجتمع وأى دولة ، يتحكمون فيها ، مستكبرين مستعلين على الناس ، لذا فإن الدار الآخرة ليست لأصحاب الطموح السياسى الذين يريدون عُلوا فى الأرض و فسادا . فهم ينافسون رب العزّة فى العلوّ على  الناس ( سبحانه وتعالى ) فهو جلّ و علا  وحده صاحب ( العلو ) : (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً (43)( الاسراء ). أولئك يسيرون على سنّة فرعون الذى علا فى الأرض (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ ) القصص 4 ) وكان من العالين : (  مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِنْ الْمُسْرِفِينَ (31) الدخان ) :(وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنْ الْمُسْرِفِينَ (83)( يونس ) . وفرعون نفسه يسير على سّنّة ابليس الذى استكبر فقال له رب العزة : (  مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَاسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنْ الْعَالِينَ (75) ) ص ). على النقيض من هؤلاء  يقول جل وعلا عن الفائزين بالأخرة : (تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) القصص ) .

2 ـ أصحاب العلوّ  يحتاجون للمكر والخداع والتآمر والكيد كى يصلوا للحكم ، أو كى يحتفظوا بالحكم ، وليصبحوا ( أصحاب المعالى ) و ( أصحاب السّمو ) ويقال لهم ألفاظ التقديس التى لا تكون إلا لله جل وعلا مثل: ( صاحب الجلالة ) ( صاحب القداسة ) ( معاليك ) ( سُمُوّك ) . لكى يحتفظوا بمكانتهم ( العالية فوق  رءوس الناس ) أو لكى يصلوا اليها لا بد لهم من المكر ، وفى النهاية سيدفعون الثمن . يقول جل وعلا فى قاعدة قرآنية إجتماعية سياسية تسرى فى كل زمان ومكان قبل وبعد نزول القرآن :( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123) ( الانعام ).

2 ـ معنى مكر الله  : والتعبير القرآنى هو أن يردّ الله جل وعلا مكرهم بمكر . ونسبة ( المكر ) لله جل وعلا هو فى الفصاحة العربية ضمن اسلوب ( المشاكلة ) . واللسان البشرى لا يمكنه التعبير عن ذات الله جل وعلا وصفاه وأفعاله لأنّ ذلك فوق التصوّرات والادراكات البشرية ، لذا يأتى التعبير باسلوب المشاكلة كى يفهم البشر ، فإذا كانوا يمكرون فإن الله جل وعلا ( أسرع مكرا ) (  وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلْ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21) ( يونس ). لاسبيل آخر لوصف ردّ الفعل الالهى سوى ذلك ، فهذا هو ما يستطيع البشر فهمه . والواقع أن المكر السىء ينقلب على صاحبه ، فهذا قانون الاهى يسرى فى كل زمان ومكان ، أو كما قال جل وعلا : (  وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123) ( الانعام ).

3 ـ لايحيق المكر السيء إلا بأهله سابقا ولاحقا : يصف ربّ العزة إستكبار قريش ومكرها بالنبى ويحذّرهم من عاقبة مكرهم ، ومؤكّدا أنّ المكر السىء لا يحيق إلّا بأهله : (اسْتِكْبَاراً فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً (43) ( فاطر ). هنا يرتبط المكر القرشى بالاستكبار القرشى ، ويأتيهم التحذير الالهى ممّا حدث لأهل المكر والاستكبار من قبلهم .

4 ـ وتتوالى التحذيرات فى السّور المكية دليلا على إنهماك قريش فى مكة بالتخطيط  والتآمر على النبى والمسلمين والاسلام ، يقول جل وعلا عنهم:( وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42)( الرعد )، ( قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمْ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمْ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (26)( النحل )، ويذكّرهم رب العزّة بما حدث لقوم نوح ومكرهم وبسببه تعرضوا للغرق بالطوفان: ( وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (22)،( مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَاراً (25) ( نوح ). ويذكّرهم بما حدث لقوم ثمود حين مكروا بنبيهم صالح فانتهى الأمر بتدميرهم ، قال جل : ( وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (50)النمل  ) وكى يعتبر القارىء يقول جل وعلا : ( فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52)   النمل  )

5 ـ بين مكر فرعون ومكر قريش : وفرعون هو نموذج الاستكبار، يقول عنه جل وعلا وقومه وجنده :(وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ )(39)(القصص ). وضجّ موسى عليه السلام من تكبّر فرعون فاستعاذ بالله جل وعلا منه كما يستعيذ المؤمن من الشيطان الرجيم : ( وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27)( غافر). فرعون لم يكن محتاجا للمكر لأنّه كان متحكما فى الثرة والسلطة والقوة ، ويتخيّل أنّ خصومه مقهورون تحت سلطانه  . ولكن إضطرّ فرعون للمكر ليواجه ذلك الأمير الفرعونى المسالم الذى كان يكتم إيمانه ويعظ قومه. يقول جل وعلا :( فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45)( غافر ). لم يستخدم فرعون ضده القوّة الصريحة العاتية كما كان يفعل مع بنى اسرائيل ، لأنّه يتعامل مع أمير ناصح خائف على قومه ، فحاول أن يمكر به خفية ، فوقى الله جل وعلا ذلك الأمير المؤمن من مكر فرعون .

إختلف الوضع فى قريش ، فأئمة الكفر فيها لا يتحكمون فى كل شىء ، وهناك خطوط حمراء لا يمكن أن يتخطّوها حرصا على مصالحهم وعلاقات العشائر ، والنبى عليه السلام ينتمى الى عشيرة ذات نفوذ ، وهناك له أتباع داخل مكة وخارجها ، وبالتالى فإن إستعمال القوة محكوم بمحاذير . ولهذا لا بد من المكر والكيد واساليب الخداع و ( السياسة ) وأهمها التجسّس وزرع العملاء حول النبى . المكر هو الذى يسدّ الفراغ بديلا عن القوة الصريحة .

ولهذا تفوقت قريش على فرعون فى المكر . يقول جلّ وعلا عن مكر قريش أنهم زّيّن لهم مكرهم : ( بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ  ) (33) الرعد ). ويصف مكرهم بأنه تزول منه الجبال : (  وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46)( ابراهيم )، وهذا المكر القرشى الذى تزول منه الجبال  قام بزرع عملاء وجواسيس حول النبى صاروا من كبار الصحابة وزعماء المهاجرين . وهم الذين أصبحوا قادة الفتوحات . وفى الآية التالية يطمئن رب العزة رسوله الكريم باسلوب التأكيد بأن الانتقام منهم آت لا ريب فيه : (فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ (47) ابراهيم ). وينهاه عن أن يضيق صدره من مكرهم : (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) ( النمل ) بل عليه أن يصبر : (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127)( النحل ). ويؤكّد رب العزة مرتين فى القرآن الكريم أنه سيستدرج أولئك الماكرين من حيث لا يعلمون : ( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) الأعراف )،( فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) القلم ).وهذا الكيد الالهى هو الرد على المكر القرشى .

خامسا : الكيد والتآمر لعموم  السابقين

1 ـ الفرق بين الكيد والمكر : ( المكر ) هو التآمر الخفى ، ولهذا فعندما سجد سّحرة فرعون إعتقد أنها مؤامرة خفية ضده : (قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123)( الأعراف ). أمّا (الكيد) فقد يكون ظاهرا علنيا: ( فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60) طه )، وقد يكون خفيا (كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ )(76) يوسف ) .

2 ـ وهذا الكيد الالهى يقف بالمرصاد للطغاة فى كل زمان ومكان ، يقول جل وعلا : ( أَلَمْ تَرَى كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِي (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14) ( الفجر ).ولذلك إنتهى كيد فرعون الى وبال عليه :( وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ (37)( غافر )( فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (25)( غافر ). رب العزة هو الذى جعل فرعون يتبنى موسى ليكون موسى له عدوا وحزنا ، وكل كيد لفرعون كان يرتد عليه فشلا ، وفى النهاية انتهى بالغرق هو وجنده ، وما أغنى عنه كيده شيئا ، وهو الذى كان يتخيل نفسه الرب الأعلى .

 3 ـ ونفس المصير ينتظر قريش وكيدها ، إذ سيحيط بهم كيدهم : ( أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمْ الْمَكِيدُونَ (42)(الطور  )، وسيستدرجهم رب العزة من حيث لا يعلمون ( الاعراف 183 ) ( القلم 45 ).   هو إمهال لهم ، فالله جل وعلا يُمهل ولا يُهمل : (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (15) وَأَكِيدُ كَيْداً (16) فَمَهِّلْ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (17) الطارق ).

أخيرا : كيف مكرت قريش ؟ وماهى خططها ؟ وما هى طبيعة تآمرها ؟ وكيف إختلفت عن مكر فرعون ولماذا ؟ وكيف إستغلت وضع المسلمين وتطوره لمصلحتها ..إنتظرونا .

 

 

 

الباب الثانى  مكر قريش أدّى للفتوحات

الفصل الثانى : صحابة الفتوحات عملاء لقريش زرعتهم حول النبى عليه السلام

 مقدمة  : بين المكر الفرعونى  والمكر القرشى

1 ـ  انطلق فرعون يقهر بنى اسرائيل يعذّبهم ويقتل أبناءهم . وحيث إحتكر فرعون كل القوة والثروة فقد كان الملجأ الوحيد لحماية الرضيع موسى هو قصر فرعون نفسه . إختلف الحال فى الطغيان القرشى والذى تقاسمه بنو عبد مناف . أنجب عبد مناف توأمين : هاشم وعبد شمس . وعبد شمس أنجب أمية . وتقاسم بنوهاشم وبنو عبد شمس وأمية النفوذ ، إختصّ بنوهاشم برعاية البيت الحرام والحجّاج ، بينما إختص بنو أمية برحلة الشتاء والصيف والعلاقات بالقبائل داخل الجزيرة العربية وداخل الشام . ظهور محمد عليه السلام برسالة القرآن ودعوة أنه ( لا اله إلّا الله ) كان تحديا لقريش ، ليس فقط فى زعامتها للعرب خارج مكة ، ولكن أيضا فى ترابطها ووحدتها حيث تنتمى قريش لأصل واحد هو( كنانة ) تتفرع منه عشائرها ، وهى بوحدتها تدعّم زعامتها للعرب ، وتحمى تجارتها وتنظم شئونها داخليا . ظهور الاسلام أصبح مهددا لهذه الوحدة القرشية . ليس فقط لأن النبى ينتمى لأحد العشائر القوية فى قريش ، وليس فقط لأن بنى أمية هم ابناء عمومة لبنى هاشم ، ولكن أيضا لأن هناك أتباعا للاسلام من شتى العشائر، وبالتالى فإن إستعمال قريش للمكر وصل الى عبقرية غير مسبوقة ، أو بالتعبير القرآنى ( تزول منه الجبال ) : (وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46)( ابراهيم ).

2 ـ العُنف الفرعوني غير وارد لأنّ  فرعون كان يستأصل شعبا يعتبره غريبا ، ويتلذّذ بتعذيبه . وقد إعتبر هروب هذا الشعب من قبضته تحديا لهيبته فأخذ يطاردهم الى ان غرق .

أولا : ومن الملفت للنظر أنّ :

1 ـ غرق فرعون وجنده كان أخر إهلاك عام فى قصص الأنبياء والقرون الأولى من الأمم السابقة:( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43)( القصص )، وانتهت هذه الصفحة من تاريخ البشرية ، وبالتالى فإن الاهلاك العام لقريش ليس واردا. ثم إنّ عليهم مهمة يجب أن يؤدوها حتى فى عصيانهم للاسلام، هى توصيل القرآن الى آفاق العالم ، فلا بد للقرآن بحفظ الرحمن أن يظهر على الدين كله ولو كره الكافرون المشركون : (التوبة 33 )(الفتح 28 ) (الصف 9 ). وظهوره يعنى تبليغه للناس حتى لو كان من يبلغه عاصيا له وعدوا له . ومن عصر الفتوحات وحتى الآن إعتاد المسلمون بأديانهم الأرضية نشر القرآن والحفاظ عليه مع أتّخاذه مهجورا عن حياتهم العملية وكونهم طبقا للقرآن نفسه مشركين كافرين. أى إنّ تلك الفتوحات العربية القرشية مع أنها ردّة عن الاسلام إلّا أنها حملت القرآن الى ربوع العالم ، سواء رضيت قريش أم أبت ، لأن حفظ الله جل وعلا للذكر القرآنى فوق إمكانات البشر ، وباستعمال إمكانات البشر أيضا . 

2 ـ إن الفتوحات العربية لم تنشر حقائق الاسلام ، بل أعادت مضمون الأديان الأرضية السابقة فى نسخ جديدة وبأسماء اسلامية ولغة عربية ، فالتشيع الفارسى هو تعبير دينى عن الشعوبية الايرانية والقومية الفارسية والعقائد الايرانية . ونفس الحال فى مصر التى تعرضت لاحتلال دول مختلفة قبل الاحتلال العربى ، من الهكسوس ، والفرس والأشوريين واليونانيين والروم . ثم العرب . وحافظت مصر على شخصيتها الدينية ، وقامت بتمصير المؤثرات الوافدة مع كل إحتلال . بل ونشرت عقائدها لدى المحتل الأجنبى نفسه . كل ما كانت تفعله هو نفس المضامين المصرية ولكن تحت أسماء جديدة . لذا قامت مصر بتمصير ما يعرف بالمسيحية وقبلها اليهودية ، ثم قامت بتمصير الاسلام ، ومارست نفس عقائدها القديمة الفرعونية تحت مسميات اسلامية وباللغة العربية . على طول التاريخ المصرى كان الثالوث المقدس فى الديانة الفرعونية يتم استرجاع عبادته تحت اسماء جديدة ، وعبادة الثالوث ايزيس واوزيريس وحورس هى نفس الثالوث القبطى ثم هى نفس السيدة زينب والحسين مع رب العزة ؛فالقبطية تكرار للديانة الفرعونية ، والتصوف المصرى بعد الفتح العربى تكرار لنفس التراث الفرعونى الدينى، والتفاصيل فى كتابنا ( شخصية مصر ) المنشور هنا . أى إن الفتح العربى لم يؤثر دينيا فى مصر ، فظلت ثوابت المصريين الدينية كما هى مع تغيير فى الأسماء واللغات ، من هيروغليفية الى ديموطيقية الى قبطية الى عربية . الشىء اوحيد الذى أتى به الفتح العربى القرشى لمصر هو القرآن الكريم ، ليكون حُجة على المصريين جميعا ، سواء من بقى منهم على قبطيته أو من دخل فى الاسلام ثم قام بتحويره الى دين أرضى .

3 ـ  وحاق المكر السىء بأهله . بذل فرعون كل كيده فى قهر بنى اسرائيل فجعله رب العزة هو الذى يربى موسى فى كنفه ليصبح موسى فيما بعد عدوا له وحزنا . أخذ فرعون يطارد موسى وقومه ليهلكهم وما كان يعرف أنه يسعى جريا الى موقع هلاكه . نفس الحال مع قريش، كرهت القرآن وإصطنعت أحاديث اللهو لتصرف عنه الناس ، ومن كراهيتها للقرآن حاربت النبى والمسلمين واستخدمت كل دهائها ومكرها ، وبلغت أوج إنتصارها بجريمة الفتوحات ، وأسفرت الفتوحات فى النهاية على نشر القرآن الكريم فى ربوع العالم .

4 ـ أن فرعون بكل جبروته لم يستطع قتل موسى مع أنه تمنى ذلك: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ (26) غافر)، وذلك لأن الله جل وعلا تولى حفظ موسى وأخيه هارون ، ووعدهما بذلك ليطمئنهما : (قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنْ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35) القصص ). ونفس الحال مع مكر قريش الذى تزول منه الجبال ، فلم يستطع عملاء قريش من كبار الصحابة المحيطين بالنبى أن يقتلوه فى مكة أو المدينة ، ولم تستطع قريش قتله فى المواجهات الحربية ، وعجز عن ذلك المنافقون من الأوس والخزرج ، والمنافقون الوافدون من الخارج والمنافقون الذين مردوا على النفاق . السبب أن الله جل وعلا عصمه من الناس حتى يقوم بتبليغ الرسالة ، فلما أتم التبيلغ عليه السلام واكتمل الاسلام دينا أماته رب العزة على فراشه .يقول جل وعلا :( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ   (67)( المائدة ). وسبقت إشارات فى مكة بأنه سيموت موتا عاديا : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) ( الزمر ) . وحين أشيع قتله فى معركة أُحُد قال رب العزة مؤكّدا أن المهم ليس شخص محمد فهو رسول قد خلت من قبله الرسل: ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144). المهم هو الرسالة ، لذا تأتى الآية التالية تومىء الى أن موته مؤجل ولم يحن أجله بعد ( وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً )(145)(آ ل عمران ). وفى الوقت الذى كان فيه النبى عليه السلام هو المطلوب رقم واحد للقتل وحماه ربّه جل وعلا فإن الخلفاء الراشدين تعرضوا جميعا للاغتيال من بعده .

ثانيا : تنوع المكر القرشى الذى ( تزول منه الجبال )

 كان تركيز مكر وكيد فرعون على العنف ، بينما تركز مكر قريش وكيدها على وسائل أخرى بجانب العنف ، أهمها زرع العملاء حول النبى بزعم دخولهم فى الاسلام ، ثم إجبار النبى والمسلمين على الهجرة ، أى تصدير المشكلة للخارج والتعامل معها بعيدا عن مخاطر تهدد الوضع القرشى فى مكة ، وفى نفس الوقت وضع النبى والمؤمنين تحت المراقبة والسيطرة لو أمكن . وبعد الهجرة كانت إغارات سريعة لقريش على المدينة لتأكيد الهيمنة والغطرسة القرشية . ثم نزل الاذن للمؤمنين بالقتال فكانت الحروب ، وبهزيمة بدر زالت هيبة قريش فتغيرت إستراتيجية قريش فانتهجت سياسة العنف المتطرف وثأرت لنفسها فى موقعة ( أحد ) ثم حاولت إستئصال المسلمين فى موقعة الأحزاب لتؤكّد سيطرتها وتعيد تأمين طريق قوافلها، ففشلت . فعادت للتركيز على ساسيتها القديمة وهى محاولة الاحتواء والاستفادة منه عبر عملائها الذين يأتون للنبى يزعمون اسلامهم ، يحيطون به ويتفانون فى الطاعة وهم جواسيس وعملاء لقريش . هذا ، مع استغلال قريش للأعراب فى خلق مشاكل للمسلمين فى دولتهم بدلا من تجميعهم فى حرب مكشوفة مثل غزوة الأحزاب  .

 ثالثا  : مكر قريش بتهجير المسلمين من مكة

1 ـ قمة المكر والدهاء أن ترسم لخصمك طريقا ليسير فيه وتجعله يتصور إنه يفعل ذلك بأختياره . هذه الطريقة تنتهجها الدول الكبرى فى تخطيطها . وسبقتهم قريش . فى لقاء الملأ القرشى للمكر بالنبى والاسلام والمسلمين إستعرضوا ثلاثة حلول : إعتقال النبى ، أو قتله ، أو إرغامه على الهجرة . يقول جل وعلا يفضح تآمرهم :( وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)( الانفال ). واستقر أمرهم على أن يرغموه على الهجرة لأنها من وجهة نظرهم أنجح الحلول ، لأسباب شتى : فقتل النبى يثير حربا أهلية فى مكة فلن يرضى بنوهاشم إلا بالثأر له دفعا للعار عنهم لو سكتوا . و(تثبيت ) النبى أو إعتقاله سيدفع بمواجهة اخرى قد يتحالف فيها أتباع النبى مع عشيرته فى تخليصه من السجن ، وتقوم ثورة وفتنة تدفع قريش ثمنها . أما ( تهجير ) النبى وأتباعه فهو سلب لممتلكات المؤمنين المكّييّن وبيوتهم وأموالهم وعقاراتهم وأسهمهم فى التجارة القرشية، وهو  تصدير للمشكلة خارج حدود مكة ، ثم تعامل معها كعلاقات خارجية ، يتم فيها إرغام من يتبقى من بنى هاشم فى مكة على ان يكون شريكا للملأ القرشى فى تعامله مع هذا العدو  الخارجى . ويكون عليهم الاختيار بين البقاء فى مكة والتبرؤ من محمد ، أو الهجرة مع محمد والتبرؤ من مكة وقريش . 

2 ـ والسياق القرآنى فى هذا الموضوع عن الهجرة لا يستعمل كلمة الهجرة بل مصطلح ( الإخراج ) ليؤكّد على أنه تهجير قسرى وإخراج قهرى وإرغام على الهجرة ليس فيه إختيار. يقول رب العزة: ( وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ (13)( محمد )، ( إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا )(40) ( التوبة ). أويقول رب العزة عن إخراج النبى والمؤمنين من ديارهم وأموالهم : ( لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ  ) (8) ( الحشر )، ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنْ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ ) (1) ، (لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ) (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ   (9) الممتحنة ). ويقول رب العزة عن المهاجرين : (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ )ٌ (40)( الحج ).

3 ـ ولكى ينجح هذا التهجير القسرى فلا بد من اللجوء الى سياسة الحافة ، أى آخر المدى فى إضطهاد المؤمنين ، لتكون الهجرة هى الملاذ الوحيد للنجاة من هذه القرية الظالم أهلها . وأنتهى المؤمنون والنبى الى هذا الحل متصورين أنّ قريش لن ترضى به . فكانوا يهاجرون سرّا . وقريش تتظاهر بالمطاردة لتؤكّد إقتناعهم بهذا . وانتهى المشهد بتصدير المشكلة بعيدا عن مكة وقريش .

4 ـ على أن الدهاء القرشى ( الذى تزول منه الجبال ) جمع بين المكر القرشى فى التهجير والكيد الفرعونى فى استعمال العنف ، أى كان لا بد من متابعة الهجوم على المؤمنين فى المدينة لإبراز الهيمنة القرشية من ناحية ، وللحفاظ على هيبة قريش بين القبائل ، وليظل النبى والمؤمنون فى المدينة تحت الحصار والهلع والفزع من قريش وسطوتها ومهابتها ، وهنا تستطيع قريش أن تمارس العنف معهم بعيدا عن مكة . وكان يعزّز من هذا أن المؤمنين وقتها كانوا مأمورين بكف اليد عن الدفاع عن انفسهم ، ولم يأت لهم الأمر بعد بالقتال الدفاعى . لذا تمتعت قريش بفترة كان تهاجم فيها المدينة تقتل وتعود فيما يشبه النزهة الحربية . واستمر هذا الى أنزل الإذن للمؤمنين بالقتال ، يقول جل وعلا  يصف الملأ القرشى :( إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) الحج )، وتأتى الآية التالية تأذن للمؤمنين الذين يتعرضون للهجوم بأن يقاتلوا دفاعا عن انفسهم : ( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ) (40) الحج ).

5 ـ بهزيمة قريش المهينة فى ( بدر ) زالت هيبتها بين القبائل ، وتهددت تجارتها وقلّت أهمية البيت الحرام بالنسبة لها ، ولم تنجح نتيجة معركة ( أُحُد ) فى ترميم الهيبة القرشية ، وحين حاولوا ترميمها بالتحالف مع الأحزاب لاستئصال المؤمنين فى معركة الخندق ( الأحزاب ) كانت النتيجة وبالا على قريش . هذا فى الوقت الذى نجح فيه القرآن الكريم بفصاحته فى تنوير العرب ، وأبان لهم سخافة عبادة الأحجار التى ينحتونها ، وبالتالى لم يعد لأصنامهم عند الكعبة قيمة ، بل عرفوا أن قريش كانت تخدعهم وتستغلهم فى حماية تجارتها مقابل خرافات وأوهام . هذا التحول الذى حدث بعد يوم بدر كان فارقا هائلا ، أو يوم الفرقان بالتعبير القرآنى . لذا جرى تركيز قريش بعد فشل غزوتهم فى الأحزاب على زرع المزيد من عملائهم حول النبى ، ومحاولة الاستفادة من الوضع الجديد باحتوائه والسيطرة عليه من بعيد ، وانتهاج سياسة جديدة مع الاعراب ليقوموا بحرب النبى والمؤمنين بالوكالة عن قريش قبل وبعد موت النبى عليه السلام .  الفصل التالى سيتوقف مع علاقة قريش بالأعراب . ولكن نختم هذا الفصل بمكر قريش فى زرع عملاء حول النبى فى مكة ثم فى المدينة .

رابعا : زرع عملاء حول النبى 

1 ـ من مكر قريش ( الذى تزول منه الجبال ) إستغلال الوضع الخاص بالاسلام والمسلمين فى مكة ثم فى المدينة . فالدخول فى الاسلام غاية فى البساطة ، هو مجرد مقابلة النبى والإعلان له عن الدخول فى الاسلام . وليس للنبى أن يفتّش على سريرة أحد ، فكل من يأتى ليعلن اسلامه عليه أن يقبله ، ولله جل وعلا الحُكم على ما فى القلوب . المطلوب هو الاسلام الظاهرى بمعنى السلام ، والايمان الظاهرى بمعنى الأمن والأمان . ليس فى الأمر ( جهاز كشف الكذب ) ولم ينزل فى البداية فى مكة أمر بالإستجواب والتحريات . الوضع الخاص بالنبى عليه السلام والمسلمين فى مكة أنهم كانوا يفرحون بكل من يأتى مسلما ، ويرحبون بكل ( أخ أو أخت ) فى الاسلام ، خصوصا إذا كان من أصحاب الحيثية والنفوذ . وبالتالى يكون سهلا جدا على الملأ القرشى زرع عملاء وجواسيس حول النبى من البداية ، وأن يتكاثر عددهم مع إنتشار الاسلام.   

2 ـ وبعد الهجرة الى المدينة صار للنبى دولة بالمفهوم الحديث ، لها حدود ، ولها ولاية على المقيين فيها ، ولها علاقات بجيرانها من اليهود ومعاهدات معهم ، لذا تتابعت الهجرة للمدينة من مكة ومن غيرها ، وشملت النساء بطريقة مُلفتة ، بما إتّضح معه أن أئمة الكفر من قريش هم الذينإرسلوا بعض النساء جواسيس للمدينة ، لذا جاء أمر بإجراء إختبار ( أمنى ) عليهنّ للتأكّد من الغرض من هجرتهن ، هل هو رغبة فى الاسلام أم للخداع والتجسس . والايمان فى اللسان العربى و القرآنى له معنيان : إيمان ظاهرى بمعنى الأمن والأمان ( آمن ل أى وثق  ) ، وإيمان قلبى بمعنى ( آمن ب ) أى إعتقد .  الاختبار هنا بحسب ( الايمان الظاهرى ) بمعنى ( الأمن والأمان ) وليس ( الايمان القلبى ) الذى لا يعلم حقيقته إلا الله جل وعلا ، بمعنى هل هى مؤمنة بمعنى أنها ( مأمونة الجانب ، يمكن الوثوق بها والأمن لها وأن نأتمنها ) أم ليست كذلك ؟ . فإذا ظهر من الاختبار أنها مأمونة الجانب فلا يجوز إرجاعها للكفار المعتدين . أما إذا تأكّد الشّك فيها فلا بد من إرجاعها من حيث أتت وعدم السماح لها بدخول المدينة . يقول جل وعلا : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ ) (10) الممتحنة ).

3 ـ كانت الهجرة للمدينة عامل قوة يزداد به المؤمنون عددا ، كما كانت نقطة ضعف يتسلل بها عملاء قريش من كل حدب وصوب . ومن المنتظر أن يتم التركيز على الهجرة من جانب دهاة الملأ القرشى فى زرع العملاء القادمين من مكة وقريش أو من الأعراب المقيمين حول المدينة . وهذا أنتج ظهور الكثير من المنافقين من الأعراب وداخل المدينة .  وهنا نلاحظ تنوّع أنّ حديث رب العزة تزايد عن المنافقين بمرور الوقت ،  وبعد أن كان آية واحدة فى سورة الأنفال التى نزلت بعد موقعة بدر ، تكاثرت الآيات فى سور ( البقرة ) ثم ( آل عمران ) و ( النساء ) و( المنافقون ) و ( المائدة ) الى سورة ( التوبة ) . وفى كلها تفصيلات عن أنواع مختلفة من المنافقين وتآمر ومكائد وعلاقات مريبة وتحالفات تحتية بين المنافقين فى الداخل والكافرين فى الخارج . كل هذا يؤكّد أن النفاق لم يكن وقتها مقصورا على الأوس والخزرج سكان المدينة ( يثرب ) بل أصبح يشمل آخرين وافدين . ويمكن القول هنا بأن بعض الآيات عنهم كانت تشير الى كونهم من المنافقين المحليين كما جاء فى سورة المنافقين (هُمْ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (8))،  وآيات أخرى تتحدث عن ثراء بعض المنافقين وتنهى النبى عن الاعجاب بأموالهم وأولادهم ( التوبة 55 ، 85 ). ولكن تنوع الحديث عن تآمرهم ووجودهم بقوة وكثافة فى أواخر السور وخصوصا سورة التوبة يفيد بأنه اصبح لهم جمهور ، ولا نتصور أن هذا الجمهور قد نبت فجأة فى المدينة بين الأنصار ، ولكن المتوقع أنه جمهور وافد ممّن أتى للمدينة مهاجرا ومنافقا فى نفس الوقت ، وعمل فى خدمة المنافقين الكبار الأثرياء من الأوس والخزرج .

ولمزيد من التوضيح نقارن ما جاء فى أوائل السور المدنية بهذا الخصوص . ففى البداية هى آية وحيدة بعد معركة بدر: ( إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49) ) ( الأنفال )، أى أقلية منافقة مقابل أكثرية من المهاجرين والأنصار الذين كانوا يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة : (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ) (9) الحشر ). ثم يعلو صوت النفاق متشجعا بهزيمة معركة ( أُحّد ) ( آل عمران :   118 ـ  120، 154 : 180 ) ويبدو معه أنه نفاق محلّى من داخل المدينة، ثم يظهر مكشوفا صريحا فى معركة الأحزاب ( الأحزاب 12 : 20 ، 60 : 62  ). بفشل الأحزاب يتزايد صوت النفاق بعد سكوت الحرب بين المسلمين وقريش ، بما يعنى تغييرا فى استراتيجية قريش بارسال العملاء المنافقين بكثرة الى المدينة ، فتمتلىء المدينة بضجيجهم وتآمرهم فى سورة التوبة ( 42 : 110 ) ، ونكتفى منها بقوله جل وعلا عن المظاهرات العلنية لجماعات المنافقين من الرجال والنساء فى شوارع المدينة تأمر بالمنكر وتنهى عن المعروف : (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمْ الْفَاسِقُونَ (67) .  مكر قريش الذى تزول منه الجبال هو المسئول عن تزايد النفاق فى المدينة بهذا الشكل عوضا عن خمود الحرب المّعلنة بينهم وبين النبى .

أخيرا

1 ـ كانت المدينة قبيل موت النبى حُبلى بتطورات ظهرت فجأة بعد موته ، وفيها عادت قريش بمكرها  تتصدر دولة الاسلام على خلاف المتوقع . المتوقع لو سارت الأمور سيرها الطبيعى أن العدو المنهزم بعد العفو عنه يقبع فى المؤخرة راضيا بحقن دمه بعدما أنفق حياته من قبل فى إضطهاد وحرب المؤمنين . ولكن أن يعود نفس العدو للسيطرة وبقوة وبسرعة فهذا مستحيل إلا إذا كان خلفه مكر تزول منه الجبال كما قال جل وعلا عن مكر قريش . والعجيب أن الملأ القرشى فى مكة قام بتعذيب المؤمنين المستضعفين ، فتعرّض عمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود للعذاب فى مكة فى بداية الدعوة . ثم تعرضا لعذاب آخر فى شيخوختهما فى خلافة عثمان فى ظل سيطرة نفس الملأ القرشى .!!

3 ـ بمكر قريش الذى تزول منه الجبال كان الاسلام لمعة ضوء سرعان ما طغت عليها ثقافة العصر فعادت بعدها الأمور الى ما كانت عليه من ظلم وظلام ، ولا تزال .

4 ـ ولكن لا يحيق المكر السىء إلا بأهله حتى لو كان فى مثل المكر القرشى . فقد نجح النبى عليه السلام فى تبليغ القرآن ، وساعدت قريش بفتوحاتها على تبليغ القرآن للبشرية ، فهذا هو حفظ  الله جل وعلا حفظه للقرآن الكريم ولو كره الكافرون ، ليكون حُجة عليهم بكل أديانهم الأرضية ، وحتى قيام الساعة .

 

 

 

الباب الثانى : مكر قريش أدّى للفتوحات 

الفصل الثالث : مكر قريش باستغلال الأعراب ضد النبى والمسلمين

أولا : إستعراض موجز لسورة الأنفال

بعد هزيمة قريش فى بدر دخل المسلمون عصرا جديدا فارقا عما قبله ، واستلزم وضع قواعد يعتمد فيها المسلمون على أنفسهم بدون حاجة الى تثبيت الملائكة لقلوبهم . لذا نزلت فى سورة الأنفال قواعد للنبى عليه السلام والمسلمين فى العلاقات مع المعتدين الكافرين ، وفى القتال الدفاعى  ،وكانت هذه القواعد تستشرف المستقبل لأنّ من أنزلها هو عالم الغيب والشهادة . ونبدأ باستعراض لسورة الأنفال وهى تشير الى أحداث ستقع ، وتضع لها القواعد مقدما ، ومنها :

1 ـ  إن الأنفال أو الغنائم ليست هدفا للقتال فى الاسلام كما هو الشأن فى الإقتتال بين القبائل أو فى الفتوحات العربية وغيرها . وقد تنازع المسلمون حول تقسيم الأنفال أى الغنائم ، وسألوا النبى عن كيفية تقسيمها، فنزل فى أول سورة الأنفال قوله جل وعلا يؤكّد عدم أهمية المال  لأن للتقوى الأهمية القصوى : (يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ قُلْ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ (1). ثم نزل تقسيم الغنائم: ( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41). ثم جاء التصريح بحلّها :(فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69) .

حين يكون القتال فى سبيل الغنائم فقد يحدث نزاع ، قد ينتهى الى ( الفتنة الكبرى ) كما حدث بين صحابة الفتوحات . ولكن عندما يكون القتال دفاعيا وفى سبيل الله جل وعلا فلا مجال للتنازع . ولهذا جاء فى نفس السورة التحذير من النزاع والأمر بطاعة الله جل وعلا ورسوله :( وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46).

كانت هذه قاعدة كاشفة ، لم يستوعبها الصحابة، بدليل أنهم فى موقعة (أُحُد ) عصوا أمر النبى فتسارعوا الى الغنائم بعد أن هزموا جيش قريش فى بداية المعركة ، وأثناء صراعهم حول الغنائم إلتف خالد ابن الوليد بجيش قريش وأوقع الهزيمة بالمسلمين . والمعنى إن الله جل وعلا صدقهم وعده فانتصروا فى البداية ، ثم حين التفتوا للغنائم لم يصبح القتال فى سبيل الله ، فأصبحت النتيجة مرهونة بمدى القوة العددية والحنكة الحربية ، فانهزموا . يقول جل وعلا فى ذلك :( وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) ( آل عمران )

2 ـ موضوع الأسرى : بدأ التشريع الثابت فى تحرير الأسرى مجانا فى هذه السورة بعد وجود أسرى لدى المؤمنين فى موقعة بدر . أطلق النبى سراحهم مقابل مال ، فنزل عتاب شديد له : (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67). أى إن وجود أسرى مرتبط بقيام حرب ، ولا يجوز أن يكون الغرض منها المال وعرض الدنيا لأن الله جل وعلا يريد لهم الفلاح فى الآخرة ، ثم يأتى التهديد والتوبيخ : ( لَوْلا كِتَابٌ مِنْ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68). ويأمر الله جل وعلا رسوله أن يقول للأسرى الذين أخذ منهم مالا لإطلاق سراحهم أنه جل وعلا سيغفر لهم إن كان فى قلوبهم خير، وسيعوّضهم خيرا ممّا دفعوه من مال .( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنْ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمْ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70). وخوف خيانتهم بعد إطلاق سراحهم فإن الله جل وعلا يضمن حماية النبى من خيانتهم :( وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ  ( 71).

تأكّد إطلاق سراح الأسرى مجانا ( منّا ) او بتبادل الأسرى فيما بعد :( حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا )(4)( محمد ). وإذا إستجار المحارب الكافر أثناء المعركة وتوقف عن القتال فيجب حمايته وتوصيله الى مأمنه بعد أن يسمع القرآن ليكون سماعه القرآن حجة عليه أمام الله جل وعلا :(وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (6) ) ( التوبة ).

هذه القاعدة الكاشفة تاتى حُجّة على المسلمين فى الفتنة الكبرى،وهم يقتلون الأسرى من نفس المسلمين ، وقد أصبح هذا عادة سيئة فى الدولة الأموية .ثم العباسية . وقام محمد بن اسحاق بتسويغ هذا الإثم وتشريعه حين إفترى أن النبى قتل أسرى بنى قريظة .بل إفترى أن النبى عليه السلام كان يسبى النساء والذرية ، وهذا إفك شنيع ، ولكن نقله عنه المؤرخون اللاحقون كابن سعد والطبرى .

3 ـ القتال فى الاسلام هو لرد العدوان ولمنع الاضطهاد فى الدين ، فإذا أقلع الكافر المعتدى عن عدوانه فإن الله جل وعلا يغفر له ما سلف ، وإن عاد لاعتدائه فيجب قتاله لمنع الفتنة أو الاضطهاد الدين وليكون الدين كله لله ، يحكم فيه يوم القيامة بين الناس فيما هم فيه يختلفون : ( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ (38) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنْ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39).هذه القاعدة أكّدتها لاحقا سورة البقرة ( 190: 194) .

4 ـ فى القتال الدفاعى جاء تحريم الفرار إلا ضمن تخطيط لهزيمة العدو : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمْ الأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16) ، ولا بد من الثبات واطاعة وذكر الله جل وعلا :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45 ).

نسى المسلمون هذا فى موقعة ( حُنين ) حين نسوا الله جل وعلا وأعجبتهم كثرتهم فلم تغن عنهم شيئا : ( لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25)( التوبة ). جاءهم التحذير من قبل فى سورة الأنفال ألّا يتصرفوا كجيش قريش حين زحف مستكبرا معجبا بنفسه فحاقت به الهزيمة : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47). نسوا هذا التحذير.!

5 ـ لا بد من الاستعداد الحربى بكل المُستطاع ، ليس للهجوم ولكن لردع العدو المعتدى مقدما حتى لا يعتدى . الدولة الاسلامية هى الدولة المُسالمة القوية . فإذا كانت مُسالمة وضعيفة فإن ضعفها يشجع عدوها على الاعتداء . فقوتها تردع من يفكر فى الاعتداء عليها . وبذلك تحقن دم المعتدى ودمها أيضا . وهذا معنى الارهاب هنا ، هو ردع العدو الفاجر لمنعه من الاعتداء ، فالارهاب هنا هو طريق للسلام :( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (60).

فإن جنحوا للسلام فلا بد من قبول عرض السلام ، حتى لو كان العرض مخادعا ، لأن الاسلام هو دين السلام ، ولأن الله جل وعلا من أسمائه الحسنى ( السلام ) ولأنّ الله جل وعلا هو الذى سينتقم من ذلك الذى يريد أن يخدع بالسلام ، والله جل وعلا سيجعل مكرهم السىء يحيق بهم :( وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62).   

6 ـ  العدو المعتدى الذى يدمن نقض العهد لا بد من قتاله دفاعيا بكل قوة حتى يرتدع ، وحتى لا يتشجع من خلفه على نكث العهد : ( الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57). هذا مرتبط بسياسة الردع . والردع هنا مقصود به آخرين حتى لا يخونوا العهد بالسلام . وحسب طبيعة المكان والزمان وقتها كان فى إمكان من يخون العهد أن يفاجىء المدينة بالهجوم عليها ، دون إعلان منه بنقض العهد ، أى يصحو أهل المدينة فيجدونها وقد تم إحتلالها من جانب من كان عاقدا معاهدة معهم ثم خان العهد ، وسار جيشه ليلا ومختبئا بالنهار الى ان يهاجم المدينة على حين غفلة من أهلها . من هنا وجبت الحيطة، فإذا إستشعر النبى خيانة فعليه أن يعلن مخاوفه لهم ويطلب منهم توضيحا ، ويكون مستعدا ، وهذا معنى قوله جل وعلا : (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58)  الانفال ).

القتال وقتها كان له طبيعة خاصة . فالمدينة مستقرة وقائمة بمكانها الثابت وسكانها المستقرين بها ، وهى دولة تحت الحصار والتهديد الحربى ، ولها حدود . والذين يعتدون عليها يقطعون الطريق فى الصحراء يهاجمون بغتة ثم يفرّون . وبالتالى فإن القتال الدفاعى يستلزم مواجهتهم قبل إغارتهم على المدينة . وإذا نجحوا فى الاغارة على المدينة فلا بد من مطاردتهم داخل الصحراء لتأديبهم . هذا هو طبيعة الدفاع  ضد معتدين من الأعراب وغيرهم . ومن هنا نفهم طبيعة ما يقال بأنه ( غزوات النبى ) أو معاركه الحربية . فلم تكن للهجوم على قوم مسالمين . فهذا مرفوض اسلاميا ، ولا يجوز حربيا ، فكيف يرسل النبى جيشا من مدينته ليهاجم قوما مسالمين ومدينته تحت خطر الاغارة فى أى وقت ، وحولها أعراب منافقون من أشد الناس كفرا ونفاقا ، وحوله أيضا اعراب كفرة ينتظرون أى ثغرة واى بادرة للهجوم على المدينة ؟

بعد نزول هذه الآيات قاسى النبى والمسلمون فى المدينة من نقض العهود ، سواء من اليهود ، أو من الأعراب ، أو من قريش . ومن هنا تأتى هذه الآيات تكشف مقدما عما سيحدث ، وتضع له القواعد.

 7 ـ إنّالهجرة هى أساس الانتماء للدولة الاسلامية فى عهد النبى . بالهجرة والاقامة فى المدينة يكون الفرد عضوا فى الدولة له كل الحقوق وعليه الدفاع عنها بالنفس والمال . أما إذا لم يهاجر وظل محتفظا باسلامه وإيمانه وسط قومه المشركين فليس داخلا فى دولة الاسلام فى المدينة ،وليس للمسلمين إلتزام بالدفاع عنه إذا كان بين المسلمين وبين أولئك القوم المشركين معاهدة سلمية : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجَرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنْ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمْ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) الانفال ). الدفاع عنه يكون فقط إذا لم يكن هناك معاهدة سلمية بين دولة الاسلام وأولئك المشركين .

8 ـ ويأتى الأمر بأن يوالى المؤمنون بعضهم بعضا كقوة للخير مقابل قوى العدوان التى توالى بعضها بعضا . فإن لم يتّحالف معا أهل الخير ضد أهل الشر المعتدين فستكون فتنة فى الأرض وفساد كبير : ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73) الأنفال ).. وعصى معظم المسلمين هذا الأمر، فنزلت آيات تنهى عن موالاة المشركين الكافرين المعتدين ، هذا بينما بذلت قريش كل وسعها فى عقد محالفات الاحزاب ثم مع الأعراب ضد المسلمين. وهنا ندخل على مكر قريش .

 ثانيا : مكر قريش وإستخدامها الأعراب فى حرب النبى

1 ـ وهذا أيضا سبقت سورة الأنفال الى التحذير منه بإشارة لم يلتفت لها المسلمون . فى الاستعداد الحربى قال جل وعلا : ( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ) (60).  وقتها كانوا يعرفون عدوا مُعيّنا يستعدون له ، ولكن الله جل وعلا يشير الى عدو آخر مستقبلى لا يعرفونه وقت نزول الآية ، ولا بد من إستمرار الاستعداد العسكرى لمواجهة هذا العدو القادم . هذا العدو خلقه مكر قريش الذى تزول منه الجبال .

2  ـ كان المكر القرشى يتحالف مع اليهود ، وكان اليهود من جانبهم حريصين على ذلك الى درجة أن أحبارهم أفتوا لمشركى قريش أنهم على الحقّ  وأنّ النبى على الباطل : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنْ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (51) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنْ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (52)( النساء ). وبعد هزيمة الأحزاب وإجلاء بنى قريظة وانتهاء الوجود اليهودى المتآمر حول المدينة إحتاج المكر القرشى الى بديل ساذج أكثر قوة وأسرع إندفاعا وأقل دهاءا من اليهود ، وتستطيع أن تحارب به النبى بطريق غير مباشر، فإن تمت هزيمته نجت قريش من فضيحة الهزيمة ، وإن انتصر تحقق لقريش أملها . وكان الأعراب هم الوسيلة المناسبة . وبهم يستغل المكر القرشى الظروف المتاحة ، وأهمها أن المدينة  ( مدينة مفتوحة ) تستقبل من يأتيها مؤمنا مسالما مهاجرا. ومن هنا بدأ الحديث مؤخرا فى القرآن الكريم عن وجود ( أعراب منافقين ) و( أعراب محاربين ).

لم يكن هناك ما يستدعى ان يغامر الأعراب بحرب دولة المدينة بعد فشل الأحزاب وطرد اليهود ووصول المدينة الى أقصى قوتها . لايمكن أن يفعل الأعراب ذلك إلا بدفع خارجى من عدو ماكر ، وطبقا لإتفاق مسبق . ونحن لا نتكلم عن كل الأعراب ، ولكن عن مجموعة منهم تحالفت مع قريش ، واحترفت النفاق ، وبعضها الآخر إحترف الاعتداء والكفر الصريح ، وجرى تنسيق بينهم نتعرف عليه من القرآن الكريم .

3 ـ كانت الهجرة للمدينة نقطة قوة يزداد بها المؤمنون عددا ، كما كانت نقطة ضعف إذ يتسلل بها العملاء من كل حدب وصوب بتأثير من العدو الأكبر فى مكة . وتوافد العملاء عبر الهجرة للمدينة من مكة وقريش أو من الأعراب المقيمين حول المدينة . وهذا أنتج ظهور الكثير من المنافقين من الأعراب وداخل المدينة . وبعد فشل معركة الأحزاب بدأت ظاهرة جديدة ، هى جرأة الأعراب البدو على الهجوم على المدينة واتباعهم تكتيكا جديدا ، هو دخول المدينة بزعم الاسلام ثم الهجوم عليها ، وعقد معاهدات مع المدينة ثم نقضها . وفى دخولهم للاسلام يقيمون علاقات مع أهل المدينة ويكتسبون أنصارا  .

4 ـ والملأ القرشى متخصّص فى التجارة ، وقد أستعملها لخلق زبائن له عبر وسائط تجاريين داخل المدينة ترتبط مصالحهم باستمرار العلاقة مع قريش ، ثم تطوير هذه العلاقة لتكون ولاء وتحالفا . ويلفت النظر هنا أن سورة التوبة فى نهيها عن موالاة المشركين جاءت بإشارة جديدة لم تأت فى الآيات السابقة التى كانت تنهى عن موالاتهم ، هى إشارة الى علاقات تجارية مع الكافرين تستغل مناخ الحرية التجارية والحرية السياسية والحرية الدينية لتؤسس طابورا خامسا يعمل ضد النبى عليه السلام ، يقول جل وعلا فى سورة التوبة : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنْ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24 ). لأول مرة يقال : ( وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا ) فى أشارة للتأثير الاقتصادى والتجارى فى خلق عملاء داخل الدولة الاسلامية .

5 ـ ويقول رب العزة يصف كيد أولئك الاعراب ( وَمِنْ الأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمْ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ ) (98) التوبة ). وهذا التربّص والكيد تعلموه من المكر القرشى .ومن تربص أولئك الأعراب بالمؤمنين أنهم يدخلون المدينة بزعم الدخول فى الاسلام ، بينما يكون هدفهم التربص بالمؤمنين ، أى التجسّس عليهم ، ومعرفة دفاعات المدينة ، وأسهل الطرق لاقتحامها والثغرات الدفاعية فيها ، والتواصل مع العملاء الآخرين وبقية المنافقين داخل سكان المدينة . ثم إعطاء هذه المعلومات لأعراب آخرين مجاورين للمدينة ليقوموا بالاغارة عليها .

6 ـ وتعلّم أولئك الأعراب الأجلاف من قريش اسلوب النفاق فى إصطناع الأصدقاء داخل المدينة . فقد ثارت مشكلة أولئك الأعراب المنافقين الذين يتربصون بالمدينة الدوائر ، ومع ذلك كان بعض المؤمنين حريصا على هدايتهم مخدوعا بهم ، ويحاول إيجاد مبرر لهم. وعندما أثير موضوع كيفية التعامل مع هؤلاء المنافقين الأعراب المتلونين ناكثى العهود إنقسم المسلمون فريقين مختلفين فنزل الحّل فى قوله جل وعلا. حيث يبدأ رب العزة بالتوبيخ على انقسامهم  : ( فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (88) النساء ). ويحرّم رب العزة موالاتهم حتى يهاجروا ويقيموا فى المدينة : ( وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً (89) إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنْ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمْ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (90) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمْ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُبِيناً (91)  النساء ). المراد هنا : أنه يتعيّن على اولئك الأعراب إن كانوا مؤمنين مسالمين فعلا أن يهاجروا الى المدينة وأن يسكنوا فيها ، وفيها يتمتعون بالحرية المطلقة فى الدين وفى المعارضة السياسية كالمنافقين من سكان المدينة . أما لو أرادوا البقاء خارج المدينة فليلتزموا بالسلم ويكفّوا ايديهم عن الاعتداء. وإذا أصروا على الاعتداء ولم يعتزلوا العدوان على المؤمنين فلا بد من حربهم . وبذلك خلق المكر القرشى مشكلة مزمنة للمسلمين فى المدينة.

7 ـ ولم يكتف المكر القرشى بذلك ، فقد ظهرت مجموعات مقاتلة من الأعراب تحيط بالمدينة ، وتحدثت عنهم سورة التوبة ، وفيها نزل الأمر الحازم للنبى والمؤمنين بالقتال الدفاعى لأولئك الكفار الذين (يلون ) المدينة ، أى يتجمعون حولها ، ينتظرون الهجوم عليها على حين غرة متسلحين بالمعلومات التى يحصلون عليها من الأعراب المنافقين الذين يدخلون المدينة بزعم الاسلام . يقول جل وعلا : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)(التوبة).  قوله جل وعلا (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ) يأتى تذييلا فى آيات التشريع فى القتال ليؤكّد على أن يكون القتال دفاعيا فقط لأن الله جل وعلا لا يحب المعتدين . وفى حركة الردة كان أولئك الأعراب المحيطون بالمدينة أول من هاجم المدينة .

 8 ـ ونعيد قراءة قوله جل وعلا فى أواخر ما نزل فى سورة التوبة عن الأعراب :( وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنْ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ ) (101) ( الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنْ الأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمْ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)( التوبة )  أى يوجد منافقون يعيشون حول حدود المدينة موصوفون بأنهم الأشدّ كفرا والأشدّ نفاقا ، يتربّصون بالمؤمنين الدوائر. وأعراب كفرة يترقبون فرصة الهجوم على المدينة ويجب قتالهم بشدة . هذا كله صنعته قريش وقت نزول الوحى ، بمكرها الذى تزول منه الجبال .

9 ـ ومن المنتظر بعد موت النبى وإنقطاع الوحى نزولا أن يتعاظم المكر القرشى . وهذا ما حدث ، إذ ثار معظم الأعراب فى وقت واحد ، ليس فقط للخروج على الدولة الاسلامية والاستقلال عنها ولكن للهجوم عليها ، وليس فقط فى نفس الحروب المعتادة (  العلمانية )  ، ولكن بتحويلها الى حرب دينية يتزعمها من يدعى النبوة . ومضحك جدا أن يزعم الأعراب البدو وقتها إدعاء النبوة ، فالتقاتل بين الاعراب كان بعيدا عن التمسّح بالدين ، ولكن أن يتم التمسح بالدين وأن يتم استغلاله تجاريا وكهنوتيا فهذه صناعة قرشية أصيلة ، ثم أن ينتشر هذا الوباء بادعاء النبوة مرة واحدة من إمرأة كسجاح ورجال مغمورين كمسيلمة وطليحة الأسدى والعنسى فهذا أمر تم الاعداد له بالمكر القرشى ..

10 ـ ولكن لماذا يلجأ المكر القرشى بعد دخوله فى الاسلام لإثارة حرب الردة ضد المسلمين ثم لا يشترك فيها بل يكون عملاؤه وأعمدته هم قواد المسلمين ضد أولئك المرتدين ؟ السؤال فيه الاجابة . لكى تعود قريش للقيادة وتتصدر المشهد كما كانت من قبل .

انتظرونا لمزيد من التفصيل .

 

الباب الثانى : مكر قريش أدّى للفتوحات

الفصل الرابع  : مكر قريش وراء حرب الردّة

اولا :  الهدوء الذى يسبق العاصفة

1 ـ خلافا لما يقوله ابن اسحاق ومن نقل عنه ، فإنه قبيل موت النبى شهدت الجزيرة العربية هدوءا سلميا مسالما كان اشبه بالهدوء الذى يسبق العاصفة ، ثم بموت النبى إستيقظت المدينة على ضجيج حركة الردة ، التى هبت عاصفتها مرة واحدة وفى أماكن متفرقة ، بما ينبىء عن مؤامرة محبوكة ، جرى الاعداد لها على مهل ، وكانت ساعة الصفر هى موت النبى ، لتهب عاصفة الردة برعاع يزعمون النبوة .  2 ـ قبيل موته عليه السلام إنتشر الاسلام فى الجزيرة العربية . نحن هنا نتحدث عن الاسلام الظاهرى بمعنى السلام ، وهو غير الاسلام الحقيقى القلبى الذى يحكم عليه رب العزة الذى يعلم خائنة الأعين وما تُخفى الصدور .

3 ـ على السطح الظاهرى كانت تبدو المدينة فى عهد النبوة تشعّ بالاسلام الظاهرى بمعنى المسالمة ، ولكن الاسلام القلبى الخالص شىء مختلف فضحه الوحى القرآنى فى حديثه عن المنافقين والمؤمنين خصوصا من المهاجرين الموالين لقريش . وللتوضيح نستشهد بقوله جل وعلا : ( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (29) الفتح ). فمن حيث المظهر الخارجى ( تراهم ) ركعا وسجدا ، وترى سيماء السجود على جباههم . ولكن من حيث سريرتهم الحقيقية التى يعلمها رب العزة فليسوا كلهم من أصحاب الجنة ، فقد وعد رب العزة بعضهم فقط بالجنة ، فقال (  وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ). لم يقل ( وعدهم جميعا ) ، بل قال ( منهم ) . أى البعض وليس الكل.

4 ـ نفس الاسلام الظاهرى الذى ( تراه ) فى المدينة والذى لا يدل دائما على صدق الايمان ( تراه ) أيضا على مستوى الجزيرة العربية ، حين دخلت كلها فى الاسلام الظاهرى قبيل موت النبى، حيث ( رأى ) النبى بعينيه الناس يدخلون فى دين الله أفواجا ، ونزل قوله جل وعلا : ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً (2) النصر )، أى على مستوى الجزيرة العربية دخل العرب أفواجا فى هذا الاسلام الظاهرى بمعنى المسالمة . هذا هو الذى رآه النبى ( وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً (2)). لم يكن عليه السلام يعلم غيب القلوب ولم يكن يرى غير الظاهر على السطح ، وهى هذه الوفود وتلك الأفواج التى جاءت اليه بناء على رسائله السلمية لهم تدعوهم للاسلام والمسالمة . أى خلافا لما قاله ابن اسحاق فقد عمّ السلام الجزيرة العربية قبيل موت النبى عليه السلام . وكان الهدوء الذى يسبق العاصفة . عاشت فى هذه الفترة القصيرة من السلام مكة والمدينة والطائف والأعراب فى الصحراء . ثم هبّ إعصار الردّة مرة واحدة ، وكان مكر قريش الذى تزول منه الجبال وراء هذا الاعصار . 

ثانيا ـ قريش تستغل الاسلام لإعادة هيمنتها بعد أن فقد الكعبة أهميتها التجارية 

1 ـ فى البداية لا بد أن نتذكر أن الملأ القرشى كان يعرف أن القرآن هدى ، ولكنه كذّب بالقرآن حرصا على مصالحه فى استخدام البيت الحرام إقتصاديا فى التجارة القرشية . قال جل وعلا يورد مقالة الملأ القرشى عن القرآن الكريم : ( وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعْ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا )(57)القصص ). ولهذا يؤكّد رب العزّة أنهم يكذّبون بالقرآن بدافع إقتصادى: ( وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)(الواقعة ) . وعندما كان النبى يحزن بسبب عنادهم وإفتراءاتهم فإن رب العزّة كان يذكّره بأنهم فى واقع الأمر لا يكذبونه ولكن يجحدون الحق ، أى يعرفونه ثم يجحدونه: ( قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)( الأنعام ).

2 ـ رأت قريش أن هزيمة الاسلام والمسلمين أضحت مستحيلة ، وأن عليهم التعايش مع هذا الواقع ، وإلا سيفقدون كل شىء . ورأت قريش أنّ هيمنتها الدينية قد زالت بعد انصراف العرب عن الأصنام والانصاب بتاثير الحرب الفكرية العقلية القرآنية والتنوير القرآنى ، وإدراك العرب كيف استغلتهم قريش فى تأمين قوافلها مقابل تقديس حجارة وعقائد خرافية . وبالتالى لم تعد للكعبة بالنسبة لقريش نفس الأهمية الاقتصادية التى كانت لها من قبل . لذا فالمنتظر من قادة قريش أن يفكروا فى مستقبلهم فى ظل الوضع الجديد ، كيف يعايشونه أولا ، ثم كيف يستغلونه ثانيا . وكانوا قد بادروا من قبل بارسال بعض دهاتهم يدخلون فى الاسلام  فى الفترة المكية  وقبل فتح مكة ، ثم كان إسلام  قادة قريش بعد فتح مكة ، أملا  فى الاستفادة من الاسلام وركوب موجته لاستعادة مكانتهم العتيدة ، خصوصا وأن النبى منهم ، وأن أكابر أصحابه منهم ، وأن المهاجرين لهم إنتماء قرشى ، بل وكان بعضهم يوالى قريش على حساب الاسلام ورسول الاسلام . كما إستخدمت علاقات الامويين بالقبائل ، واستخدمت مكرها لاحتواء المسلمين ، واستغلت سذاجة البدو وسهولة استغلالهم بالمكر القرشى الذى تزول منه الجبال . أى إنهم بعد ان فقد البيت الحرام أهميته الاقتصادية تحولت قريش لاستغلال الاسلام نفسه  لمصلحتها . ولتتزعم المسلمين رسمت خطة محكمة ، هى إثارة حرب الردة لتضع المسلمين فى مأزق تفوز فيه قريش بعودتها زعيمة لانقاذ الموقف . وبهذا تحولت غارات الاعراب البدو المعتادة الى حركة ردّة تزعم النبوة ، وهذا غريب عن أفهام البدو الأعراب مما يؤكد أن قريش المتخصصة فى التجارة بالدين هى التى وجهتهم لهذا الطريق ، وجعلتهم يجعلون غطاء دينيا لثورتهم يضاهئون به النبوة لخاتم المرسلين .

3 ـ واستغل المكر القرشى أدواته بمهارة .  تحت السطح كانت قريش تمتلك تحالفا سريا مع الاعراب ومع المنافقين داخل وخارج المدينة ، ويدين لها بالولاء طوائف من المهاجرين ، وهناك عملاء لها يحيطون بالنبى أصبحوا من كبار صحابته ، ومن المنتظر أن يتولوا الأمر بعده . ولكن هذا كله لا يكفى لأن تعود قريش للصدارة ، لا يكفى لأن يتصدر الأمويون وابناء أبى سفيان الذين أسلموا قبيل موت النبى قيادة المسلمين . لا بد من زلزال قوى ( حركة الردة ) ليضع المسلمين فى موقف صعب وبائس لكى تتقدم قريش كالمُنقذ ، وعندها لن يكون هناك إعتراض . وبمجرد أن يتولى عملاء قريش وابناؤها قيادة جيوش المسلمين ضد المرتدين  فسيأتى الوقت سريعا الذى تتحول فيه القيادة العسكرية الى حكم وتملك . ومن هنا لا بد من استمرار الحرب كى تترسّخ القيادة القرشية التى أسلمت حديثا . أى تتطور الحرب ضد المرتدين بعد هزيمتهم والصلح معهم الى حرب فتوحات خارجية ، وبها يتم تغيير التشريع الاسلامى فى القتال الدفاعى ليكون هجوما على الآخرين وتخييرهم ( وبمعنى أصح إرغامهم ) على قبول واحد من ثلاث : الاسلام أو الجزية أو الحرب  ، وتكون النتيجة فى أغلب الأحيان الحرب . وبعدها يتم الاحتلال ، وتكوين امبراطورية قريش ، والتى آلت فى النهاية للأمويين ، وهم قريش التى نقصدها .

ثالثا : شواهد من التاريخ المكتوب :

1 ـ التأريخ أهمل وتجاهل كثيرا من الوقائع التى اشاراليها القرآن الكريم لأن الرواة فى المرحلة الشفهية كانوا من أبناء وأحفاد الصحابة ، فتجاهلوا الوقائع التى تُدين آباءهم والتى ذكرها القرآن الكريم . ومنها مثلا التفاصيل التى ذكرها القرآن الكريم عن المنافقين ، و هجوم قريش المتكرر على المسلمين فى المدينة قبل ان ينزل الإذن بالقتال ، والهجوم الأخير الذى قام به متطرفو قريش بعد فتح مكة ، وكادوا أن يخرجوا النبى منها ، ونزلت فيهم سورة ( التوبة ) بالبراءة منهم وإعطائهم مهلة ألشهر الحُرم ليتوبوا . وبين هذا وذاك تآمر الصحابة على النبى وإساءتهم له ، وغير ذلك مما سبقت الاشارة اليه . فى كل هذا نقرأ آيات للقرآن تتحدث عن أفعال وحركات وتآمرات ، ونذهب للسيرة فلا نجد ما يشفى الغليل . ثم كان تدوين ابن اسحاق للسيرة فى أوائل العصر العباسى مما شاع من روايات متناقلة وصلت اليه وسجلها ، وبالطبع أضفى عليها ما يريد زاعما أنه سمع من ابن شهاب الزهرى ، مع أنه لم يلق ولم ير ابن شهاب الزهرى . وبهذا تظل ( سيرة ابن اسحاق ) مجرد اخبار ( وهذه هى تسميتها الأصلية ) ، والخبر يحتمل الصدق والكذب ، والأحداث التاريخية لو صدقت طبقا للمنهج التاريخى البحثى تظل حقيقة نسبية وليست مطلقة . ولكن يمكن تجلية بعض الحقائق التاريخية عن عصر النبى عليه السلام فى ضوء القرآن الكريم . وهذا هو منهجنا ، أن نبدأ بالقرآن الكريم نتدبر آياته ، وبعده نقرأ فى ضوء القرآن ما كتبه مؤرخو السيرة  ، ومن السهولة حينئذ أن نميّز بين الباطل منها والصادق . و حين نتحدث عن مؤامرة قرشية مُحكمة فإن من الصعب تتبع آثارها فى تاريخ مكتوب ، تمت كتابته بعدها بعشرات السنين . ويظل ما نقوله ضمن الاجتهاد الذى يقبل النقد .  ونبدأ بما قيل عن حركة الردة . ونقول إنها حدثت بعد وفاة النبى ، وليس قبيل وفاته . وننقل بعض ما كتبه عنها المؤرخون :

2 ـ عن تحرّج وضع المسلمين بين منافقى الداخل وهجوم الاعراب المرتدين من الخارج وظهور قريش كمنقذ يقول المؤرخون : (  .. ارتدت العرب وتضرمت الأرض ناراً وارتدت كل قبيلة عامة أو خاصة إلا قريشاً وثقيفاً، واستغلظ أمر مسيلمة وطليحة، واجتمع على طليحة عوام طيء وأسد، وارتدت غطفان تبعاً لعيينة بن حصن، فإنه قال: نبي من الحليفين، يعني أسداً وغطفان، أحب إلينا من نبي من قريش، وقد مات محمد وطليحة حي، فاتّبعه ، وتبعته غطفان ) . أى كانت مفاجأة أن يرتد جميع العرب سوى قريش فى مكة وثقيف فى الطائف ، وأن عوام الأعراب صاروا عماد حركة الردة .

3 ـ وعن المستوى الثقافى لأولئك الأنبياء المزعومين ، ننقل هذا الخبر عن إشتداد الحرب بين المسلمين وجيش المرتدين بزعامة المتنبىء طليحة : ( و كان عيينة بن حصن مع طليحة في سبعمائة من بني فزارة، فقاتلوا قتالاً شديداً ، وطليحة متلفف في كسائه يتنبأ لهم، فلما اشتدت الحر كرّ عيينة على طليحة وقال له: هل جاءك جبرائيل بعد؟ قال: لا، فرجع فقاتل، ثم كرّ على طليحة فقال له: لا أبا لك! أجاءك جبرائيل؟ قال: لا. فقال عيينة: حتى متى؟ والله بلغ منا! ثم رجع فقاتل قتالاً شديداً ثم كرّ على طليحة فقال: هل جاءك جبرائيل؟ قال: نعم. فماذا قال لك؟ قال: قال لي: إن لك رحاً كرحاه، وحديثاً لا تنساه. فقال عيينة: قد علم الله أنه سيكون حديث لا تنساه، انصرفوا يا بني فزارة فإنه كذاب، فانصرفوا وانهزم الناس.).!! وانتهى أمر طليحة بالهرب ، ثم أسلم ، ثم صار من أبطال الفتوحات فى فارس .!!. يقول المؤرخون عن نفس المعركة بعد هروب القائد العسكرى عيينة بن حصن : ( وكان طليحة قد أعد فرسه وراحلته لامرأته النوار، فلما غشوه ركب فرسه وحمل امرأته ثم نجا بها ، وقال: يا معشر فزارة من استطاع أن يفعل هكذا وينجو بامرأته فليفعل. ثم انهزم فلحق بالشام، ثم نزل على كلب فأسلم حين بلغه أن أسداً وغطفان قد أسلموا، ولم يزل مقيماً في كلب حتى مات أبو بكر. وكان خرج معتمراً في إمارة أبي بكر ومر بجنبات المدينة، فقيل لأبي بكر: هذا طليحة! فقال: ما أصنع به؟ قد أسلم! ثم أتى عمر فبايعه حين استخلف. فقال له: أنت قاتل عكاشة وثابت؟ والله لا أحبك أبداً! فقال: يا أمير المؤمنين ما يهمك من رجلين أكرمهما الله بيدي ولم يهني بأيديهما! فبايعه عمر وقال له: ما بقي من كهانتك؟ فقال: نفخة أو نفختان بالكير. ثم رجع إلى قومه فأقام عندهم حتى خرج إلى العراق. ولما انهزم الناس عن طليحة أسر عيينة بن حصن، فقدم به على أبي بكر، فكان صبيان المدينة يقولون له وهو مكتوف: يا عدو الله أكفرت بعد إيمانك؟ فيقول: والله ما آمنت بالله طرفة عين. فتجاوز عنه أبو بكر وحقن دمه.) . وعن تخريفات طليحة الأسدى ووحيه الشيطانى أنه كان يقول :( والحمام واليمام، والصرد الصوام، قد صمن قبلكم بأعوام، ليبلغن ملكنا العراق والشام. ).

4 ـ وعن المتنبئة سجاح ، قالوا إنها كانت تريد ( غزو أبي بكر، فأرسلت إلى مالك بن نويرة تطلب الموادعة، فأجابها وردها عن غزوها وحملها على أحياء من بني تميم، فأجابته وقالت: أنا امرأة من بني يربوع، فإن كان ملك فهو لكم. )  (  واجتمع مالك ووكيع وسجاح ، فسجعت لهم سجاح وقالت: أعدوا الركاب، واستعدوا للنهاب، ثم أغيروا على الرباب، فليس دونهم حجاب. ).  ( ثم خرجت سجاح في الجنود وقصدت اليمامة ، وقالت: عليكم باليمامه، ودفوا دفيف الحمامة، فإنها غزوة صرامه، لا يلحقكم بعدها ملامه. ) .هذا هو وحى سجاح !!

5 ـ وتحالفت سجاح مع مسيلمة الكذاب ، أشهر المرتدين . بدأت هى بالاستعداد لحربه ، فاستمالها ، (  فأهدى لها ، ثم أرسل إليها يستأمنها على نفسه حتى يأتيها، فآمنته، فجاءها في أربعين من بني حنيفة، فقال مسيلمة: لنا نصف الأرض وكان لقريش نصفها لو عدلت، وقد رد الله عليك النصف الذي ردّت قريش. ) .. ونعتذر مقدما عن ايراد شعر بذىء لمسيلمة قاله لسجاح ، جاء فى هذا النّص التاريخى ، ونضطر لايراده للتأكيد على أنهم كانوا من حُثالة الأعراب .فقد اجتمع بها فى خلوة: ( فقال لها: أبعدي أصحابك. ففعلت، وقد ضرب لها قُّبّة وخمّرها لتذكّر بطيب الريح الجماع، واجتمع بها، فقالت له: ما أوحى إليك ربك؟  فقال : ألم تر إلى ربك كيف فعل بالحبلى، أخرج منها نسمةً تسعى، بين سفاق وحشىً . قالت: وماذا أيضاً؟ قال : إن الله خلق للنساء أفراجاً، وجعل الرجال لهن أزواجاً، فتولج فيهن قعساً إيلاجاً، ثم تخرجها إذا تشاء إخراجاً، فينتجن لنا سخالاً إنتاجاً. قالت : أشهد أنك نبي. قال: هل لك أن أتزوجك وآكل بقومي وقومك العرب ؟ قالت: نعم. قال:

ألا قومي إلى النيك ** فقد هييء لك المضجع  

فإن شئت ففي البيت ** وإن شئت ففي المخدع

وإن شئت سلقناك ** وإن شئت على أربع

وإن شئت بثلثيه ** وإن شئت به أجمع


قالت: بل به أجمع فإنه أجمع للشمل. قال: بذلك أوحي إلي. فأقامت عنده ثلاثاً ثم انصرفت إلى قومها، فقالوا لها: ما عندك؟ قالت: كان على الحق فتبعته وتزوجته. قالوا: هل أصدقك شيئاً؟ قالت: لا. قالوا: فارجعي فاطلبي الصداق؛ فرجعت. فلما رآها أغلق باب الحصن وقال: ما لك؟ قالت: أصدقني. قال: من مؤذنك؟ قالت: شبث بن ربعي الرياحي، فدعاه وقال له: ناد في أصحابك أن مسيلمة رسول الله قد وضع عنكم صلاتين مما جاءكم به محمد: صلاة الفجر وصلاة العشاء الآخرة. فانصرفت ومعها أصحابها، منهم: عطارد بن حاجب وعمرو بن الأهتم وغيلان بن خرشة وشبث بن ربعي، فقال عطارد بن حاجب:

أمست نبينا أنثى نطوف بها ** وأصبحت أنبياء الناس ذكرانا ).

 وفى النهاية قالوا إنها أسلمت وحسّن إسلامها ، وانتقلت إلى البصرة وماتت بها وصلى عليها سمرة ابن جندب وهو والى  البصرة فى خلافة معاوية .   
وذكروا من تخاريف مسيلمة :( وكان مما جاء به وذكر أنه وحي: يا ضفدع بنت ضفدع ،  نقي ما تنقين، أعلاك في الماء وأسفلك في الطين، لا الشارب تمنعين، ولا الماء تكدرين. وقال أيضاً: والمبديات زرعاً، والحاصدات حصداً، والذاريات قمحاً، والطاحنات طحناً، والخابزات خبزاً، والثاردات ثرداً، واللاقمات لقماً ، إهالة وسمناً؛ لقد فضلتم على أهل الوبر، وما سبقكم أهل المذر؛ ريقكم فامنعوه، والمعيي فأووه، والباغي فناوئوه . وقيل: جاءه طلحة النمري فسأله عن حاله، فأخبره أنه يأتيه رجل في ظلمة، فقال: أشهد أنك الكاذب، وأن محمداً صادق، ولكن كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر. ).!!

أخيرا

1 ـ إستغلت قريش سذاجة البدو وسّرعتهم الى التقاتل ، فأغرتهم من طرف خفى بحرب ردّة ، فظهر أولئك المتنبئون ، وساندهم فرسان مشهورون مثل عيينة بن حصن المشهور بلقب ( الأحمق المّطاع ) ، وعمرو بن معدى يكرب . وانتهى أمرهم بعد أن قاموا بدورهم الذى رسمته لهم قريش ، فرجعوا الى الاسلام ، وصاروا جند قريش فى الفتوحات . وبعد توطيد الفتوحات صحا أولئك الاعراب على حقيقة مؤلمة هى إستئثار بنى أمية فى خلافة عثمان بأفضل الأموال ، فثاروا وقتلوا عثمان ، ثم أصبحوا شيعة على ، ثم قتلوا عليا وأصبحوا خوارج يقاتلون الأمويين . كل هذا خلال جيل واحد . كان فيه الأعراب مسلمين ثم مرتدين ثم فاتحين ثم منشقين على عثمان ثم شيعة ثم خوارج . وفى كل الاحوال هم ناقمون على قريش ، وتستخدمهم وتتلاعب بهم قريش بمكرها الذى تزول منه الجبال .!!

2 ـ إستخدمتهم قريش فى تاسيس مُلكها ، ثم إستغنت عنهم عند أول محطة . ونفس الحال مع عبد العزيز آل سعود ، قام بتعليم الوهابية لشباب الأعراب وجعلهم ( الاخوان ) ، واستخدمهم فى تأسيس دولته ، ثم حاربهم وتخلص منهم . وهو ما يفعله الإخوان ( المجرمون ) فى مصر ، يستخدمون الرعاع ، ويضحّون بهم فى أقرب فرصة طبقا لمصلحة مكتب الارشاد . يصعدون على جثث أتباعهم سلالم الطموح السياسى ، درجة درجة . هو الصعود للهاوية ، لو كنتم تعلمون .!!

3 ـ وهذا هو ما نتعلمه من القرآن الكريم وتاريخ قريش . سيقول جل وعلا لهم يوم القيامة  إنهم ساروا   على دأب فرعون ومن سبقه:( وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمْ الأَمْثَالَ (45)) وهنا إشارة مسبقة الى انهم لن يتعظوا بالقصص القرآنى عن فرعون وغيره ، بل  سيقيمون مُلكا مُستبدا ودولة دينية ، وبه يعيشون نفس طريقة الفراعنة ، ولكن تحت شعار الاسلام.!! . وهذا مكر لا مثيل له فى تاريخ البشر، لذا يقول رب العزة بعدها  للنبى عليه السلام يصف مكرهم الجهنمى : ( وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46)، ويطمئنه جلّ وعلا  فيقول له :( فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ (47)، ويخبر جل وعلا بموعد الانتقام منهم ، وأنه يوم القيامة ( يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48)، يومها كيف سيكون حال أولئك المستبدين المجرمين؟ :(  وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51). ولتكون موعظة لنا فإن الله جل وعلا يقول لنا يختم السورة :( هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ (52) ( ابراهيم ) .

4 ـ فماذا فعل المسلمون بهذا البلاغ ؟ أنظر الى حال المسلمين اليوم .!!

 

الباب الثانى : مكر قريش أدّى للفتوحات

الفصل الخامس  :  أبو سفيان هو رأس المكر القرشى

أولا  : المُخرج أبوسفيان

1 ـ  المشاهد الساذج لعمل درامى لا يرى سوى أبطال الفيلم . لا يرى ( المُخرج ) وهو الصانع الحقيقى الذى يحرّك الممثلين ويضع الحوار على ألسنتهم ، ويحدد الديكور ويحرّك آلة التصوير ، وكل شىء يمسك خيوطه بأصابعه .

  2 ـ   فى موضوعنا عن ( المكر القرشى ) نبدأ بتحديد رأس المكر وقائد قريش ، وهو أبوسفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف . لماذا ؟ لأنه كان القائد الأكبر لقريش فى حربها المعلنة ضد النبى ؛ هو قائد القافلة قبيل معركة  ، وهو قائد جيش قريش فى أحد ، وهو الذى قام بتجميع القبائل لاستئصال المسلمين فى غزوة ( الأحزاب ) ، ثم هو الذى أسلم عند فتح مكة ، واستفاد بتعيين إبنائه قادة فى الحروب فى مواجهة المرتدين ثم فى الفتوحات ، ثم تأسيس مّلك لابنه معاوية ولبنى أمية . أبوسفيان هو (المخرج ) لهذه الأحداث ، والذى كان يحبك المؤامرات ، ويقوم بتجنيد العملاء من البداية فى مكة الى قبيل فتح مكة .

ثانيا : التعتيم على دور أبى سفيان فى التآمر على النبى فى مكة

1 ـ ويلاحظ تجاهل المؤرخين لدور أبى سفيان فى إضطهاد النبى وأصحابه فى مكة ، كان التركيز على أبى جهل والوليد بن المغيرة وأبى لهب وأمية بن خلف وأمية بن أبى الصلت وصفوان بن أمية وغيرهم الذين ماتوا على الكّفر . واضطروا لذكر أبى سفيان لدوره الأساس فى موقعة بدر وأحد و الأحزاب . ثم عاد التجاهل لدوره الى أن ذكروه وهو يقابل النبى  وهو فى طريقه لفتح مكة ويعلن اسلامه للنبى  ، ثم ما يقولونه أن النبى أعلن أنّ من دخل دار أبى سفيان فهو آمن . السبب فى هذا التجاهل أن المصدر الأكبر للرواية الشفهية كان أبّان بن عثمان بن عفان ( الأموى ) وهو الذى تولى إمارة المدينة للخليفة عبد الملك بن مروان ( الأموى ) عام 76 . وانتشرت روايات أبّان بن عثمان التاريخية الشفهية ، وظلّ ما سكت عنه مجهولا، وهو دور أبى سفيان فى قيادة المكر القرشى ضد النبى فى مكة ثم فى المدينة .

2 ـ وقد راجعتُ تاريخ الطبرى فى الفترة المكية فلم أجد أى إشارة لأبى سفيان فى إضطهاد النبى والمسلمين . ولم يرد ذكره ضمن قادة قريش الذين قادوا حركة العداء للنبى والمؤمنين . على سبيل المثال يروى الطبرى وفود قادة قريش لأبى طالب بعد أن أعلن الرسول عليه السلام دعوته ، يقول الطبرى فى روايته عن موقفهم : ( فلما رأت قريش أن رسول الله لا يعتبهم من شيء يكرهونه مما أنكروه عليه من فراقهم وعيب آلهتهم ورأوا أن أبا طالب قد حدب عليه وقام دونه فلم يسلمه لهم مشى رجال من أشراف قريش إلى أبي طالب عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو البختري بن هشام والأسود بن المطلب والوليد بن المغيرة وأبو جهل بن هشام والعاص بن وائل ونبيه ومنبه ابنا الحجاج أو من مشى إليه منهم فقالوا يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سب ألهتنا وعاب ديننا وسفه أحلامنا ...فإما أن تكفه عنا وإما أن تخلي بيننا وبينه .. ). لم يرد هنا ذكر أبى سفيان فى هذه الرواية أو غيرها .

3 ـ ولكن هناك رواية وحيدة نراها كاذبة وساقطة مذكور فيها أبو سفيان ضمن كبار القرشيين ، وهى الرواية المشهورة التى يزعمون فيها أنهم اجتمعوا فى دار الندوة وتشاوروا وحضرهم ابليس متنكرا فى هيئة شيخ نجدى ، وبعد المداولة أخذوا برأى أبى جهل بقتل النبى ويتفرق دمه فى القبائل . تقول هذه الرواية الكاذبة فى تاريخ الطبرى : ( .. فحدثنا ابن حميد قال حدثنا سلمة قال حدثني محمد بن إسحاق قال حدثني عبدالله بن أبي نجيح عن مجاهد بن جبر أبي الحجاج عن ابن عباس قال ، وحدثني الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس والحسن بن عمارة عن الحكم بن عتيبة عن مقسم عن ابن عباس قال : لما اجتمعوا لذلك واتعدوا أن يدخلوا دار الندوة ، ويتشاوروا فيها في أمر رسول الله غدوا في اليوم الذي اتعدوا له ، وكان ذلك اليوم يسمى الزحمة ، فاعترضهم إبليس في هيئة شيخ جليل .. فوقف على باب الدار فلما رأوه واقفا على بابها قالوا من الشيخ ؟ قال : شيخ من أهل نجد سمع بالذي اتعدتم له فحضر معكم ليسمع ما تقولون، وعسى ألا يعدمكم منه رأي ونصح . قالوا : أجل ، فادخل . فدخل معهم . وقد اجتمع فيها أشراف قريش كلهم من كل قبيلة ؛ من بني عبد شمس شيبة وعتبة ابنا ربيعة وأبو سفيان بن حرب ، ومن بني نوفل بن عبد مناف طعيمة بن عدي وجبير بن مطعم والحارث بن عامر بن نوفل ، ومن بني عبد الدار بن قصي النضر بن الحارث بن كلدة ، ومن بني أسد بن عبد العزى أبو البختري بن هشام وزمعة بن الأسود بن المطلب وحكيم بن حزام ، ومن بني مخزوم أبو جهل بن هشام ، ومن بني سهم نبيه ومنبه ابنا الحجاج ، ومن بني جمح أمية بن خلف ، ومن كان معهم وغيرهم ممن لا يعد من قريش . فقال بعضهم لبعض : إن هذا الرجل قد كان أمره ما قد كان وما قد رأيتم وإنا والله ما نأمنه على الوثوب علينا بمن قد اتبعه من غيرنا، فأجمعوا فيه رأيا . قال،  فتشاوروا ، ثم قال قائل منهم ، احبسوه في الحديد وأغلقوا عليه بابا ثم تربصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء الذين قبله زهيرا والنابغة ومن مضى منهم من هذا الموت حتى يصيبه منه ما أصابهم . قال فقال الشيخ النجدي : لا والله ما هذا لكم برأي ، والله لو حبستموه كما تقولون لخرج أمره من وراء الباب الذي أغلقتموه دونه إلى أصحابه فلأوشكوا أن يثبوا عليكم فينتزعوه من أيديكم ثم يكاثروكم حتى يغلبوكم على أمركم ، هذا ما هذا لكم برأي فانظروا إلى غيره . ثم تشاوروا ، فقال قائل منهم : نخرجه من بين أظهرنا فننفيه من بلدنا فإذا خرج عنا فوالله ما نبالي أين ذهب ولا حيث وقع إذا غاب عنا وفرغنا منه فأصلحنا أمرنا وألفتنا كما كانت . قال الشيخ النجدي : والله ما هذا لكم برأي، ألم تروا حُسن حديثه وحلاوة منطقه وغلبته على قلوب الرجال بما يأتي به ؟ والله لو فعلتم ذلك ما أمنت أن يحلّ على حي من العرب فيغلب عليهم بذلك من قوله وحديثه حتى يتابعوه عليه ، ثم يسير بهم إليكم حتى يطأكم بها فيأخذ أمركم من أيديكم ، ثم يفعل بكم ما أراد ، أديروا فيه رأيا غير هذا . قال فقال أبو جهل بن هشام : والله إن لي فيه لرأيا ما أراكم وقعتم عليه بعد . قالوا : وما هو يا أبا الحكم ؟ قال : أرى أن تأخذوا من كل قبيلة فتى شابا جلدا نسيبا وسيطا فينا ثم نعطي كل فتى منهم سيفا صارما ثم يعمدون إليه ثم يضربونه بها ضربة رجل واحد فيقتلونه ، فنستريح ، فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل كلها ، فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعا ورضوا منا بالعقل فعقلناه لهم . قال فقال الشيخ النجدي : القول ما قال الرجل هذا الرأي لا رأي لكم غيره . فتفرق القوم على ذلك وهم مجمعون له فأتى جبريل رسول الله فقال لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه قال فلما كان العتمة من الليل اجتمعوا على بابه فترصدوه متى ينام فيثبون عليه فلما رأى رسول الله مكانهم قال لعلي بن أبي طالب نم على فراشي واتشح ببردي الحضرمي الأخضر فنم فإنه لا يخلص إليك شيء تكرهه منهم وكان رسول الله ينام في برده ذلك إذا نام قال أبو جعفر زاد بعضهم في هذه القصة في هذا الموضع وقال له إن أتاك ابن أبي قحافة فأخبره أني توجهت إلى ثور فمره فليلحق بي وأرسل إلى بطعام واستأجر لي دليلا يدلني على طريق المدينة واشتر لي راحلة ثم مضى رسول الله وأعمى الله أبصار الذين كانوا يرصدونه عنه وخرج عليهم رسول الله ..).لأول مرة تذكر رواية دور أبى سفيان فى التآمر ضمن قادة قريش .

وهى رواية ساقطة كاذبة من حيث السّند . فهم يسندونها الى ( ابن عباس ) ولم يكن قد وُلد بعدُ . أو كان رضيعا . فكيف له أن يروى حدثا سريا لم يشهده . وروايات ابن عباس يجب أخذها بحذر شديد لأن الفقهاء والمحدثين والقُصّاص فى العصر العباسى كانوا ينافقون الدولة العباسية باسناد الروايات الى ابن عباس ، جد الخلفاء العباسيين . 

وهى رواية ساقطة من حيث المتن ، فكيف يعرفون ان الشيخ النجدى هو ابليس ؟ وهل يحتاج ابليس الى التنكر والتجسّد ،وهو يرانا من حيث لا نراه كما قال رب العزة ( إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ   (27)الاعراف) . ألا يكفيه أنه بوسوسته ووحيه الشيطانى يتحكّم فى أشرار أبناء آدم بدون أن يحضر بنفسه مجالس تآمرهم !!؟ . ثم كيف يقال ( فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعا )، وبنو مناف يشملون بنى عبد شمس وبنى أمية ، وحسب الرواية فقد كان أبرز زعماء الجلسة من بنى عبد مناف ؟ ومن الذى أعلم الراوى بأن جبريل نزل على النبى وأخبره بما حدث ؟ . ثم أن رب العزة يذكر أنهم هم الذين أخرجوا النبى والمؤمنين كما شرحنا فى مقال سابق. 

4 ـ المستفاد أنّ هناك تعتيما مقصودا فيما يخصّ دور أبى سفيان فى مكة ضد الاسلام ، وأن الرواية الوحيدة التى تذكر دوره هى رواية كاذبة من حيث السند ومن حيث الموضوع والمتن . هذا مع أن أبا سفيان كان أهم قائد فى قريش ، وانفرد بالزعامة بعد موقعة بدر وقتل عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبى جهل بن هشام وزمعة بن الأسود وأبو البختري بن هشام وأمية بن خلف ونبيه ومنبه ابنا الحجاج . وعُتبة بن ربيعة هو والد هند زوجة أبى سفيان ، وينتهى نسبه الى عبد شمس بن عبد مناف .

ثالثا  : مكانة ابى سفيان فى قريش وفى العالم وقتها

1 ـ قالوا فى ترجمته : ( أَبو سغيانَ صَخرُ بنُ حَرب بن أُمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي الأُموي، وهو والد يزيد ومعاوية وغيرهما‏.‏ ولد قبل الفيل بعشر سنين، وكان من أَشراف قريش، وكان تاجراً يجهز التجار بماله وأَموال قريش إِلى الشام وغيرها من أَرض العجم، وكان يخرج أَحياناً بنفسه . كانت إليه راية الرؤساءِ التي تسمى العُقَاب، وِإذا حميت الحرب اجتمعت قريش فوضعتها بيد الرئيس‏.‏ وقيل‏:‏ كان أَفضل قريش رأياً في الجاهلية ثلاثة‏:‏عتبة، وأَبو جهل، وأَبو سفيان‏.‏ فلما أَتى الله بالإِسلام أُدبروا في الرأي. ).

2 ـ وممأ يدل على إنفراده بالزعامة فى قريش ،  إنّه : ( وقعت دماء بين حيّين من قريش ، فأقبل أبو سفيان ، فما بقي أحد واضع رأسه إلا رفعه، فقال‏:‏ يا معشر قريش هل لكم في الحق أو فيما هو أفضل من الحق ؟ قالوا‏:‏ وهل شيء أفضل من الحق ؟ قال‏:‏ نعم العفو . فتهادن القوم واصطلحوا‏.‏) .

3 ـ وأراد ملك اليمن أن يعرف أكبر قائد فى مكة ، فأهدى عشرة من كرام الابل  إلى مكة وأمر أن ينحرها أعز قريشي‏.‏ فقدمت الابل الى مكة وأبو سفيان يقضى ( شهر العسل ) بعروسه هند بنت عتبة.  فقالت له هند ‏:‏ أيها الرجل لا يشغلنك النساء عن هذه المكرمة التي لعلها أن تفوتك.  فقال لها‏:‏ يا هذه دعي زوجك وما يختاره لنفسه ، والله ما نحرها غيري إلا نحرته‏.‏ وظلت الابل مكانها لا يقترب منها أحد حتى خرج أبو سفيان في اليوم السابع فنحرها‏.‏  

4 ـ وأبو قحافة والد أبى بكر ظل يعيش فى مكة ، وقد تشرب طاعة أبى سفيان والخضوع له ، وظل أبو قحافة حيا الى ان أدرك خلافة ابنه أبى بكر ثم مات بعده . وقد زار ابو بكر مكة ، وفيها حضر أبوقحافة مشهدا لم يتصوره . فقد " ( بلغ أبا بكر عن أبى سفيان امر فأحضره اليه ، وأقبل يصيح عليه ، وأبو سفيان يتملقه ويتذلل اليه . وأقبل أبو قحافة فسمع صياح أبى بكر فقال لقائده ( وكان قد عمى ) على من يصيح أبنى ؟ فقال له : على أبى سفيان . فدنا من أبى بكر وقال له : أعلى ابى سفيان ترفع صوتك يا عتيق ؟ .. لقد تعديت طورك وجُزت مقدارك .!! فتبسم ابو بكر ومن حضره من المهاجرين والأنصار ، وقال له : يا أبت ، إن الله قد رفع بالاسلام قوما وأذلّ به آخرين .!! ). هذا هو أبوسفيان فى قريش . فماذا عنه كشخصية عالمية تقود رحلة الشتاء والصيف ؟

5 ـ يروى الأصمعي قدوم أبى سفيان على كسرى فى الجاهلية ، وأن كسرى أعطاه ( مخدة ) . وأراد الأصمعى أن يستوثق من هذه الرواية فتأكّد من صحتها . الرواية حكاها ابو سفيان نفسه : (‏ قال أبو سفيان‏:‏ أهديت لكسرى خيلاً وأدماً ، فقبل الخيل ورد الأدم .وأدخلت عليه فكان وجهه وجهين من عظمه ، فألقى إلي مخدة كانت عنده.  فقلت‏:‏ وا جوعاه‏!‏ أهذه حظي من كسرى بن هرمز؟  قال‏:‏ فخرجت من عنده فما أمرّ على أحد من حشمة إلا أعظمها حتى دُفعت إلى خازن له ، فأخذها ، وأعطاني ثمانمائة إناء من فضة وذهب‏.‏ قال الأصمعي‏:‏ فحدثت بهذا الحديث النوشجان الفارسي فقال‏:‏ كانت وظيفة المخدة ألفاً ، وأن الخازن اقتطع منها مائتين‏. ) .هذه الرواية تتفق مع قيادة أبى سفيان لرحلتى الشتاء والصيف ودوره فى التجارة العالمية وقتها . ويعزّز هذا رواية أخرى له قابل فيها هرقل ، وسأله هرقل عن النبى عليه السلام ، وهى رواية طويلة لا حاجة لذكر تفاصيلها .

رابعا : أبو سفيان يستعيد مكانته بعد أن دخل الاسلام متأخرا

1 ـ أسلم أبو سفيان عندما قابل النبى فى طريقه الى فتح مكة . دخل ابو سفيان الاسلام وهو يريد أن يحتفظ  بزعامته . وجاءته الفرصة بعد موت النبى وتولى أبى بكر الخلافة ، فليس أبو بكر بشىء بمقياس الشرف القرشى ، وهذا ما عبّر عنه أبو قحافة حين علم بتولى ابنه أبى بكر الخلافة ، يروى سعيد بنالمسيب أنه لما مات النبى  ارتجت مكة فقالأبو قحافة : ما هذا ؟ قالوا : قبض رسول الله. قال : فمن ولي الناس بعده ؟ قالوا : ابنك .قال  : أرضيتبذلك بنو عبد شمس وبنو المغيرة قالوا نعم قال فإنه لا مانع لما أعطى الله ولا معطيلما منع الله ).!. لم يتصور أبو قحافة أن يكون ابنه خليفة فى وجود بنى عبد شمس ( ومنهم بنو أمية بن عبد شمس ).

كانت هذه هى الثقافة السائدة التى عبّر عنها بعفوية أبو قحافة . ومثل ذلك موقف خالد بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف ، وهو أموى ولكن أسلم وهاجر الى الحبشة ، ثم عاد منها الى المدينة وقت إختيار أبى بكر خليفة ، فاستنكر أن يكون خليفة بعد النبى وهو من ( تيم ) وليس من بنى هاشم وبنى عبد مناف ، وتوقف عن مبايعته فاسترضاه أبو بكر بأن جعله من قواد الفتوحات . تقول الرواية عن ابن خالد : ( قدم أبي من اليمن الى المدينة بعد أن بويع لأبي بكر ، فقاللعلي وعثمان : أرضيتم بني عبد مناف ان يلي هذا الأمر عليكم غيركم ؟ ، فنقلها عمر الى أبيبكر فلم يحملها أبو بكر على خالد وحملها عمر عليه . وأقام خالد ثلاثة أشهر لم يبايعأبا بكر . )   

2 ـ خطّط أبو سفيان فأشعل حرب الردة ( بالريموت كنترول )، وأوقع أبا بكر والمسلمين فى أمرعصيب ، وفى وقت عاصفة حرب الردة ضغط على ابى بكر ، فقام بما يشبه المّظاهرة الاحتجاجية يزعم غضبه لحق بنى هاشم الضائع ، وهم بنو عمومته. وهو نفس ما فعله ابنه معاوية حينما تحجّج بدم عثمان وهو ابن عمه ، ومعاوية هو الذى ترك عثمان محاصرا الى أن قتله الثوار دون أن ينجده ، لأن كل ما أراده هم أن يأخذ قميص عثمان ليصل به الى الخلافة .!!. أقبل أبو سفيان يحرّض عليا بن أبى طالب والعباس ضد أبى بكر ، ويهدّد أبا بكر بالحرب .تقول الروايات: (لما اجتمع الناس على بيعة أبي بكر، أقبل أبو سفيان وهو يقول : والله إني لأرى عجاجة لا يطفئها إلا دم. يا آل عبد مناف فيم أبو بكر من أموركم؟ أين المستضعفان أين الأذلان علي والعباس ؟ وقال : أبا حسن ابسط يدك حتى أبايعك. فأبى عليّ عليه.  فجعل يتمثل بشعر المتلمس :

ولن يقيم على خسف يراد به إلا الأذلان عير الحي والوتد

هذا على الخسف معكوس برمته وذا يشج فلا يبكي له أحد

فزجره علي وقال : إنك والله ما أردت بهذا إلا الفتنة ، وإنك والله طالما بغيت الإسلام شرا . لا حاجة لنا في نصيحتك ) ( قال هشام بن محمد وأخبرني أبو محمد القرشي قال لما بويع أبو بكر قال أبو سفيان لعلي والعباس أنتما الأذلان ) ( قال أبو سفيان لعليّ :  ما بال هذا الأمر في أقل حي من قريش ؟ والله لئن شئت لأملأنها عليه خيلا ورجالا.  فقال علي : يا أبا سفيان طالما عاديت الإسلام وأهله فلم تضره بذاك شيئا إنا وجدنا أبا بكر لها أهلا.) .وسكت أبو سفيان عندما نجح فى إبتزاز أبى بكر ، فاسترضاه أبو بكر بتعيين أبنه يزيد بن أبى سفيان قائدا . تقول الرواية : ( لما استخلف أبو بكر قال أبو سفيان :  مالنا ولأبي فصيل إنما هي بنو عبد مناف . فقيل له: إنه قد ولى ابنك. قال  : وصلته رحم ).

3 ـ وفى تعيين أبى بكر ليزيد بن أبى سفيان ضمن القادة جاءت روايات متعددة ومختلفة ، منها : ( ولما وجه أبو بكر رضي الله عنه يزيد بن أبي سفيان إلى الشام شيعه راجلاً‏.‏ فقال له يزيد‏:‏ إما أن تركب وإما أن أنزل‏.‏ ) (لما قفل أبو بكر من الحج سنة اثنتي عشرة جهز الجيوش إلى الشأم ، فبعث عمرو بن العاص قبل فلسطين فأخذ طريق المعرقة على أيلة . وبعث يزيد بن أبي سفيان وأبا عبيدة ابن الجراح وشرحبيل بن حسنة وهو أحد الغوث وأمرهم أن يسلكوا التبوكية على البلقاء من علياء الشأم ) (   وجه أبو بكر الجنود إلى الشأم أول سنة ثلاث عشرة فأول لواء عقده لواء خالد بن سعيد بن العاص ، ثم عزله قبل أن يسير وولى يزيد بن أبي سفيان ، فكان أول الأمراء الذين خرجوا إلى الشأم وخرجوا في سبعة آلاف . ودعا يزيد بن أبي سفيان فأمره على جند عظيم هم جمهور من انتدب له وفي جنده سهيل بن عمرو وأشباهه من أهل مكة. وشيّعه ماشيا . ) وقالوا فى ترجمة يزيد بن أبي سفيان : (  أسلم يوم فتح مكة،  .‏ واستعمله أبو بكر الصديق رضي الله عنه على جيش، وسيره إلى الشام، وخرج معه يشيعه راجلاً‏.‏ ) . والقيادة الحربية يستتبعها ان يكون القائد هو الحاكم لما قام بفتحه ، أى أصبح يزيد بن أبى سفيان حاكم دمشق . تقول الرواية : ( وكان أبو بكر قد سمى لكل أمير من أمراء الشأم كورة فسمى لأبي عبيدة بن عبدالله بن الجراح حمص وليزيد بن أبي سفيان دمشق ولشرحبيل بن حسنة الأردن ولعمرو بن العاص ولعلقمة بن مجزز فلسطين ).

خامسا : أبوسفيان يضع عينه على الشام

1 ـ  فى رحلة الشتاء والصيف توثّقت علاقة ابى سفيان بقبائل ( كلب ) التى كانت تسيطر على طريق القوافل من الجزيرة العربية الى مدن الشام . وبعد أن فشل مشروع رحلة الشتاء والصيف أراد أبو سفيان استغلال الاسلام ليسيطر ليس على طريق القوافل التجارى بين الرافدين واليمن بل على الشام والعراق واليمن . فكان لا بد من حرب الردة ، ثم تطويرها الى الفتوحات ، نجح تخطيطه بأن انتهى الأمر ومعاوية يحكم الشام كله فى خلافة عمر وعثمان ، وتزوج معاوية ابنة زعيم قبائل كلب ( ميسون بنت بحدل الكلبى ) فضمن الشام فى يده . وأصبحت دمشق مركز امبراطورية الأمويين التى توسعت فى قارات العالم الثلاث بعد موت أبى سفيان ، وبأكثر مما كان يحلم به أبو سفيان .  . وإذا كانت البداية بتخطيط حرب الردة ، فقد كانت الخطوة الأساس هى هزيمة الروم فى ( اليرموك ) .

2 ـ وقد إعتبر أبو سفيان اليرموك معركته الشخصية . تقول الروايات : ( شهد اليرموك ألف من أصحاب رسول الله ، فيهم نحو من مائة من أهل بدر . وكان أبو سفيان يسير فيقف على الكراديس فيقول : الله الله إنكم ذادة العرب وأنصار الإسلام وإنهم ذادة الروم وأنصار الشرك . اللهم إن هذا يوم من أيامك اللهم أنزل نصرك على عبادك ) وتقول رواية اخرى إنه ( شهد اليرموك تحت راية ابنه يزيد يقاتل، ويقول‏:‏ ‏"‏يا نصر الله، اقترب‏"‏‏.‏ وكان يقف على الكراديس يَقص ويقول‏:‏ اللّه الله، إِنكم ذَادة العرب، وأَنصار الإِسلام، وإنهم ذَادة الروم وأَنصار المشركين‏.‏ اللهم، هذا يوم من أَيامك، اللهم أَنزل نصرك على عبادك ). وشارك فى المعركة معاوية بن أبى سفيان وأخته جويرية التى قاتلت ، والرواية تقول أن النساء قاتلن يوم اليرموك في جولة ، فخرجت جويرية ابنة أبي سفيان في جولة وكانت مع زوجها وأصيبت بعد قتال شديد ، وأصيبت يومئذ عين أبي سفيان ، فأخرج السهم من عينه أبو حثمة . وكان ممن أصيب في الثلاثة الآلاف الذين أصيبوا يوم اليرموك عكرمة وعمرو بن عكرمة وسلمة بن هشام وعمرو بن سعيد وأبان بن سعيد . وهؤلاء من أتباع أبى سفيان وممّن أسلم بعد فتح مكة .

3 ـ ولهذا لا نصدق هذه الرواية الى حكاها عبد الله بن الزبير الذى يزعم أَنه رأَى أَبا سفيان يوم اليرموك وكان يقول‏:‏ إِذا ظهرت الروم‏:‏ إيه بني الأَصفر‏!‏ وإذا كشفهم المسلمون يقول‏:‏  وبنو الأصفر الملوك ملوك ** الروم لم يبق منهم مذكور. ) لا نأخذ بهذه الرواية لأن ابن الزبير خصم لبنى أمية ، ولأنه ليس معقولا أن يتمنى أبو سفيان هزيمة جيش كان ابنه أحد قادته ، وقاتل فيه ابنه معاوية وبنته جويرية .

4 ـ لقد كانت اليرموك خطوة أساس فى تحقيق حُلم أبى سفيان . ومات أبو سفيان فى خلافة عثمان . قيل عام 32 ، أو 33 ، أو 34 . مات بعد أن رأى ابنه معاوية يحكم الشام كله ، وبعد أن (اوصل أبوسفيان ) ابن عمه عثمان للخلافة . و سنتعرض لهذا فى حينه ، ولكن نشير  لهذه الرواية التى ذكرها المسعودى فى مروج الذهب ج 1 ص 551 ، ونراها صادقة: يروى المسعودى : ( حين بويع عثمان دخل أبو سفيان داره ومعه بنو أمية ، فقال ابو سفيان ـ وكان قد عمى ـ أفيكم أحد غيركم ؟ قالوا : لا . قال : يا بنى أمية تلقفوها تلقف الكرة ، فو الذى يحلف به أبو سفيان ما زلت أرجوها لكم . ولتصيرنّ الى صبيانكم وراثة. ). 

4 ـ مات أبو بكر دون أن يعرف أن أبا سفيان هو الذى أشعل حرب الردة ليستغلها لمصلحته ، وأنه هو الذى أوعز الى أبى بكر عبر عملائه بالفتوحات . مات أبو بكر وهو لا يعلم انه كان تحت سيطرة عملاء أبى سفيان ، وأنه كان مجرد دمية يحركها أبو سفيان عن بُعد . مات أبو بكر دون أن يعرف أن أهم إثنين من قواده كانا من عملاء أبى سفيان . وهما خالد بن الوليد وعمرو بن العاص .

5 ـ انتظرونا ..

 

الباب الثانى : مكر قريش أدّى للفتوحات

الفصل السادس :   خالد وعمرو عملاء لأبى سفيان  

أولا:  مكر أبى سفيان الذى تزول منه الجبال

1 ـ : كان ابوسفيان قائد قريش الحربى والسياسى ، وقائد تجارتها فى رحلة الشتاء والصيف . ولهذا تزعم العداء للاسلام حرصا على تجارة قريش ، فلما ظهر له أن مصلحته ومصلحة قريش تستوجب الدخول فى الاسلام لاستغلاله بدلا من استغلال المسجد الحرام لم يتردد فى الدخول فى الاسلام قبيل دخول النبى مكة فاتحا . وحرص على أن يستبقى مكانته بعد دخوله الاسلام . ومن مكره أنه حين كان النبى فى مكة قام بزرع عملاء له زعموا الدخول فى الاسلام ، وصاروا من مشاهير المهاجرين . واستمر فى زرع هؤلاء العملاء حيث كانوا يهاجرون للمدينة بزعم الاسلام . ثم تنوع عملاء ابى سفيان فكان منهم أعراب إفتعلوا المشاكل للنبى والمسلمين ، ونزل الوحى بتشريعات التعامل معهم . وبتولى ابى بكر الخلافة اشعل أبو سفيان فى وجهه حرب الردة ، واستغلها فى إكراه أبى بكر على تعيين ابنه يزيد قائدا يتصدر المسلمين بعد مدة وجيزة من دخوله الاسلام . ثم بمكر أبى سفيان ارتكب أبو بكر جريمة الفتوحات التى كانت أكبر عمل إجرامى طبقا لتشريعات الاسلام ، وبها لم يعد أبوسفيان بحاجة لرحلة الشتاء والصيف لأن الشام صارت تحت حكم ابنه معاوية . ولكن المفاجأة الكبرى أن أهم قواد أبى بكر فى الفتوحات كانا من عملاء أبى سفيان ، وهما خالد بن الوليد وعمرو بن العاص .

ثانيا : بين ( عمرو ) و ( خالد )

1 ـ  يلفت النظر أن خالدا وعمرا بادرا معا وفجأة وفى قمة عدائهما للاسلام بالدخول معا فى الاسلام . ويلفت النّظر أيضا أن قريش لم تحتجّ على هجرتهما ، برغم ما يمثله اسلامهما من خسارة كبرى ظاهرية لقريش. هذا لو كانت على نفس القدر من العداء للاسلام والنبى عليه السلام ونفس التصميم على حرب الاسلام والمسلمين . ولكن توقيت إسلام خالد وعمر معا توافق مع علو شأن الاسلام والمسلمين وأنحدار نفوذ قريش وحاجتها للاسلام لتستعيد به ما ضاع من مكانتها ، وبالتالى بدء مرحلة جديدة رأى فيها أبوسفيان ضرورة السيطرة من الداخل على المسلمين ودولة الاسلام بارسال أعظم قائد قرشى ( خالد ) وأمهر دهاة الشباب القرشى (عمرو )، يهاجران معا للنبى يعلنان اسلامهما . ثم فيما بعد يصيران ـ وفق تخطيط أبى سفيان من أسس الفتوحات التى حقت آمال أبى سفيان .

2 ـ عمرو بن العاص كانت أمه ( النابغة ) من بغايا قريش المشهورات ، وهناك تنازع فى نسبه ، وقد اختارت أمه أن تنسبه الى العاص لأنه كان الأرفق بأولادها . فحمل عمرو إسم ( العاص بن وائل السهمي)، فهو ليس من الأمويين بل من بنى سهم ،  وإن كان ابو سفيان يعتقد أنّ عمرا إبنه .  ولعل هذا يفسر العلاقة الحميمة بين معاوية وعمرو . ومع نسبه المشكوك فيه ، فقد وصل عمرو بدهائه وبمساعدة أبى سفيان الى موقع الصدارة . فهو الذي أرسلته قريش إلى النجاشي ليسلّم إليهم من عنده من المسلمين‏:‏ جعفر بن أبي طالب ومن معه، فلم يفعل،  فرجع عمرو الى قريش ، فأرسله أبو سفيان مباشرة مهاجراً إلى النبي عليه السلام فى المدينة . وكان إسلامه في صفر سنة ثمان قبل فتح مكة بستة أشهر‏.‏ و ( عمرو بن العاص ) أحد دهاة العرب ، وقد إنكشف دوره فيما بعد فى الفتوحات والفتنة الكبرى خادما للأمويين ومعاوية بالذات..

4 ـ ويختلف عنه رفيقه خالد . فأبوه( الوليد بن المغيرة ) أحد طغاة قريش وأشرافها ، فهو ينتمى الى بنى مخزوم الذين يلون بنى أمية فى ترتيب الشرف القرشى ،وأضاف خالد الى نسبه لبنى مخزوم أنه كان أعظم قائد عسكرى فى قريش، تقول الروايات عنه : ( أحد الأشراف قريش في الجاهلية، وكان إليه القبة وأعنّة  الخيل في الجاهلية، أما القبة فكانوا يضربونها يجمعون فيها ما يجهزون به الجيش، وأما الأعنّة فإنه كان يكون المقدم على خيول قريش في الحرب . ) ومع هذا تركته قريش يهاجر علنا الى خصمها ( محمد )!!. وقبيل اسلامه كان خالد قائد جيش المشركين القرشيين يوم الحديبية لمنع النبى والمسلمين من الحج .وبعدها أرسله أبوسفيان عميلا له داخل المدينة بمهمة أخرى .

5 ـ  خالد وعمرو ، كل منهما ( أسلم فجأة ) وقبيل اسلامه المفاجىء كان يقود عملا عدائيا ضد المسلمين . كان عملا عسكريا لدى خالد ، وكان عملا سياسيا لدى عمرو . وفى كل الاحوال كانا يخدمان قريش ، وقائد قريش أبا سفيان .   

6 ـ ولكنّ الاختلاف بين شخصيتى خالد وعمرو كان له التأثير الأكبر فى مصيرهما . فعمرو بدهائه ظل يحافظ على ولائه لأبى سفيان ثم معاوية فعاش وحكم مصر مرتين ، ومات على فراشه واليا لمصر ، وقد ترك لأولاده قناطير من الذهب . أما خالد فبرغم عبقريته العسكرية فقد كان ينقصه الدهاء ممّا جعله مصدر خطر يمكن أن يفضح أبا سفيان . هذا مع إعتداده بنسبه المخزومى وعبقريته العسكرية . فأصبحت عبقريته العسكرية وبالا عليه، إذ خشى أبو سفيان ورفاقه من طموحه ومن سُمعته وشهرته وحّب الجند له وإفتتانهم به ، لذا كان عزله وإهانته وموته المفاجىء فى خلافة عمر .!! .

ثالثا :  عمرو بن العاص :

تقول الروايات إن النبى عليه السلام بعثه قائدا على سرية  إلى ذات السلاسل يدعوهم إلى الإسلام، ويستنفرهم إلى الجهاد، فسار في ذلك الجيش وهم ثلاثمائة، فلما دخل بلادهم طلب من النبى مددا فبعث له النبى بمدد من الجند يقوده أبو عبيدة بن الجراح ، ومعه رهط من المهاجرين منهم ابو بكر وعمر ، وصمم عمرو على أن يظل هو قائد الجميع فأذعنوا له . ويقولون أن النبى جعله واليا على عمان ( ربما ليبعده عن المدينة ) فظل فيها الى ان تولى أبو بكر . ثم أصبح من قواد الفتوحات فى الشام ، وهو الذى فتح مصر لعمر بن الخطاب فتولاها . ولم يزل والياً عليها إلى أن مات عمر، فأمّره عليها عثمان أربع سنين، أو نحوها، ثم عزله عنها ،‏ فاعتزل عمرو بفلسطين، وكان يأتي المدينة أحياناً، وصار خصما لعثمان ويطعن عليه ، فلما قتل عثمان تحالف مع معاوية  وشهد معه صفين، وهو الذى أنقذ معاوية من الهزيمة فيها بخدعة رفع المصاحف ، ثم هو الذى مكّن لمعاوية فى خدعة التحكيم . ثم سيره معاوية إلى مصر فاستنقذها من يد محمد بن أبي بكر الذى كان واليا لمصر فى خلافة ( على بن أبى طالب ) ، ومقابل هذا التحالف أعطى معاوية مصر ( طُّعمة ) لعمرو ، أى يأخذ دخلها لنفسه ، من الجزية والخراج وكل ما يغتصبه من كتوز وأموال . وظل عمرو واليا على مصر إلى أن مات فى خلافة معاوية عام 43 على الأصحّ  . وترك عمرو بن العاص عند موته سبعين بهارا من الذهب ، أي 210 قنطارا او 140 اردبا من الذهب ، واثناء موته عرض هذه الاموال علي اولاده فرفضوا وقالوا : حتي تعطي كل ذي حق حقه ،أي اعتبروها سُحتا ، فلما مات عمرو صادر معاوية هذا المال وقال ( نحن نأخذه بما فيه ) أي بما فيه من سحت وظلم. ( خطط المقريزي 1/ 140 ، 564 ).

رابعا :  خالد بن الوليد بن المغيرة

1 ـ الروايات التاريخية التى يرد فيها ذكر النبى عليه السلام حتى مع إفتراض صحتها تظل تاريخا ، وليست جزءا من الاسلام ؛ فالاسلام هو قرآن فقط . ميزان الصحة فى هذه النوعية من الروايات هو عدم تناقضها مع القرآن ، فإن إتّفقت معه ولم تتعارض معه فهى حقيقة تاريخية وليست دينية ، أى حقيقة نسبية رواها بشر وليست كلام الله جل وعلا ، وبالتالى فإن تصديقها أو تكذيبها لا يدخل فى دائرة الايمان ولكن فى مجال البحث العلمى التاريخى . ونعطى منها نموذجين فيما يخصّ خالد بن الوليد :

2 ـ . يروى الطبرى أن النبى انتهى إلى تبوك، و(.. أتاه يوحنه بن رؤبة صاحب أيلة فصالح رسول الله وأعطاه الجزية،  وأهل جرباء وأذرع أعطوه الجزية.  وكتب رسول الله لكل كتابا فهو عندهم . ثم إن رسول الله دعا خالد بن الوليد فبعثه إلى أكيدر دومة وهو أكيدر بن عبدالملك ، رجل من كندة،  كان ملكا عليها ،وكان نصرانيا. فقال رسول الله لخالد :" إنك ستجده يصيد البقر".  فخرج خالد بن الوليد حتى إذا كان من حصنه بمنظر العين . وفي ليلة مقمرة صائفة وهو على سطح له ومعه امراته فباتت البقر تحك بقرونها باب القصر . فقالت امرأته : هل رأيت مثل هذا قط ؟  قال :  لا والله .! . قالت :  فمن يترك هذا؟  قال :  لا أحد.  فنزل ، فأمر بفرسه فأسرج له ،  وركب معه نفر من أهل بيته،  فيهم أخ له يقال له حسان ، فركب وخرجوا معه ليطاردهم . فلما خرجوا تلقتهم خيل رسول الله، فأخذته ، وقتلوا أخاه حسان. وقد كان عليه قباء له من ديباج مخوص بالذهب فاستلبه خالد ، فبعث به إلى رسول الله قبل قدومه عليه . حدثنا ابن حميد قال حدثنا سلمة قال حدثني محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة عن أنس بن مالك قال : رأيت قباء أكيدر حين قدم به إلى رسول الله فجعل المسلمون يلمسونه بأيديهم ويتعجبون منه. فقال رسول الله : أتعجبون من هذا ؟ فوالذي نفس محمد بيده لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا . حدثنا ابن حميد قال حدثنا سلمة عن ابن إسحاق قال : ثم إن خالدا قدم بأكيدر على رسول الله،  فحقن له دمه وصالحه على الجزية ، ثم خلى سبيله فرجع إلى قريته . ).

الذى يصدق هذه الرواية هو عدو لله ورسوله ، ورواتها أعداء لله ورسوله . فهى رواية ساقطة كاذبة قرآنيا ، لسببين، لأن تشريع الجزية يكون تبعا للقتال الدفاعى ، أى حين يهجم العدو معتديا ويهزمه المسلمون فجزاؤه ليس إحتلال أرضه وليس بإكراهه فى الدين، ولكن فقط دفع الجزية ( جزاءا ) لعدوانه. وهذه الرواية تزعم أن النبى هو الذى اعتدى على بلاد لم تقم بالهجوم على المدينة . ولا يمكن للنبى أن يخالف شرع الله دون أن ينزل عليه الوحى يصحّح ويلوم ويوبّخ  . وقد كان عليه السلام حين يقع فى أى مخالفة ضئيلة ينزل عليه الوحى بالتأنيب ، فكيف بجريمة كبرى مثل هذه ؟ . ثم لأن النبى لا يعلم الغيب ، ولا يعرف أن البقر سيأتى ساعة كذا على باب ( أكيدر )، ولا يعرف أن سعد ابن معاذ فى الجنة او فى النار، بل إن الجنة والنار ليستا بعد فى حُكم الوجود لأنهما سيوجدان بعد قيام الساعة . وهذا الكلام ( الكوميدى ) عن مناديل سعد وعن تآمر البقر مع الجيش الغازى للإيقاع بأكيدر المسكين هو من أحاديث القُصّاص وخرافاتهم التى يهيم بها العوام ، ولا يزالون .!

وهناك رواية أخرى بطلها خالد تقول : ( حدثنا سلمة عن محمد بن إسحاق عن حكيم بن حكيم بن عباد بن حنيف عن أبي جعفر محمد بن علي بن حسين قال : بعث رسول الله حين افتتح مكة خالد بن الوليد داعيا ولم يبعثه مقاتلا ، ومعه قبائل من العرب سليم ومدلج وقبائل من غيرهم . فلما نزلوا على الغميصاء وهي ماء من مياه بني جذيمة بن عامر بن عبد مناة بن كنانة على جماعتهم.  وكانت بنو جذيمة قد اصابوا في الجاهلية عوف أبا عبدالرحمن بن عوف والفاكه بن المغيرة ، وكانا أقبلا تاجرين من اليمن حتى إذا نزلا بهم قتلوهما وأخذوا أموالهما . فلما كان الإسلام وبعث رسول الله خالد بن الوليد سار حتى نزل ذلك الماء،  فلما رآه القوم أخذوا السلاح فقال لهم خالد : ضعوا السلاح فإن الناس قد أسلموا .) هنا رواية قابلة للتصديق ، لأن الرسول بعث خالدا لا للقتال ولكن للدعوة السلمية . ولكنّ هؤلاء القوم كانوا من قبل قد قتلوا عمّ خالد وأبا عبد الرحمن بن عوف . لذا خشوا من ان يوقع بهم خالد فحملوا السلاح ، فطمأنهم  خالد وخدعهم وقال لهم (ضعوا السلاح فإن الناس قد أسلموا .). المشكلة فى أن خالد بن الوليد برغم إسلامه المزعوم كان على جاهليته وغدره بالعهود . تمضى الرواية الأخرى وتحكى عن رجل من أولئك القوم  بنى جذيمة : ( حدثنا ابن حميد قال حدثنا سلمة عن محمد بن إسحاق قال حدثني بعض أهل العلم عن رجل من بني جذيمة قال : لما أمرنا خالد بوضع السلاح قال رجل منا يقال له جحدم : ويلكم يا بني جذيمة إنه خالد .! والله ما بعد وضع السلاح إلا الإسار ثم ما بعد الإسار إلا ضرب الأعناق ، والله لا أضع سلاحي أبدا . قال فأخذه رجال من قومه فقالوا : يا جحدم أتريد أن تسفك دماءنا ؟ إن الناس قد أسلموا ووضعت الحرب وأمن الناس .! فلم يزالوا به حتى نزعوا سلاحه.  ووضع القوم السلاح لقول خالد . فلما وضعوه أمر بهم خالد عند ذلك فكُتّفُوا ، ثم عرضهم على السيف ، فقتل من قتل منهم.  فلما انتهى الخبر إلى رسول الله رفع يديه إلى السماء ثم قال : اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد . ثم دعا علي ابن أبي طالب ...، فقال : يا علي اخرج إلى هؤلاء القوم فانظر في أمرهم واجعل أمر الجاهلية تحت قدميك.  فخرج حتى جاءهم . ومعه مال قد بعثه رسول الله به . فودى لهم الدماء وما أصيب من الأموال حتى إنه ليدي ميلغة الكلب . حتى إذا لم يبق شيء من دم ولا مال إلا وأداه ، بقيت معه بقية من المال، فقال لهم عليّ ..حين فرغ منهم : هل بقي لكم دم أو مال لم يود إليكم ؟ قالوا : لا . قال: فإني أعطيكم هذه البقية من هذا المال احتياطا لرسول الله مما لا يعلم ولا تعلمون.  ففعل . ثم رجع إلى رسول الله فأخبره الخبر ،فقال :  أصبت وأحسنت . ثم قام رسول الله فاستقبل القبلة قائما شاهرا يديه حتى إنه ليرى بياض ما تحت منكبيه ، وهو يقول : اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد ثلاث مرات . )

هذه الرواية تتفق مع القرآن ودعوة الاسلام السلمية ، وتتفق مع وقتها حين دخل الناس فى الاسلام سلميا ، وحين عمّ السلام العرب جميعا قبيل موت النبى عليه السلام . وكان تصرف خالد ( الجاهلى ) ردّة للتشريع القرشى الجاهلى فى هذا الوقت المضىء . وتقول رواية أخرى أن خصومة نشأت بين خالد وعبد الرحمن بن عوف بسبب ما فعله خالد . إذ إحتج عبد الرحمن على خالد ، فبرّر خالد فعلته بأنه أراد الثأر منهم لأنهم قتلوا أب عبد الرحمن بن عوف فقال له عبد الرحمن إنه أراد الثأر لعمّه الفاكه بن المغيرة . تقول الرواية : ( كان بين خالد بن الوليد وبين عبدالرحمن بن عوف فيما بلغني كلام في ذلك ، فقال له : عملت بأمر الجاهلية في الإسلام.!  فقال : إنما ثأرت بأبيك . فقال عبدالرحمن بن عوف : كذبت قد قتلت قاتل أبي ولكنك إنما ثأرت بعمك الفاكه بن المغيرة ...). !

3 ـ بهذا نتعرف على شخصية خالد الذى كان على خيل المشركين يوم الحديبية‏.‏ وعندما دخل فى الاسلام ظاهريا بأوامر من أبى سفيان فقد ظلّ وفيا لثقافته الجاهلية . ونتصوّر أنه بعد جريمته وغدره بأولئك الناس وتبرؤ النبى عليه السلام منه أنه ظل مُبعدا فى حياة النبى . ولكن أشعل أبو سفيان حرب الردّة فاحتاج أبو بكر لمهارة خالد العسكرية ، وطبقا لتخطيط أبى سفيان عاد خالد الى الصفّ الأول بقوة فى خلافة أبى بكر ، فكان أكبر قائد فى قتال المرتدين وفى الفتوحات التى كرّست انتهاك الأشهر الحُرُم .

4 ـ وفى حرب الردة ارتكب خالد جرائم ، منها قتل مالك بن نويرة زعيم بنى تميم  بعد أسره واستسلامه وإعلانه الاسلام ، وزواج خالد بامراة مالك فى نفس الليلة ، ومنها حرق الأسرى تقول الرواية : ( وكانت في بني سليم ردة فبعث ابو بكر رضيالله تعالى عنه خالد بن الوليد فجمع منهم رجالا في حضائر ثم احرقهم بالنار . فجاء عمرالى ابي بكر رضي الله تعالى عنه فقال : انزع رجلا عذّب بعذاب الله ) . ورفض ابو بكر، بل جعله أبو بكر قائدا لأكبر جيش ووجهه الى قتال مسيلمة الكذّاب . تقول الرواية تبرّر جريمة خالد وتمدحه : ( ثم إن أبا بكر أمّره بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتال المرتدين، منهم‏:‏ مسيلمة الحنفي في اليمامة، وله في قتالهم الأثر العظيم، ومنهم مالك بن نويرة، في بني يربوع من تميم وغيرهم، إلا أن الناس اختلفوا في قتل مالك بن نويرة، فقيل‏:‏ إنه قتل مسلما لظن ظنه خالد به، وكلام سمعه منه، وأنكر عليه أبو قتادة وأقسم أنه لا يقاتل تحت رايته، وأنكر عليه ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه‏.‏ ).  وسنعرض بالتفصيل للعلاقة المعقدة بين خالد وعمر وابى بكر وأبى سفيان ، وكيف انتهت حياة خالد ميتا فجأة بحمص من الشام،  سنة إحدى وعشرين، في خلافة عمر بن الخطاب .

أخيرا :

1 ـ من الملاحظ أن صحابة الفتوحات قد تمتعوا بألقاب التكريم ، بينما حرموا منها ( على بن أبى طالب ) لأنه لم يشارك فى الفتوحات . فأبو بكر لقبه ( الصديق ) وعمر لقبه ( الفاروق ) وعثمان ( ذو النورين ) والزبير بن العوام هو ( حوارىّ رسول الله ) وخالد هو ( سيف الله المسلول ).

2 ـ ولا يمكن أن يلقب النبى عليه السلام خالدا بسيف الله المسلول ، لأنّه عليه السلام يستحيل أن يفتئت على الله جل وعلا وينسب له مثل هذا الوصف ، أو أن يجعل من شخص ما صلة برب العزّة تزكّيه طيلة حياته وتجعله معصوما بسيفه مهما قتل من الناس ظلما وعدوانا . لا يمكن أن يجعل النبى من خالد سيفا لله جل وعلا ومسلولا على الناس ، فلقد سلّ خالد سيفه هذا على النبى والمسلمين فى معركة ( أحد ) و ( الأحزاب ) وحتى قبيل دخوله المزعوم فى الاسلام وهو يواجه النبى فى رحلته السلمية للحج ليمنعه من دخول مكة . ثم سلّ خالد سيفه يقتل الأسرى فى حرب الردة ، ثم قتل بسيفه مباشرة وبطريق غير مباشر  عشرات الألوف من جنود ومواطنى البلاد المفتوحة . خالد ليس سيف الله المسلول . خالد هو سيف أبى سفيان المسلول . لذا ، لم ننته من خالد بعدُ ، فسنصاحبه فى غزواته ونزواته ، وكيف كان خالد محور خلاف بين عمر وأبى بكر . والسبب أن ( عمر بن الخطاب ) كان أكبر عميل سرّى لأبى سفيان ..

4 ـ انتظرونا .!

  

الباب الثالث  : مكر قريش مع صحابة الفتوحات

 

الفصل الأول :  ( عُمر)  العميل الأكبر لأبى سفيان 

مقدمة : أيهما الأعزّ والأقدس الاسلام أم عمر ؟ القرآن أم الروايات السّنية التى تقدس عمر كذبا وإفتراءا . لا زلنا نتلقى السباب واللعنات بسبب مقالنا المنشور فى التسعينيات عن ( المسكوت عنه من تاريخ عمر فى التراث السّنى ) . كان التركيز على (عمر ) فى خلافته . وهنا نكشف المسكوت عنه فى عمر قبل خلافته أساسا . ونثبت فى ضوء القرآن الكريم ومن التراث السّنى نفسه أن عمر كان أكبر عميل لأبى سفيان .

أولا : نبدأ بتقرر الحقائق القرآنية الآتية  :

1 ـ  وجود منافقين مردوا على النفاق ، عاشوا عليه وكتموا أمرهم عن النبى فظل مخدوعا بهم حتى مات ، وهم لم يرتكبوا فى حياتهم حول النبى ما يشى أو يشير الى نفاقهم ، وبالتالى لم يكن هناك داع لأن يفضحهم رب العزة ، فلم يرتكبوا ما يستوجب فضحهم . ولكن لأن الله جل وعلا يعمل سريرتهم ويعلم غيب ما سيفعلونه فى المستقبل بعد وفاة النبى عليه السلام فقد أكّد رب العزة أنه سيعذبهم فى المستقبل مرتين فى الدنيا ، ثم بعدها فى اليوم الآخر : ( وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنْ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101) ) ( التوبة ).

2 ـ تناقض الفتوحات مع تشريعات الاسلام .ويترتب على ما سبق أن صحابة الفتوحات قد إرتدوا عن الاسلام طالما أن ما فعلوه باسم الاسلام يناقض الاسلام . هذا بالرغم المكتوب عنهم فى التراث السّنى .!

3 ـ إن من هؤلاء الصحابة من وصفهمرب العزة بأنهم (مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ ). وإن كان النبى لم يعرفهم فى حياته فقد فضحتهم سيرتهم بعد مماته عليه السلام . وبتطبيق ما سبق على سيرة عمر بن الخطاب فى التراث السّنى نراه ضمن الذين  ( مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ ) . وأنه كان من عملاء أبى سفيان ، والدليل أنه كان فى حياة النبى أكبر عدو لأبى سفيان ، ثم أنقلب بعد موته أكبر حليف لأبى سفيان ، ولأنه فى بداية أمره كان أبرز أعداء النبى بل كان على وشك أن يقتل النبى ، ثم فجأة ـ أسلم .. هذا الاسلام المفاجىء تكرر فى سيرة خالد وعمرو . وهو دليل على أنّ أبا سفيان استعمل هؤلاء وغيرهم فى مكر تزول منه الجبال ، نتج عنه تغيير هائل فى تاريخ العالم ، لا تزال آثاره باقية حتى الآن ، وتؤثر فى تاريخ العالم واستراتيجياته حتى الان . ونعنى به الدين السنى وتجلياته الوهابية الارهابية المعاصرة .

4 ـ الروايات عن الصحابة خصوصا الخلفاء مُتخمة بالأكاذيب والمّبالغات ، وبعضها لا يخلو من الصدق ، وبعضها يتداخل فيه الصدق مع الكذب . وتمييز هذا من ذاك يحتاج الى باحث متخصص ليس فقط فى البحث التاريخى فى هذا العصر ولكن أيضا فى تاريخ علم التاريخ ومناهج المؤرخين القدماء ومدارسهم  وتنوع المادة التاريخية ، مع خبرة فى التدبر القرآنى .

5 ـ ونعطى لمحة تخص تاريخ أبى بكر وعمر . فقد كانت هناك لمحات من العدل فى عصرهما ، ولكن عندما تحكّم الأمويون لم تأخذهم فى الباطل لومة لائم ، فصادروا العدل وحرية القول ، وطاردوا من يعترض عليهم بمجرد القول ، وقضوا على حركات المعارضة ، وفى نفس الوقت أنشأوا وظيفة القصص أو ( القصّاصون ) الذين يجلسون فى المساجد يحكون الروايات ليجتذبوا قلوب الناس ، ثم ينشرون أكاذيبهم فى مدح معاوية وبنى أمية ولعن أبى تراب ( على بن أبى طالب ) . وبعد هزيمة القرّاء أو الفقهاء على يد الحجاج فى موقعة دير الجماجم أسرف الحجاج فى قتل من يشتبه فى ولائه ، وكان يقتل بمجرد الظن ، وخصوصا أن الذى عيّنه وهو عبد الملك بن مروان قد هدّد علنا فى المدينة عام 75 بقتل من يقول له: إتّق الله .! وأصبحت مطاردة أصحاب الرأى الحر سياسة أموية دينية إذ تعززت بالجبرية ، التى تجعل ظلم الخليفة قدرا الاهيا محتوما وأن الاعتراض عليه هو اعتراض على قضاء الله وقدره . ورفض هذه المقولة مفكرون أحرار مثل غيلان الدمشقى ، وأطلق عليهم لقب القدرية لأنه قالوا (لا قدر ، وإنما الأمر أنف) أى إن الظلم ليس بقدر الله ولكنه بالقمع والقهر وإرغام الأنوف . وحارب الأمويون ثم العباسيون ( القدرية ) لمقاومتها الظلم ، وسبكوا أحاديث فى لعنهم والتحذير منهم . والتفاصيل فى بحثنا المنشور هنا عن حرية الرأى بين الاسلام والمسلمين .

ولنا سلسلة بحثية لم تكتمل عن ( وعظ السلاطين ) تبين لنا منها أن بعض الوعّاظ بسبب الرهبة من السلطان قاموا ومن خلال القصص بتأليف روايات عن عدل من جعلوهم ( الخلفاء الراشدين ) تمييزا لهم عن الخلفاء ( الظالمين ). أى كان القصص من جانب المعارضة المغلوبة على امرها نوعا من الحرب الفكرية بين الطرفين ، ففقهاء السلطان يسبكون روايات وأحاديث ترفع من شأن الحاكم ، والمعارضة تؤلف القصص عن عدل عمر بن الخطاب وعمر ابن عبد العزيز لتهاجم بطريق غير مباشر ظلم الخلفاء الأمويين والعباسيين .وما لبث أن تمّ تدوين روايات القصاص فى العصر العباسى الأول فى شكل أحاديث نبوية وروايات تاريخية . ولكن لم يتوقف القّصّاص فى عصر التدوين عن أختراعاتهم، ولم يتوقف المؤرخون اللاحقون فى النقل عنهم ، بل كان من الوعّاظ القصّاص من كان مؤرخا مشهورا كابن الجوزى، فكتاباته تعكس هذا التنوع بين التاريخ والقصص وكتب المناقب والوعظ والفقه والحديث . ولهذا نجد تضخما مطردا فى العصر العباسى الثانى فى تلوين شخصية عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز صنعته روايات القصّاصين . وفارق هائل بين المناقب القليلة التى كتبها ابن سعد  فى العصر العباسى الأول عن عمربن الخطاب وعمر بن عبد العزيز وبين المكتوب عنهما فى عصور لاحقة . هذا يستلزم البحث التاريخى . وهذا ما نفعله الآن فى تجلية تاريخ عمر .

 ثانيا  : ابو جهل هو خال عمر بن الخطاب

1 ـ أم عمر بن الخطاب  هى حنتمة بنت هشام ، أخت أبى جهل ‏واسمه ( عمرو بن هشام ).‏ وحاول بعضهم التقليل من خطورة هذا الوضع فزعم أنها حنتمة بنت هاشم ، أى جعلها  بنت عم أبى جهل . ولا يعنينا أن تكون حنتمة أخت أبى جهل أو إبنة عمّه ، ولا يعنينا حتى أن يكون عمر إبنا لأبى جهل نفسه، فالنبى نفسه كان ابن أخ أبى لهب. الذى يعنينا  هل كان عمر عدوا أم صديقا لأبى جهل ؟ وهل كان عمر فى بدايته عدوا أم مُناصرا للنبى عليه السلام ؟

2 ـ وعمر ينتمى الى (بنى عدى) وهم ليسوا فى مكانة بنى هاشم أو بنى أمية أو بنى مخزوم هم فى نفس المستوى المتواضع لبنى تيم ، قبيلة أبى بكر ، لذا كان عمر فخورا بأخواله من بنى مخزوم ، وقد تزوج أم حكيم بنت الحارث بن هشام المخزومية، وأنجب منها ابنته فاطمة. وكان عمر قرينا لخاله أبى جهل فى التطرف فى عداء النبى والاسلام وفى إيذاء المسلمين . لذا تقول الروايات أن النبى كان إذا رأى عمر وأبا جهل كان يدعو الله أن يهدى أحبهما اليه الى الاسلام :( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال اللهم أعز الإسلامبأحب الرجلين إليك بعمر ابن الخطاب أو بأبي جهل بن هشام . قال فكان أحبهما إليه عمر بنالخطاب )، ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى عمر بنالخطاب أو أبا جهل بن هشام قال اللهم اشدد دينك بأحبهما إليك . فشدد دينه بعمر بنالخطاب ) (.. اللهم أيد الإسلام بأحب الرجلينإليك عمر بن الخطاب أو عمرو بن هشام ). وعلى زعمهم فقد كان عمر هو الأحب الى الله فدخل فى الاسلام . المستفاد من هذه الروايات أن عمر كان قرينا لخاله أبى جهل فى التطرّف فى عداء الاسلام . ثم دخل ـ فجأة ـ فى الاسلام .....يا سلام .!!

ثالثا :إسلام عمر المفاجىء

1 ـ شخصية عمر الحازمة الجادة لا يتفق معها أن تكون هوائية عاطفية متقلبة تتحول فجأة من الشىء الى نقيضه . بل المناسب لها ان تكون خُطاها مرسومة ومضبوطة ومنضبطة . وهكذا فإنّ عمر ، لم يتغير موقفه الحقيقى . كان على وشك أن يضحّى بنفسه ويقتل النبى محمدا ، فالتقطه الداهية أبو سفيان ، وحوّل مسار التضحية بأن يدخل فى دين محمد بمظاهرة (إعلامية ) ليكون من أقرب أصحاب محمد اليه ، وليكون فى نفس الوقت عينا عليه.

 2. ـ والروايات عن اسلام عمر تؤكد نفس القصة . يروى ابن سعد فى الطبقات الكبرى تحت عنوان : (إسلام عمر رحمه الله ): (  قال أخبرنا إسحاق بن يوسف الأزرق قال أخبرنا القاسم بن عثمان البصري عن أنس بن مالك.. ) . لو سمحتم : نتوقف مع السّند هنا . فالراوى ليس عمر ، وليس واحدا من الصحابة من قريش ، بل هو ( أنس بن مالك ) الأنصارى ، وهو من أواخر من مات من الصحابة . وحين اسلم عمر فى مكة كان أنس طفلا فى المدينة لا يعلم شيئا عن النبى والاسلام ، فكيف يروى هذه الحكاية وهم لم يشهدها أصلا ؟   . لكن لا مانع من تصديقها ، فربما سمعها من بعض الصحابة المهاجرين . ونتابع ما يقول أنس : (  قال خرج عمر متقلدا السيف ، فلقيه رجل من بني زهرة ،قال : أين تعمد يا عمر ؟ فقال : أريد أنأقتل محمدا .قال : وكيف تأمن في بني هاشم وبني زهرة وقد قتلت محمدا ؟ قال فقال عمر : ماأراك إلا قد صبوت وتركت دينك الذي أنت عليه ؟ قال : أفلا أدلك على العجب يا عمر ؟ إن ختنكوأختك قد صبوا وتركا دينك الذي أنت عليه . ) . أى خرج عمر مصمما على قتل النبى ، وفى الطريق علم ( فجأة ) بأن أخته وزوجها قد أسلما ..يا للهول .!!. عندها تغيّر المسار ، وتوجّه عمر بسيفه الى بيت أخته . وجرى مشهد سينمائى يفوق أفلام حسن الإمام : ( قال : فمشى عمر ذامرا حتى أتاهما ، وعندهما رجلمن المهاجرين يقال له خباب ) قال يعنى أن الراوى لا يعرف الصحابى خباب بن الأرت .!! . بل يصفه بأنه من المهاجرين ، وكان خباب وقتها فى مكة ولم يهاجر هو أو غيره... بعد ..!!( قال فلما سمع خباب حسّ عمر توارى في البيت ، فدخل عليهمافقال : ما هذه الهينمة التي سمعتها عندكم ؟ قال كانوا يقرؤون طه.  فقالا : ما عدا حديثاتحدثناه بيننا. قال : فلعلكما قد صبوتما ؟ قال فقال له ختنه : أرأيت يا عمر إن كان الحق فيغير دينك ؟ قال فوثب عمر على ختنه فوطئه وطأ شديدا ، فجاءت أخته فدفعته عن زوجها ، فنفحهابيده نفحة فدمى وجهها .!! فقالت وهي غضبى : يا عمر إن كان الحق في غير دينك اشهد أن لاإله إلا الله واشهد أن محمدا رسول الله . فلما يئس عمر قال : أعطوني هذا الكتاب الذيعندكم فأقرأه . قال وكان عمر يقرأ الكتب، فقالت أخته : إنك رجس ولا يمسه إلا المطهرون،فقم فاغتسل أو توضأ . قال فقام عمر فتوضأ . ). ملاحظة : فرض الوضوء نزل فى المدينة ( النساء 43 المائدة 6 )وليس فى مكة . وقراءة القرآن لا تستوجب الطهارة ، وقوله جل وعلا :( لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (79)الواقعة ) يعنى أن القرآن لا يمسّ ولا تصل أنواره إلّا للنفوس والقلوب المطهرة من الشرك ، أما القلوب التى عليها غُلف وحجاب فلا يمسها القرآن . نعود الى الرواية  :( ثم أخذ الكتاب فقرأ طه حتى انتهى إلى قولهإنني أنا الله لاإله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري، قال فقال عمر : دلوني على محمد) هنا ظهر خباب المختفى خلف الباب : (  فلما سمع خباب قول عمر خرج من البيت فقال : أبشر يا عمر فإني أرجو أن تكون دعوة رسولالله صلى الله عليه وسلم لك ليلة الخميس اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب أو بعمروبن هشام . ). وتنتقل الكاميرا للشارع وعمر يسير فيه حاملا سيفه (فانطلق عمرحتى أتى الدار)، وتنتقل الكاميرا الى داخل الدار ونرى حمزة مع النبى وبعض الصحابة: ( قال وعلى باب الدار حمزة وطلحة وأناس من أصحاب رسول الله صلى اللهعليه وسلم . فلما رأى حمزة وجل القوم من عمر قال حمزة : نعم فهذا عمر فإن يرد الله بعمرخيرا يسلم ويتبع النبي صلى الله عليه وسلم وإن يرد غير ذلك يكن قتله علينا هينا . ..  قال فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتىعمر فأخذ بمجامع ثوبه وحمائل السيف فقال : أما أنت منتهيا يا عمر حتى ينزل الله بك منالخزي والنكال ما أنزل بالوليد بن المغيرة !. اللهم هذا عمر بن الخطاب. اللهم أعز الدينبعمر بن الخطاب . قال فقال عمر: أشهد أنك رسول الله .فأسلم.!!) . والرواية فى مُجملها صادقة ، ولكن بسبب تداولها عبر السنين لحقها تحريف وتخريف فى بعض تفصيلاتها ، وتؤكد أنّ دخول عمر الاسلام كان بمظاهرة علنية تجعل المسلمين المستضعفين يفرحون باسلامه ، وحتى لا يتشكّك أحد فى هذا التحوّل المفاجىء والخطير .

3 ـ هو بلا شك ( فيلم مبهر ) نرى الأبطال فيه ، ولا نرى المخرج . المخرج هو أبو سفيان . كان هناك توزيع للأدوار . أبو جهل هو للعداء السافر الفظّ الغليظ ، وكان معه ابن أخته عمر ابن الخطاب الذى لا يقل عن خاله فظاظة وغلظة . فى الجانب الاخر كان أبو سفيان للمكر والدهاء . وقد رأى تهورا من عمر يجعله على وشك أن يقتل النبى ، ولو حدث فسيضطر بنو عبد مناف ( أى بنوهاشم وبنو امية وعبد شمس ) للثأر من عمر وبنى عدى ، ويكون موقف بنى مخزوم أخوال عمر شائكا ، وتنقسم قريش بسبب تهور عمر . لذا كان التخطيط الأسلم هو أن يدخل عمر الاسلام ليكون عينا لهم على النبى والمسلمين .

رابعا : فرح المسلمين باسلام عمر

1 ـ ولأنّ عمر مشهور بعدائه الشديد للاسلام والمسلمين فلا بد من مسرحية مبهرة تجعل المسلمين يبتلعون هذه المكيدة . وهذا ما حدث. وبدلا من الريب والشكوك حلّ الفرح والسرور . وسمحت قريش للمستضعفين بالتعبير عن فرحهم باسلام عمر والتشفى فى قريش .!!

2 ـ تقول الروايات فى الطبقات الكبرى لابن سعد ( سمعت عبد الله بن مسعود يقول : ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر) ( قال محمد بن عبيد في حديثه:  لقد رأيتنا وما نستطيع أن نصلي بالبيت حتى أسلم عمر.فلما أسلم عمر قاتلهم حتىتركونا نصلي)أى إن عمر قاتل المشركين وهزمهم ( فى معركة وهمية تمثيلية طبعا ) حتى سمحوا للمسلمين بالصلاة فى البيت الحرام .. عظيم هذا المكر السفيانى .!!. 

3 ـ وانتهزها أبو سفيان فرصة فأدخل عملاء جددا له زعموا الاسلام وزرعهم بين المسلمين فى هذه الهوجة . تقول الرواية : ( ..فما هو إلاأن أسلم عمر فظهر الإسلام بمكة).أى ظهر الاسلام بمكة بعد إسلام عمر. وهذا هو الذى سمح به أبوسفيان ورضى به أبو جهل ..

4 ـ بل رضيت قريش بأكثر من ذلك ، تقول الرواية : (.. عن صهيب بن سنان قال لما أسلم عمر ظهر الإسلام، ودُعي إليه علانية . وجلسنا حول البيت حلقا ، وطفنا بالبيت . وانتصفنا ممن غلظ علينا، ورددنا عليه بعض ما يأتي به ). !! هل كل هذا بسبب عمر؟ أم إنّ إسلام عمر هو فى الأصل مكيدة قرشية ، آثرت معها قريش أن تُحنى رأسها لتنجح المكيدة ؟ .

4 ـ وانتهزالقصّاصون الفرصة فإخترعوا هوجة أخرى فى السماء، فزعموا أن أهل السماء حين وصلتهم الأنباء(عن طريق السى إن إن) باسلام عمر (انبسطوا وزقططوا ). تقول الرواية: ( أخبرنا محمد بن عمر قال حدثني إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة عن داود بن الحصينقال وحدثني معمر عن الزهري قالا : أسلم عمر بن الخطاب بعد أن دخل رسول الله صلى اللهعليه وسلم دار الأرقم ،وبعد أربعين أو نيف وأربعين بين رجال ونساء قد أسلموا قبله. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بالأمس اللهم أيد الإسلام بأحب الرجلينإليك عمر بن الخطاب أو عمرو بن هشام . فلما أسلم عمر نزل جبريل فقال يا محمد لقداستبشر أهل السماء بإسلام عمر ). آه يا بقر.!!

5 ـ وكما أسلم فى ( زفة ) و ( موكب )  و (بالطبل البلدى )، فقد هاجر علنا ومتحديا لقريش ، فالرواية المشهورة تقول إنه  عندما خرج من مكة مهاجرا ، طاف بالبيت ، ثم اتجه لزعماء قريش ، فأعلن لهم عزمه على الهجرة ، وهددهم بأن من يريد أن تثكله أمه وأن يتيتم ولده فليلقه خلف الوادى.! وطبعا ارتعب زعماء قريش ، وربما حدث لبعضهم تبول لا إرادى.!

6 ـ وهناك رواية اخرى تضيف أن عمر قد صحبه فى رحلة الهجرة إثنان سرا، ربما ليحتميا به ، ولحقا به فى الطريق، وهما عياش بن أبى ربيعة وهشام بن العاص بن وائل ، ووصلوا الى قباء ونزلوا فيها ..(.. حتى أتينا قباء فنزلنا على رفاعة بن عبد المنذر ، فقدم علىعياش بن أبي ربيعة أخواه لأمه أبو جهل والحارث ابنا هشام بن المغيرة . وأمهم أسماءابنة مخربة من بني تميم . والنبي صلى الله عليه وسلم بعد بمكة لم يخرج ، فأسرعا السيرفنزلا معنا بقباء . فقالا لعياش : إن أمك قد نذرت ألا يظلها ظل ولا يمس رأسها دهن حتىتراك . قال عمر : فقلت لعياش : والله إن يرداك إلا عن دينك فاحذر على دينك .! قال عياش : فإنلي بمكة مالا لعلي آخذه فيكون لنا قوة وأبر قسم أمي . فخرج معهما ، فلما كانوا بضجناننزل عن راحلته ، فنزلا معه ، فأوثقاه رباطا ، حتى دخلا به مكة ، فقالا : كذا يا أهل مكةفافعلوا بسفهائكم . ثم حبسوه ). هنا يهاجر رجلان مع عمر سرا ، أحدهما وهو عياش هو أخ من الأم لأبى جهل والحارث . وأبوجهل وأخوه يتعقبانهم فى هجرتهم السرية ، ثم يخدعان عياش ، ويعودان به الى مكة ، بينما يتركان عمر ، وهو كما نعرف ابن اختهما . فمن أخبر أبا جهل بموعد ومسار الرحلة ؟ ولماذا حرص ابوجهل على استعادة أخيه من الأم (عياش ) وترك ابن أخته عمر ؟ وما هى مصلحة أبى جهل فى ترك عمر يهاجر الى المدينة وعدم ترك أخيه يهاجر ، والمفهوم أن عياش إحتمى بعمر وهاجر سرا معه ؟! فمن الذى وشى بعياش ؟ 

7 ـ قبل أن نغادر هذه النقطة ، نقرّر أن عمر وثّق علاقته سريعا بأبى بكر الذى كان صاحبا للنبى ، ومن أوائل من أسلم ، وظلت صداقتهما مستمرة ، وارتبط كل منهما بالآخر . وقد قالوا  أن النبى حين هاجر آخى بين أبى بكر وعمر، وبعدها قام عمر بتزويج النبى من ابنته حفصة،  فأسّس له مكانة قريبة من النبى عليه السلام وبين ( كبار الصحابة ). ولم يكتف بهذا بل حافظ عمر على شخصيته المتطرفة ولكن فى الايمان، وبطريقة كان يزايد فيها أحيانا ليس على أبى بكر فقط بل على النبى نفسه . وهذا مفهوم ممّن يقوم باستزراع نفسه جاسوسا بجوار النبى.   

خامسا :علاقة عمر بأبى سفيان فى حياة النبى

1 ـ  كانت شبكة الجواسيس التى كوّنها ابو سفيان تحيط بالنبى وفى تواصل مستمر بأبى سفيان . ولا تسعفنا الروايات التاريخية بما يشفى الغليل الذى يفسّر هذا الانقلاب الذى حدث فجأة بموت النبى عليه السلام وأصبح  به أبو سفيان يقود المسلمين من خلف ستار ، ثم أسس ابنه أول ملكية وراثية فى تاريخ المسلمين ، وأكبر امبراطورية عربية فى التاريخ . نحن نرى النتيجة ساطعة مذهلة ، ولكن لا نرى من المقدمات سوى النُّذر اليسير .

2 ـ  وبرغم ما فيها من خلط ـ فإنّ فى السيرة المكتوبة ما يتفق مع القرآن الكريم ، ومنه أنه كان هناك جواسيس حول النبى ، يبعثون لأبى سفيان بالأخبار الحربية الهامة ، ومنها مثلا أن أبا سفيان وهو يقود القافلة جاءته أنباء بأن النبى مع أصحابه ينتظرونه عند بدر ، فأسرع بتغيير طريقه . فمن الذى أخبر أبا سفيان مقدما وحدّد له موقع النبى ؟ . كان مع النبى وقتها أبو بكر وعمر وعلى وجماعة من المهاجرين والأنصار. ولا نتصور أن يكون الخائن من الأنصار ، ولا بد أن يكون من المهاجرين . لا نستطيع الجزم بأنه كان عمر ، ولكن نؤمن بأنه كانت هناك خيانة وأن الخائن من بين المهاجرين ، لأن الله جل وعلا قال بعد موقعة بدر يحذّر : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27)، وتأتى إشارة الى العامل الاقتصادى والقرابة فى الاية التالية ( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)، ولأن الخطاب موجّه للمهاجرين فإن الله جل وعلا يذكّرهم فى البداية فيقول (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)( الانفال ).

3 ـ وقبيل فتح مكة نقض نفر من قريش العهد مع النبى . وحسبما تذكره السيرة فقد بدأت تحركات فى المدينة سرعان ما عرف بها أبوسفيان فأقبل الى المدينة يستوثق منها بنفسه . وقابل النبى كى يجدّد العهد فرفض النبى وتكلم أبو سفيان مع أبى بكر فرفض أن يساعده ، وتكلم مع عمر ، وحسب ما تقوله السيرة فإنّ عمر أغلظ لأبى سفيان وقال له مستنكرا : أنا أشفع لكم إلى رسول الله فوالله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم .!. أما ( على ) فقد كان ليّنا مع ابى سفيان وخاطبه بأنه ( سيد كنانة ) أى سيد قريش . رجع ابو سفيان فقال لقريش نتائج مباحثاته   :( جئت محمدا فكلمته ، فوالله ما رد علي شيئا . ثم جئت ابن أبي قحافة فلم أجد عنده خيرا ، ثم جئت ابن الخطاب فوجدته أعدى القوم، ثم جئت علي بن أبي طالب فوجدته ألين القوم ..). وأخفى النبى تحركاته الحربية عن قريش وهو متوجّه لفتحها ، ومع ذلك ، فقد وصل الخبر الى أبى سفيان ، فأسرع يتحسّس الأخبار ، والتقى بالجيش فى الطريق ( فمن أعلمه بسير الجيش )، وقابل أبو سفيان صديقه العباس عم النبى، وكان العباس يركب بغلة النبى فأركبه العباس معه ليستأمن له النبى ، يقول ابن عباس راويا عن أبيه العباس : ( فخرجت به أركض بغلة رسول الله نحو رسول الله ، فكلما مررت بنار من نيران المسلمين ونظروا إليّ قالوا :عم رسول الله على بغلة رسول الله ، حتى مررت بنار عمر بن الخطاب ، فقال لأبى سفيان : الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد . ثم اشتد نحو النبي ، وركضت البغلة وقد أردفت أبا سفيان حتى اقتحمت على باب القبة وسبقت عمر ..فدخل عمر على رسول الله فقال : يا رسول الله هذا أبو سفيان عدو الله قد أمكن الله منه بغير عهد ولا عقد فدعني أضرب عنقه . فقلت : يا رسول الله إني قد أجرته . ثم جلست إلى رسول الله فأخذت برأسه فقلت : والله لا يناجيه اليوم أحد دوني . فلما أكثر فيه عمر قلت : مهلا يا عمر فوالله ما تصنع هذا إلا لأنه رجل من بني عبد مناف ولو كان من بني عدي بن كعب ما قلت هذا . فقال مهلا يا عباس ، فوالله لإسلامك يوم اسلمت كان أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم ، وذلك لأني أعلم أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله من إسلام الخطاب لو أسلم . فقال رسول الله : اذهب فقد آمناه . ) . هنا نجد عمر يزايد على العباس ، ويطلب من النبى أن يقتل أبا سفيان ، بينما كان العباس حريصا على حياة أبى سفيان وتأمينه . وعمر يعرف أن النبى لا يمكن أن يقتل من يأتيه يطلب الأمان ، فلماذا صمّم عمر على طلب يعلم أنه مرفوض مقدما ؟ ولماذا يزايد عمر على عم النبى  ويتطرّف فى عدائه لأبى سفيان ؟ الأمر واضح ، فلأنه مرد على النفاق يريد أن يؤكّد للنبى إخلاصه. ويكفى قوله ينافق العباس:( فوالله لإسلامك يوم اسلمت كان أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم،وذلك لأني أعلم أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله من إسلام الخطاب لو أسلم ).

4 ـ كان هذا فى حياة النبى . ولو ظل عمر على نفس موقفه من أبى سفيان بعد موت النبى وإنقطاع الوحى نزولا لوقف ضد أبى سفيان كما فعل مع سعد بن عبادة وسعد بن أبى وقاص والزبير وأبى هريرة، ولكن موقفه تناقض، فبمجرد موت النبى عليه السلام وتولية أبى بكر فى إجتماع السقيفة  بمساعدة عمر ـ كان عمر على وشك أن يحرق بيت السيدة فاطمة الزهراء ، وفيه زوجها وابناها الطفلان الحسن والحسين ، وبعض  المؤيدين لحق ( علىّ) فى الخلافة . كان هذا بتخطيط أبى سفيان . هنا ظهر  ( عمر ) على حقيقته .

5 ـ انتظرونا..

 

الباب الثالث  : مكر قريش مع صحابة الفتوحات

الفصل الثانى :  ( عُمر)  فى خلافة ابى بكر      

مقدمة : رؤية للتخطيط السفيانى 

كان عمر هو المسيطر على ( أبى بكر ) ، وكان أبوسفيان هو الذى يخطّط لعمر . وبدأ التنفيذ بمجرد موت النبى ، بل وحتى قبل دفن النبى واثناء تجهيز (على ) وآل بيت النبى لدفن النبى . أشعل أبوسفيان حرب الردة ، وشغل بها المسلمين ، وفى ظروف طارئة وعسيرة تمت بيعة أبى بكر فى إجتماع السقيفة ببطولة (عمر )، وظهر أبو سفيان فى مظاهرة يستنكر تولية واحد من أذلّ حى من قريش، ويدعو لتولية (على ) أو العباس ، وبهذا إقتنع أبو بكر برأى ( عمر ) فى تعيين يزيد بن أبى سفيان قائدا ضمن قواد المسلمين فى مواجهة المرتدين ، وهى التى تحولت بتأثير ( عمر / أبى سفيان ) الى فتوحات ، جنى ثمرتها معاوية فيما بعد .  وببيعة السقيفة جرى تهميش الأنصار وحصر الحكم فى قريش ، كما جرى تهميش أهل النبى بإجبار ( على ) على البيعة لأبى بكر ، وتولية أبى بكر تحت نفوذ ( عمر ) ظاهريا ، ونفوذ قريش فى الحقيقة ، والتى يمثلها هنا أبو سفيان . كان أبو بكر مرحلة إنتقالية قصيرة تمهّد لوصول عُمر للخلافة ليعطى نفوذ أبى سفيان مساحة أكبر ، ثم بعده كان تعيين عثمان الأموى فى أواخر أيام أبى سفيان ، وأصبح معاوية أقوى وال فى خلافته ، وبعد التضحية بعثمان حورب ( على ) ليصل معاوية للحكم ، ويتحقق أخيرا حُلم أبى سفيان . نُعطى هنا بعض التفاصيل

أولا : عُمر هو بطل تولية أبى بكر وتهميش الأنصار :

1 ـ أبن الأثير فى تاريخه ( الكامل ) يلخّص تاريخ الطبرى ، وينتقى ما يراه صحيحا منه رواياته ، ويقوم بتجميع بعضها أحيانا فى رواية واحدة . نلتقط منها هذه الرواية الموجزة تحت عنوان ( حديث السقيفة وخلافة أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه ) يقول ابن الأثير : ( لما توفي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة ليبايعوا سعد بن عبادة، فبلغ ذلك أبا بكر فأتاهم ومعه عمر وأبو عبيدة بن الجراح، فقال: ما هذا؟ فقالوا: منا أمير ومنكم أمير. فقال أبو بكر: منا الأمراء ومنكم الوزراء. ثم قال أبو بكر: قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين عمر وأبا عبيدة أمين هذه الأمة. فقال عمر: أيكم يطيبب نفساً أن يخلف قدمين قدمهما النبي صلى الله عليه وسلم؟ فبايعه عمر وبايعه الناس. فقالت الأنصار أو بعض الأنصار: لا نبايع إلا علياً. قال: وتخلف علي وبنو هاشم والزبير وطلحة عن البيعة. وقال الزبير: لا أغمد سيفاً حتى يبايع علي. فقال عمر: خذوا سيفه واضربوا به الحجر، ثم أتاهم عمر فأخذهم للبيعة.). واضح هنا الظهور المفاجىء لعمر كشخصية طاغية ، وهى لا تتفق مع نفاقه السابق لأقارب النبى .

 2 ـ  كانت الحُجة القوية لأبى بكر وعمر فى إجتماع السقيفة أن العرب لا تخضع إلّا لقريش ، أى لا يمكن أن يخضع العرب للأوس والخزرج ، وهم من العرب القحطانية اليمنية . وطالما كانت الحجة هى الهيمنة القرشية فأبو سفيان هو من يمثّلها . تقول رواية عن عمر رواها ابن عباس :( حين توفي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وإن علياً والزبير ومن تخلفوا عنا في بيت فاطمة وتخلفت عنا الأنصار،  واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر، فقلت له: انطلق بنا إلى إخواننا من الأنصار، فانطلقنا نحوهم فلقينا رجلان صالحان من الأنصار، أحدهما عويم بن ساعدة، والثاني معن بن عدي، فقالا لنا: ارجعوا أقضوا أمركم بينكم. قال: فأتينا الأنصار وهم مجتمعون في سقيفة بني ساعدة وبين أظهرهم رجل مزمل، قلت: من هذا؟ قالوا: سعد بن عبادة وجع، فقام رجل منهم فحمد الله وأثنى عليه وقال: أما بعد فنحن الأنصار وكتيبة الإسلام، وأنتم يا معشر قريش رهط بيننا وقد دفت إلينا دافة من قومكم، فإذا هم يريدون أن يغصبونا الأمر. فلما سكت وكنت قد زورت في نفسي مقالة أقولها بين يدي أبي بكر، فلما أردت أن أتكلم قال أبو بكر: على رسلك! فقام فحمد الله وما ترك شيئاً كنت زورت في نفسي إلا جاء به أو بأحسن منه وقال: " يا معشر الأنصار إنكم لا تذكرون فضلاً إلا وأنتم له أهل، وإن العرب لا تعرف هذا الأمر إلا لقريش، هم أوسط العرب داراً ونسباً ..  " .. فلما قضى أبو بكر كلامه قام منهم رجل فقال: أنا جذيلها المحكم وعذيقها المرجب، منا أمير ومنكم أمير. وارتفعت الأصوات واللغط، فلما خفت الاختلاف قلت لأبي بكر: ابسط يدك أبايعك؛ فبسط يده ،  فبايعته وبايعه الناس، ثم نزونا على سعد بن عبادة، فقال قائلهم: قتلتم سعداً. فقلت: قتل الله سعداً..). أى إن أبا بكر هو الذى إحتجّ بهيمنة قريش فى استحقاق المهاجرين للخلافة دون الأنصار . 

3:ـ  عمر يقتل سعد بن عبادة

بعد هزيمته السياسية فى بيعة السقيفة إعتزل سعد بن أبى عبادة الناس ولزم بيته مغاضبا رافضا بيعة أبى بكر . تقول الروايات : ( ثم تحول سعد بن عبادة إلى داره فبقي أياماً، وأرسل إليه ليبايع فإن الناس قد بايعوا، فقال: لا والله حتى أرميكم بما في كنانتي من نبلي، وأخضب سنان رمحي، وأضرب بسيفي، وأقاتلكم بأهل بيتي ومن أطاعني، ولو اجتمع معكم الجن والإنس ما بايعتكم حتى أعرض على ربي.)  وصمّم عُمر على أن يجعل أبا بكر يرغمه على البيعة : ( فقال عمر: لا تدعه حتى يبايع. ) وتدخل ابن سعد بن عبادة : ( فقال بشير بن سعد: إنه قد لجّ وأبى ، ولا يبايعكم حتى يقتل، وليس بمقتول حتى يقتل معه أهله وطائفة من عشيرته، فاتركوه ولا يضركم تركه، وإنما هو رجل واحد. فتركوه.) . وآثر سعد بن عبادة السلامة ، ونفى نفسه الى الشام . ولم يتركه عمر هناك فبعث خلفه من قتله . تقول الرواية : ( وأما سعدُ بن عبادة فإنه رحل إلى الشام‏.‏) ( أبو المنذر هشام بن محمد الكلبيّ قال‏:‏ بعث عمرُ رجلاً إلى الشام فقال‏:‏ ادْعه إلى البَيعة واحمل له بكل ما قَدرت عليه فإن أبيَ فاستعن اللّهَ عليه‏.‏ فقَدم الرجل الشام فلقيه بحُوران في حائطٍ فدَعاه إلى البيعة فقال‏:‏ لا أبايع قُرشياً أبداً‏.‏ قال‏:‏ فإني أقاتلك‏.‏ قال‏:‏ وإن قاتلتَني‏!‏ قال‏:‏ أفخارج أنت مما دخلتْ فيه الأمة قال‏:‏ أمّا من البَيعة فأنا خارج‏.‏ فرَماه بسَهم فقتله‏.‏ ) ، ( ميمون بن مِهران عن أبيه قال‏:‏ رُمي سعد بنُ عبادة في حمّام بالشام فقُتل‏.‏) ( سعيد بن أبي عَروبة عن ابن سيرين قال‏:‏ رُمي سعد بن عُبادة بسهم فوُجد دفينا في جسده‏.‏ ) . وزعموا أن الجنّ هى التى قتلت سعد بن أبى عبادة ، وأنها قالت فى ذلك شعرا : ( فمات ، فبكته الجنّ ، فقالت‏:‏

وقَتلنا سيّد الخَزْ رج سعدَ بن عُبادة  ورَميناه بسهمي  فلم نُخْطِىء فُؤاده

ثانيا : عمر وتهميش (على ) والهاشميين

1 ـ هناك  رواية أخرى فى الطبرى لآبى عمرة الأنصارى عن بيعة السقيفة تؤكد أنّ عمر هو الذى إحتجّ على الأنصار بهيمنة قريش : ( لما قبض النبي، صلى الله عليه وسلم، اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة وأخرجوا سعد بن عبادة ليولوه الأمر، وكان مريضاً، فقال بعد أن حمد الله: " يا معشر الأنصار، لكم سابقة في الدين وفضيلة في الإسلام ليست لأحد من العرب، إن محمداً، صلى الله عليه وسلم، لبث في قومه بضع عشرة سنة يدعوهم إلى عبادة الرحمن وخلع الأنداد والأوثان فما آمن به إلا القليل، ما كانوا يقدرون على منعه ولا على إعزاز دينه ولا على دفع ضيم، حتى إذا أراد بكم الفضيلة ساق إليكم الكرامة ورزقكم الإيمان به وبرسوله والمنع له ولأصحابه والإعزاز له ولدينه والجهاد لأعدائه ، فكنتم أشد الناس على عدوه حتى استقامت العرب لأمر الله طوعاً وكرهاً وأعطى البعيد المقادة صاغراً فدانت لرسوله بأسيافكم العرب، وتوفاه الله وهو عنكم راضٍ وبكم قرير العين. استبدوا بهذا الأمر دون الناس، فإنه لكم دونهم.". فأجابوا بأجمعهم: أن قد وفقت وأصبت الرأي ونحن نوليك هذا الأمر فإنك مقنعٌ ورضاً للمؤمنين . ثم إنهم ترادوا الكلام فقالوا: وإن أبى المهاجرون من قريش وقالوا نحن المهاجرون وأصحابه الأولون وعشيرته وأولياؤه! فقالت طائفة منهم: فإنا نقول منا أمير ومنكم أمير ولن نرضى بدون هذا أبداً. فقال سعد: هذا أول الوهن. ) وتمضى الرواية وتذكر حضور أبى بكر وعمر وأبى عبيدة ، وخطبة أبى بكر اللينة وقوله للأنصار: ( " فنحن الأمراء وأنتم الوزراء، لا تفاوتون بمشورة ولا تقضي دونكم الأمور." . فقام حباب بن المنذر بن الجموح فقال: يا معشر الأنصار املكوا عليكم أمركم فإن الناس في ظلكم ولن يجترىء مجترىء على خلافكم ولا يصدروا إلا عن رأيكم، أنتم أهل العز وأولو العدد والمنعة وذوو البأس والنجدة، وإنما ينظر الناس ما تصنعون، ولا تختلفوا فيفسد عليكم أمركم، أبى هؤلاء إلا ما سمعتم، فمنا أمير ومنكم أمير.) هنا إنبرى له عمر يؤكّد حق المهاجرين بهيمنة قريش : ( فقال عمر: هيهات لا يجتمع اثنان في قرن! والله لا ترضى العرب أن تؤمركم ونبينا من غيركم، ولا تمتنع العرب أن تولي أمرها من كانت النبوة فيهم، ولنا بذلك الحجة الظاهرة، من ينازعنا سلطان محمد ونحن أولياؤه وعشيرته! فقال الحباب بن المنذر: يا معشر الأنصار املكوا على أيديكم ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر، فإن أبوا عليكم ما سألتموه فأجلوهم عن هذه البلاد وتولوا عليهم هذه الأمور، فأنتم والله أحق بهذا الأمر منهم، فإنه بأسيافكم دان الناس لهذا الدين، أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب! أنا أبو شبل في عرينة الأسد، والله لئن شئتم لنعيدنها جذعةً.فقال عمر: إذاً ليقتلك الله! فقال: بل إياك يقتل. ) . وانتهى الأمر ببيعة أبى بكر بنفس الحجّة وهى أن النبى من قريش ، وهذا ما قاله أحد زعماء الأنصار : ( فقال أبو عبيدة: يا معشر الأنصار إنكم أول من نصر فلا تكونوا أول من بدل وغير! فقام بشير بن سعد أبو النعمان بن بشير فقال: يا معشر الأنصار إنا والله وإن كنا أولي فضيلة في جهاد المشركين وسابقة في هذا الدين ما أردنا به إلا رضى ربنا وطاعة نبينا والكدح لأنفسنا، فيما ينبغي أن نستطيل على الناس بذلك ولا نبتغي به الدنيا، ألا إن محمداً، صلى الله عليه وسلم، من قريش وقومه أولى به، وايم الله لا يراني الله أنازعهم هذا الأمر، فاتقوا الله ولا تخالفوهم ولا تنازعوهم.) ( فلما كان الغد من بيعة أبي بكر جلس على المنبر وبايعه الناس بيعة عامة . ).

كل هذا وجثمان النبى لم يدفن بعدُ : ( فلما بويع أبو بكر أقبل الناس على جهاز رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ودفن يوم الثلاثاء، وقيل: بقي ثلاثة أيام لم يدفن.. وكان الذي يلي غسله علي والعباس والفضل وقثم ابنا العباس ...).!

ثالثا : عمر يهدّد بحرق بيت (علي ) والسيدة فاطمة الزهراء :

1 ـ قال عمر فى أحقية المهاجرين دون الأنصار : (هيهات لا يجتمع اثنان في قرن! والله لا ترضى العرب أن تؤمركم ونبينا من غيركم، ولا تمتنع العرب أن تولي أمرها من كانت النبوة فيهم، ولنا بذلك الحجة الظاهرة، من ينازعنا سلطان محمد ونحن أولياؤه وعشيرته!  ). أى لم يحتج فقط بهيمنة قريش ولكنّ إحتجّ بالأهم ، وهو أن النبى من قريش ، فقال : ( ولا تمتنع العرب أن تولي أمرها من كانت النبوة فيهم، ولنا بذلك الحجة الظاهرة، من ينازعنا سلطان محمد ونحن أولياؤه وعشيرته! ). وبالتالى فعلى كلامه فإن الأحق بالخلافة هو ( على ) وليس أبا بكر .! . ولأنّ عليا هو الأحق بالخلافة ـ حسب كلامه ـ ولأن عليا رفض البيعة لأبى بكر وأيده جماعة من المهاجرين إعتصموا مع ( على ) فى بيته ، كان لا بد لعمر أن يتطرّف فى تهديدهم حتى يبايعوا أبا بكر. تقول إحدى الروايات : ( بقي علي وبنو هاشم والزبير ستة أشهر لم يبايعوا أبا بكر حتى ماتت فاطمة، رضي الله عنها، فبايعوه.). وهناك روايات أخرى مختلفة فى المدة التى ظل فيها (على ) رافضا لبيعة أبى بكر . ولكن أغلب الروايات وأصدقها تؤكّد رفض (على ) مبايعة أبى بكر ، وأنه إضطر لذلك خوفا من عُمر .

2 ـ ويذكر الطبرى رواية عن تهديد عمر بحرق بيت ( على )  : ( أتى عمر بن الخطاب منزل علي وفيه طلحة والزبير ورجال من المهاجرين فقال : والله لأحرقن عليكم أو لتخرجن إلى البيعة . فخرج عليه الزبير مصلتا السيف فعثر، فسقط السيف من يده، فوثبوا عليه فأخذوه. ). وفى تاريخ الطبرى رواية عن ندم أبى بكر عن أشياء ، منها ( ..  فوددت أني لم أكشف بيت فاطمة عن شيء وإن كانوا قد غلقوه على الحرب ) .! 

3 ـ وبجانب الطبرى تواترت الروايات فى التراث السّنى تؤكد أن عمر كان على وشك أن يحرق بيت السيدة فاطمة الزهراء ، مع إختلاف فى التفاصيل . يروى البلاذرى فى ( أنساب الأشراف ): ( إنّ أبا بكر أرسل إلى علي يريد بيعته، فلم يبايع ، فجاء عمر ومعه فتيلة، فتلقّته فاطمة على الباب  فقالت فاطمة: يا ابن الخطاب ! أتراك محرقاً عليّ بابي؟ قال : نعم ، وذلك أقوى ممّا جاء به أبوك.). وذكر ابن قتيبة  فى تاريخه (الامامة والسياسة ) أن عمر جمع حطبا ليحرق بيت (على ) لأن عليا تخلف عن بيعة أبى بكر ، فقيل له : إن فيها فاطمة . فقال : وإن .!). ويروى أبو الفدا فى ( المختصر فى أخبار البشر )  : ( فأقبل عمر بشيء من نار على أن يضرم الدار، فلقيته فاطمة رضي الله عنها، وقالت: إلى أين يا ابن الخطاب، أجئت لتحرق دارنا ؟  قال : نعم، أو تدخلوا فيما دخلت به الأمة ).. ويذكر الشهر ستاني في الملل والنحل :(وكان عمر يصيح:  أحرقوا دارها بمن فيها! . وما كان في الدار غير علي وفاطمة والحسن والحسين ).

رابعا : متى بايع (على ) أبا بكر ؟

1 ـ وهناك رواية تؤكّد أنّ  (عليا ) ظلّ رافضا لبيعة أبى بكر طيلة حياة زوجته السيدة فاطمة التى كانت تستحوذ على تعاطف الناس . وبموتها قلّ تعاطفهم مع ( على ) ، لذا إضطر ( على ) أن يبايع أبا بكر .

2 ـ يقول الطبرى : ( وكان لعلي وجه من الناس فى حياة فاطمة . فلما توفيت فاطمة انصرفت وجوه الناس عن علي . فمكثت فاطمة ستة أشهر بعد رسول الله ثم توفيت. ..)   ( .. فلما رأى علي انصراف وجوه الناس عنه ضرع إلى مصالحة أبي بكر ، فارسل إلى أبي بكر أن إئتنا ولا يأتنا معك أحد . وكره أن يأتيه عمر لما علم من شدة عمر . فقال عمر : لا تأتهم وحدك . قال أبو بكر : والله لآتينهم وحدي وما عسى أن يصنعوا بي ؟ قال فانطلق أبو بكر فدخل على علي ، وقد جمع بني هاشم عنده . فقام علي فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال أما بعد فإنه لم يمنعنا من أن نبايعك يا أبا بكر إنكار لفضيلتك ولا نفاسة عليك بخير ساقه الله إليك ولكنا كنا نرى أن لنا في هذا الأمر حقا فاستبددتم به علينا . ثم ذكر قرابته من رسول الله وحقهم . فلم يزل علي يقول ذلك حتى بكى أبو بكر . فلما صمت علي ، تشهّد أبو بكر ، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال : أما بعد فوالله لقرابة رسول الله أحب إلي من قرابتي ، وإني والله ما ألوت في هذه الأموال التي كانت بيني وبينكم غير الخير ، ولكني سمعت رسول الله يقول : لا نورث ما تركنا فهو صدقة إنما يأكل آل محمد في هذا المال . وإني أعوذ بالله لا أذكر أمرا صنعه محمد رسول الله إلا صنعته فيه إن شاء الله . ثم قال علي : موعدك العشية للبيعة . فلما صلى ابو بكر الظهر أقبل على الناس ثم عذر عليا ببعض ما اعتذر ، ثم قام علي فعظّم من حق أبي بكر وذكر فضيلته وسابقته . ثم مضى إلى أبي بكر فبايعه قالت فأقبل الناس إلى علي فقالوا : أصبت وأحسنت . ) . أى تمّ الصلح بين أبى بكر و( على ) فى غياب عُمر .

خامسا : حرمان السيدة فاطمة من ميراثها من أبيها :

1 ـ فى الرواية السابقة إعتذار أبى بكر عن منع السيدة فاطمة من أخذ ميراثها : (وإني والله ما ألوت في هذه الأموال التي كانت بيني وبينكم غير الخير ، ولكني سمعت رسول الله يقول : لا نورث ما تركنا فهو صدقة إنما يأكل آل محمد في هذا المال . وإني أعوذ بالله لا أذكر أمرا صنعه محمد رسول الله إلا صنعته فيه إن شاء الله .  )

2 ـ وفى تاريخ الطبرى رواية أخرى عن السيدة عائشة تقول ( أن فاطمة والعباس أتيا أبا بكر يطلبان ميراثهما من رسول الله وهما حينئذ يطلبان أرضه من فدك وسهمه من خيبر . فقال لهما أبو بكر :" أما إني سمعت رسول الله يقول : لا نورث ما تركنا فهو صدقة ، إنما يأكل آل محمد في هذا المال وإني والله لا أدع أمرا رأيت رسول الله يصنعه إلا صنعته . " قالت  فهجرته فاطمة فلم تكلمه في ذلك حتى ماتت فدفنها علي ليلا ولم يؤذن بها أبا بكر . ). وحديث أبى بكر الذى نسبه للنبى  ( لا نورث ما تركنا فهو صدقة   ) هو حديث كاذب . ليس فى القرآن منع لتوريث تركة النبى . فمن حق ورثته أن يرثوا تركته ، وهما عمه العباس ، وابنته فاطمة .

3 ـ أى تم تهميش بنى هاشم مع بداية تولى أبى بكر ، ليس فقط لتأكيد خلافة أبى بكر ، ولكن أيضا ليتسع المجال لعّمر أن يستحوذ على النفوذ فى دولة أبى بكر ، توطئة لأن يرث الخلافة من بعده . فقريش تعرف أنه لو جاءت الخلافة بعد النبى لبنى هاشم فلن تخرج منهم ، وبالتالى سيضيع أمل أبى سفيان . لذا كان لا بد من تداولها بعيدا عن ( على ) لتصل فى النهاية لبنى أمية ، وهم الذين يمثلون الهيمنة القرشية . كانت خلافة أبى بكر مجرد قنطرة يصل بها عّمر للخلافة .

سادسا :  عّمر كان هو الحاكم الفعلى فى خلافة أبى بكر ، وكان المستفيد أبا سفيان

1 ـ لأنّ عُمر هو الذى قام بتعيين أبى بكر ، ومن أجله ارتكب ما ارتكبه ضد (على وفاطمة والهاشميين ) والأنصار وسعد بن عباده ، فقد أصبح النفوذ كله فى يد عّمر ، فهو المستشار  صاحب الأمر والنهى . وفى حرب الردّة توسّط طلحة بن عبيد الله الصحابى المشهور وقريب أبى بكر بين أبى بكر والزبرقان والأقرع بن حابس ، وعقدا صلحا ، واشترط الزبرقان والأقرع أن يشهد عُمر على العقد . وبعد توقيع أبى بكر وطلحة والجميع ، رفض عّمر ومزّق الكتاب . جاء فى ( العقد الفريد ) لابن عبد ربه عن حرب الردّة : (وخرج الزبرقان والأقرع إلى أبي بكر وقالا :" اجعل لنا خراج البحرين ونضمن لك ألا يرجع من قومنا أحد." ففعل وكتب الكتاب . وكان الذي يختلف بينهم طلحة بن عبيدالله . وأشهدوا شهودا منهم عمر . فلما أتي عمر بالكتاب فنظر فيه لم يشهد . ثم قال لا والله ولا كرامة . ثم مزق الكتاب ومحاه . فغضب طلحة فأتى أبا بكر فقال : أأنت الأمير أم عمر ؟ فقال : "عمر ، غير أن الطاعة لي ".! فسكت .! ) .

2 ـ عُمر هنا هو المسيطر على أبى بكر ظاهريا . لأن هذه السيطرة كانت لصالح أبى سفيان . ومن البداية هو تخطيط أبى سفيان ، وعمر مجرد منفّذ . وهنا نسترجع ما قلناه من قبل عن مظاهرة أبى سفيان وتهديده لأبى بكر بأن الخلافة هى حق لبنى هاشم ولا ينبغى أن تكون فى بنى تيم أقل حىّ فى قريش . ننقل الخبر من ( العقد الفريد ) : ( ُتوفي رسولُ اللهّ صلى الله عليه وسلم وأبو سفيان غائب في مَسعاة أخرجه فيها رسولُ اللهّ صلى الله عليه وسلم . فلما انصرف لقي رجلاً في بعض طرق مُقبلاً من المدينة فقال له مات محمد ؟ قال‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ فمن قام مَقامه قال‏:‏ بكر‏.‏ قال أبو سفيان‏:‏ فما فعل المُستضعفان عليّ والعبّاس قال‏:‏ جالسين‏.‏ قال‏:‏ أما واللهّ لئن بقِيت لهما لأرفعنّ من أعقابهما ثم قال‏:‏ إني أرى غَيرةً لا يُطفئها إلا دم‏.‏ فلما قدم المدينةَ جعل يطوف في أزقّتها ويقول‏:‏

بني هاشم لا تَطمع الناسُ فيكم ولا سيما تَيمُ بن مُرة أو عَدِي

فما الأمرُ إلا فيكمُ وإليكمُ         وليس لها إلا أبو حَسن عَلى ).

الجديد هنا أن عُمر هو الذى أشار على أبى بكر برشوة أبى سفيان لتفادى غضب أبى سفيان . تقول الرواية : ( فقال عمر لأبي بكر‏:‏ " إنّ هذا قد قَدم وهو فاعل شرًّا، وقد كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يستألفه على الإسلام . فدَع له ما بيده من الصَّدقة . " فَفَعل‏.‏ فرضي أبو سفيان وبايعه‏.‏). وبعدها كان تعيين يزيد بن أبى سفيان رشوة أخرى . لم يقم عمر بتهديد أبى سفيان بالحرق كما فعل مع السيدة فاطمة الزهراء.!

أخيرا

1 ـ لأن عمر ( مرد على النفاق ) فإننا نرى إنقلابا هائلا فى شخصيته بعد موت النبى . كان متطرفا فى نفاق النبى وبنى هاشم ومتطرفا فى العداء لأبى سفيان ، فأصبح بعد موت النبى متطرفا فى العداء لبنى هاشم وصديقا لأبى سفيان . ومسيطرا على الخليفة أبى بكر .

2 ـ وعندما حاول أبو بكر التمرّد عليه وعلى أبى سفيان بادر عّمر بقتل أبى بكر..

 الباب الثالث  :   مكر قريش مع صحابة الفتوحات

الفصل الثالث   :  ( عُمر)  هو قاتل أبى بكر

أولا : موت أبى بكر المفاجىء والغامض :

1 ـ كل الروايات عن موت أبى بكر تؤكّد  أنه مات مسموما ، أو إنه إغتسل فى يوم بارد فأصابته الحمى فمات . وأنه فى مرضه كان عمر يصلّى بالناس بدلا منه ، فى إشارة الى أنه الذى سيخلفه . كما لازمه فى مرضه عثمان   .

2 ـ ونعطى نموذجا من الروايات . يروى ابن سعد ( عن بن شهاب أن أبا بكر والحارث بن كلدة كانا يأكلانحريرة أهديت لأبي بكر ، فقال الحارث لأبي بكر : ارفع يدك يا خليفة رسول الله ، والله إن فيها لسم سنة وأنا وأنت نموت في يوم واحد . قال فرفع يده . فلم يزالا عليلين حتى ماتا في يوم واحد عند انقضاء السنة .)،( توفي أبو بكر وهو ابن ثلاث وستين سنة في جمادىالآخرة يوم الاثنين لثمان بقين منه . قالوا وكان سبب وفاته أن اليهود سمته في أرزة ويقال في جذيذة ، وتناول معه الحارث بن كلدة منها ثم كف ، وقال لأبي بكر : أكلت طعاما مسموما سم سنة ، فمات بعد سنة . ومرض خمسة عشر يوما. ) ،ويقول إبن الأثير ( وكان قد سمه اليهود في أرز، وقيل في حريرة، وهي الحسو، فأكل هو والحارث بن كلدة، فكف الحارث وقال لأبي بكر: أكلنا طعاماً مسموماً سم سنة، فماتا بعد سنة. وقيل: إنه اغتسل وكان يوماً بارداً فحم خمسة عشر يوماً لا يخرج إلى صلاة ، فأمر عمر أن يصلي بالناس. ) ويقول ابن الجوزى فى المنتظم : ( في سبب موته قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ أن اليهود سمته في حريرة أكل منها هو والحارث بن كلدة فأخذ منها الحارث لقمة ثم قال‏:‏ كف فقد أكلت طعامًا مسمومًا سم سنة فماتا جميعًا للسنة يوم مات أبو بكر‏.‏ وروى ابن سعد عن عبد العزيز بن عبد اللهّ الأويسي عن الليث بن سعد عن عقيل عن ابن شهاب‏:‏ أن أبا بكر والحارث بن كلدة كانا يأكلان حريرة أهديت لأبي بكر فقال الحارث‏:‏ ارفع يدك يا خليفة رسول اللّه واللهّ إن فيها لسم سنة وأنا وأنت نموت في يوم واحد‏.‏ فلم يزالا عليلين حتى ماتا في يوم واحد عند انتهاء السنة‏.‏ والقول الثاني‏:‏ ذكره الواقدي عن أشياخه‏:‏ أن أبا بكر رضي اللّه عنه اغتسل في يوم بارد فَحُمّ خمسة عشر يومًا فكان لا يخرج إلى الصلاة وأمر عمر أن يصلي بالناس وكان عثمان الزمهم له في مرضه‏.‏) .

ثانيا : إغتيال أبى بكر بالسّم

1 ـ فى البداية ، لا نعتقد أن موت أبى بكر بسبب أنه إغتسل فى يوم بارد فأصابته الحمى فمات. هذا لا يتفق مع تفصيلات دفنه ليلا وبسرعة وبدون جنازة ، بل فى صمت ، حيث منع عمر نساء أبى بكر من النواح عليه . لو مات ميتة طبيعية ما استلزم الأمر كل هذه الاستثناءات . ونحن نتحدث عن موت خليفة فجأة وفى ظرف دقيق.  إى إنه إغتيال وليس موتا عاديا .

2 ـ نحن نقول إنّه إغتيال لأبى بكر بالسّم . وهو الاحتمال الثانى الذى جاءت به الروايات . ولكن  أحيانا تكون الرواية صادقة فى مجملها مع إحتوائها على بعض تفصيلات كاذبة . وهذا ينطبق على رواية موت أبى بكر بالسّم . فلا دخل لليهود فى إغتيال أبى بكر بالسّم ، لأنه لم يكن فى حرب معهم ، ولم يكن لهم ثأر عنده ، بل لم يكن لهم وجود أصلا فى المدينة وقتها .  ولو مات فعلا بالسم من يهودى لكان سهلا معرفة من أهدى الطعام المسموم لأبى بكر ومعاقبته . ثم هذا الطبيب الحارث بن كلدة .. كيف يعرف أنه طعام مسموم سوف يقضى عليهما بعد سنة بالضبط ؟ ولو صحّ هذا فسيكون مؤثرا فى قرارت أبى بكر طالما يعرف يحمل فى أحشائه سمّا سيموت منه بعد عام ، ولقد كان وقتها فى خضم حرب الردة ويتجه الى الفتوحات ، فهل يفعل ذلك وهو يعرف أنه مسموم سيقضى عليه السّم خلال عام . ولكن أبا بكر كان يتصرّف خلال العام الأخير من حياته كقائد نشيط ملىء بالطموح وحّب الحياة  . ثم تزعم الرواية أن الطبيب العربى المشهور الحارث بن كلدة قد مات فى نفس اليوم مع أبى بكر متأثرا بهذا الطعام المسموم . وهذا خطأ فادح لأن الحارث بن كلدة عاش حتى أدرك خلافة معاوية . فى كتاب ( عيون الانباء فى طبقات الأطباء ) وهو كتاب متخصص فى تاريخ الأطباء يذكر إبن أصيبعة ، أن الحارث بن كلدة عاش وبقى (أيام رسول اللَّه صلى الله علية وسلم وأيام أبي بكر وعمر وعثمان وعلي بن أبي طالب ومعاوية رضي اللَّه عنهم . وقال له معاوية : ما الطب يا حارث ؟  فقال :  الأزم ، يعني الجوع . )  يعنى لم يمت مع أبى بكر .

ثالثا  : عمر هو قاتل أبى بكر

1 ـ إنّ أبا بكر مات مسموما بمؤامرة ( عمر ) . فقد كان المسيطر على أبى بكر فى خلافته ، ثم كان المستفيد من موته فتولى الحكم بعده . وساعده طلحة وعثمان وعبد الرحمن بن عوف . وقد كانوا مع عمر فى مشهد موت أبى بكر ودفنه ومبايعة عمر بعده . وسنراهم فى مؤامرات تالية .

2 ـ  مات أبو بكر فجأة ، بعد خلافة قصيرة جدا ( 27 شهرا تقريبا ) ، وهى أقصر مدة خلافة بين أقرانه الخلفاء ( الراشدين ) . مات أبو بكر فى حياة أبيه أبى قحافة. مات أبو بكر وقت أن كان فى شدة حيويته وقمّة نشاطه ، يتابع الفتوحات فى العراق والشام ، ويمتلىء فخرا بانتصارات خالد ، ويراسل خالد بن الوليد وبقية القادة بالأوامر . مات فى وقت حاسم ، أثناء معركة اليرموك ، وفى غضون خلاف شديد مع عمر ، الذى كان يلحّ فى عزل خالد . ومع أن أبا بكر إعتاد طاعة عمر فإنّه أصرّ على الاحتفاظ بخالد قائدا ورفض إلحاح عمر بعزله . وكان عزل خالد قضية حياة أو موت بالنسبة لعمر وأبى سفيان ، فتم إغتيال ابى بكر ، وكان أول قرار  لعمر هو عزل خالد واهانته ومصادرة أمواله ومصادرة بيت مال أبى بكر الذى كان يتصرف فيه أبو بكر وحده بعيدا عن عمر .  

رابعا : : عمر يسارع بدفن أبى بكر ليلا وبلا جنازة

1 ـ ولأنها مؤامرة قتل فإن عمر أسرع بدفن الضحية ليلا ،وقبل صباح اليوم التالى ،  ودون جنازة يحضرها الناس ، بل ومنع النواح عليه . والروايات كلها تتفق فى دفن ابى بكر ليلا بمجرد وفاته ، دون أن ينتظر عمر للصباح . ونستعرض بعض الروايات  :

2 ـ عن دفنه ليلا بدون جنازة : يروى ابن سعد ( قال أخبرنا معن بن عيسى قال أخبرنا عبد الله بن المؤمل عن بن أبي مليكة أن أبا بكر دفن ليلا ) ( قال أخبرنا إسماعيل بن إبراهيم قال أخبرنا الوليد بن أبي هشام عن القاسم بن محمد قال دفن أبو بكر ليلا ) ( قال أخبرنا محمد بن ربيعة الكلابي عن كثير بن زيد عن المطلب بن عبد الله بن حنطب أن أبا بكر الصديق دفن ليلا )( أخبرنا محمد بن مصعب القرقساني عن الأوزاعي عن يحيى بن سعيد أن أبا بكر دفن ليلا ) (.. توفي أبو بكر ليلا فدفناه قبل أن نصبح . )

3 ـ وغريب أن يتم دفن شخص ما ليلا فى الظروف العادية . فكيف بخليفة المسلمين ؟ التعجب من الدفن ليلا  ظهر فى هذا التساؤل : ( قال أخبرنا وكيع بن الجراح عن موسى بن علي عن أبيه عن عقبة بن عامر قال سئل أيُقبر الميت ليلا ؟ فقال : قد قُبر أبو بكر بالليل .)

4 ـ (عمر ) هو الذى دفن أبا بكر ليلا : ( قال أخبرنا أبو معاوية الضرير قال أخبرنا بن جريج عن إسماعيل بن محمد بن سعد عن بن السباق أن عمر دفن أبا بكر ليلا ..)( قال أخبرنا مطرف بن عبد الله اليساري قال أخبرنا عبد العزيز بن أبي حازم عن محمد بن عبد الله عن بن شهاب بلغه أن أبا بكر دفن ليلا ، دفنه عمر بن الخطاب )( قال أخبرنا أنس بن عياض عن يونس بن يزيد الأيلي عن بن شهاب أن عمر دفن أبا بكر ليلا  ).

5 ـ و ( عمر ) هو الذى صلّى عليه . يقول ابن الأثير فى ( الكامل ) عن دفن أبى بكر ليلا وصلاة عمر عليه : ( ودفن ليلاً وصلى عليه عمر بن الخطاب في مسجد رسول الله، صلى الله عليه وسلم. )

6 ـ و(عمر) هو الذى أنزله قبره مع آخرين : يروى ابن سعد: ( قال أخبرنا محمد بن عمر قال حدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة عن خالد بن رباح عن المطلببن عبد الله بن حنطب عن بن عمر قال حضرت دفن أبي بكر . فنزل في حفرته عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وطلحة بن عبد الله وعبد الرحمن بن أبي بكر. ). ويقول ابن الأثير فى ( الكامل ): ( ودخل قبره ابنه عبد الرحمن وعمر وعثمان وطلحة،)   

7 ـ وحتى يتم الأمر بهدوء فقد منع عمر السيدة عائشة من النواح على ابيها وهددها بالضرب بالدرة ،   يروى ابن سعد : ( قال أخبرنا عثمان ابن عمر قال أخبرنا يونس بن يزيد عن الزهري عن سعيدبن المسيب قال :  لما توفي أبو بكر أقامت عليه عائشة النوح فبلغ عمر فجاء فنهاهن عن النوح على أبي بكر ، فأبين أن ينتهين فقال لهشام بن الوليد أخرج إلى ابنة أبي قحافة ، فعلاها بالدرة ضربات،  فتفرق النوائح حين سمعن ذلك . ). ( قال أخبرنا محمد بن عمر قال أخبرنا مالك بن أبي الرجال عن أبيه عن عائشة قالت توفي أبو بكر بين المغرب والعشاء فأصبحنا فاجتمع نساء المهاجرين والأنصار وأقاموا النوح وأبو بكر يغسل ويكفن ، فأمر عمر بن الخطاب بالنوّح ففرّقن،  فوالله على ذلك إن كن ليفرقن ويجتمعن ) .  ويذكر ابن الأثير فى ( الكامل ) ( وأقامت عائشة عليه النوح فنهاهن عن البكاء عمر فأبين، فقال لهشام بن الوليد: ادخل فأخرج إلي ابنة أبي قحافة، فأخرج إليه أم فروة ابنة أبي قحافة فعلاها بالدرة ضربات فتفرق النوح حين سمعن ذلك. ) .

رابعا : عمر يسارع بالاستيلاء على بيت مال أبى بكر

 1 ـ فى بحث سابق لنا عن ( أبى بكر ) خدعتنا بعض الروايات عن أمانته المالية ، فأشدنا بأبى بكر ، واتخذناه حجّة ضد المستبد الحرامى فى عصرنا . والبحث منشور هنا ، وسبق نشره فى جريدة الدستور المصرية فى منتتصف التسعينيات . وحين دخلنا فى المقالات البحثية عن ( وعظ السلاطين ) تبين لنأ أن بعض الوعّاظ كان يختلق روايات تمدح أبا بكر وعمر بالعدل والأمانة ليطعن فى الخلفاء فى عصره ، وليعظهم بها إن أمكن . وهو نفس ما فعلته حين استشهدت بهذه الروايات مصدقا لها لآتخذ منها حُجّة على حرامية عصرنا . وأعترف هنا بخطئى فى موضوع أبى بكر بعد أن أعدت قراءة وتمحيص وفحص رواياته  .

2 ـ وتبين الآتى بايجاز : فوجىء أبو بكر والصحابة بالثروات التى وقعت فى أيديهم خلال المعارك الأولى لخالد بن الوليد فى العراق وما نهبه من المدن هناك ، وبعث بالخُمس منه لأبى بكر فى المدينة . كان هذا حدثا هائلا لم يروه من قبل . أبو بكر الذى إعتاد من قبل طاعة ( عمر ) أعطى نفسه حق التحكم فى توزيع هذه الأموال دون مشورة عمر ، وجعل لها مكانا خاصا . ولقد كان خالد بن الوليد هو محور الخلاف بين أبى بكر من ناحية وبين عمر وأبى سفيان من ناحية أخرى ، فمُعظم الغنائم جاءت من انتصاراته ، ومن البلاد الى أسرعت بالتسليم ودفع الجزية خوفا منه . واصبح خالد نجما ساطعا طموحا يهدد خطط أبى سفيان وعمر ، وأصبح بالتالى عنصر قوة لأبى بكر يستطيع به التحرر من سيطرة عمر وأبى سفيان ، وبالتحالف بين ابى بكر وخالد وبالغنائم يقوى أبو بكر فى مواجهة تسلط عمر وأبى سفيان . لذا رفض أبو بكر بكل إصرار عزل خالد ، ومعه كل الحق ، فلا يوجد سبب وجيه لعزل قائد عسكرى منتصر موهوب خصوصا إذا كان هذا العزل وسط معركة حاسمة يقودها هذا القائد . ولكن كل شىء يهون فى سبيل السلطة والثروة ،  ولذا أسرع عمر بقتل أبى بكر بالسّم ، واسرع بعزل خالد ، واسرع فى الاستيلاء على بيت المال ، وزعم أنه ليس فى بيت المال شىء ، وأن أبا بكر أنفقه فى سبيل الله .!! وذرف ( عمر ) دمعة على نزاهة أبى بكر الذى أتعب بأمانته من سيأتى بعده ..!!

3 ـ الروايات المصنوعة فى مناقب أبى بكر منها قول إبراهيم النخعي : ( كان أبو بكر يسمى الأواه لرأفته ورحمته. ). هذا كلام إنفرد به ابراهيم النخعى الذى عاش فى عصر الحجاج بن يوسف ، فهو لم ير أبا بكر . وهو الوحيد الذى قال عن أبى بكر هذا :( كان أبو بكر يسمى الأواه لرأفته ورحمته.  ) .

وهناك رجل مجهول من البصرة ذكر خبرا عن أبى بكر وعمر ، تقول الرواية فى ( الطبقات الكبرى لابن سعد : ( قال أخبرنا محمد بن عبيد قال حدثني وائل بن داود عن رجل من أهل البصرة ) لاحظ أننا لا نعرف هذا الرجل المجهول ، وكل ما نعرفه أنه رجل من البصرة ، ولم تكن البصرة موجودة فى عهد أبى بكر ..ما علينا .. دعنا نكمل الرواية عن هذا الرجل البصرى المجهول :  ( قال : آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أبي بكر وعمر ، فرآهما يوما مقبلين ، فقال : إن هذين لسيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين كهولهم وشبابهم إلا النبيين والمرسلين ) . وفى ضوء هدى القرآن الكريم  فهذه رواية كاذبة ، لأن النبى عليه السلام كان لا يعلم الغيب ، وكان مأمورا أن يعلن أنه ليس بدعا من الرسل وانه لا يدرى ماذا سيجرى له أو لهم فى الدنيا أو الآخرة ( الاحقاف 9 ) . ومع ذلك يصنعون رواية أخرة ينسبونها للشعبى تؤكد سابقتها : ( قال أخبرنا أحمد بن عبد الله بن يونس قال أخبرنا ملك بن مغول عن الشعبي قال : آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أبي بكر وعمر، فأقبلا ، أحدهما آخذ بيد صاحبه .  فقال : من سره أن ينظر إلى سيدي كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين إلا النبيين والمرسلين ، فلينظر إلى هذين المقبلين. ).

4 ـ وفى الطبقات الكبرى لابن سعد روايات متناقضة فى ثروة أبى بكر أو تركته بعد موته : منها رواية تقطع أنه لم يترك شيئا : ( أخبرنا وكيع بن الجراح وأبو أسامة قالا أخبرنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت : ما ترك أبو بكر دينارا ولا درهما ضرب الله سكته . ).

وهناك روايات تقطع بأنّه ترك ثروة لورثته ، ومنهم أبوه أبو قحافة :( قال أخبرنا محمد بن عمر قال أخبرنا شعيب بن طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر عن أبيه قال ورث أبا بكر الصديق أبوه أبو قحافة السدس وورثه معه ولده عبد الرحمن ومحمد وعائشة وأسماء وأم كلثوم بنو أبي بكر وامرأتاه أسماء بنت عميس وحبيبة ابنة خارجة بن زيد بن أبي زهير من بلحارث بن الخزرج وهي أم أم كلثوم وكانت بها نسأ حين توفي أبو بكر رحمه الله ) ( قال أخبرنا محمد بن عمر قال أخبرنا إسحاق بن يحيى بن طلحة قال سمعت مجاهدا يقول : كلم أبو قحافة في ميراثه من أبي بكر الصديق رحمه الله .) .

5 ـ وهناك روايات مصنوعة زائفة تدافع عن ذمّة أبى بكر المالية . منها أنه أوصى قبيل موته بارسال ما زاد من ماله فى فترة خلافته الى الخليفة بعده ، أى عمر . فلما جىء لعمر بالمال بكى وقال :( لقد أتعب من بعده تعبا شديدا.). تقول الرواية :  ( قال أخبرنا وكيع بن الجراح وعبد الله بن نمير قالا أخبرنا الأعمش عن أبي وائل عن مسروق عن عائشة قالت : لما مرض أبو بكر مرضه الذي مات فيه قال انظروا ما زاد في مالي منذ دخلت الإمارة فابعثوا به إلى الخليفة من بعدي فإني قد كنت أستحله. قال وقال عبد الله بن نمير أستصلحه جهدي وكنت أصيب من الودك نحوا مما كنت أصيب في التجارة . قالت عائشة فلما مات نظرنا فإذا عبد نوبي كان يحمل صبيانه وإذا ناضح كان يسني عليه قال عبد الله بن نمير: ناضح كان يسقي بستانا له . قالت فبعثنا بهما إلى عمر. قالت : فأخبرني جدي أن عمر بكى وقال : رحمة الله على أبي بكر لقد أتعب من بعده تعبا شديدا. ) .

ورواية أخرى أنه أوصى بخمس ثروته التى جاءته من الفىء : ( أن أبا بكر أوصى بخمس ماله ، أو قال آخذ من مالي ما أخذ الله من فيء المسلمين .) ( قال أخبرنا عمرو بن عاصم قال أخبرنا همام بن يحيى عن قتادة قال قال أبو بكر لي من مالي ما رضي ربي من الغنيمة فأوصى بالخمس .) ( قال أخبرنا عارم بن الفضل قال أخبرنا حماد بن زيد عن إسحاق بن سويد : أن أبا بكر أوصى بالخمس ) .

ثم رواية مطولة فى نفس الموضوع : ( قال : جاءت عائشة إلى أبي بكر وهو يعالج ما يعالج الميت ونفسه في صدره ، فتمثلت هذا البيت‏:‏

لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى    إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر )

أى إن عائشة تتهم أباها ضمنا أن ما أغنى عنه ماله وما كسب . ولهذا غضب منها : ( فنظر إليها كالغضبان ثم قال : ليس كذلك يا أم المؤمنين ولكن : " وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد " ،  إني قد كنت نحلتك حائطا وإن في نفسي منه شيئا فرديه إلى الميراث قالت : نعم.  فرددته .) أى أعطاها بستانا وهى لا تستحقه ، فأمرها ان ترده الى ميراث العائلة ، فأطاعته . وتستمر الرواية وأبو بكر يمدح نفسه بعدها : (  فقال : أما إنا مند ولينا أمر المسلمين لم نأكل لهم دينارا ولا درهما ولكنا قد أكلنا من جريش طعامهم في بطوننا ولبسنا من خشن ثيابهم على ظهورنا وليس عندنا من فيء المسلمين قليل ولا كثير إلا هذا العبد الحبشي وهذا البعير الناضح وجرد هذه القطيفة فإذا مت فابعثي بهن إلى عمر وأبرئى منهن ففعلت . ) . وهنا عبارة متناقضة ، كيف لم يأكل من بيت المال دينارا ولا درهما ، ثم فى نفس الوقت كان يأكل من طعامهم ويلبس من ثيابهم ، وكيف إقتنى عبدا وبعيرا ، وأمر بارسالها الى عمر وأن تتبرأ من ذلك عائشة ؟ ثم كيف تتفق هذه الرواية مع الرواية المشهورة التى قالوا أن أبا بكر فى أول خلافته خرج يمارس التجارة فمنعوه وفرضوا له مرتبا ، وطلب زيادته ( غلاء معيشة ) فزادوه .؟.. وتنتهى هذه الرواية الكاذبة بدموع عمر ـ كالعادة : ( فلما جاء الرسول عمر بكى ، حتى جعلت دموعه تسيل في الأرض ، ويقول : رحم الله أبا بكر لقد أتعب من بعده رحم الله أبا بكر لقد أتعب من بعده . ) ومع ذلك ، يأمر عمر ـ ودموعه على خدّيه ـ  بقبض هذه الأشياء ، فيعترض عبد الرحمن بن عوف ويطلب إرجاعها الى ورثة أبى بكر فيرفض عمر ـ وطبعا كانت دموعه لا تزال تسيل على خده ، تقول الرواية : ( فلما جاء الرسول عمر بكى ، حتى جعلت دموعه تسيل في الأرض ، ويقول : رحم الله أبا بكر لقد أتعب من بعده رحم الله أبا بكر لقد أتعب من بعده . يا غلام ارفعهن . فقال عبد الرحمن بن عوف : سبحان الله .! تسلب عيال أبي بكر عبدا حبشيا وبعيرا ناضحا وجرد قطيفة ثمن خمسة الدراهم ؟ قال : فما تأمر ؟ قال تردهن على عياله. فقال : لا والذي بعث محمدا بالحق ..لا يكون هذا في ولايتي أبدا ..خرج أبو بكر منهن عند الموت وأردهن أنا على عياله .؟ ! ..الموت أقرب من ذلك. ).

6 : الذى يتمشى مع المنطق وتسلسل الأحداث ، هو هذه الرواية ، مع وجود بعض خلل كالعادة فى تفاصيلها ننبّه عليه : ( .. وعبد الرحمن بن محمد بن أبي بكر عن أبيه عن حنظلة بن قيس الزرقي عن جبير بن الحويرث قال وأخبرنا محمد بن هلال عن أبيه ، دخل حديث بعضهم في حديث بعض ،) أى يقول ابن سعد أن تفصيلات أحاديثهم تداخلت مع بعضها ، ولهذا يحدث الخلل فى التفصيلات . ونقرأ الرواية : (  أن أبا بكر الصديق كان له بيت مال بالسنح معروف ليس بحرسه أحد . فقيل له : يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا تجعل على بيت المال من يحرسه ؟ فقال : لا يخاف عليه .قلت :  لم ؟ قال : عليه قفل ) أى إتّخذ أبو بكر مكانا مّغلقا يحتفظ فيه بالمال دون حراسة ، إكتفاءا بوجود قفل عليه . ومفهوم هنا أن مفتاح القفل مع أبى بكر ، وأنه لا أحد غيره يدخل هذا المكان ، ولا احد يعرف مقدار مافيه ، ومقدار الوارد اليه والمنصرف منه . كل ذلك مع أبى بكر وحده . ولكن تقول الرواية بعدها :  ( قال وكان يعطي ما فيه حتى لا يبقى فيه شيء. )، فمن أعلمهم أنه يعطى كل ما فيه حتى لايبقى منه شىء ؟ وإذا كان الحال هكذا فلماذا يغلقه بالقفل ؟. وتمضى الرواية :  ( فلما تحول أبو بكر إلى المدينة حوّله ، فجعل بيت ماله في الدار التي كان فيها .). أى أنشأ أبو بكر دارا جديدة فى المدينة وسكن الدار الجديدة ، وجعل منها جناحا لبيت المال ، وهذا طبعا بعد قدوم الغنائم بما لم يكن أبو بكر يتخيّله ، تقول الرواية : ( وكان قدم عليه مال من معدن القبلية ومن معادن جهينة كثير ، وانفتح معدن بني سليم في خلافة أبي بكر ، فقدم عليه منه بصدقته ، فكان يوضع ذلك في بيت المال . فكان أبو بكر يقسمه على الناس نقرا نقرا ، فيصيب كل مائة إنسان كذا وكذا . وكان يسوي بين الناس في القسم الحر والعبد والذكر والأنثى والصغير والكبير فيه سواء . وكان يشتري الإبل والخيل والسلاح فيحمل في سبيل الله . واشترى عاما قطائف أتى بها من البادية ففرقها في أرامل أهل المدينة في الشتاء .) أى إن أبا بكر هو الذى كان يتحكّم وحده فى المال ، وهو الذى يقوم وحده بتوزيعه . وكان عمر بعيدا عن هذا . وبالتالى لا بد أن تكون أول مهمة لعمر هى الاستيلاء على بيت المال ، وجرد ما فيه ، تقول الرواية : ( فلما توفي أبو بكر ودفن ، دعا عمر بن الخطاب الأمناء ، ودخل بهم بيت مال أبي بكر ومعه عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان وغيرهما ، ففتحوا بيت المال ، فلم يجدوا فيه دينارا ولا درهما . ووجدوا خيشة للمال فنقضت فوجدوا فيها درهما . فرحّموا على أبي بكر . ). دخل مع عمر أصحابه ممّن تآمر معه على قتل أبى بكر ، وبعد أن جردوا المال وصادروه أعلنوا أنه لا يوجد فيه شىء سوى درهم يتيم . وطبعا ترحّموا على ( أبى بكر ) . ولكن الشّك مع ذلك لم يفارقهم فى وجود المزيد ، فسألوا من كان يقوم بوزن الذهب والفضة : (وكان بالمدينة وزان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يزن ما كان عند أبي بكر من مال ، فسئل الوزان : كم بلغ ذلك المال الذي ورد على أبي بكر ؟ قال : مائتي ألف .). هذا ما قاله الوزّان .

رواية أخرى فى نفس الموضوع تقول باختصار : ( وكانت له بيت مال بالسنح، وكان يسكنه إلى أن انتقل إلى المدينة، فقيل له: ألا نجعل عليه من يحرسه؟ قال: لا. فكان ينفق جميع ما فيه على المسلمين فلا يبقى فيه شيء، فلما انتقل إلى المدينة جعل بيت المال معه في داره. وفي خلافته انفتح معدن بني سليم، وكان يسوي في قسمته بين السابقين الأولين والمتأخرين في الإسلام وبين الحر والعبد والذكر والأنثى، فقيل له: لتقدم أهل السبق على قدر منازلهم، فقال: إنما أسلموا لله ووجب أجرهم عليه يوفيهم ذلك في الآخرة، وإنما هذه الدنيا بلاغٌ. وكان يشتري الأكسية ويفرقها في الأرامل في الشتاء.ولما توفي أبو بكر جمع عمر الأمناء وفتح بيت المال فلم يجدوا فيه شيئاً غير دينار سقط من غرارة، فترحموا عليه. ) .

نلاحظ هنا أن الرواية لم تتطرّق الى الغنائم التى جاءت لأبى بكر من خالد فى غزواته فى العراق ، والتى كانت سببا فى إصرار عمر على عزل خالد . فلما رفض أبو بكر قتله عمر .

وللحديث بقية مع خالد وعمر وأبى بكر وأبى سفيان .

 

الباب الثالث : مكر قريش مع صحابة الفتوحات 

الفصل الرابع :  خالد هو سبب قتل أبى بكر  

 مقدمة :

1 ـ يحتل بنو عبد مناف ( بنو هاشم وبنو عبد شمس وفرع بنى أمية بن عبد شمس ) موقع الصدارة فى قريش ، يليهم بنو مخزوم . ويأتى فى المؤخرة بنو تيم ومنهم أبو بكر ، وبنو عدى ومنهم عمر . وبدت  الحرب فى بدر وأحد والأحزاب وكانها صراع بين فرعى عبد مناف ؛ بنى هاشم وبنى أمية . ورضى بنو مخزوم السير فى ركاب أبى سفيان زعيم بنى أمية وبنى عبد شمس ، والذى أصبح سيد كنانة أى قريش كلها . واستخدم أبو سفيان كل أدواته فى حرب النبى ، ومنها جواسيسه وعملاؤه ، وكانوا من شتى بطون قريش ، منهم (عمر) من بنى عدى و ( عمرو ) من بنى سهم و ( خالد ) من بنى مخزوم .

2 ـ  وبدخول أبى سفيان الاسلام متأخرا أصبح عملاؤه سابقين له ، ومع ذلك كانوا يدينون له بالولاء خصوصا عمر وعمرو ، لأن بنى عدى وبنى سهم  ليسوا فى موضع المنافسة لبنى أمية بأى حال . الذى كان مرشحا للمنافسة هو خالد ، بنسبه المخزومى و عبقريته العسكرية التى ظهرت فى حرب الردة .

3 ـ وشعر أبو سفيان بخطورة وضع خالد وإعجاب أبى بكر به . وهو نفس شعور عمر الذى سيطر على أبى بكر وأقام له الخلافة بتهميش الأنصار وتهميش الهاشميين أسرة النبى . شعر عمر بأن خالد هو المنافس له بسبب إعجاب أبى بكر المتزايد به ، وشعر أبو سفيان بأن ولديه يزيد ومعاوية ليسا بشىء فى مجال الحرب مقارنة بخالد .  وكان أبو سفيان من قبل قد أرهب أبا بكر بتهديده بالحرب وإعلانه بأحقية بنى هاشم بالخلافة ، مما جعل أبا بكر يسترضيه بتعيين يزيد بن أبى سفيان قائدا فى حرب الردة ثم فى غزو الشام . ولكنّ تفوّق خالد فى حرب الردة أقلق أبا سفيان ، وجعل عمر يتسقّط خطايا  خالد ومنها قتله لمالك بن نويرة ، وطلب عزل خالد ، ولكن أبا بكر عصى عمر ، وعيّن خالدا قائدا لحرب بنى حنيفة ومسيلمة الكذاب . وكالعادة إنتصر خالد ، وأنهى حرب الردة . ووافق أبو بكر على التوسع عسكريا وغزو العراق والشام حتى لا يعود الأعراب الى الارتداد .  وهنا علا نجم خالد أكثر وأكثر ، وأصبح خطرا حقيقيا على مخططات أبى سفيان وعمر بن الخطاب .

4 ـ الواقع أنّ خالدا بعبقريته العسكرية وبعصبيته بقومه بنى مخزوم أصبح أكبر من ندّ لأبى سفيان ، وشتان بينه وبين إبنى أبى سفيان يزيد ومعاوية . ولو استمر خالد فى انتصاراته فسيحكم هو الشام والعراق ، ولن يكون فى المستقبل موضع للأمويين إلا بمقدار ما يسمح به خالد . وفى نفس الوقت فإن أبا بكر الذى كان يعمل حسابا لبنى أمية فسيمكنه الاستقواء ببنى مخزوم وبخالد . وفى كل الأحوال ففى وجود خالد فلا مكان لعمر بن الخطاب ونفوذه وسيطرته على ( ابى بكر ) . ومن هنا كان خالد هو مركز الصراع الذى أسفر عن التعجيل بقتل أبى بكر وعزل خالد وإهانته . هو  صراع مكتوم حول الثروة والسلطة  . 

5 ـ خالد هذا هو الذى يمثّل الثقافة الجاهلية فى السبى والسلب والنهب وقتل الأسرى . وهو الذى تبرأ النبى من عمله كما تقول الروايات . ولكن أصبح محور التنافس هنا لأن عبقريته فى الحرب المناقضة للاسلام هى أساس الصراع حوله . أما الاسلام فقد خرج من الساحة ، ببيعة السقيفة وتولية أبى بكر .

6 ـ ونعطى التفصيلات من مُجمل الروايات فى تاريخ الطبرى أساسا، والتى يغلب عليها التداخل والتقديم والتأخير ، والتناقض أحيانا .

أولا : أبو بكر يرفض عزل خالد بسبب قتله مالك بن نويرة 

 1 ـ كانت وصية أبى بكر لخالد فى حرب الردة  تخالف التشريع الاسلامى فى الحرية الدينية وفى القتال الدفاعى ، قال لخالد : ( ..إذا نزلتم منزلا فأذّنوا وأقيموا فإن أذّن القوم وأقاموا فكفوا عنهم . وإن لم يفعلوا فلا شيء إلا الغارة ، ثم اقتلوهم كل قتلة ، الحرق فما سواه . وإن أجابوكم إلى داعية الإسلام فسائلوهم . فإن أقروا بالزكاة فاقبلوا منهم ، وإن أبوها فلا شيء إلا الغارة ..)

وتم أسر مالك بن نويرة مع جماعة من قومه ، واختلف الشهود فى أمرهم هل أقاموا الصلاة أم لا . وفى كل الأحوال تنتهى الروايات بمقتل مالك وأصحابه بأوامر من خالد .وزاد من حرج موقف خالد أنه تزوج فى نفس الليلة من زوجة مالك أم تميم ابنة المنهال ، ( وتركها لينقضي طهرها ، وكانت العرب تكره النساء في الحرب وتعايره.). وصمم عمر على عزل خالد : ( وقال عمر لأبي بكر : إن في سيف خالد رهقا ) وطلب قتل خالد قصاصا أو أن يؤدى الدية، وقال لأبى بكر :(" فإن لم يكن هذا حقا حق عليه أن تقيده ."  وأكثر عليه في ذلك.  وكان أبو بكر لا يقيد من عماله ..فقال : هيه يا عمر .! تأول فأخطأ ، فارفع لسانك عن خالد. )ودفع أبو بكر دية مالك ورفاقه : (  وودى مالكا ، وكتب إلى خالد أن يقدم عليه ففعل ، فأخبره خبره ، فعذره وقبل منه. ) .

2 ـ وفى رواية أخرى: (  فلما بلغ قتلهم عمر بن الخطاب تكلم فيه عند أبي بكر فأكثر ، وقال : عدو الله عدى على امرئ مسلم فقتله ثم نزا على امرأته.  وأقبل خالد بن الوليد قافلا حتى دخل المسجد ، وعليه قباء له عليه صدأ الحديد معتجرا بعمامة له ، قد غرز في عمامته أسهما . فلما أن دخل المسجد قام إليه عمر فانتزع الأسهم من رأسه فحطمها ، ثم قال : " أرثاء ؟ قتلت امرأ مسلما ثم نزوت على امرأته ؟ والله لأرجمنك بأحجارك . " ، ولا يكلمه خالد بن الوليد .. حتى دخل على أبي بكر ، فلما أن دخل عليه أخبره الخبر واعتذر إليه ، فعذره أبو بكر وتجاوز عنه ما كان في حربه تلك.  قال فخرج خالد حين رضي عنه أبو بكر وعمر جالس في المسجد ، فقال لهم : " هلم إلي يا ابن أم شملة".  قال فعرف عمر أن أبا بكر قد رضي عنه ، فلم يكلمه . ودخل بيته . )  . وكان خالد يشتم عمر بلقب ( ابن أم شملة ).

3 ـ بل كافأ أبو بكر خالدا فجعله قائدا لأكبر جيش توجه لحرب مسيلمة . تقول الرواية : ( فلما قدم خالد على أبي بكر من البطاح ، رضي أبو بكر عن خالد ، وسمع عذره ، وقبل منه ، وصدقه ، ورضي عنه ، ووجهه إلى مسيلمة وأوعب معه الناس ..) أى حشد له الناس جندا له .

ثانيا : إنتصارات خالد وغنائمه فى العراق

1 ـ وانتصر خالد وغنم وسبى بما لم يسبق له نظير ، وبعث بخُمس السبى والغنائم للمدينة ، تقول الرواية : ( وبعث خالد بالفتح وما بقي من الآخماس وبالفيل وقرأ الفتح على الناس .). أى بعث خالد للمدينة ببشارة النصر ، وخُمس الغنائم ، وبالفيل الذى كان مع جيش هرمز. وكان حجم الغنائم مبهرا ، ذاع به صيت خالد ، فى الجزيرة العربية ، وبين جنوده . فقد كان من الغنائم قلانس القادة الفُرس ، وكانت على قدر مكانتهم ، وبالتالى كانت قلنسوة القائد الفارسى هرمز مرصعة بالجواهر ، وقد وصلت ضمن الخمُس لأبى بكر فأهداها أبو بكر لخالد تقديرا له . تقول الرواية : (  كان أهل فارس يجعلون قلانسهم على قد أحسابهم في عشائرهم ، فمن تم شرفه فقيمة قلنسوته مائة ألف . فكان هرمز ممن تم شرفه، فكانت قيمتها مائة ألف ، فنفلها أبو بكر خالدا . وكانت مفصصة بالجوهر)  . وانبهرت نساء المدينة بالفيل وهو يُطاف به فى الشوارع : ( ولما قدم زرّ بن كليب بالفيل مع الأخماس ، فطيف به في المدينة ليراه الناس ، جعل ضعيفات النساء يقلن : أمن خلق الله ما نرى ؟!. ) . تخيّل شعور الأخ عمر بن الخطاب وقتئذ .!!.

2 ـ ونعم جنود خالد بغنائم ـ لم يتصوروها  ـ مع كل إنتصار:  ( وبلغ سهم الفارس في يوم "ذات السلاسل "و" الثني"  ألف درهم ، والراجل على الثلث من ذلك ). وكان خالد كريما مع جنوده:( وأقام خالد بالمذار وسلم الأسلاب لمن سلبها بالغة ما بلغت . وقسّم الفيء ، ونفل من الأخماس أهل البلاء ، وبعث ببقية الأخماس ، ووفد وفدا مع سعيد بن النعمان أخي بني عدي بن كعب . ) وكان هذا من موقعة واحدة هى موقعة المذار : ( وكانت وقعة المذار في صفر سنة اثنتي عشرة  . )، وكان إنتصاره فيها حاسما : ( وقتل ليلة المذار ثلاثون ألفا سوى من غرق ، ولولا المياه لأتي على آخرهم . ولم يفلت منهم من أفلت إلا عراة وأشباه العراة ).

3 ـ وانفتح المجال لخالد فى العراق يتوسع فيه ، أو على حد قولهم ( تبحبح بشاطىء دجلة ) : ( كان أول من لقي خالد مهبطه العراق هرمز بالكواظم ، ثم نزل الفرات بشاطىء دجلة ، فلم يلق كيدا . وتبحبح بشاطىء دجلة ، ثم الثني ،ولم يلق بعد هرمز أحدا إلا كانت الوقعة الآخرة أعظم من التي قبلها ، حتى أتى دومة الجندل . ) . وبالتالى تعاظمت الغنائم وزاد السبى مع كل معركة : (وزاد سهم الفارس في يوم "الثني " على سهمه في " ذات السلاسل" . فأقام خالد "بالثني " يسبي عيالات المقاتلة ومن أعانهم .). ثم بلغ الأمر ذروته فى سلبهم لمدينة أمغيشيا:( لم يصب المسلمون فيما بين "ذات السلاسل" و"أمغيشيا "مثل شيء أصابوه في "أمغيشيا "، بلغ سهم الفارس ألفا وخمسمائة سوى النفل الذي نفله أهل البلاء . ) وهتف أبو بكر باسم خالد حين وصله خُمس الغنائم ، وردّدوا جميعا مقالة أبى بكر فى مدح خالد ، تقول الرواية : (   وقالوا جميعا قول أبو بكر رحمه الله حين بلغه ذلك : يا معشر قريش يخبرهم بالذي أتاه : عدا أسدكم على الأسد فغلبه على خراذيله .! أعجزت النساء أن ينسلن مثل خالد .). يعنى عجزت نساء العرب أن يلدن مثل خالد .. يا ترى كيف كان شعور الأخ عمر بن الخطّاب ؟

 ثالثا : اموال خالد  وإهانة أبى سفيان هما الأسباب المباشرة فى قتل أبى بكر

1 ـ واضح أن خالدا كان يتصرف فى الغنائم بلا رقيب ؛ فهو الذى يحصيها ويحدد نصيب الفارس والجندى المترجل ، وهو الذى يقدّر الخّمس منها ويبعثه لأبى بكر . ومن المنتظر أن يستغل هذا المال فى إستقطاب الناس اليه ، وهذا ما أفرع عمر وأبا سفيان ، وهم يرون الناس يتوافدون على خالد يبتغون عطاياه . يقول الطبرى : ( لما رجع خالد ومعه أموال جزيلة من الصائفة، انتجعه الناس يبتغون وفده ونائله، فكان ممن دخل عليه الأشعث بن قيس، فأجازه بعشرة آلاف‏.‏ ) . وكان خالد يعطى زعماء القبائل ليضمن ولاءهم فى أى نزاع قادم ، وحين أعطى الأشعث بن قيس جُنّ جنون عمر . وكان هذا من أسباب التعجيل بقتل أبى بكر وعزل خالد . لذا كان من عقوبات خالد بعد عزله محاسبته على ما أعطاه للأشعث بن قيس . يقول الطبرى أن عمر  كتب إلى أبي عبيدة‏:‏ ( يأمره أن يقيم خالداً ويكشف عمامته، وينزع عنه قلنسوته، ويقيده بعمامته، ويسأله عن هذه العشرة آلاف، إن كان أجازها الأشعث من ماله فهو سرف، وإن كان من مال الصائفة فهي خيانة ، ثم أعزله عن عمله‏.‏ ) ونفّذ أبوعبيدة الأمر : ( فطلب أبو عبيدة خالداً، وصعد أبو عبيدة المنبر، وأقيم خالد بين يدي المنبر، وقام إليه بلال، ففعل ما أمر به عمر بن الخطاب هو والبريد الذي قدم بالكتاب‏.‏ هذا وأبو عبيدة ساكت لا يتكلم، ثم نزل أبو عبيدة واعتذر إلى خالد مما كان بغير اختياره وإرادته، فعذره خالد وعرف أنه لا قصد له في ذلك‏.‏)   

2 ـ واستقوى أبو بكر بخالد ، ورآها فرصة لاذلال أبى سفيان ، خصوصا وأن يزيد بن أبى سفيان ورفاقه قد هزمتهم الروم بينما يتنقل خالد فى العراق من نصر الى نصر .  وانتهز أبو بكر فرصة فبعث لأبى سفيان يهينه علنا على رءوس الأشهاد ، واضطر ابو سفيان أن يتملقه ويتذلل له . تقول الرواية : (  وبلغ ابا بكر عن ابى سفيان امر ، فاحضره واقبل يصيح عليه وابو سفيان يتملقه ويتذلل له . واقبل ابوقحافة فسمع صياح ابى بكر ، فقال لقائده : على من يصيح ابنى ؟ فقال له : على ابى سفيان . فدنا من ابى بكر ، وقال له : أعلى ابى سفيان ترفع صوتك يا عتيق ؟ وقد كان بالامس سيد قريش .! لقد تعديت طورك وجزت مقدارك.  فتبسم ابو بكر ومن حضره من المهاجرين والانصار، وقال له : يا أبت إن الله رفع بالاسلام قوما وأذل به آخرين .) .

أبو سفيان هذا كان من قبل أعزّ فرد فى قريش ، ونتذكر الرواية التى تقول : ( أهدى ملك اليمن عشر جزائر إلى مكة وأمر أن ينحرها أعز قريشي‏.‏ فقدمت وأبو سفيان عروس بهند بنت عتبة فقال له‏:‏ أيها الرجل لا يشغلنك النساء عن هذه المكرمة التي لعلها أن تفوتك فقال لها‏:‏ يا هذه دعي زوجك وما يختاره لنفسه والله ما نحرها غيري إلا نحرته‏.‏ فكانت في عقلها حتى خرج أبو سفيان في اليوم السابع فنحرها‏.‏ ). وتدور الأيام ويتعرض أبو سفيان لاذلال أبى بكر ، وهو الذى كان يهدد أبا بكر بعد السقيفة ويجعله يعين يزيد بن أبى سفيان قائدا . الآن تغير الوضع بانتصارات خالد فى العراق وتحالفه مع أبى بكر . لذا سارع أبو سفيان بالرحيل ولحق بابنه يزيد ، حيث يستعد العرب والروم للمعركة الفاصلة ، وهى اليرموك التى شارك فيها أبوسفيان محرّضا ، حرصا على مكانته هو وولديه يزيد ومعاوية . وكانت إهانة أبى بكر لأبى سفيان بمثابة إصدار الأمر بقتل أبى بكر ، والذى أسرع عمر بتنفيذه بالسم .

 رابعا : توجّه خالد من العراق  للشام ثم عزله    

1 ـ لا نتصور أن يجرؤ عمر على نصح أبى بكر بعزل خالد الذى ينتصر على الامبراطورية الفارسية فى كل معركة ،  ولكن هزم الروم المسلمين فى سوريا وقتلوا قائدهم خالد بن سعيد بن العاص ، وتفرقت جيوش المسلمين فى الشام ، مع استعداد الروم لحرب فاصلة معهم . هذه الظروف جعلت أبا بكر يأمر خالدا أن يترك العراق وأن يتوجه بجزء من جيشه لنجدة المسلمين فى هذه المحنة . تقول الرواية : ( ولما نزل المسلمون اليرموك واستمدوا أبا بكر قال : خالد لها ، فبعث إليه وهو بالعراق وعزم عليه واستحثه في السير ،  فلما أتى خالدا كتاب أبي بكر بذلك قال خالد : ( هذا عمل الأعيسر ابن أم شملة ـ  يعني عمر بن الخطاب ـ حسدني أن يكون فتح العراق على يدي ). أى فهم خالد أنها مكيدة من غريمه عمر . ومع ذلك أطاع خالد أمر أبى بكر ، واسرع بجزء من جيشه فلحق بجيوش العرب قبيل أن تنشب المعركة الفاصلة ( اليرموك ) .وقد حشد لها الروم 240 ألفا تحت قيادة باهان ، ومعهم (الشمامسة والرهبان والقسيسين يغرونهم ويحضضونهم على القتال . ووافق قدوم خالد قدوم باهان . فخرج بهم باهان  .. وتيمنت الروم بباهان وفرح المسلمون بخالد . ). وتولى خالد القيادة: ( وحرد المسلمون وحرب المشركون وهم أربعون ومائتا ألف  .. والمسلمون سبعة وعشرون ألف ممن كان مقيما إلى أن قدم عليهم خالد في تسعة آلاف فصاروا ستة وثلاثين ألفا . فولى خالد قتاله ، وقاتل الأمراء من بإزائهم ، فهزم باهان وتتابع الروم على الهزيمة فاقتحموا خندقهم . ) . أثناء المعركة وقبيل النصر مات أبو بكر ، تقول الرواية : ( ومرض أبو بكر رحمه الله في جمادى الأولى وتوفي للنصف من جمادى الآخرة قبل الفتح بعشر ليال .ومات أبو بكر رحمه الله مع الليل فدفنه عمر ليلا  .!!). وتولى عمر فكان أول قرار له عزل خالد . إتّخذ هذا القرار وقت اندلاع معركة اليرموك ، ووصل رُسل عمر بالقرار بعدها .

2 ـ وتختلف الروايات فى تفاصيل وصول الخبر بعزل خالد . ومنها : ( قدم بوفاة أبي بكر إلى الشأم شداد بن أوس بن ثابت الأنصاري ومحمية بن جزء ويرفأ . فكتموا الخبر الناس حتى ظفر المسلمون . وكانوا بالياقوصة يقاتلون عدوهم من الروم وذلك في رجب .  فأخبروا أبا عبيدة بوفاة أبي بكر وولايته حرب الشأم . وقد كان عمر عزل خالد بن الوليد واستعمل أبا عبيدة على جميع الناس . )   ( وقد قدم الكتاب على أبي عبيدة بإمارته وعزل خالد . فاستحيا أبو عبيدة أن يقرئ خالدا الكتاب حتى فتحت دمشق ، وجرى الصلح على يدي خالد وكتب الكتاب باسمه. فلما صالحت دمشق لحق باهان صاحب الروم الذي قاتل المسلمين بهرقل . وكان فتح دمشق في سنة أربع عشرة في رجب . وأظهر ابو عبيدة إمارته وعزل خالد بن الوليد. )

وهناك رواية لابن اسحاق يربط فيها عزل خالد بإهانته وتحقيره ومصادرة أمواله . يقول الطبرى : ( وأما ابن إسحاق فإنه قال في أمر خالد وعزل عمر إياه ...قال : إنما نزع عمر خالدا في كلام كان خالد تكلم به فيما يزعمون ، ولم يزل عمر عليه ساخطا ولأمره كارها في زمان أبي بكر كله ..فلما استخلف عمر كان أول ما تكلم به عزله فقال لا يلي لي عملا أبدا ) أى تكلم خالد كلاما أغاظ عمر فأراد عمر من أبى بكر أن يعزل خالدا ، وحين تولى عمر الخلافة أسرع بعزل خالد : ( فكتب عمر إلى أبي عبيدة : إن خالد أكذب نفسه فهو أمير على ما هو عليه وإن هو لم يكذب نفسه فأنت الأمير على ما هو عليه، ثم انزع عمامته عن رأسه وقاسمه ماله نصفين . فلما ذكر أبو عبيدة ذلك لخالد قال : "أنظرني أستشر أختي في أمري ." ففعل أبو عبيدة . فدخل خالد على أخته فاطمة بنت الوليد ، وكانت عند الحارث بن هشام ،  فذكر لها ذلك . فقالت: " والله لا يحبك عمر أبدا وما يريد إلا أن تكذب نفسك ثم ينزعك. " ،  فقبل رأسها ، وقال : " صدقت والله. " ،  فتم على أمره وأبى أن يكذب نفسه ، فقام بلال مولى أبي بكر إلى أبي عبيدة فقال : "ما أمرت به في خالد؟ " قال : " أمرت أن أنزع عمامته وأقاسمه ماله.".  فقاسمه ماله حتى بقيت نعلاه فقال أبو عبيدة : "إن هذا لا يصلح إلا بهذا" . فقال خالد : " أجل ما أنا بالذي أعصي أمير المؤمنين فاصنع ما بدا لك ." فأخذ نعلا وأعطاه نعلا . )

خامسا : موتة خالد الغامضة

1 ـ ومات خالد معزولا ، مات على فراشه متحسرا ، سنة إحدى وعشرين بحمص. ونعتقد أنه مات مسموما كأبى بكر .

2 ـ وللتعتيم على ميتته الغامضة والسريعة قام معاوية بتعيين عبد الرحمن بن خالد بن الوليد واليا من لدنه على حمص . وكان معاوية هو الذى يحكم الشام كله . ومع ذلك فإن شبح خالد بن الوليد كان يؤرق معاوية ، خصوصا وإن إنتصاراته فى العراق كانت لا تزال حيّة بين العرب هناك ، ومعظمهم كان من جُند خالد فى الفتوحات ثم سكنوا الكوفة والبصرة بعد تأسيسهما . وكان العراق مركز المعارضة لبنى أمية . وكانوا يسخرون من معاوية ويتوعدونه ويفخرون بانتصاراتهم على الفرس فى غزوة ذات السلاسل . ولذا عاش عبد الرحمن بن خالد بن الوليد مّحاطا باسطورة أبيه . وفى خلافة عثمان جاء اليه المغضوب عليهم من عثمان والذين عاقبهم عثمان بالتسيير ، فاستدعاهم عبد الرحمن بن خالد وهددهم قائلا : (أنا ابن خالد بن الوليد.!.  أنا ابن من قد عجمته العاجمات .!. أنا ابن فاقئ الردة .!. والله لئن بلغني يا صعصعة ابن ذل أن أحدا ممن معي دق أنفك ثم أمصك لأطيرن بك طيرة بعيدة المهوى ) .

وبنفس الغطرسة كان عبد الرحمن يتكلم مع معاوية نفسه ، تقول الرواية ( قال عبدُ الرحمن بن خالد بن الوليد بن المغيرة لمُعاوية‏:‏ أما واللّه لو كُنَّا بمكة على السواء لعلمتَ‏!‏ قال مُعاوية‏:‏ إذاً كنتُ أكون مُعاوية بن أبي سفيان مَنْزلي الأبْطح يَنشقّ عنِّي سَيْلُه وكنتَ عبدَ الرحمن بن خالد منزلُك أَجياد أعْلاه مَدَرَة وأسفله عَذِرة‏.‏) .

3 ـ  وكان معاوية كعادته يحلم ويتغاضى . ولكن عندما قرر أن يجعل إبنه يزيد ولى عهده فقد سار فى خطة مزدوجة ذات خطين متوازيين فى نفس الوقت ، هما التخلص من أى شخص محتمل أن ينافس ابنه يزيد فى الخلافة ، وإرهاب الشيعة و التخلص من قادتهم تمهيدا للتوريث .فكان قتل حُجر بن عدى الكندى ، وحمل عام 46 هجرية خبر إغتيال عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، تقول الرواية : ( وكان سبب موته أنه كان قد عظم شأنه عند أهل الشام ، ومالوا إليه ، لما عندهم من آثار أبيه ، ولغنائه في بلاد الروم ، ولشدة بأسه ، فخافه معاوية وخشي على نفسه منه ، وأمر ابن أثال النصراني أن يحتال في قتله ، وضمن له أن يضع عنه خراجه ما عاش ، وأن يوليه جباية خراج حمص‏.‏ فلما قدم عبد الرحمن من الروم دس إليه ابن أثال شربةً مسمومة مع بعض مماليكه ، فشربها فمات بحمص ، فوفى له معاوية بما ضمن له‏.‏ ). عاش عبد الرحمن بن خالد بن الوليد يحمل شهرة أبيه خالد بن الوليد بطل الفتوحات . ولم يكتف بشهرة أبيه إذ أصبح من أبطال القواد فى الحرب المستمرة بين الروم والأمويين ، وكان يعود من غزواته بازدياد مستمر فى شهرته . وبهذه الشهرة يكون منافسا خطيرا ليزيد فى حالة التوريث . لذا كان لا بد من التخلص منه .وكان السم أفضل وسائل معاوية فى الاغتيال .

بالسم قتل معاوية الأشتر النخعى قائد (على) قبل أن يتولى حكم مصر من قبل (على ). وبعدها بالسم تم قتل (الحسن بن على) والذى كان مفروضا أن يلى الخلافة بعد معاوية تنفيذا للاتفاق بينهما فى عام الجماعة . وفى كل حالات الاغتيال يقوم طرف آخر بتلك المهمة القذرة .

4 ـ وبالسم مات من قبل خالد بن الوليد ، وقبله وبالسم مات أيضا أبو بكر . .

وقد تخصص الأمويون فى جريمة الاغتيال بالسّم ، حتى استعملوه فى صراعاتهم الداخلية . وسبق لنا نشر بحث عن إغتيال الخليفة سليمان بن عبد الملك بالسم ، تحت عنوان : ( التحقيق فى جريمة قتل غامضة حدثت عام 99 هجرية ).

 

الباب الثالث  : مكر قريش وصحابة الفتوحات

الفصل الخامس   : انتهاك الأشهر الحرم فى خلافة أبى بكر    

مقدمة :

1 ـ الفتوحات هى من أكبر الكبائر فى شرع الرحمن ، ولكن أصبحت من معالم دين السّنة بالذات ، بل وأصبح كبار المجرمين الذين بدءوا بها كأبى بكر وعمر آلهة مقدسة لدى المسلمين  ، والدليل هو الفزع الذى يصيب القارىء لهذه المقالات التاريخية ، ويهرب بعضهم بإنكار التاريخ جملة وتفصيلا ، يعنى أما أن يكون التاريخ كما تعلمه تقديسا لأبى بكر وعمر وعثمان وعلى وبقية الصحابة ، وإما فلسنا بلا تاريخ ، ولا يجوز عنده وجود علم إسمه البحث التاريخى ، حتى لو كان يبحث التاريخ المعتمد من الدين السّنى ذاته .

2 ـ هذا يؤكد فساد التعليم الذى نشأنا عليه ، ويؤكد بنفس القدر أهمية إعادة قراءة تاريخ العرب المسلمين بمنهج علمى كما يفعل الغرب . وبالنسبة لنا فيجب عرض هذا التاريخ على القرآن الكريم ، وهو الميزان ، كى نتخلص من تقديس البشر والحجر .

3 ـ فقد وصل بعضهم الى تقديس (عمر ) أكثر من تقديسه لله جل وعلا ، فالالحاد يصل الى سبّ رب العزة ، وأصبح هذا عاديا لا يلتفت اليه السنيون ، ولكنهم ينتفضون غضبا من بحث علمى يُظهر ( عمر ) على حقيقته التاريخية من خلال التراث السّنى نفسه .

4 ـ وهذه مصيبة عقلية ودينية لا يدانيها إلّا ما يفعله المسلمون بأنفسهم الآن ، وهم يسيرون على (سنّة الصحابة ) فى الفتنة الكبرى . هو نفس المسلسل الدامى البائس من معركة الجمل الأولى فى عهد ( على بن أبى طالب ) حتى الآن .!!.

5 ـ إن لم نبحث تاريخ الصحابة فى ضوء القرآن الكريم فسنظل نقتل بعضنا ، يهتف القاتل ( الله أكبر ) ويهتف القتيل ( الله أكبر ) . ويظل الاسلام متهما بالارهاب والتخلف والوحشية.!

أولا : انتهاك شرع الاسلام فى الفتوحات فى عهد أبى بكر

1 ـ نُعيد التأكيد بأنّ الاسلام هو دين العدل والقسط والحرية ، وأنّ الكفر هو دين الظلم والاستبداد والاستعباد . وقامت ثقافة العصور الوسطى على أساس الظلم والاستبداد والاستعباد ، وبها كان التواتر القرشى . ونزل القرآن يرسى دعائم العدل ويضع حلولا جذرية لاستئصال جريمة الاسترقاق ، منها المنع من المنبع ، وهى الاسترقاق ، فيحرم استرقاق الانسان من البداية . ولتحرير الرقيق الموجود فعلا نزلت تشريعات تشجع على هذا وتجعله ضمن الصدقات والكفّارات ، مع وجوب معاملة الرقيق كصاحبه تماما فى المال . ولكن سرعان ما عاد السبى والاسترقاق بعد موت النبى عليه السلام ، وكان خالد بن الوليد بطل حرب الردة والفتوحات ، وبطل استرقاق المنهزمين وقتل الأسرى والسلب والنهب . ونعطى أمثلة:

2 ـ تحت عنوان : ( ذكر ردة أهل عمان ومهرة ) يلخّص ابن الأثير فى الكامل روايات الطبرى ، يقول عن حرب خالد لقوم ربيعة بن بجير وأن خالد قاتله (.. وغنم وسبى وأصاب ابنة لربيعة فبعث بها إلى أبي بكر، فصارت إلى علي بن أبي طالب . ). أى سرعان ما عاد الصحابة الى تشريعات الجاهلية فى السبى بمجرد موت النبى ، وبداية من حرب الردة . وأصبح هذه شريعة عملية لا تستوجب إنكارا ، لأنها تتفق مع الشرع السائد فى العالم وقتها ، وتعامل بها المسلمون فيما بينهم وفى تعاملهم مع الروم ، فكان قتل الأسرى وسبى المقاتلين وذراريهم سائدا فى الحروب بين المسلمين ، وبينهم وبين الروم . ثم قام ابن اسحق فى سيرته فنسب هذا الإفك للنبى عليه السلام ، أنه كان يقتل الأسرى ، وأنه كان يسبى النساء .

3 ـ وفى موقعة ( الثنى ) التى هزم فيها خالد الفّرس فى العراق ، تقول الروايات (   وقتل من الفرس مقتلة عظيمة يبلغون ثلاثين ألفاً سوى من غرق ومنعت المياه المسلمين من طلبهم. وقسم الفيء وأنفذ الأخماس إلى المدينة وأعطى الأسلاب من سلبها، وكانت الغنيمة عظيمة، وسبى عيالات المقاتلة، وأخذ الجزية من الفلاحين وصاروا ذمةً. وكان في السبي أبو الحسن البصري، وكان نصرانياً. ). أى من أبناء السبى والسبايا جاء جيل أبناء الموالى الذين تزعموا الحركة العلمية فى العصر الأموى ، ومنهم ابن اسحاق والحسن البصرى وربيعة الرأى .

4 ـ وفى موقعة ( عين التمر ) انهزم العرب الموالون للفرس واسر خالد زعيمهم ( عقة ) وقتله ، تقول الرواية عن خالد :( وسار عقة إلى خالد فالتقوا، فحمل خالد بنفسه على عقة وهو يقيم صفوفه، فاحتضنه وأخذه أسيراً وانهزم عسكره من غير قتال فأسر أكثرهم.فلما بلغ الخبر مهران هرب في جنده وتركوا الحصن، فلما انتهى المنهزمون إليه تحصنوا به، فنازلهم خالد، فطلبوا منه الأمان، فأبى، فنزلوا على حكمه، فأخذهم أسرى، وقتل عقة ثم قتلهم أجمعين،  وسبى كل من في الحصن وغنم ما فيه، ووجد في بيعتهم أربعين غلاماً يتعلمون الإنجيل، فأخذهم فقسمهم في أهل البلاء، منهم: سيرين أبو محمد، ونصير أبو موسى، وحمران مولى عثمان. وأرسل إلى أبي بكر بالخبر والخمس ). هنا قتل للأسرى وسبى للأطفال وسلب للأموال.

5 ـ وفى موقعة دومة الجندل ، رفض زعيمها أكيدر قتال خالد وأشار على قومه بالصلح فرفضوا ، فتركهم بمن معه ، وبعث خالد فرقة من جيشه أسرت أكيدر وقتلته وسلبت ما كان معه . ثم قاتل خالد من بقى بالمدينة وأسر قائدهم الجودى وقتله وقتل الأسرى ، واستولى على الحصن (  فقتل المقاتلة ، وسبى الذرية .. فباعهم، واشترى خالد ابنة الجودي، وكانت موصوفةً.بالجمال ).

6 ـ وفى موقعة الثنى والزميل شرقى الرصافة ، تقول الروايات عن خالد وجنده وهزيمته للعرب الموالين للفرس : ( وجردوا فيهم السيوف، فلم يفلت منهم مخبر، وغنم وسبى وبعث بالخبر والخمس مع النعمان بن عوف إلى أبي بكر، فاشترى علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه، بنت ربيعة بن بجير التغلبي، فاتخذها فولدت له عمر ورقية. ) ( ولما انهزم الهذيل بالمصيخ لحق بعتاب بن فلان، وهو بالبشر، في عسكر ضخم، فبينهم خالد ( أى هاجمهم ليلا ) بغارة شعواء من ثلاثة أوجهٍ قبل أن يصل إليهم خبر ربيعة، فقتل منهم مقتلة عظيمة لم يقتلوا مثلها وقسم الغنائم، وبعث الخمس إلى أبي بكر . )

7 ـ وفى موقعة الولجة بعد موقعة الثنى ( ...انهزمت الأعاجم، وأخذ خالد من بين أيديهم والكمين من خلفهم فقتل منهم خلقاً كثيراً، ومضى الأندرزعز منهزماً فمات عطشاً، وأصاب خالد ابناً لجابر بن بجير وابناً لعبد الأسود من بكر بن وائل، وكانت وقعة الولجة في صفر، وبذل الأمان للفلاحين، فعادوا وصاروا ذمةً، وسبى ذراري المقاتلة ومن أعانهم.). تأمين الفلاحين ليس شفقة بهم ولكن  لأنهم أدوات الانتاج المسخرين للزراعة.
8 ـ موقعة أليس : وفيها صمد العرب والفرس فى مواجهة خالد فنذر خالد إن ظفر بهم فلن يترك منهم احدا وسجعل النهر أحمر بدمائهم ، تقول الرواية : (
فاقتتلوا قتالا شديدا والمشركون يزيدهم كلبا وشدة ما يتوقعون من قدوم بهمن جاذويه فصابروا المسلمين ..وحرب المسلمون عليهم . وقال خالد : اللهم إن لك علي إن منحتنا أكتافهم ألا أستبقي منهم أحدا قدرنا عليه حتى أجري نهرهم بدمائهم .) وانهزموا ، ( فأمر خالد مناديه فنادى في الناس : " الأسر الأسر. لا تقتلوا إلا من امتنع " ، فأقبلت الخيول بهم أفواجا مستأسرين ، يُساقون سوقا ، وقد وكل بهم رجالا يضربون أعناقهم في النهر . ففُعل ذلك بهم يوما وليلة ، وطلبوهم الغد وبعد الغد حتى انتهوا إلى النهرين ومقدار ذلك من كل جوانب أليس فضرب أعناقهم . ) مع ذلك فلم تكف دماؤهم لصبغ النهر باللون الأحمر .! ( وقال له القعقاع  .. : " لو أنك قتلت أهل الأرض لم تجر دماؤهم ..  فأرسل عليها الماء تبر يمينك ." وقد كان صد الماء عن النهر فأعاده ، فجرى دما عبيطا فسمي : " نهر الدم " لذلك الشأن إلى اليوم. وكانت على النهر أرحاء فطحنت بالماء وهو أحمر قوت العسكر ثمانية عشر الفا أو يزيدون ثلاثة أيام .! ) ( وبعث خالد بالخبر مع رجل يدعى جندلا من بني عجل وكان دليلا صارما ، فقدم على أبي بكر بالخبر وبفتح أليس وبقدر الفيء وبعدة السبي وبما حصل من الأخماس وبأهل البلاء من الناس . فلما قدم على أبي بكر فرأى صرامته وثبات خبره قال : ما اسمك ؟ قال : جندل . قال : ويها جندل نفس عصام سودت عصاما  وعودته الكر والإقداما . وأمر له بجارية من ذلك السبي ، فولدت له ... وبلغت قتلاهم من أليس سبعين ألفا . جلهم من أمغيشيا ). أبعد هذا ..وحشية ؟!!

9 ـ وارتعب أهل أمغيشيا مما حدث فى أليس فتركوا مدينتهم هربا من خالد وخوفا من الفتل والسبى . تقول الرواية  ( لما فرغ خالد من وقعة أليس نهض فأتى أمغيشيا وقد أعجلهم عما فيها وقد جلا أهلها وتفرقوا في السواد . ومن يومئذ صارت السكرات في السواد . فأمر خالد بهدم أمغيشيا وكل شيء كان في حيزها . وكانت مصرا كالحيرة . وكان فرات بادقلى ينتهي إليها . وكانت أليس من مسالحها فأصابوا فيها ما لم يصيبوا مثله قط . )، أى كانت الغنائم من مدينة أمغيشيا فوق التصور ، لأن أهلها نجوا بأنفسهم تاركين خلفهم كل ثرواتهم ، فنهبها خالد . وكالعادة بعث بالخُمس لأبى بكر ..

10 ـ موقعة الفراض ، وفيها ( اقتتلوا قتالا شديدا طويلا ) وانتصر خالد . ( وقال خالد للمسلمين :" ألحوا عليهم ولا ترفهوا عنهم " ، فجعل صاحب الخيل يحشر منهم الزمرة برماح أصحابه ، فإذا جمعوهم قتلوهم . فقتل يوم الفراض في المعركة وفي الطلب مائة ألف . وأقام خالد على الفراض بعد الوقعة عشرا ثم أذن في القفل إلى الحيرة لخمس بقين من ذي القعدة . )..قتلوا مائة الف ، جريمتهم أنهم كانوا يدافعون عن أوطانهم ...!!

11 ـ وفى طريق خالد الى الشام لنجدة المسلمين (  أتى حدوداء فقاتله أهلها فظفر بهم، وأتى المصيخ وبه جمع من تغلب فقاتلهم وظفر بهم وسبى وغنم.وكان من السبي الصهباء بنت حبيب بن بجير، وهي أم عمر بن علي ابن أبي طالب. ) . يعنى أن عليا بن أبى طالب الذى لم يشارك فى الغزو ، تمتع بثمرات الغزو ، بعد موت السيدة فاطمة الزهراء فكان ( يتسرى) باجمل بنات السبى ، وأنجب منهن . نعود لخالد : (.. ، وأتى حوارين فقاتل أهلها فهزمهم وقتل وسبى  ) ( ...ثم سار فأتى مرج راهط فأغار على غسان في يوم فصحهم فقتل وسبى، وأرسل سرية إلى كنيسة بالغوطة فقتلوا الرجال وسبوا النساء وساقوا العيال إلى خالد.. ثم سار حتى وصل إلى بصرى فقاتل من بها فظفر بهم وصالحهم، فكانت بصرى أول مدينة فتحت بالشام على يد خالد.. وبعث بالأخماس إلى أبي بكر. ) . تُرى ... كم وصل لأبى بكر من (فتوحات ) خالد وومن سلبه ونهبه لثروات العراق والفرس ؟ لذا كان التعجيل بقتله ودفنه ليلا والاستيلاء على بيت المال.

ثانيا : إنتهاك الأشهر الحُرم فى خلافة أبى بكر وفتوحاته

 فى الفتوحات إنتهك الصحابة كل الأشهر الحرم . لا فارق بين ذى الحجة ومحرم . وروايات الفتوحات كانت تذكر بعض الأحداث بشهورها . ونشير الى بعض المعارك التى وقعت فى خلافة أبى بكر وقت  الأشهر الحرم ( ذو الحجة / محرم / صفر / ربيع الأول ) بالذات ، وفى النّص المنقول نضع الشهر الحرام بين قوسين.

 1 ـ  يروى الطبرى أن أبا بكر بعد إنصرافه من مكة أرسل الى خالد بن الوليد بعد هزيمة المرتدين يأمره بمتابعة الزحف لفتح الشام (.. ففيها وجه أبو بكر رحمه الله الجيوش إلى الشأم بعد منصرفه من ( مكة ) إلى المدينة .) (: لما قفل أبو بكر من الحج سنة اثنتي عشرة جهز الجيوش إلى الشأم فبعث عمرو بن العاص قبل فلسطين فأخذ طريق المعرقة على أيلة وبعث يزيد بن أبي سفيان وأبا عبيدة بن الجراح وشرحبيل بن حسنة وهو أحد الغوث وأمرهم أن يسلكوا التبوكية على البلقاء من علياء الشأم ). أى حين إنصرف من مكة ( البلد الحرام ) كان أبو بكر فى شهر حرام هو ذو الحجة ، وفيه أصدر قراره بانتهاك هذا الشهر الحرام بالعدوان على العراق والشام ولم يكن سكان هذه البلاد أو الفرس والروم  قد بدأوه بحرب . يقول الطبرى عن حملة خالد : ( .. أن أبا بكر رحمه الله وجه خالد بن الوليد إلى أرض الكوفة وفيها المثنى بن حارثة الشيباني فسار في (المحرم) سنة اثنتي عشرة فجعل طريقه البصرة وفيها قطبة بن قتادة السدوسي ) أى سار خالد يغزو باسم ابى بكر فى شهر حرام هو شهر المحرم .

2 ـ واشتعلت الحرب التى أعلنها ابو بكر من جانب واحد ، وجرت أنهار الدماء بداية من الشهر المحرم ( محرم) عام 12 هجرية ، وما تلاه من أشهر حرم وغير حرم . وفى المناجزات الحربية الأولية فى الشام بين الروم والعرب قبل مجىء خالد وموقعة اليرموك يروى الطبرى : (وانتقل المسلمون عن عسكرهم الذي اجتمعوا به فنزل عليهم بحذائهم على طريقهم وليس للروم طريق إلا عليهم فقال عمرو: أيها الناس أبشروا حصرت والله الروم وقلما جاء محصور بخير. فأقاموا بإزائهم وعلى طريقهم ومخرجهم (صفر) من سنة ثلاث عشرة وشهري ( ربيع) ، لا يقدرون من الروم على شيء ولا يخلصون إليهم اللهب وهو الواقوصة من وراهم والخندق من أمامهم ولا يخرجون خرجة إلا أديل المسلمون منهم حتى إذا اسلخوا شهر (ربيع الأول ( وقد استمدوا أبا بكر وأعلموه الشأن في صفر فكتب إلى خالد ليلحق بهم وأمره أن يخلف على العراق المثنى فوافاهم في ( ربيع). ). وضعنا الأشهر الحرم بين قوسين .

3 ـ  وعن موقعة أمغيشيا يقول الطبرى إنها وقعت فى شهر صفر : ( في (صفر)، وأفاءها الله عز و جل بغير خيل . ) أى هرب أهلها منها رعبا من سيوف الصحابة . ترك أهل أمغيشيا بلدهم لينجو بحياتهم ، وكانت بلدا عظيمة وعاصمة للاقليم فنهبها خالد بن الوليد ثم دمّرها تماما حتى لم يعد لها وجود . حدث هذا فى شهر صفر الحرام .!! يقول الطبرى : ( لما فرغ خالد من وقعة أليس نهض فأتى أمغيشيا ، وقد أعجلهم عما فيها ،  وقد جلا أهلها وتفرقوا في السواد ( أى ريف العراق ) ، ومن يومئذ صارت السكرات في السواد ، فأمر خالد بهدم أمغيشيا وكل شيء كان في حيزها . وكانت مصرا كالحيرة وكان فرات بادقلى ينتهي إليها . وكانت أليس من مسالحها . فأصابوا فيها ما لم يصيبوا مثله قط ...لم يصب المسلمون فيما بين ذات السلاسل وأمغيشيا مثل شيء أصابوه في أمغيشيا ، بلغ سهم الفارس ألفا وخمسمائة سوى النفل الذي نفله أهل البلاء . وقالوا جميعا : قال أبو بكر رحمه الله حين بلغه ذلك : يا معشر قريش ـ يخبرهم بالذي أتاه ـ عدا أسدكم على الأسد فغلبه على خراذيله، أعجزت النساء أن ينسلن مثل خالد. ! ) لم يفعل أهل أمغيشيا ضرا بأى بكر أو الصحابة ، ولكن أبابكر وصحابته سرعان ما ابتدعوا دينا يجعل الجهاد فى قتل المسالمين و سلب اموالهم وتدمير بلادهم ، ثم يفخر أبو بكر بما ارتكبه خالد من جرائم حرب ، بعد أن وصلت اليه بقية الغنائم .والطبرى المؤرخ السنى الحنبلى يجعل هذه الجريمة بأهل أمغيشيا الضحايا المساكين وبلدهم المنكوب عملا يرضى عنه رب العزة بل ينسبه لله جل وعلا ويجعله فيئا أفاء الله جل وعلا به على أولئك الغزاة المعتدين ، فيقول : ( في صفر وأفاءها الله عز و جل بغير خيل . ) .

والذى كان يسارع بالخنوع والخضوع ويبادر بدفع الجزية كان يحقن دمه ودم قومه فى دين خالد بن الوليد وأبى بكر الصديق . يروى الطبرى : ( أن أبا بكر رضي اللّه عنه كتب إلى خالد يأمره أن يسير إلى العراق ، فمضى خالد يريد العراق ، حتى نزل بقُريات من السواد يقال لها‏:‏ بانِقْيا وبارُوسْما وألَيْس ، فصالحه أهلها ، وكان الذي صالحه عليها ابن صَلوبا ، وذلك في سنة اثنتي عشرة ، فقبل منهم خالد الجزية وكتب لهم كتابًا فيه‏:‏ ‏"‏ بسم اللّه الرحمن الرحيم من خالد بن الوليد لابن صلوبا السَّواديّ ومنزله بشاطىء الفرات إنك آمن بأمان اللّه إذ حقن دمه بإعطاء الجزية وقد أعطيت عن نفسك وعن أهلك خَرْجك وجزيرتك ومن كان في قريتك ألف درهم فقبلتها منك ورضي من معي من المسلمين بها منك ، ولك ذمة اللّه وذمة محمد صلى الله عليه وسلم وذمة المسلمين على ذلك‏.‏  ) .  صاحبنا دفع الجزية فنجا هو وقومه . إمّا إن أراد أن يدافع عن نفسه وشرفه وبيته وماله وممتلكاته ووطنه فحكمه فى دين أبى بكر وخالد القتل له ولأهله السبى والاسترقاق ولممتلكاته السلب والنهب . هذا إثم فظيع ، ولكنّ الأفظع أن يرتكبوا هذا ياسم الاسلام . وهو منهم برىء . فقبل سنوات أمرهم الله جل وعلا باتباع طريق السلام فقال:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) وقد حذّرهم رب العزّة مقدما فقال ( فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمْ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)(البقرة )، ولكنهم ارتكبوا ذلك واتبعوا خطوات الشيطان يتمسحون باسم رسول الاسلام الذى بعثه الله رحمة للعالمين (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)(الأنبياء)،فجعلوا الاسلام قتلا للعالمين .!!

4 ـ يقول الطبرى عن معركة أخرى فى شهر صفر الحرام : (وكانت وقعة المذار في (صفر) سنة اثنتي عشرة‏.‏)، وفيها هُزم الفرس : (وقتل من فارسثلاثون ألفًا سوى من غرق وأعطى خالد الأسلاب من سلبها وقسم الفيء وبعث ببقية الأخماس مع سعيد بن النعمان ) ، أى بعثها لأبى بكر فى المدينة . ولنتذكر أن الفىء هذا يشمل السبابا من النساء والأطفال ، أى ساروا بهم من فارس الى المدينة ، بعد فصل الامهات عن اولادهن وبناتهن والتفريق بين العائلات وقتل الرجال . ثم ينتهى المطاف بمن يبقى حيا ليكون رقيقا ومولى فى المدينة ، يقال له من أبناء الموالى ، والذين أصبحوا جيلا كاملا فيما بعد جاء من ذرية أولئك السبابا الأطفال والبنات . ومات أبو بكر أثناء فتوح الشام ، وقبيل معركة اليرموك ، التى حدثت فى شهر (ربيع ) الحرام سنة 13 .  

ثالثا : لماذا إنتصر العرب ؟

1 ـ  تقول الروايات : ( وقام خالد في الناس خطيبا يرغبهم في بلاد العجم ويزهدهم في بلاد العرب ، وقال : ألا ترون إلى الطعام كرفغ التراب ؟!. وبالله لو لم يلزمنا الجهاد في الله والدعاء إلى الله عز وجل ولم يكن إلا المعاش لكان الرأي أن نقارع على هذا الريف حتى نكون أولى به ونولي الجوع والإقلال من تولاه ممن اثاقل عما أنتم عليه . وسار خالد في الفلاحين بسيرته ، فلم يقتلهم وسبى دراري المقاتلة ومن أعانهم ودعا أهل الأرض إلى الجزاء ( الجزية ) والذمة فتراجعوا. ) .

نحن هنا أمام قوم جوعى للثراء والنساء ، يريدون السلب والنهب وتسخير الفلاحين ، ويجعلون مبررا دينيا للغزو والسلب والنهب والسبى ، فيغلّفون شهواتهم باسم الجهاد فى سبيل الله .! وهو جهاد فى سبيل الشيطان ، استحلّ الأشهر الحُرُم ، واستحل قتل التفس التى حرّم الله جل وعلا قتلها إلا بالحقّ ، أى بالقصاص فقط .

أخيرا

1 ـ قاتل أبو بكر قوما مسالمين له ، لم يبدأوه بعدوان ، ولم يبعثوا بجيوشهم الى المدينة ، بل هو الذى أرسل جيوشه من المدينة لقتالهم ، وأسرف خالد فى قتل الأسرى من المقاتلين الأبطال الذين يدافعون عن أنفسهم وأهاليهم وأرضهم واموالهم ونسائهم . وسبى خالد ذراريهم ونساءهم ، وفرّقهم على جنده ، وبعث بخُمس السلب والسبى الى أبى بكر فى المدينة ، واستمتع الصحابة فى خريف العمر وعلى رأسهم ( على بن أبى طالب ) بهؤلاء النساء . وانجبوا منهن الذرية .

2 ـ  إن الله جل وعلا كما أوجب عدم الظلم فى الأشهر الحُرُم ، فإنه جل وعلا كذلك جعل من أفظع الجرائم قتل إنسان مسالم مؤمن مأمون الجانب ، وأى إنسان مُسالم مأمون جانبه لا يقتل الناس فإنّ قتله من أفظع الجرائم فى شرع الله جل وعلا .

 3 ـ وفى بحث ( الاسلام دين السلام ) قلنا : (  ومع وضوح الصلة بين المفهوم الاسلامي والايمان وتشريعات القتال ،الا ان تشريعات القرآن جاءت بتأكيدات اخرى حتى تقطع الطريق علي كل من يتلاعب بتشريعات القرآن ومفاهيمه ،ونعطي لذلك مثالا ساطعا في سورة النساء وهي تتحدث عن حرمة قتل انسان مسالم مؤمن مأمون الجانب ،تقول الاية 92 من سورة النساء (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً ) أي لايمكن ان يقتل مؤمن مسالم مؤمنا مسالما الا علي سبيل الخطأ، او بمعني اخر لا يمكن ان يتعمد المؤمن المسالم قتل المؤمن المسالم الاخر، ثم تتحدث الاية عن الدية المفروضة واحكامها .

وتتحدث الاية 93 عن عقوبة قتل المؤمن المسالم (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً (93) ) ، فالذي يقتل مؤمنا مسالما جزاؤه الخلود في جهنم مع العذاب العظيم ولعنة الله وغضبه ،وهي عقوبات فريدة قلما تجتمع فوق رأس احد من الناس يوم القيامة . وتتحدث الاية 94 عن ذلك المؤمن المسالم الذي تحرص تشريعات القرآن علي حقه في الحياة: يقول تعالي (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا  ) ، أي في ساعة المعركة علي المؤمنين ان يتبينوا حتي لا يقعوا في جريمة قتل انسان مسالم شاء سوء حظه ان يوجد في الميدان. ويعطى القرآن مسوغا للنجاة لكل مقاتل في الجهة المعادية فيكفي ان يقول (السلام عليكم ) ، فاذا القاها حقن دمه واصبح مؤمنا مسالما  حتي في ذلك الوقت العصيب ،أي ان المسلم المسالم المؤمن هو من يقول (السلام) حتي في ساعة الحرب واذاتعرض للقتل فان قاتله يستحق الخلود في النار والعذاب العظيم ولعنة الله وغضبه .

واذا كان محاربا يقتل المسلمين في الحرب ثم بدا له ان يراجع نفسه فما عليه الا ان يعلن الاستجارة ،وحينئذ تؤمن حياته او يعطي الامان، ويسمعونه القرآن حتي يكون سماعه للقرآن حجة عليه يوم القيامة ،ثم علي المسلمين ايصاله الي بيته في امن وسلام، وذلك معني قوله تعالي:( وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (6)التوبة 6). انتهى النقل .

4 ـ لذا نؤكّد أن الفتوحات التى قام بها أبو بكر وعمر وعثمان ومن جاء بعدهم هى أكبر ردّة  عن الاسلام . قالوا للآخر (لَسْتَ مُؤْمِناً ) وهجموا عليه يقتلون ويسبون وينهبون يبتغون عرض الحياة الدنيا ، مع إن الله جل وعلا حذرهم قبلها بعدة سنوات فقال : ( وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا  ) .!!

الباب الثالث  : مكر قريش وصحابة الفتوحات 

الفصل السادس   :  أبو سفيان فى خلافة ( عُمر)    

 أولا : تولى عمر الخلافة

 1 ـ بمجرد موت أبى بكر ودفنه ليلا تولى عمر الخلافة فى الصباح التالى مباشرة. تقول الرواية : ( توفي أبو بكر الصديق مساء ليلة الثلاثاء لثمان بقين من جمادىالآخرة سنة ثلاث عشرة ، فاستقبل عمر بخلافته يوم الثلاثاء صبيحة موت أبي بكر رحمهالله ) . وهذا يشير الى مؤامرة رتبت لكل شىء ، وهناك رواية تذكر أن أبا بكر وقت إحتضاره أملى على عثمان كتابا باستخلاف ( عمر ) ، فى حضور ( عمر )، وأن أبا بكر وهو يملى الكتاب فقد الوعى قبل ان يذكر إسم ( عمر ) خليفة له ، فسارع عثمان بكتابة اسم عمر ، فلما أفاق أبو بكر رضى بما كتبه عثمان . تقول الرواية ( ..  لما أملى أبو بكر صدر هذا الكتاب بقي ذكر عمر، فذُهب به قبل أن يسمي أحدا . فكتب عثمان : " إني قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب ". ثم أفاق أبو بكر ، فقال : اقرأ علي ما كتبت ، فقرأ عليه ذكر عمر،فكبّر أبو بكر ، وقال : أراك خفت إن أقبلت نفسي في غشيتي تلك يختلف الناس ، فجزاك الله عن الإسلام وأهله خيرا ، والله إن كنت لها لأهلا . " ثم أمره فخرج بالكتاب مختوما ومعه عمر بن الخطاب وأسيد بن سعيد القرظي فقال عثمان : للناس أتبايعون لمن في هذا الكتاب ؟ فقالوا نعم .).ولقد كان عثمان يلازم أبا بكر فى مرضه المفاجىء ، وهنا نرى ( عمر ) حاضرا ، وقت أن أملى أبو بكر كتاب استخلافه ، ، ومفهوم أنه كان إجتماعا خاصا حول أبى بكر وهو يحتضر لم يحضره سواهما ، ثم خرجا للناس بكتاب فيه استخلاف عمر . وهذا يشير الى وجود مؤامرة  حضرها عمر وادارها من البداية الى النهاية.

2 ـ وخارج تلك الغرفة المغلقة شاعت أنباء استخلاف عمر لتصل للناس فى المدينة وفى الجزيرة العربية وللجيوش التى تقاتل وقتها فى سوريا والعراق . ثم صيغت مختلف الروايات بناء على ما شاع وقتها . ومنها أن أبا بكر قد عهد بالخلافة الى ( عمر ) بعد إن إستشار (عبد الرحمن بن عوف ) وأنه أملى العهد على  عثمان ، فكتبه عثمان . تقول الرواية  : ( ذكر استخلاف عمر رحمه الله:  ..أن أبا بكر الصديق لما استعزبه دعا عبد الرحمن بن عوف فقال : أخبرني عن عمر بن الخطاب . فقال عبد الرحمن : ما تسألني عن أمر إلا وأنت أعلم به مني . فقال أبو بكر:  وإن . فقال عبد الرحمن : هو والله أفضل من رأيك فيه . ثم دعا عثمان بن عفان فقال : أخبرني عن عمر. فقال : أنت أخبرنا به . فقال : على ذلك يا أبا عبد الله . فقال عثمان : اللهم علمي به أن سريرته خير من علانيته وأنه ليس فينا مثله . فقال أبو بكر : يرحمك الله ، والله لو تركته ما عدوتك . وشاور معهما سعيد بن زيد أبا الأعور وأسيد بن الحضير وغيرهما من المهاجرين والأنصار.  فقال : أسيد اللهم أعلمه الخيرة بعدك يرضى للرضى ويسخط للسخط الذي يسر خير من الذي يعلن ولم يل هذا الأمر أحد أقوى عليه منه . وسمع بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بدخول عبد الرحمن وعثمان على أبي بكر وخلوتهما به ، فدخلوا على أبي بكر فقال له قائل منهم : ما أنت قائل لربك إذا سألك عن استخلافك عمر لعمر علينا وقد ترى غلظته؟  فقال أبو بكر : أجلسوني ، أبالله تخوفوني ؟ خاب من تزود من أمركم بظلم . أقول اللهم استخلفت عليهم خير أهلك ، أبلغ عني ما قلت لك من وراءك . ثم اضطجع ودعا عثمان بن عفان فقال : اكتب : " بسم الله الرحمن الرحيم . هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة في آخر عهده بالدنيا خارجا منها وعند أول عهده بالآخرة داخلا فيها حيث يؤمن الكافر ويوقن الفاجر ويصدق الكاذب إني استخلفت عليكم بعدي عمر بن الخطاب فاسمعوا له وأطيعوا . وإني لم آل الله ورسوله ودينه ونفسي وإياكم خيرا ، فإن عدل فذلك ظني به وعلمي فيه ، وإن بدل فلكل امرئ ما اكتسب من الإثم . والخير أردت . ولا أعلم الغيب.وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون . والسلام عليكم ورحمة الله." ثم أمر بالكتاب فختمه.) . ولا يمنع من قبول تلك الرواية تأسيسا على أن أبا بكر بعد أن تم تسميمه دون أن يدرى وشعر بالموت سارع باستخلاف عمر ، وهو المرشح الأقرب اليه يومئذ .

وهناك رواية تحكى إعتراض( طلحة بن عبيد الله) على ترشيح أبى بكر لعمر ، وتصميم أبى بكر على ترشيح عمر . تقول الرواية ( .. ودخل طلحة بن عبيد الله على أبي بكر فقال: استخلفت على الناس عمر وقد رأيت ما يلقى الناس منه وأنت معه؟ ، وكيف به إذا خلا بهم وأنت لاقٍ ربك فسائلك عن رعيتك! فقال أبو بكر: أجلسوني، فأجلسوه، فقال: أبالله تخوفني! إذا لقيت ربي فسألني قلت: استخلفت على أهلك خير أهلك.).

 ويعضد هذا روايتان عن السيدة عائشة باعتراض ( على ) و ( طلحة ) على ترشيح ( عمر ) : ( قال أخبرنا سعيد بن عامر قال أخبرنا صالح بن رستم عن بن أبي مليكةعن عائشة قالت : لما ثقل أبي دخل عليه فلان وفلان فقالوا : يا خليفة رسول الله ماذاتقول لربك إذا قدمت عليه غدا وقد استخلفت علينا بن الخطاب ؟ فقال : أجلسوني . أباللهترهبوني؟ أقول : استخلفت عليهم خيرهم. ) ، ( قال أخبرنا الضحاك ابن مخلد أبو عاصم النبيل قالأخبرنا عبيد الله بن أبي زياد عن يوسف بن ماهك عن عائشة قالت : لما حضرت أبا بكرالوفاة استخلف عمر، فدخل عليه (علي) و( طلحة ) فقالا : من استخلفت ؟ قال :عمر.  قالا : فماذا أنتقائل لربك ؟ قال : أبالله تفرقاني ؟ لأنا أعلم بالله وبعمر منكما . أقول استخلفت عليهم خيرأهلك .) ملاحظة :هل لله جل وعلا أهل ؟ سبحانه ما اتخذ صاحبة ولا ولدا ، سبحانه الأحد الصمد الذى لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ). ومهما يكن من تداخل الروايات وتناقضها فإن المفهوم أن أبا بكر مات سريعا وتم دفنه بسرعة ، وبسرعة فائقة وفى الصباح التالى كان ( عمر ) خليفة ، وصيغت من أجله هذه الروايات ، والله جل وعلا هو الأعلم بصحتها .

3 ـ ونعيد التأكيد على أننا بصدد روايات تاريخية إن صحّت بمنهج البحث العلمى التاريخى فهى حقائق تاريخية ، والحقيقة التاريخية ليست مطلقة ، بل نسبية ، وليست حقائق إيمانية إعتقادية كحقائق القرآن ، ولكنها أقوال بشر ، يصدقون ويكذبون. فأبو بكر وعمر وعثمان وعلى والزبير وطلحة وسعد وعائشة وخالد وعمرو وابو هريرة ..الخ ..كلهم شخصيات تاريخية وليسوا مذكورين فى القرآن ، والعلم بهم جاء من تاريخ بشرى مكتوب . ولو أنكرت وجودهم فلا يُنقص ذلك من إيمانك شيئا . ولو انكرت كل تاريخ المسلمين فلن تكون مساءلا عن ذلك يوم القيامة . ولكن إذا أنكرته جملة وتفصيلا فلا مجال لك بين العقلاء . لك حق الاعتراض بمنهج البحث العلمى التاريخى ، ولكن لا بد ان يكون الرأى مدعما بأدلة تعبر عن تخصص فى البحث التاريخى .أما إذا إعترضت لأنك تقرأ كلاما جديدا لم تعرفه من قبل ، أولأنك عشت على تقديس أبى بكر وعمر والصحابة وترفض بحث تاريخهم فإن وجودك معنا مضيعة لوقتك ووقتنا ، فنحن نخاطب العقلاء المثقفين الراغبين فى العلم . 

ثانيا : محاسبة عمر للولاة بالمصادرة والضرب والعزل

1 ـ إشتهر عمر فى خلافته بالعدل بين العرب المسلمين ، مع ظلمه الفادح للشعوب الى غزاها واحتلّها وسلب خيرها واضطهد ابناءها . والتفاصيل فى بحثنا ( المسكوت عنه من تاريخ عمر ) . ولكنّ عمر  حابى معاوية بن أبى سفيان ، بما يؤكّد أنه كان عميلا لآبى سفيان من قبل ، وأنه ظل مخلصا لعمالته لأبى سفيان حتى وهو خليفة حازم شديد البأس يطارد الناس بالدرّة ويرهبه الناس جميعا. وتتجلى هذه المحاباة  فى معاملته للولاة الذين تعرضوا  للعزل ، أو العزل مع مصادرة الأموال ، أو العزل ومصادرة الأموال والضرب ...ما عدا معاوية . بل على العكس تمت ترقية معاوية ، وحقق عمر أمل أبى سفيان فى أن يصير معاوية هو المسيطر على الشام كله ، ويترسّخ فيه نفوذه الى أن أسّس فيما بعد أول ملكية وراثية فى تاريخ المسلمين مقرها الشام وعاصمتها دمشق .

2 ـ سعد بن أبى وقاص مع كل منزلته ومع انه فاتح العراق وقائد النصر فى القادسية عيّنه عمر واليا على العراق ثم عزله وصادر نصف امواله . وأشهر ولاة العراق وهو أبو موسى الأشعرى عزله عمر وصادر نصف أمواله .  وتقول الرواية أن عمر (  دعا الحارث بن كعب بن وهب فقال‏:‏ ما قلاص وأعبُد بعتها بمائتي دينار قال‏:‏ خرجت بنفقة معي فتجرت فيها‏.‏ فقال‏:‏ أما والله ما بعثناكم لتتجروا في أموال المسلمين‏!‏ أدها‏.‏) .!

3 ـ وهناك من تعرض لمصادرة نصف امواله دون عزل ، وأشهرهم عمرو بن العاص والى مصر . بعث اليه عمر بمحمد بن مسلمة الذى كان يمثّل ( جهاز المحاسبات فى عصر عمر ) ليحاسب عمرا على أمواله وليصادر نصفها . وغضب عمرو ، وتكلم بالسوء فى حق عمر بن الخطاب وأبيه الخطّاب ، ثم خاف عمرو من عاقبة أن يوصّل محمد بن مسلمة هذا الكلام لعمر فترجى محمدا بن مسلمة ألّا يبلغ عمر بما قاله فى حق أبيه . تقول الرواية : ( وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى عمرو بن العاص وكان عامله على مصر‏:‏ " من عبد الله عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص . سلام عليك . أما بعد . فإنه بلغني أنك فشت لك فاشية من خيل وإبل وغنم وبقر وعبيد‏.‏ وعهدي بك قبل ذلك أن لا مال لك . فاكتب إلي من أين أصل هذا المال ولا تكتمه‏" .‏ فكتب إليه‏:‏ " من عمرو بن العاص إلى عبد الله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين‏.‏ سلام عليك‏.‏ فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد‏.‏ فإنه أتاني كتاب أمير المؤمنين يذكر فيه ما فشا لي وأنه يعرفني قبل ذلك ولا مال لي‏.‏وإني اعلم أمير المؤمنين أني ببلد السعر به رخيص وأني من الحرفة والزراعة ما يعالجه أهله ، وليس في رزق أمير المؤمنين سعة‏.‏ وبالله لو رأيت خيانتك حلالاً ما خنتك ، فأقصر أيها الرجل فإن لنا أحساباً هي خير من العمل لك إن رجعنا إليها عشنا بها‏.‏ ولعمري إن عندك من لا يذم معيشته ولا تذم له‏.‏ وذكرت أن عندك من المهاجرين الأولين من هو خير مني فأنى كان ذلك ولم نفتح قفلك ولم نشركك في عملك‏؟" .‏ فكتب إليه عمر‏:‏ " أما بعد . فإني ـ والله ـ ما أنا من أساطيرك التي تسطر ونسقك الكلام في غير مرجع‏!‏ وما يغني عنك أن تزكي نفسك . وقد بعثت إليك محمد بن مسلمة فشاطره مالك‏.‏ فإنكم أيها الرهط الأمراء جلستم على عيون المال ثم لم يعوزكم عذر ، تجمعون لأبنائكم وتمهدون لأنفسكم‏.‏ إنما تجمعون العار وتورثون النار .والسلام‏ ".‏ فلما قدم عليه محمد بن مسلمة صنع له عمرو طعاماً كثيراً‏.‏ فأبى محمد بن مسلمة أن يأكل منه شيئاً‏.‏ فقال له عمرو‏:‏ " أتحرمون طعامنا ؟ " فقال‏:‏ " لو قدمت إلي طعام الضيف أكلته ولكنك قدمت إلى طعاماً هو تقدمة شر‏.‏ والله لا أشرب عندك الماء.  فاكتب لي كل شيء هو لك ولا تكتمه‏.". ‏ فشاطره ماله بأجمعه حتى بقيت نعلاه‏.‏ فأخذ إحداهما وترك الأخرى‏.‏ فغضب عمرو بن العاص فقال‏:‏ " يا محمد بن مسلمة،  قبح الله زماناً عمرو بن العاص لعمر بن الخطاب فيه عامل‏.‏ والله إني لأعرف الخطاب يحمل فوق رأسه حزمة من الحطب وعلى ابنه مثلها وما منهما إلا في نمرة لا تبلغ رسغيه ، والله ما كان العاص بن وائل يرضى أن يلبس الديباج مزوراً بالذهب والفضة"‏.‏ قال له محمد ابن مسلمة‏:‏ " اسكت . والله عمر خير منك ، وأما أبوك وأبوه ففي النار‏.‏ والله لولا الزمان الذي سبقك فيه لألفيت مقتعد شاة يسرك غزرها ويسوءك بكؤها‏.‏ " فقال عمرو‏:‏ " هي عندك بأمانة الله "‏.‏ فلم يخبر بها عمر‏.‏ )

4 ـ ونتوقف مع أبى هريرة ، الحرامى وراوى الحديث المقدّس لدى السنيين جميعا . فهو أشهر من تعرض للعزل والمصادرة والسبُّ والضرب من عمر .

تقول الرواية عن ( عمر ): ( : ثم دعا أبا هريرة فقال له‏:‏ هل علمت من حين أني استعملتك على البحرين وأنت بلا نعلين ثم بلغني أنك ابتعت أفراساً بألف دينار وستمائة دينار ؟ قال‏:‏ كانت لنا أفراس تناتجت وعطايا تلاحقت‏.‏ قال‏:‏ قد حسبت لك رزقك ومؤونتك وهذا فضل فأده‏.‏ قال‏:‏ ليس لك ذلك‏.‏ قال بلى والله وأوجع ظهرك‏.‏ ثم قام إليه بالدرة فضربه حتى أدماه ثم قال‏:‏ إيت بها‏.‏ قال‏:‏ احتسبتها عند الله‏.‏ قال‏:‏ ذلك لو أخذتها من حلال وأديتها طائعاً‏.‏ أجئت من أقصى حجر البحرين يجبي الناس لك لا لله ولا للمسلمين‏!‏ ما رجعت بك أميمة إلا لرعية الحمر‏.‏ وأميمة أم أبي هريرة‏.‏) نلاحظ هنا أن عمر يقول لأبى هريرة (استعملتك على البحرين وأنت بلا نعلين )، وأن أبا هريرة رفض إرجاع المال ، وأن عمر قام فضربه حتى أسال دمه ، بل وسبّه قائلا عن أمه : ( ما رجعت بك أميمة إلا لرعية الحمر.).

ويعترف أبو هريرة بما حدث ، ولكنه كعادته يكذب فى التفاصيل ليبرىء نفسه ، وهذا طبعا بعد موت ( عمر ) . يروى أبو هريرة عن نفسه كما جاء فى الطبقات الكبرى لابن سعد : (  لما عزلني عمر عن البحرين قال لي‏:‏ يا عدو الله وعدو كتابه سرقت مال الله؟ قال‏:‏ فقلت‏:‏ ما أنا عدو الله ولا عدو كتابه ولكني عدو من عاداهما،  ما سرقت مال الله‏.‏ قال‏:‏ فمن أين لك عشرة آلاف قلت‏:‏ خيل تناتجت وعطايا تلاحقت وسهام تتابعت‏.‏ قال‏:‏ فقبضها مني‏.‏)      

أمام السنيين السلفيين ابن كثير ، عاش في العصر المملوكي وقد توفي سنة 774 ، احتفل بأبي هريرة في مؤلفاته ونثر فيها أحاديث أبي هريرة ، وخصوصا في تفسيره المشهور " تفسير ابن كثير". إلّا إنّ ابن كثير فى تاريخه ( " البداية والنهاية " ) ذكر قصة حياة أبي هريرة في الجزء الثامن في وفيات سنة 59 هـ  . ونأتي ببعض ما ذكره ابن كثير ونضع عليها بعض الملاحظات:

·       يعترف ابن كثير بأن أبا هريرة أسلم سنة فتح خيبر أي سنة 7هـ . وهنا نتساءل لماذا رووا أحاديث لأبي هريرة يتحدث فيها عن أمور وقعت في مكة مثل الإسراء وحديث النبي مع أبي طالب يعرض عليه الإسلام قبل موته ؟ ولماذا رووا أحاديث لأبي هريرة وقعت قبل أن يأتي للمدينة ويعلن إسلامه ومنها ذلك الحديث الذي يمدح فيه عثمان ويقول فيه أبي هريرة " دخلت علي رقية بنت رسول الله امرأة عثمان وبيدها مشط فقالت لي : خرج رسول الله من عندي آنفا وقال لي عن عثمان: أكرميه فإنه من أشبه أصحابي خلقا وقد قال " الحاكم" في كتابه " المستدرك" أن ذلك الحديث واهي المتن فإن رقية ماتت سنة (3) من الهجرة في غزوة بدر وأبا هريرة أسلم بعد فتح خيبر فكيف يكون موجودا في المدينة حينئذ. 

·       ويعترف ابن كثير أن الرسول عليه السلام " بعث أبا هريرة إلي البحرين مع العلاء بن الحضرمي وكان ذلك في شهر ذي القعدة سنة 8 هـ ، وظل أبوهريرة في البحرين حتى توفي النبي ." ، أي أن أبا هريرة صحب النبي في المدينة سنة واحدة وتسعة أشهر فقط . ونتساءل هنا: هل يتفق ذلك مع آلاف الأحاديث التي رواها عن النبي ؟ .

·       وقد كان الصحابة يستنكرون كثرة رواياته . ويروي البخاري وابن كثير دفاع أبي هريرة عن نفسه وقوله " إنكم تزعمون أن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله .! والله الموعد .!! أني كنت امرأ مسكينا اصحب رسول الله علي ملء بطني وكان المهاجرون يشغلهم الصفق ـ أي التجارة ـ في الأسواق وكان الأنصار يشغلهم القيام علي أموالهم " ومعني كلامه أن المهاجرين والأنصار انفضوا عن النبي وتركوه وحده مع أبي هريرة .. فهل  هذا معقول ؟ وحتى لو كان ذلك معقولا فهل تكفي صحبته للنبي مدة (21) شهرا ليروي عنه آلاف الأحاديث ؟.

·       ويعترف ابن كثير أن السيدة عائشة أنكرت روايات أبي هريرة واستنكرت كثرة مروياته عن النبي فقال لها : أني والله ما كانت تشغلني عنه المكحلة والخضاب ولكن أري ذلك شغلك !!.  هنا نتساءل : أيهما كان أكثر ملازمة للنبي أم المؤمنين عائشة أم أبوهريرة ؟ وأيهما كان علي الحق ؟ وهل يجوز أن يخاطبها هكذا ؟.   

·       ويعترف ابن كثير بان الخليفة عمر اتهم أبا هريرة بالسرقة وعزله عن البحرين وضربه وصادر أمواله . وقد ذكر ابن كثير دفاع أبي هريرة عن نفسه ولم نسمع وجهة نظر الفاروق عمر.  ونتساءل : أيهما كان علي الحق عمر أم أبو هريرة ؟ وإذا اعترف أبوهريرة بنفسه بان عمر اتهمه بالسرقة وضربه فهل يصح وصف أبي هريرة بالعدالة ونأخذ عنه الحديث ؟.

·       ويعترف ابن كثير بان عمر هدد أبا هريرة وقال له: " لتتركن الحديث عن رسول الله أو ألحقنك بأرض دوس "أي أرض قبيلته ،  وأنه قال لكعب الأحبار اليهودي:" لتتركن الحديث عن الأول " أبي هريرة " أو ألحقنك بأرض القردة " أي أرض اليهود .!. ويذكر أن عمر قال : " أقلوا الرواية عن رسول الله إلا فيما يعمل به " أي السنة العملية . ويذكر ابن كثير قول أبي هريرة أنه لم يستطع أن يروي أحاديث عن النبي في خلافة عمر خوفا من أن يضربه عمر ، ويذكر ابن كثير قول عمر لأبي موسي الأشعري حين بعثه للعراق إنك تأتي أقواما لهم في مساجدهم دوي بالقرآن كدوى النحل فدعهم علي ماهم فيه ولا تشغلهم بالأحاديث .. ونتساءل أيهما كان علي الحق عمر أو أبوهريرة ؟.

·        ويعترف ابن كثير بأن أبا هريرة كان يدلس في الأحاديث وأنه كان ينسب ما يسمعه من كعب الأحبار للنبي وإذا عرفنا أن كعب الأحبار هو مصدر الإسرائيليات  في تراث المسلمين فمن الذي كان بوقا لكعب الأحبار ؟.

·       أخيرا ..يعترف ابن كثير بأن معاوية في خلافته كان يعطى أبا هريرة ،وأنه ولّاه علي المدينة وأنه عندما مات أبو هريرة أعطي معاوية ذريته أموالا لأن أبا هريرة كان من حزب عثمان والأمويين ، أي أنه بالتالي كان ضد "علي" وحزبه . ومعروف أن أبا هريرة شارك في معركة صفين مع معاوية ضد علي .أى كان أبو هريرة بوقا للأمويين يصنع لهم الأحاديث ، وهذا ما توسعنا فيه فى بحث ( حرية الرأى بين الاسلام والمسلمين ) .

ومعذرة لأننا دخلنا فى تفصيلات عن أبى هريرة ، ولكنها ليست بعيدة عن الموضوع لأن أبا هريرة هو أكثر من خدم الأمويين ، فقد أعتمد معاوية على ( عمر ) ثم على ( عثمان ) ثم على ( أبى هريرة ) .!

 

ثالثا : محاباة عمر ( العادل ) لمعاوية   

1 ـ وتتجلى هذه المحاباة بأن معاوية هو الوحيد من ولاة عمر الذي لم يتعرض للمصادرة أو الاهانة أو العزل . بل أكرمه عمر بأن جعله والى الشام كله . فى البداية قسّم عمر الشام بين إبنى أبى سفيان ، فكان الابن الأكبر يزيد واليا لدمشق ، وكان معاوية واليا على الأردن . ومات يزيد بن أبى سفيان فى طاعون عمواس عام 19 ، فعيّن معاوية أخاه معاوية محله فى دمشق ،أى جمع له الشام كله ، وبعث عمر بالخبر لأبى سفيان ، تقول الرواية :( ولما انتهى إلى عمر مصاب أبي عبيدة ويزيد بن أبي سفيان عام 19 فى طاعون عمواس أمّر معاوية بن أبي سفيان على جند دمشق وخراجها )، إستأثر معاوية بقيادة الجيش وبالخراج ، أى جمع بين السلطة والثروة فى الشام كله . وتقول رواية أخرى: ( ومات يزيد بن أبي سفيان فجعل عمر مكانه معاوية ، ونعاه لأبي سفيان ؟فقال : "من جعلت على عمله يا أمير المؤمنين؟"  فقال:" معاوية." فقال : "وصلتك رحم ". فاجتمعت لمعاوية الأردن ودمشق  )، وتقول رواية أخرى ( وكانت الشام قد جمع جمعها لمعاوية ابن أبي سفيان ).وظل معاوية واليا على الشام حتى مات عمر:( ومات عمر ومعاوية على دمشق والأردن ). وظل معاوية مستقرا بالشام فى خلافة ابن عمه عثمان ، بل كان معاوية هو الذى يعيّن من لدنه ولاة على مدن الشام، كأى حاكم مستقل ، تقول الرواية عن موت عثمان وولاته : ( مات عثمان وعلى الشام معاوية وعامل معاوية على حمص عبدالرحمن بن خالد بن الوليد ،وعلى قنسرين حبيب بن مسلمة ، وعلى الأردن أبو الأعور بن سفيان ، وعلى فلسطين علقمة بن حكيم الكناني ، وعلى البحر عبدالله بن قيس الفزاري ).

2 ـ وعن علاقة عمر بأبى سفيان فى خلافته تقول الرواية : ( وكان عمر بن الخطاب ‏"‏ رضي الله عنه ‏"‏ يُفْرش له فِراش في بَيْته في وَقْت خلافته فلا يجلس عليه أحد إلا العبَّاس بن عبد المطّلب وأبو سُفيان بن حَرْب‏.‏ ).

3 ـ وهناك روايات حيكت وراجت بهدف التغطية على محاباة عمر لمعاوية وعلاقة عمر بأبى سفيان . ونعطى منها :   ( زار أبو سفيان معاوية بالشام فلما رجع من عنده دخل على عمر‏.‏ فقال‏:‏ أجزنا أبا سفيان‏.‏ قال‏:‏ ما أصبنا شيئاً فنجيزك منه‏.‏ فأخذ عمر خاتمه فبعث به إلى هند وقال للرسول‏:‏ قل لها‏:‏ يقول لك أبو سفيان‏:‏ انظري إلى الخرجين اللذين جئت بهما فأحضريهما‏.‏ فما لبث عمر أن أتي بخرجين فيهما عشرة آلاف درهم‏.‏ فطرحهما عمر في بيت المال‏.‏ فلما ولي عثمان ردهماً عليه‏.‏ فقال أبو سفيان‏:‏ ما كنت لآخذ مالا عابه علي عمر‏.‏ ). لو صحت هذه الرواية لكان عمر أسرع الى محاسبة معاوية قبل أبى سفيان.

هى روايات كاذبة ، ولا تستقيم مع سؤال هام : لماذا عزل عمر كبار الصحابة كسعد بن أبى وقاص و أبى موسى الأشعرى وصادر أموالهم وتعقّب الجميع بالتفتيش على أموالهم وتغاضى عن معاوية فلم يرسل اليه رسوله ( محمد بن مسلمة )؟. فهل كان معاوية ملاكا لا تمتد يده الى الأموال التى يجبيها ؟ وهل كان معاوية خيرا من سعد بن أبى وقاص ؟ بل ورقاه عمر وترك له الشام يتصرف فيه حيث شاء ، فقد تميّز معاوية بسلطة مطلقة فى الشام بحيث كان يجهّز الجيوش ويبنى أول اسطول فى الشام ، يغزو الروم ، ويرجع بالغنائم ، ويعطى ويمنح .. ويسكت عمر ولا يسائله .وعلى سبيل المثال ففى سنة 22 ، غزا معاوية بلاد الروم ودخلها في عشرة آلاف فارس من المسلمين‏ ، ورجع بالأسلاب والغنائم . فهل حاسبه عمر على ما أنفق وعلى ما غنم ؟ ..

ألا يؤكد هذا أن عمر كان عميلا لأبى سفيان ؟ وأنه ظل مخلصا لأبى سفيان حتى وهو خليفة ؟

الباب الثالث  : مكر قريش وصحابة الفتوحات 

الفصل السادس  : انتهاك الأشهر الحّرم فى خلافة عمر    

مقدمة :

 اتسعت الفتوحات العربيةفي عهد عمر فيما بين ( 14 : 23 هـ ) لتمتد فيما بين اصفهان في شرق ايران الي طرابلس ليبيا ، ففي سنة 14 كانت فتوحات دمشق وحمص وبعلبك وموضع البصرة وهي الابلة ، وفي سنة 15 تمت فتوحات الاردن وانتصر العرب علي الروم في اليرموك ، وعلي الفرس في القادسية ، وفي سنة 16 تمت فتوحات الاهواز والمدائن والانتصار في جلولاء وهزيمة الامبراطور الفارسي يزدجر وهروبه ، ثم فتوحات تكريت شمال العراق ، ثم تسلم عمر بن العاص بيت المقدس ، وتمت فتوحات قنسرين وحلب وانطاكية ومنسج وسروج وقريقساء ، وفي سنة 18 تمت فتوحات جندياسبور وحلوان و الرها وسميساء وحران ونصيبين والموصل والجزيرة فيما بين العراق وسوريا ،وفي سنة 19 فتوحات قيسارية ، وفي سنة 20 فتحوا مصر غربا ، وتستر في ايران ، وفي سنة 21 فتح الاسكندرية ، ثم  نهاوند في ايران ، وفتح برقة في ليبيا ، وفي سنة 22 فتح اذريبجان والدنيور وماسبذان وهمذان والري وعسكر وقومس في اواسط اسيا ، وفتح طرابلس الغرب في ليبيا.وفي السنة التي قتل فيهاعمر كان فتح كرمان وسجستان ومكران واصفهان سنة 23هـ.وخلال هذه السنوات العشرسالت دماء مئات الالوف من الابرياء في كل تلك المناطق ظلما وعدوانا تحت اسم الاسلاموالجهاد ، وتشتت مئات الالوف من العائلات والاسر فيما بين اواسط اسيا الي ليبيا ،ونهب العرب كنوز المنطقة بعد المعارك وقسموا بينهم الذرية والنساء.وبسبب هذا الإفراط فى الإجرام يحتل عمر مكانة أكثر تقديسا فى دين السّنّة القائم على استحلال دم الأخر وماله وعرضه تحت راية الجهاد ( السّنى العُمرى ). ويضيق المجال لو تتبعنا هذا المسلسل الدموى فى الفتوحات ، لذا سنقتصر فيه على أمثلة تخصّ ما حدث خلال الاشهر الحُرُم فقط فى فارس ومصر ، مع التذكير بأن الفتوحات استمرت بلا توقف فى شهر حرام أوغيره . وكالعادة نضع الشهر الحرام بين قوسين .

أولا  :  أمثلة لانتهاك ( عمر ) الأشهر الحرم فى فتح فارس  :

 1 ـ فى شهر ذى الحجة الحرام عام 13 هجرية أعلن الخليفة عمر فى أول خلافته التعبئة العامة السريعة لكل القبائل العربية لتحارب فارس بعد تولى الحكم فيها كسرى يزدجر ، فأتته جحافل القبائل. يقول الطبرى :( قالوا كان أول ما عمل به عمر حين بلغه أن فارس قد ملّكوا يزدجر أن كتب إلى عمال العرب على الكور ( أى القرى ) والقبائل وذلك في ( ذي الحجة ) سنة ثلاث عشرة ، مخرجه إلى الحج وحج سنواته كلها : " لا تدعوا أحدا له سلاح أو فرس أو نجدة أو رأي إلا انتخبتموه ثم وجهتموه إلي . والعجل العجل.! " .  فمضت الرسل إلى من أرسلهم إليهم مخرجه إلى الحج . ووافاه أهل هذا الضرب من القبائل التي طرقها على مكة والمدينة...). أى جعل عمر من مناسبة بدء الحج موعدا للحشد العسكرى لكل القبائل . وهذا بالتناقض مع فريضة الحج وحُرمة الشهر الحرام .

 2 ـ وتلبية لدعوة عمر تجمع حشد هائل من القبائل تحت قيادته ، فسار بهم  عمر فى شهر ( محرم ) الحرام عام 14 ، يقول الطبرى:( ثم دخلت سنة أربع عشرة ، ففي أول يوم من ( المحرم ) سنة أربع عشرة.. خرج عمر حتى نزل على ماء يدعى صرارا، فعسكر به،ولا يدري الناس ما يريد أيسير أم يقيم. )

3 ـ  وانتهى الأمر بأن يبقى الخليفة عمر فى المدينة وأن يعين سعد بن أبى وقاص قائدا للحملة التى تتوجه لفتح فارس .وأرسل عمر جيشا آخر الى موضع البصرة ، وكانت تسمى أرض الهند ، ليمنع خروج إمدادات فارسية منها الى عاصمة فارس ، يقول الطبرى : ( وقال عمر لعتبة‏:‏ إني أريد أن أوجهك إلى أرض الهند - وكانت البصرةتدعى أرض الهند ..لتمنع أهلها أن يمدوا إخوان فارس، فنزلها في (ربيع ) الأول سنة أربع عشرة ، وفيها سبع دساكر. فكتب إليه عمر‏:‏ اجمع الناس موضعًا واحدًا وقد كتبت إلى العلاء بن الحضرمي أن يمدك بعرفجة بن هرثمة ، وهو ذو مكايدة للعدو ، فإذا قدم عليك فاستشره . وادع إلى اللّه فمن أجابك فاقبل منه ومن أبى فالجزية وإلا السيف..). جعلهم عمر عدوا (وهو ذو مكايدة للعدو) ، وهو الذى بدأهم بالعداء وبالعدوان ، وهم لم يعتدوا عليه ولم يرسلوا جيوشهم لغزو المدينة . ثم هو يأمرهم بتخييرهم أو إجبارهم تحت ضغط جيوشه بين الإسلام أو الجزية أو الحرب.

 4 ـ هذا بينما سار سعد بن أبى وقاص بالجيش الأساس فهزم الفرس فى موقعة القادسية ، وبهذا كان فتح فارس وتدمير الامبراطورية الفارسية. بدأ هذا بشهر محرم الحرام، وفي محرم كانت موقعة القادسية ، يقول الطبرى : (كانت يعني وقعة القادسية في (المحرم ) سنة أربع عشرة في اوله ). ولقد لقى حتفه الصحابى سلمة بن هشام بن المغيرةالذى قتل  بمَرْج الصُفَر في (محرم) هذه السنة‏.‏ وتتابعت المعارك هادرة بعد القادسية خلال الأشهر التالية من الأشهر الحرم وغيرها ، يروى الطبرى عن تحركاتهم عام 16 هجرية أنهم (أقاموا ببهرسير أيامًا من ( صفر) ) ‏.‏

5 ـ ويقول الطبرى عن فتح المدائن عاصمة فارس فى شهر صفر المحرم : ( حديث المدائن القصوى التي كان فيها منزل كسرى : قال سيف : وذلك في ( صفر) سنة ست عشرة . قالوا : ولما نزل سعد بهرسير وهي المدينة الدنيا ، طلب السفن ليعبر بالناس إلى المدينة القصوى ، فلم يقدر على شيء، ووجدهم قد ضموا السفن ، فأقاموا ببهرسير أياما من (صفر ) يريدونه على العبور فيمنعه الإبقاء على المسلمين ، حتى أتاه أعلاج ( أى أعاجم من الفرس )  فدلوه على مخاضة تخاض إلى صلب الوادي ، فأبى وتردد عن ذلك. وفجئهم المد .  ففجئوا أهل فارس بأمر لم يكن في حسابهم فأجهضوهم وأعجلوهم عن جمهور أموالهم ، ودخلها المسلمون في ( صفر) سنة ست عشرة ، واستولوا على ذلك كله مما بقي في بيوت كسرى من الثلاثة آلاف ألف ألف ومما جمع شيري ومن بعده ) أى كل ما جمعه الأكاسرة وكنزوه استولى عليه العرب (الثلاثة آلاف ألف ألف ومما جمع شيري ومن بعده ) أى 3 بليون .  

6 ـ ونكتفى ببيان ما سباه العرب بمثال واحد ، هو المدائن . تحت عنوان : (ذكر صفة قسم الفيء الذي أصيب بالمدائن بين أهله وكانوا فيما زعم سيف ستين ألفا ) أى 60 الفا من السبى من أطفال ونساء ورجال مدينة واحدة هى عاصمة فارس ، المدائن .!! . فلا عجب أن يحتفظ الايرانيون بكل هذه الكراهية لأبى بكر وعمر .!!

7 ـ ونكتفى أيضا بالمدائن دليلا على ما سلبوه من فارس .  تحت عنوان  ( ذكر ما جمع من غنائم أهل المدائن وقسمتها : ) يذكر الطبرى ببعض التفصيل ما سلبه العرب من الفُرس بعد هزيمتهم والاستيلاء على عاصمتهم ( المدائن ) ، يقول : ( كان سعد قد جعل على الأقباض عمرو بن عمرو بن مقرن وعلى القسمة سلمان بن ربيعة الباهلي ) أى من كثرة الغنائم تعين شخص لجمعها وتعين شخص آخر لقسمتها بين الجنود ، بعد تخصيص الخُمس لعمر . يقول الطبرى:( فجمع ما في القصر والإيوان والدور ، وأحصى ما يأتيه به الطلب . ) أى نهبوا البيوت والقصور وإيوان كسرى ، وجمعوا ما نهبه الأفراد إذ أن أهل المدائن فى هزيمتهم الأولى قد أفلتوا ببعض أموالهم ، وفى الهزيمة الثانية قبض عليهم العرب وأخذوا منهم ما فى أيديهم . ( وكان أهل المدائن قد نهبوها عند الهزيمة وهربوا في كل وجه فما أفلت أحد منهم بشيء إلا أدركهم الطلب فأخذوا ما معهم . ).

ورأى العرب عجائب من الكنوز مخبأة داخل قباب قد ملئت بسلال مختومة بالرصاص مليئة بالذهب والفضة : ( ورأوا بالمدائن قبابًا تركية مملوة سلالًا مختومة برصاص فحسبوها طعامًا فإذا فيها آنية الذهب والفضة . ) ومن كثرة ما حصل عليه الجندى العربى هوى سعر الذهب فى شوارع المدائن : ( وكان الرجل يطوف ليبيع الذهب بالفضة متماثلين‏.‏ ). والعرب بهمجيتهم ظنوا هذا القباب مليئة بالطعام فإذا هى مليئة بالذهب والفضة ، وأيضا يقول الطبرى : ( ورأوا كافورًا كثيرًا فحسبوه ملحًا فعجنوا به فوجدوه مرًا‏.‏ ).

ووضع العرب أيديهم على كنوز كسرى وتيجانه وجواهره ، يقول الطبرى : ( وأدرك الطلب مع زهرة جماعة من الفرس على جسر النهروان فازدحموا عليه فوقع منهم بغل في الماء فعجلوا وكبوا عليه ، فقال بعض المسلمين‏:‏ إن لهذا البغل لشأنًا . فجالدهم المسلمون عليه حتى أخذوه ، وفيه حلية كسرى ثيابه وخرزاته ووشاحه ودرعه التي فيها الجوهر وكان يجلس فيها للمباهاة‏.‏ ولحق العلج بغلين معهما فارسيان فقتلهما وأخذ البغلين ، فأبلغهما صاحب الأقباض وهو يكتب ما يأتيه به الرجال فقال له‏:‏ قف حتى ننظر ما معك‏.‏ فحط عنهما فإذا سفطان فيهما تاج كسرى مرصعًا وكان لا يحمله إلا أسطوانتان وفيه الجوهر ، وعلى البغل الآخر سفطان فيهما ثياب كسرى التي كان يلبس من الديباج المنسوج بالذهب المنظوم بالجوهر وغير الديباج منسوجًا منظومًا‏.‏ وأدرك القعقاع بن عمرو فارسيًا فقتله وأخذ منه عيبتين وغلافين في إحداهما خمسة أسياف وفي الأخرى ستة أسياف وأدراع منها درع كسرى ومغافره ودرع هرقل ودرع خاقان ملك الترك ودرع داهر ملك الهند ودرع بهرام جوبين ودرع سياوخش ودرع النعمان استلبها الفرس أيام غزاهم خاقان وهرقل وداهر . ..وفي أحد الغلافين سيوف من سيوف كسرى وهرمز وقباذ وفيروز وهرقل وخاقان وداهر وبهرام وسياوخش ...فأحضر القعقاع الجميع عند سعد ، فخيره بين الأسياف ، فاختار سيف هرقل وأعطاه درع بهرام . ونفل سائرها في الخرساء إلا سيف كسرى والنعمان بعث بهما إلى عمر بن الخطاب لتسمع العرب بذلك . وحسبوهما في الأخماس . وبعثوا بتاج كسرى وحليته وثيابه إلى عمر ليراه المسلمون‏.‏ وأدرك عصمة بن خالد الضبي رجلين معهما حماران فقتل أحدهما وهرب الآخر ، وأخذ الحمارين فأتى بهما صاحب الأقباض فإذا على أحدهما سفطان في أحدهما فرس من ذهب بسرج من فضة وعلى ثفره ولباته الياقوت والزمرد المنظوم على الفضة ولجام كذلك وفارس من فضة مكلل بالجوهر وفي الآخر ناقة من فضة عليها شليل من ذهب وبطان من ذهب ولها زمام من ذهب ، وكل ذلك منظوم بالياقوت ، وعليها رجل من ذهب مكلل بالجواهر ، كان كسرى يضعهما على أسطوانتي التاج‏.‏ ).

 8 ـ وعن توزيع هذه الأسلاب يقول الطبرى : ( فلما جمعت الغنائم قسم سعد الفيء بين الناس خمسة ، وكانوا ستين ألفًا ، فأصاب الفارس اثنا عشر ألفًا . وكلهم كان فارسًا ليس فيهم راجل . ونفل من الأخماس في أهل البلاء . ). وقام سعد بتقسيم مساكن المدائن بين الجنود العرب ( وقسم المنازل بين الناس وأحضر العيالات فأنزلهم الدور فأقاموا بالمدائن . ) .وأراد سعد أن يُبهر عمر وأهل المدينة فأرسل نماذج لهم داخل الخُمس:( وأرسل سعد في الخمس كل شيء أراد أن يعجب منه العرب ومن كان يعجبهم أن يقع . ) .

وواجهت سعد بن أبى وقّاص مشكلة تقسيم ( القطف ) وارسال خُمسه الى المدينة الى عُمر . واستقر الرأى على أن يرسله كله الى عُمر بحالته . ( وأراد إخراج خمس القطف فلم تعتدل قسمته ، وهو بهار كسرى ، فقال للمسلمين‏:‏ هل تطيب أنفسكم عن أربعة أخماسه ينبعث به إلى عمر يضعه حيث يشاء فإنا لا نراه ينقسم وهو بيننا قليل وهو يقع من أهل المدينة موقعًا ؟  فقالوا‏:‏ نعم‏.‏ فبعثه إلى عمر‏.‏ ).

و( القطف ) هو من التُّحف الفارسية (التى) لا تقدّر بثمن ، و(التى) كانت تدل على عظمة الحضارة الفارسية و(التى) دمرها العرب الهمج ضمن ما دمروه من حضارة فارس . فهو نموذج مجسم يتكون من بساط مساحته ( جريب ) ، طوله 60 ذراعا وعرضه مثلها ، ونستكمل وصفه مما قاله الطبرى : ( والقطف بساط واحد طوله ستون ذراعًا وعرضه ستون ذراعًا مقدار جريب . كانت الأكاسرة تعده للشتاء ، إذا ذهبت الرياحين شربوا عليه ، فكأنهم في رياض.  فيه طرق كالصور ، وفيه فصوص كالأنهار ، أرضها مذهبة ، وخلال ذلك فصوص كالدر ، وفي حافاته كالأرض المزروعة والأرض المبقلة بالنبات في الربيع والورق من الحرير على قضبان الذهب ، وزهره الذهب والفضة ، وثمره الجوهر . وأشباه ذلك.)‏.‏ ووصلت ( اقطف ) الى عمر مع أخماس الأسلاب ، يقول الطبرى : ( فلما قدمت الأخماس على عمر نفل منها من غاب ومن شهد من أهل البلاء ثم قسم الخمس في مواضعه . ) وإحتار عُمر فى قسمة ( القطف ) فقال ( :‏ أشيروا علي في هذا القطف.! ) وإحتاروا مثله (  فمن بين مشير بقبضه وآخر مفوض إليه‏.‏ ) وإقترح على بن أبى طالب رأيا أخذ به عُمر : ( فقال له علي‏:‏ لم يجعل الله علمك جهلًا ويقينك شكًا إنه ليس لك من الدنيا إلا ما أعطيت فأمضيت أو لبست فأبليت أو أكلت فأفنيت وإنك إن تبقه على هذا اليوم لم تعدم في غدٍ من يستحق به ما ليس له‏.‏ فقال‏:‏ صدقني ونصحتني . فقطّعه بينهم،  فأصاب عليًا قطعةٌ منه ، فباعها بعشرين ألفًا . وما هي بأجود تلك القطع‏.‏ ). أى أشار (على بن أبى طالب ) بتقطيعه وتوزيعه ، وكان نصيب ( على ) قطعة منه باعها بعشرين ألف دينار. هنيئا لك هذا المال السُحت يا أبا الحسن .!!

9ـ ـ وفى نفس الشهر صفر الحرام عام 16 كانت موقعة جلولاء التى انهزم فيها الفرس وفقدوا مائة الف قتيل ، يقول الطبرى ( ففصل هاشم بن عتبة بالناس من المدائن في ( صفر) سنة ست عشرة في اثنيعشر ألفًا فيهم وجوه المهاجرين والأنصار وأعلام العرب ممن ارتد وممن لم يرتد ، فسار من المدائن إلى جلولاء ) وينقل ابن الجوزى فى المنتظم :( وانهزموا واتبعهم المسلمونوقتل منهم يومئذ مائة ألف ، فجللت القتلى المجال وما بين يديهما حوله فسميت جلولاءلما جللها من قتلاهم‏.‏وطلبهم القعقاع حتى بلغ خانقين فأدرك مهران فقتله . ولما بلغت الهزيمةيزدجرد سار من حلوان نحو الجبل . واقتسم في جلولاء على كل فارس سبعة آلاف وتسعة منالدواب‏.‏)، أى كان نصيب الفارس 7 ألاف دينار و9 من الدواب ، فى هذه المعركة وحدها . ولم يذكر عدد السبايا .

ثانيا : فى فتح مصر :

1 ـ يقول الطبرى (وافتتحت مصر في ( ربيع الأول) سنة ست عشرة )، وكان هذا بعد أن هزم عمرو بن العاص المقوقس فى موقعة عين شمس . وهناك من يقول رأيا آخر : ( وقال يزيد بن أبي حبيب‏:‏ فتحت مصر يوم الجمعة مستهل (المحرم ) سنةعشرين ) . السبب أن مصر تم احتلالها على مراحل ، ولكن فى الرأيين أن الفتح كان فى شهر ربيع أول الحرام أو شهر محرم الحرام .  

2 ـ بعدها إنساح جيش الغزاة فى الريف المصرى المُسالم ينهب ويسبى النساء ويغتصبهن فى كل قرية ، ويبعثون بأربعة أخماس الغنائم ومن السلب والنهب والسبى الى عمر بن الخطاب فى المدينة ، ومنها يتوزع السلب والنهب فى الجزيرة العربية على الأعراب هناك . وتكاثر هذا السبى من الفتيات المصريات حتى ملأ مكة والمدينة واليمن . هذا ما يذكره الطبرى راويا عن جندى كان ممّن حضر فتح مصر .يقول الطبرى:( حدثنا ابن حميد قال حدثنا سلمة عن محمد بن إسحاق ، قال وحدثني القاسم بن قزمان رجل من أهل مصر ، عن زياد بن جزء الزبيدي ، أنه حدثه أنه كان في جند عمرو بن العاص حين افتتح مصر والإسكندرية قال : افتتحنا الإسكندرية في خلافة عمر بن الخطاب في سنة إحدى وعشرين أو سنة اثنتين وعشرين .قال : لما افتتحنا باب اليون تدنينا قرى الريف فيما بيننا وبين الإسكندرية ، قرية فقرية ، حتى انتهينا إلى بلهيب قرية من قرى الريف يقال لها قرية الريش.وقد بلغت سبايانا المدينة ومكة واليمن ).!!. وحاول المقوقس عقد صلح يسترجع به السبى فرفض عمر طبقا لما رواه الطبرى .

ثالثا : الانتقام الالهى  من عمر ومن العرب

1 ـ بسبب هذا السبى والقتل والسلب والنهب باسم الاسلام فى الشهر الحرام وغير الحرام إنتقم الله جل وعلا من عمر والعرب عام 18 هجرية ، وذلك بطاعون عمواس ومجاعة الرمادة ثم بقتل عمر بعدها فى الشهر الحرام .

2 ـ من القرآن نعرف أن هناك عذابا فى الدنيا يلحق بمن يستحقه كنذير له وموعظة لعله يتوب . يقول جل وعلا : ( وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) السجدة ). ومن المسكوت عنه فى السيرة تعرض قريش لعذاب أو إهلاك جزئى ، وردت عنه إشارات قرآنية ، وتجاهلته روايات السيرة . يقول جل وعلا عنهم وهم فى مكة : ( وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) المؤمنون ). وعن أفراد المنافقين ذكر رب العزة أنه كان جل وعلا يبتليهم بفتنة العذاب مرة أو مرتين سنويا ليتوبوا ويتذكروا ، ولم يتوبوا ولم يتذكروا . وقال هذا جل وعلا لينبههم : (  أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) التوبة ). كما قال جل وعلا عمّن مرد على النفاق إنه سيعذّبهم مرتين ـ أى بعد موت النبى ـ ثم ينتظرهم عذاب عظيم يوم القيامة . ( وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنْ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101) التوبة ). وكالعادة ما تابوا وما تذكروا .

3 ـ وروايات التاريخ لعمر قامت بتحويل عذاب مجاعة الرمادة وطاعون عمواس الى مناسبة لتقديس عمر وأصحابه ، دون أن ينتبه أحد الى أنه إنتقام الاهى من الله عزّوجلّ . ولا نستغرب هذا ، فهم يعتبرون هذا الغزو والاحتلال جهادا ، ويعتبرون السلب والنهب فيئا أفاءه الله عزّ وجلّ على العرب ، وبالتالى فهم اتخذوا لهم الاها غير الله يأمرهم بالإثم والعدوان والفحشاء والمنكر ، هذا بينما يأمر الله جل وعلا بالعدل والاحسان . وصدق الله العظيم إذ يقول عن العرب واستحلالهم الحرام وينسبون ذلك لله جل وعلا (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ(29) ( الأعراف)، ويقول جل وعلا عن دينه الحق الذى خالفه الخلفاء (الراشدون):(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)( النحل ).

4 ـ فى عام 18 حدث طاعون عمواس ومجاعة الرمادة، يقول الطبرى تحت عنوان  : ( ذكر الأحداث التي كانت في سنة ثمان عشرة ) : ( قال أبو جعفر وفي هذه السنة أعني سنة ثمان عشرة أصابت الناس مجاعة شديدة ولزبة وجدوب وقحوط ، وذلك هو العام الذي يسمى عام الرمادة . حدثنا ابن حميد قال حدثنا سلمة عن محمد بن إسحاق قال : دخلت سنة ثمان عشرة وفيها كان عام الرمادة وطاعون عمواس فتفانى بها الناس )( وحدثني أحمد بن ثابت الرازي قال حدثت عن إسحاق بن عيسى عن أبي معشر قال كانت الرمادة سنة ثمان عشرة قال وكان في ذلك العام طاعون عمواس . ). ( وفيه أيضًا كان طاعون عمواس : في هذه السنة كان طاعون عمواس بالشام ، فمات فيه أبو عبيدة بن الجراح وهو أمير الناس ومعاذ بن جبل ويزيد بن أبي سفيان والحارث ابن هشام وسهيل بن عمرو وعتبة بن سهيل وعامر بن غيلان الثقفي مات وأبوه حي ، وتفانى الناس منه‏.‏  ) ( دخلت سنة ثمان عشرة وفيها كان عام الرمادة وطاعون عمواس فتفانى بها الناس. ) أى فنى الناس من هذا الطاعون وتلك المجاعة فى عام الرمادة.

5 ـ وتحت عنوان (  ذكر القحط وعام الرمادة ) يقول الطبرى : ( في سنة ثماني عشرة أصاب الناس مجاعة شديدة وجدب وقحط وهو عام الرمادة . وكانت الريح تسفي ترابًا كالرماد فسمي عام الرمادة . واشتد الجوع حتى جعلت الوحش تأوي إلى الإنس ، وحتى جعل الرجل يذبح الشاة فيعافيها من قيحها‏.‏ ) أى أجدبت الأرض ، ونتنت المواشى ، أى كتب الله جل وعلا عليهم الجوع ، ولم تغن عنهم أسلابهم الذهبية شيئا .!. تقول الروايات ( قالوا اصابت الناس في إمارة عمر رضي الله عنه سنة بالمدينة وما حولها فكانت تسفى إذا ريحت ترابا كالرماد ، فسمي ذلك العام عام الرمادة  ) ( كانت الرمادة جوعا أصاب الناس بالمدينة وما حولها فأهلكهم حتى جعلت الوحش تأوي إلى الإنس وحتى جعل الرجل يذبح الشاة فيعافها من قبحها وإنه لمقفر ).  ويرى المؤرخ ابن كثير أن هذه المجاعة سميت بعام الرمادة بسبب اسوداد الأرض من قلة المطر حتى عاد لونها شبيهاً بالرماد ، أو لأن الريح كانت تسفي تراباً كالرماد،  أو لأن ألوان الناس أضحت مثل الرماد.، أو بسبب قله الامطار لعام كامل . وقد روى أن عمر عسَّ المدينة ذات ليلة عام الرمادة، فلم يجد أحداً يضحك، ولا يتحدث الناس في منازلهم على العادة، ولم ير سائلاً يسأل، فسأل عن سبب ذلك، فقيل له: "يا أمير المؤمنين، إن السؤَّال سألوا فلم يعطوا، فقطعوا السؤال، والناس في هم وضيق فهم لا يتحدثون ولا يضحكون". و احتشد الناس من خارج المدينة وقدموا إليها يطلبون العون ، حتى قيل أنه خيّم في أطراف المدينة حوالي ستون ألفاً من العرب لا يجدون إلا ما يقدم لهم من بيت المال أو من أهل  المدينة. وذكر أن عمرً كان يولم لهم كل ليلة حتى حضر في وليمة واحدة أكثر من عشرة آلاف . ولجأ الناس إلى  عمر فانفق فيهم من حواصل بيت المال مما فيه من الأطعمة والأموال حتى أنفذه. واستمر هذا الحال في الناس تسعة أشهر. . )( قالوا كتب عمر إلى أمراء الأمصار يستغيثهم لأهل المدينة ومن حولها ويستمدهم . ) ( وكان عمر عن ذلك محصورا...فكتب إلى أمراء الأمصار أغيثوا أهل المدينة ومن حولها ، فإنه قد بلغ جهدهم وأخرج الناس إلى الاستسقاء . ). وكتب يستغيث بعمرو بن العاص فى مصر يقول له ( يا غوثاه يا غوثاه ) .وإرسال الحبوب من مصر الى المدينة كان يستلزم حفر خليج يصل النيل بالبحر الأحمر ، وخشى عمرو أن يؤثر هذا على مصر وعلى الخراج ، وبعث بهذا التخوّف الى عمر ، (.. فكتب إليه عمر : " اعمل فيه وعجل ، أخرب الله مصر في عمران المدينة وصلاحها ". ). هذا هو ( عمر ) الذى يعبده السنيون المصريون .!

5 ـ وعن طاعون عمواس يقول الطبرى : ( ثم دخلت سنة ثماني عشرة ، ففيها كان طاعون عمواس فتفانى فيها الناس، فتوفي أبو عبيدة بن الجراح وهو أمير الناس ومعاذ بن جبل ويزيد بن أبي سفيان والحارث بن هشام وسهيل بن عمرو وعتبة بن سهيل وأشراف الناس . )  ( وقال مات في طاعون عمواس خمسة وعشرون ألفا .)   ( قالوا كان ذلك الطاعون ، يعنون طاعون عمواس موتانا لم يُر مثله ، طمع له العدو في المسلمين ، وتخوفت له قلوب المسلمين ، كثر موته وطال مكثه . مكث أشهرا حتى تكلم في ذلك الناس . )  الحقيقة المذهلة بين السطور والتى تقطع بأن هذا الطاعون كان إنتقاما الاهيا أنه أصاب العرب فقط فى الشام والعراق ، ولم تصل عدواه للسكان أهل البلاد المحتلّة . نجا منه ( العجم ) أو الموالى بينما مات العرب ، وحاول بعضهم الهرب منه فلحقهم الطاعون وماتوا : ( أصاب البصرة من ذلك موت ذريع ، فأمر رجل من بني تميم غلاما له أعجميا أن يحمل ابنا له صغيرا ليس له ولد غيره على حمار ثم يسوق به إلى سفوان حتى يلحقه فخرج في آخر الليل ثم اتبعه وقد أشرف على سفوان ودنا من ابنه وغلامه ، فرفع الغلام عقيرته يقول : لن يعجزوا الله على حمار ولا على ذي غرة مطار قد يصبح الموت أمام الساري فسكت حتى انتهى إليهم فإذا هم هم قال ويحك ماقلت قال ما أدري قال ارجع فرجع بابنه وعلم أنه قد أسمع آية وأريها . قال وعزم رجل على الخروج إلى أرض بها الطاعون فتردد بعدما طعن فإذا غلام له أعجمي يحدو به يأيها المشعر هما لا تهم إنك إن تكتب لك الحمى تحم . وخرج الحارث بن هشام في سبعين من أهل بيته فلم يرجع منهم إلا أربعة . ) .

6 ـ وكان الانتقام الالهى من عمر بأن قتله أبو لؤلؤة الفارسى فى شهر حرام .وقد إختلفت الروايات فى شهر مقتله بين شهر ذى الحجة الحرام عام 23 هجرية و شهر محرم الحرام عام 24 . أى إعتدى فى الشهر الحرام فجاء القصاص الالهى منه فى الشهر الحرام . وصدق رب العزّة (الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ )(194)( البقرة ).

7 ـ السبب فى قتل عمر هو السبي . يقولابن سعد ان عمر كان يكتب الي امراء الجيوش ( لا تجلبوا علينا من العلوج احدا جرتعليه المواسي ، فلما طعنه ابو لؤلؤة قال : الم اقل لكم لا تجلبوا علينا من العلوجاحدا فغلبتموني )( الطبقات الكبري 2/ 253 ) أي كان يصف ابناء البلاد المفتوحة بأنهمعلوج جمع علج ، وذلك احتقارا لهم ، وينهي عن احضار الشباب والرجال منهم الي المدينةخوفا من ان ينتقموا منه ، فكل من استعمل الموسى في حلاقة لحيته كان محرما عليه انيأتي الي المدينة . وكان ابو لؤلؤة قد اتي بتوصية من سيده المغيرة بن ابي شعبة . وابولؤلؤة المجوسي ( الفارسى ) كان من سبي نهاوند اضاع العرب المسلمون بيته واسرته واطفاله ووطنهدون ان يقدم لهم اساءة ، وبعد ان فقد كل شئ جئ به اسيرا الي المغيرة بن شعبة ليعمللديه ، ثم ارسله الي المدينة ، حيث كان يؤرقه منظر الاطفال من السبي وهم يملأونطرقات المدينة ، ولعله كان يبحث فيهم عن ملامح اطفاله واطفال عائلته ، يطوف بينهميستمع الي بكائهم وصراخهم ويتخيل معاناتهم حين كانوا يساقون ويحشرون علي طول الطريقمن بلادهم الي صحراء الجزيرة العربية حتي يصلوا الي المدينة ،وهذه المعاناة ضمنالمسكوت عنه ، ويذكر ابن سعد ان ابا لؤلؤة اعتاد ان يلتقي بأطفال السبي ، وانه حينكان يراهم يبكي ويتحسس رءوسهم ويقول ( ان العرب اكلت كبدي) ثم قتل عمر انتقاما ممافعله بالسبي .

8 ـ معذرة ..فأنا أعتبر أبا لؤلؤة الفارسى بطلا .. وأتمنى لو كان مصريا ..

 

 

 الباب الرابع : مكر قريش والفتنة الكبرى

الفصل الأول  : انتهاك الأشهر الحّرم فى خلافة عثمان

أولا : البلاد المفتوحة أسوأ حالاً في عهد عثمان

1 ـ ونبدأ بالإشارة إلى حال الغلابة الذين أكل العرب اموالهم واسترقوا نساءهم وأولادهم .أهل البلاد المفتوحة .ونسأل هل ساءت أحوالهم أم تحسنت في عهد عثمان ، والإجابة على السؤال تعطي سبب مقتل عثمان ، فالله تعالى لا يظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون. 2ــ لقد استمرت الفتوحات في خلافة عثمان: ففي سنة 24هـ فتح العرب الرى ، سنة 26هـ فتحوا سابور ، سنة 27هـ أغاروا على قبرص وفتحوا أرجان وداربجرد ، وفتحوا شمال أفريقيا وأغاروا على الأندلس ، سنة 28هـ فتحوا قبرص وغنموا أموالا هائلة وسبوا آلافا من السبايا فبكى أبو الدرداء وقال " سلط الله عليهم السبي لأنهم ضيعوا أمر الله" ، سنة 29هـ فتحوا أصطخر في الشرق ، سنة 30هـ فتحوا جنديا سبور ونيسابور وطوس وسرخس ومرو وبيهق في أواسط آسيا ، وكثرت الأموال حتى كان عثمان يأمر للفرد الواحد بمائة ألف بدرة مال في كل بدرة أربعة آلاف أوقية ذهب ، سنة 31هـ الانتصار على الروم في معركة ذات الصواري البحرية في البحر المتوسط ، وفتح أرمينية ، وسنة 32هـ استكمال فتح مرو وفتح الطالقان وطخارستان في الشرق ،والإغارة على القسطنطينية ، وسنة 33هـ الإغارة على الحبشة وغزو النوبة ، سنة34هـ ، سنة35هـ التذمر ثم حصار عثمان ثم مقتله.ومن العرض السريع لأهم الأحداث في خلافة عثمان يظهر أن الفتوحات استمرت حتى قبل مقتله بعامين.أى بعد توقف الغزو بعامين فقط جاء الانتقام الالهى من عثمان بقتله فى الشهر الحرام .

3 ـ وقد استمر السلب والسبي أثناء وبعد المعارك ، بالإضافة إلى الجزية والخراج بعد توطيد الحكم واستقراره ، وكان دفع المهزومين الجزية يعد دليلاً على إسلامهم ، كما كان رفضهم دفع الجزية دليلاً على كفرهم ، نفهم هذا من قول الطبري عن سعيد بن العاص أنه : ( صالح أهل جرجان وكان يجبون أحياناً مائة ألف وأحياناً مائتي ألف وأحياناً ثلاثمائة ألف" أي كانوا يدفعون هذا المقدار جزية ثم يقول الطبري " ثم امتنعوا وكفروا فلم يعطوا خراجاً حتى اتاهم يزيد بن المهلب ) ، أي أنهم حين امتنعوا عن دفع الأموال صاروا كفاراً. أي ارتبط اسلام أولئك الناس الذين لم يدخلوا الإسلام بدفعهم الأموال للعرب ، فإذا امتنعوا صاروا كفاراً مستحقين للقتال والغزو والتأديب ، وهذا ما كان يحدث في إعادة الغزو لإجبارهم على دفع الأموال ، وهذه الأموال التي تضخمت لدى العرب بالظلم هي التي سببت اختلافهم ، وكانت السبب المباشر في قتل عثمان ثم الفتنة الكبرى.

4 ـ وهنا لا نجد اختلافا بين موقف عثمان وعمر فيما يخص ظلم البلاد المفتوحة وسلب أموالها وسبي أهلها ، بل ربما نجد ظلمًا أكبر في عهد عثمان مبعثه التساهل مع الولاة والحـُمـَّى والشراهة  في جمع المال بأي طريق ، ونعطي على ذلك أمثلة من مصر نسوقها مما ذكره المقريزي المعروف بتعصبه ضد الأقباط ، يقول نقلا عن ابن الحكم : ( إن عمر كتب لعمرو بن العاص بأن تختم في رقاب أهل الذمة بالرصاص ، وجزّ نواصيهم )، وذلك مع فرض الجزية على الرءوس وكانت 40 درهما أو دينارين، ثم جزية عينية ، ونقل المقريزي رسائل لعمر يستحث فيها عمرو بن العاص على زيادة الخراج والجزية ، ويعتذر له عمرو بأن ذلك يستلزم إصلاحات وتعميراً ورفقاً بالناس وكان ما يجمعه عمرو من جباية مصر 12مليون دينار .. هذا عن عمر.  ثم عزل عثمان عَـمْـربن العاص  وولى مكانه عبد الله بن سعد الذي جبى بالعسف والظلم الزائد خراجاً من مصر قدره 14مليون دينار ، فأعجب ذلك عثمان فقال لعمرو: " لقد درَّت اللقحة (أي الناقة) بأكثر من درها الأول " ، أي درت مصر ـ البقرة الحلوب ـ لهم بخراج أكثر في ولاية ابن سعد ، فقال له عمرو: "أضررتم بولدها" أي أجعتم وأرهقتم الناس. أى أن عثمان استنزف أموال مصر بأكثر مما استنزفه عمر في خلافته. ولنا أن نتخيل قسوة ابن سعد هذا في جمع الأموال ، حين نتذكر أنّه من أسباب ثورة العرب في مصر عليه وعلى عثمان أنه قتل رجلا عربياً اعترض عليه ، قتله ضربا بالسوط ، فكان الأعراب في مصر هم أقوى فرقة في الثورة على عثمان ، فإذا كان عبد الله بن سعد يفعل هذا في عربي مسلم من جيش الفتح فكيف به في تعامله مع المصريين الغلابة؟. إلى هنا ينتهي دور الغلابة في موضوع عثمان ، ويتبقى دور أموالهم المسلوبة وكيف فعلت بعثمان وبالعرب ، وهنا حكمة المولى القدير حين يتحول المال المسلوب إلى سيف انتقام يتقاتل بسببه الظالمون.وهذا يستلزم تحليلا سريعا .

 ثانيا : مؤامرة إستخلاف عثمان بدلا من ( على ) :

1 ـ المتفق عليه بين المؤرخين أن عمر بعد أن طعنه أبولؤلؤة الفارسى المجوسى عيّن كبار الصحابة ليختاروا من بينهم خليفة( على ، عثمان ، الزيبر ، طلحة ، سعد ، عبد الرحمن بن عوف )، وجعل معهم ابنه عبد الله ليكون له حق التصويت دون حق الترشيح . وأمهلهم مدة لهذا . ولأن كل واحد من الستة كان يطمع فيها لنفسه ، فاقترح عبد الرحمن بن عوف أن يلى الخلافة مؤقتا على ان يقوم بالتشاور وإختيار خليفة ويعلنه وينتهى بهذا دور عبد الرحمن . ووافقوا على رأيه ، وبدأ عبد الرحمن بن عوف يستشير كل واحد من رفاقه الخمسة ، فيمن يراه خليفة بدلا منه، وانقسمت الآراء بين (على) و(عثمان) . وواصل عبد الرحمن بن عوف مشاوارته مع أهل المدينة فكانت الآراء بين ( على ) و ( عثمان ) . وكان لابد لعبد الرحمن بن عوف ان يعلن واحدا منهما خليفة فى مؤتمر عام فى المسجد ، فاستدعى عليا فى البداية وطلب منه أن يعلن التزامه بسيرة عمر وأبى بكر ، فقال مايعنى انه سيبذل جهده فى السير على طريقهما ، ولم تعجبه كلمة ( على )، فاستدعى عثمان فاستجاب بلا تحفّظ . وبمقتضى سلطته فى الاختيار أعلن عبد الرحمن بن عوف إختيار عثمان ، وبويع خليفة . هذا هو ( السيناريو) الذى ظهر للناس ، والذى قام فيه عبد الرحمن بن عوف بدور البطولة .ونراها مؤامرة حيكت ضد ( على ).

2 ـ  عبد الرحمن بن عوف كان شريكا لعمر ولعثمان فى التآمر على قتل أبى بكر وفى استخلاف عمر بعده . لذا كان لا بد لحماية نفسه من ان يختار عثمان بدلا من ( على ) . إن النفوذ القرشى تركز فى بنى هاشم ويمثلهم ( على ) وبنى أمية ويمثلهم عثمان، وبقية رءوس الصحابة من قبائل قرشية أقل شأنا . وهناك الخشية من أن الخلافة لو وصلت لبنى هاشم فلن تخرج منهم،وبالتالى تضيع طموحات الآخرين، وهذا عكس عثمان الأموى ، فليس بوسع عثمان أن يجعل الخلافة فى بنى أمية .

3 ـ ولقد تطلعوا الى خليفة سهل ليّن الجانب ، ولم يكن ( على ) هو الشخص المناسب . لقد تشوقوا الى عهد جديد يتمتعون فيه بالثروة والنفوذ فى ظل خليفة هيّن ليّن بعد أن أمسك عليهم عمر ، ورأوا أن ( عليا ) سيكون إمتدادا لعمر. وقد ملّ الناس شدّة عمر وحزمه وصرامته ودرّته ، وقد منع كبار الصحابة من الانسياح فى البلاد المفتوحة وألزمهم بالبقاء الى جانبه فى المدينة ،يروى الطبرى: (قال الشعبي : لم يمت عمر رضي الله عنه حتى ملته قريش  ) ، وعثمان هو الذى فتح لهم باب الثراء وجعلهم مراكز قوى فى خلافته . يقول الطبرى: ( فلما ولي عثمان لم يأخذهم بالذي كان يأخذهم به عمر ، فانساحوا في البلاد ، فلما رأوها ورأوا الدنيا ورآهم الناس انقطع اليهم من لم يكن له طول ولا مزية في الإسلام ) ، ( فلما ولي عثمان خلّى عنهم فاضطربوا في البلاد وانقطع إليهم الناس فكان أحب إليهم من عمر .) ( لم تمض سنة من إمارة عثمان حتى اتخذ رجال من قريش أموالا في الأمصار ، وانقطع إليهم الناس ، وثبتوا سبع سنين ، كل قوم يحبون أن يلي صاحبهم . ) . وفعلا حققوا ثروات لم يحلموا بها فى خلافة عثمان . وكأن أولئك الخمسة ( عبد الرحمن بن عوف ، طلحة ، الزبير ، سعد ) أكثر من إستفادوا فى خلافة عثمان بالاضافة الى عثمان نفسه .

4 ـ ونعيد التذكير بثرواتهم:( عثمان )مع شدة كرمه وكثرة عطاياه كان له يوم مقتله ثلاثون الف الف درهم وخمسمائة الف درهم ومائة الف دينار ، وقد نهبها الثوار الذين قتلوه ، بالاضافة الي ما قيمته مائتا الف دينار من الاصول . (الزبير ابن العوام ): كان لديه 35 الف الف درهم ومائتا الف دينار ، ويقال 51 الف الف درهم او 52 الف الف درهم ، بالاضافة الي مساكن وعقارات وخطط في الفسطاط والاسكندرية والبصرة والكوفة ، كما ترك غابة او بستانا هائلا بيع بـ الف الف وستمائة الف . ( عبد الرحمن بن عوف ): مات سنة 32 هـ قبيل عثمان ، ترك ذهبا كانوا يقطعونه بالفئوس حتي محلت ايدي الرجال منه .(سعد ابن ابي وقاص) : ترك 250 الف درهم بالاضافة الى قصره المشهور فى العقيق . (طلحة بن عبيد الله ): كان في يده خاتم من ذهب فيه ياقوته حمراء ، وكان ايراده من ارضه في العراق الف درهم يوميا او ما بين 400 الي 500 الف درهم سنويا في رواية اخري ، وترك بعد موته الفي الف درهم ومائتي الف درهم ، و مائتي الف دينار ، وترك اصولا وعقارات بثلاثين الف الف درهم .وترك مائة بهار مليئة بالذهب في كل بهار ثلاثة قناطير او اثنين من الارادب ، أي ترك 300 اردبا ذهبا او 200 قنطار ذهبا ( طبقات ابن سعد 3/ 53 ، 76 ، 77، 157 ) ( المسعودي مروج الذهب 1/ 544 : 545).

5 ـ لذا نرى إن إستخلاف عثمان كان مؤامرة محبوكة ، وكان ( على ) ضحية لها . ونرى أصابع أبى سفيان ليست عنها ببعيدة ، تقول الرواية التى ذكرها المسعودى فى مروج الذهب ج 1 ص 551 ، ونراها صادقة : ( حين بويع عثمان دخل أبو سفيان داره ومعه بنو أمية ، فقال ابو سفيان ـ وكان قد عمى ـ أفيكم أحد غيركم ؟ قالوا : لا . قال : يا بنى أمية تلقفوها تلقف الكرة ، فو الذى يحلف به أبو سفيان ما زلت أرجوها لكم . ولتصيرنّ الى صبيانكم وراثة .).وتحقق أمل أبى سفيان فيما بعد .

ثالثا : كان مستحيلا أن تنشب ثورة ضد عمر للأسباب التالية:

1 : فقد أشغل العرب بالفتوحات والانتصارات ، فعاشوا عصرا لم يحلموا به ، وظلوا فى غزو وسلب ونهب وسبى وتوطيد للحكم طيلة عهده دون أن يلتقطوا أنفاسهم ، بل إستمر هذا فى عهد عثمان باستمرار الغزو والسلب والنهب . فلما توقف الغزو إختلفوا وقتلوا عثمان ودخلوا عصر الفتنة الكبرى ولم يخرجوا منها حتى الآن . كان جهادهم وغزوهم ليس فى سبيل الله جل وعلا بل فى سبيل المال والنساء والسلطة والثروة ، لذا سرعان ما اختلفوا بمجرد توقف الغزو ، وكان الاختلاف حول المال .

 2 : جمع عمر بين العدل والحزم فى تعامله مع العرب ، لم يميّز نفسه أو أقاربه على أحد ، وجعل العرب جميعا حزبا واحدا فى مواجهة الأمم المفتوحة التى صارت غنيمة للعرب جميعا. بالعدل ضمن ولاءهم ، وبالحزم أخاف منه الجميع ، فلم يجرؤ أحد على مواجهته،سواء من قريش أو من قبائل العرب .

3 : الى جانب العدل والحزم استعمل عمر دهاءه فى ضمان ولاء أكبر قوتين فى قريش ؛ الأمويين والهاشميين . حافظ على ولائه لأبى سفيان ، وترك معاوية يحكم الشام منفردا ، والأمويون أصحاب علاقات بقبيلة كلب،وهم القوة الحربية التى تسيطر على الشام ،وقد ضمن معاوية ولاءهم ، وتعزّز هذا بزواج معاوية من ميسون بنت بحدل الكلبى زعيم قبائل كلب ، وأنجب منها إبنه يزيد . وعزّز هذا أيضا استمرار معاوية فى الحكم مؤيدا لعمر ، يغزو باسمه الروم ويسلب وينهب دون مساءلة من عمر . ثم إستطاع عمر بدهائه أن يستميل الى جانبه بنى هاشم و( عليا )، فجعل ( عليا ) مستشارا له، وتزوج ابنة (على) وأنجب منها ، بنفس الكيفية التى جعل النبى يتزوج حفصة بنت عمر.

رابعا : حتمية الثورة على عثمان

1 ـ كان حتميا أن يثور العرب على ( عثمان ) لاختلاف شخصيته عن عمر ، ولاختلاف عهده عن عهد عمر ، إذ شهد العرب تغييرات هائلة لم تكن فى أحلامهم ، بما أصبح فى أيديهم من مستعمرات وكنوز . وهم حتى ملّوا شدة عمر ، فكيف بهم مع خليفة فاسد مثل عثمان . لقد أشار المؤرخون لأسباب الثورة على ( عثمان ) ومقتله . منها إنحيازه لأقاربه الأمويين ، وإنسياح الصحابة فى الأمصار ، وكان عمر قد حجر عليهم وأبقاهم الى جانبه فى المدينة ، فسمح لهم عثمان بالخروج فأصبحوا مراكز قوة وثروة وأطماع سياسية ، وبالتالى تركزت الثروات فى قريش خصوصا الأمويين مما أثار الأعراب وهم جند الغزو والفتح . ونرى أن الأسباب الأساس هى توقف الفتوحات ، وفساد عثمان وعناده ، وتآمر قريش عليه بما فيهم الأمويون.

2 ـ عندما ثار الأعراب والعرب فى حركة الردة وهزمتهم قريش رأت قريش أن العرب بما تعودوه من غزو وتقاتل لن يكفوا عن الثورة بالردة أو بأى حُجّة ، فكانت إستنفاذ طاقتهم وإدمانهم السلب والنهب والغزو بالفتوحات . وقتها وصلت الدولة الكسروية الى مرحلة من الترف والفساد ممّا سهل سقوطها سريعا أمام العرب.  وصمد الروم إذ تحصنت عاصمتهم بالبحر ، فاستمرت القسطنطينية رأسا بلا جسد بعد أن إقتطع العرب جسدها ومستعمراتها فى مصر والشام وشمال افريقيا . بتوقف الغزو فى عهد عثمان رجع العرب الى طبيعتهم الأولى للتقاتل فيما بينهم ، كالنار تأكل نفسها إن لم تجد ما تأكله . فكان حتما بعد توقف عثمان عن الغزو أن يثوروا على عثمان ، خصوصا وأنه كان نقيضا لعمر فى فساده ومحاباته لأهله وعناده ورفضه للاصلاح الى نهاية حياته، ومع تأكده من أنهم سيقتلونه .

خامسا : تآمر قريش على عثمان

1  ـ إلا إن المثير للإهتمام هو تآمر قريش على ( عثمان ) . وهذا ما نقرأه بين سطور الروايات التاريخية ومجريات الأحداث . ( معاوية ) فى تنفيذه لخطة أبيه أبى سفيان بعد موت أبيه ، أسهم فى تشجيع عثمان على الفساد وسلّط عليه ابن عمه مروان بن الحكم  ، ثم تركه وحيدا يواجه الثورة عليه دون أن ينجده بجيش يأتى من دمشق الى المدينة. لقد ظل عثمان محاصرا 49 يوما يستغيث ، ولا مغيث . بل اكتفى معاوية بنشر أنباء تفيد بقدوم جيش لنصرة عثمان ، فجعل الثوار يسرعون بقتل عثمان قبل ان يأتى الجيش المزعوم لنجدة عثمان !. وقتلوا عثمان ولم يكن هناك جيش آت فى الطريق ممّا مكّن الثوار من بيعة ( على ) واستمرار سيطرتهم على المدينة وهم آمنون بعد أن تأكدوا من عدم وجود جيش قادم . أى إن معاوية هو الذى حرّض على قتل ابن عمه عثمان. إنّ كل ما حرص عليه معاوية هو ان يحصل من أرملة عثمان على ( قميص عثمان ) ليستغله فى الوصول للحكم . أى كان لزاما قتل عثمان ليتخذ منه معاوية حُجة للمطالبة بثأر عثمان . فهل يطالب بثأر عثمان وعثمان حىُّ يُرزق ؟ . وبالمطالبة بثأر عثمان وصل معاوية للحكم ، ومعه جيشه من قبائل كلب الذين تعودوا السمع له والطاعة . 

2 ـ وهناك ناحية لم يتعرض لها الباحثون فى تاريخ الفتنة الكبرى ، وهو دور الحزب ( البكرى ) فى قتل عثمان . نقصد بالحزب البكرى السيدة عائشة ومحمد بن أبى بكر ، والزبير صهر أبى بكر ، وطلحة ، وهو ابن عم أبى بكر . فهو ( طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة ) وأبو بكر هو ( أبو بكر بن أبي قحافة بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة .) . الزبير كان منحازا لعلى ، فأم الزبير هى صفية بنت عبد المطلب ، عمة النبى وعمة (على ) . ولكن الثروة التى هبطت بعد الفتوحات غيّرت النفوس ، وجعلت الزبير صاحب طموح سياسى يرى فى إبن خاله ( على ) عقبة فى وصوله للخلافة ، لذا إنحرف عن (على ) وإنضم الى حزب البكريين تبعا لزوجته أسماء بنت أبى بكر وأختها السيدة عائشة ، فالتصق بطلحة بن عبيد الله . ويجمعهم انهم ليسوا من بنى عبد مناف ( أى ليسوا من بنى هاشم وليسوا من بنى أمية وعبد شمس ).

3 ـ لم يكن لعائشة أن تنسى مقتل أبيها بالسّم ، بيد عمر ومعه عثمان . ولكن منعتهم هيبة عمر و قسوته ، وقد رأوه بعد بيعة السقيفة يكاد يحرق بيت السيدة فاطمة ، ثم يكاد يقتل سعد بن عبادة ثم يقتله فيما بعد بعد أن تولى الخلافة. إشتدت سطوة عمر بعد خلافته ، وكان من الطبيعى أن يكتم الحزب البكرى كراهيته لعمر فى حياة عمر ، ولكن هذه الكراهية إنطلقت فى خلافة عثمان تنتقم من عثمان حليف عمر . فالصبى محمد بن أبى بكر الذى مات أبوه وتركه صغيرا يتيما تربى فى حجر زوج أمه ( على بن أبى طالب ) عاش على كراهية عمر وعثمان بسبب مقتل أبيه ، لذا كان من قادة الثورة على عثمان ، وكأن أول من أقتحم بيت عثمان ، وهناك رواية تقول إنه أول من ضرب عثمان ، ورواية أخرى نفهم منها أنه كان على وشك أن يقتل عثمان لولا أن قال له عثمان كذا وكذا .وسنعرض لهذا فى المقال التالى عن مقتل عثمان .

4 ـ أما السيدة عائشة فبدون مبرر ظاهر كانت تطعن فى عثمان وتُحرّض على لقتله، ومشهور قولها :    ( أقتلوا نعثلا ، فإن نعثلا قد كفر ). و ( نعثل ) هو لقب عثمان فى الجاهلية . هذا مع أن عثمان كان كريما معها ومع ابن عمها طلحة بن عبيد الله . وعندما تحققت دعوتها وجاء الثوار يحاصرون عثمان فى منزله تركت السيدة عائشة المدينة الى مكة بحجّة أداء فريضة الحج . تقول رواية الطبرى : ( وتجهزت عائشة خارجة إلى الحج هاربة . ) وخافت عائشة على أخيها الصغير الشاب محمد بن أبى بكر ، فطلبت منه ان يأتى معها بعيدا عن المدينة ، فأبى  تقول الرواية : عنها : ( واستتبعت أخاها فأبى. ) لأنه كان من زعماء الثورة على عثمان . ولقد إحتج عليه حنظلة الكاتب فقال : ( يا محمد، تستتبعك أم المؤمنين فلا تتبعها وتدعوك ذؤبان العرب إلى ما لا يحل فتتبعهم؟  فقال: ما أنت وذاك يابن التميمية؟  فقال ياابن الخثعمية إن هذا الأمر إن صار إلى التغالب غلبتك عليه بنو عبد مناف. ) أى إن الخلافة لو زالت عن عثمان الأموى فستذهب الى (على ) الهاشمى ، أى هى فى بنى عبد مناف دون ذرية أبى بكر .

5 ـ وقبل أن تترك عائشة المدينة لحق بها مروان بن الحكم وآخرون يرجون بقاءها لتنصر عثمان فى محنته ، تقول الرواية :( وأرادت عائشة الحج وعثمانمحصور ، فأتاها مروان وزيد بن ثابت وعبد الرحمن بن عتاب بن أسيد بن أبي العاص، فقالوا: "يا أم المؤمنين لو أقمت ، فإن أمير المؤمنين على ما ترين محصور ومقامك مما يدفع اللهبه عنه .! " فقالت : " قد حلبت ظهري وعريت غرائزي ولست أقدر على المقام."  فأعادوا عليها الكلام،  فأعادت عليهم مثل ما قالت لهم . فقام مروان وهو يقول‏:‏

وحرّق قيس علي البلاد   حتى إذااستعرت أجذما

فقالت عائشة:  أيها المتمثل عليّ بالأشعار ، وددت والله أنك وصاحبك هذاالذي يعنيك أمره في رجل كل واحد منكما رحا ، وأنكما في البحر.".!.) الى هذا الحد كانت تكره عثمان والأمويين .!.وفى طريقها الى مكة قابلت ابن عباس ، وقد كان عثمان قد بعثه أماما للحج : ( فخرج ابن عباس فمر بعائشة في الصلصل ، فقالت : " يابن عباس أنشد الله فإنك قد أعطيت لسانا إزعيلا أن تخذل عن هذا الرجل وأن تشكك فيه الناس فقد بانت لهم بصائرهم وأنهجت ورفعت لهم المنار وتحلبوا من البلدان لأمر قد حمّ ،  وقد رأيت طلحة بن عبيد الله قد اتخذ على بيوت الأموال والخزائن مفاتيح فإن يل يسر بسيرة ابن عمه أبي بكر." )، أى تدعو ابن عباس بلسانه الفصيح أن يدعو لأن يخلع الناس عثمان وأن يولوا طلحة لكى يسير بسيرة ابن عمه أبى بكر ، فرد عليها ابن عباس إن الناس حينئذ سيختارون عليا وليس طلحة : ( قال قلت : يا أمه لو حدث بالرجل حدث ما فزع الناس إلا إلى صاحبنا . ) يعنى ( على بن أبى طالب ) ( فقالت : " ايها عنك .! إني لست أريد مكابرتك ولا مجادلتك . ).!. أى كانت السيدة عائشة تعمل من أجل أن يتولى ابن عمها طلحة الخلافة ، وأن يتصدر بنو تيم قومها زعامة قريش والعرب دون بنى هاشم وبنى أمية ، وهما معا يتمتعان بكراهية السيدة عائشة ، وهذا يفسر خروج طلحة والزبير على خلافة ( على ) بعد ان بايعاه ، وما حدث فى موقعة الجمل بزعامة السيدة عائشة .

6 ـ وتآمر طلحة على (عثمان ) يستحق وقفة . فقد كان عثمان كريما معه الى أقصى حد . وصار فى خلافة عثمان من أثرى الصحابة ، ومع ثرائه كان يستدين من عثمان مستغلا كرم عثمان . تقول الرواية : ( كان لعثمان على طلحة خمسون ألفا ، فخرج عثمان يوما إلى المسجد، فقال له طلحة: " قد تهيأ مالك فاقبضه ." قال : "هو لك يا أبا محمد معونة لك على مروءتك .! ) أى خاطبه فى المسجد علنا ليسحث كرم عثمان ، فأكرمه عثمان بالتنازل له عن المال . ومع هذا ففى محنة عثمان وهو محصور قد منعوه الماء فقد جاء ( على ) الى طلحة يناشده أن يساعده فى حماية عثمان ، فرفض طلحة ، تقول الرواية : ( .. قال علي لطلحة : " أنشدك الله إلا رددت الناس عن عثمان ." قال : " لا والله حتى تعطي بنو أمية الحق من أنفسها . " ). أى هو حقد شديد على بنى أميه لا يضاهيه إلا حقد عائشة .

7 ـ وهناك رواية تشير الى أن طلحة تآمر مع الثوار ، وكان يتسلل اليهم يعطيهم الأوامر وهم قائمون على حصار عثمان فى بيته : ( .. قال وحدثني عبدالله بن عياش بن أبي ربيعة قال : دخلت على عثمان رضي الله عنه فتحدثت عنده ساعة ، فقال : " يا ابن عياش تعال فأخذ بيدي فأسمعني كلام من علي باب عثمان ."، فسمعنا كلاما ، منهم من يقول ما تنتظرون به ومنهم من يقول انظروا عسى أن يراجع.  فبينا أنا وهو واقفان إذ مر طلحة بن عبيد الله ، فوقف فقال : " أين ابن عديس ؟" فقيل : " ها هو ذا :. قال فجاءه ابن عديس ،  فناجاه بشيء ثم رجع ابن عديس ، فقال لأصحابه : " لا تتركوا أحدا يدخل على هذا الرجل ولا يخرج من عنده : . قال فقال لي عثمان : " هذا ما أمر به طلحة بن عبيد الله.! " .  ثم قال عثمان : " اللهم اكفني طلحة بن عبيد الله فإنه حمل عليّ هؤلاء وألّبهم . والله إني لأرجو أن يكون منها صفرا  وأن يسفك دمه .!. إنه انتهك مني ما لا يحل له." ...  قال ثم رجع عثمان . قال ابن عياش : فأردت أن أخرج فمنعوني ، حتى مر محمد بن أبي بكر فقال : " خلوه " ، فخلوني .) 

8 ـ وشارك الزبير فى التآمر على ( عثمان ) ، وإن تظاهر بغير ذلك ، إذ أمر ابنه عبد الله أن يدافع عن  عثمان مع الحسن والحسين ، ثم انسحبوا بأمر من عثمان . ولكن الزبير سارع بالخروج من المدينة عندما عرف بأنهم على وشك إقتحام بيت عثمان وقتله . تقول الرواية : ( وكان الزبير قد خرج من المدينة فأقام على طريق مكة لئلا يشهد مقتله ، فلما أتاه الخبر بمقتل عثمان وهو بحيث هو ، قال: إنا لله وإنا إليه راجعون. رحم الله عثمان وانتصر له .) بعد مقتل عثمان تأوهوا وأظهروا الحزن على قتله توطئة للمتاجرة بدمه ، كما فعلوا بخروجهم على خلافة على . وحتى ( طلحة ) تصنّع الحزن على مقتل عثمان ، تقول الرواية : ( وأتى الخبر طلحة فقال : رحم الله عثمان وانتصر له وللإسلام . وقيل له : إن القوم نادمون . فقال : تبا لهم . وقرأ فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون . )  .

9 ، وفى الفصل التالى ( الانتقام الالهى من عثمان  ) تفصيلات عن الثورة وقتل الثوار لعثمان وسلب أمواله والعبث بزوجته ومنع دفنه فى مدافن المسلمين .

 

الباب الرابع : مكر قريش فى الفتنة الكبرى 

الفصل الثانى   : الانتقام الالهى من عثمان        

أولا : تقرير موجز عن احداث الثورة على عثمان :

1 ـ كان عم عثمان ( الحكم بن أبى العاص ) منفيا بأمر النبى فأرجعه عثمان ، وجعل ابن عمه ( مروان ابن الحكم ) كاتم سرّ الخلافة ، أو السكرتير ، وهو الذى تسلط على عثمان وتسبب فى هلاكه . ومكّن أقاربه الأمويين ، فاطلق يد معاوية فى الشام ، وعزل عمرو بن العاص عن مصر وولى بدله عبد الله بن أبى السرح . وولى عبد الله بن عامر على البصرة وكانت تتبعها خراسان .

2 ـ وكان عثمان قد عيّن أخاه من الأم (الوليد بن عقبة بن معيط )على الكوفة ثم عزله لفساده وولى مكانه ابن عمه سعيد ابن العاص .عقبة بن معيط كان أحد أشهر من يؤذى النبى فى مكة ، ولكن عثمان ولّى إبنه الوليد على الكوفة . وكان الوليد بن عقبة مدمنا للخمر، وكان يصلى بالناس وهو سكران، وحدث أن صلّى بهم الفجر أربع ركعات وهو ثمل ، فلما فرغ من صلاته قال للناس : أتريدون أن أزيدكم ؟ . فقال الشاعر الحطيئة يتندر عليه :

شهد الحطيئة يوم يلقى ربه  أن الوليد أحقّ بالعذر 

نادى وقد تمت صلاتهم  أأزيدكم ؟! ثملا وما يدرى

ليزيدهم اخرى ولو قبلوا     لقرئت بين الشفع والوتر

حبسوا عنانك فى الصلاة ولو  خلّوا عنانك لم تزل تجرى .

وكان عتّاب بن غيلان الثقفى يصلى خلفه فسمعه يقول فى سجوده : إشرب واسقنى ، فقال عتّاب : " لا زادك الله من الخير ، والله لا أعجب إلّا ممّن بعثك الينا واليا وجعلك علينا أميرا ". وكرهه أهل الكوفة ، وحصبوه لأنه خطب الجمعة وهو سكران . وإنتشرت أنباء فسقه ومجونه فهجم عليه جماعة فى منزله فوجدوه سكرانا فوق سريره ولا يعقل ، فتقايأ عليهم مما شربه من الخمر. فانتزعوا خاتمه ، وجاء بالخاتم الى المدينة أبو زينب ابن عوف الأزدى وجندب بن زهير الأزدى يطلبان من عثمان عزله ، وشهدا أنه يشرب الخمر. فرفض عثمان وأهانهما وطردهما ، فأتيا ( على بن أبى طالب) . فنصح عثمان باستقدام الوليد بن عقبة ومواجهته والتحقيق معه . وجاء الوليد فلم تكن له حُجّة ، وحكم ( على ) بضربه بالسوط حدّا ، فقال عثمان ( ليس لك أن تفعل به هذا ).

3 ـ وعزله عثمان وولى مكانه سعيد بن العاص الذى رفض ان يصعد منبر الكوفة إلا بعد غسله وقال : " إن الوليد كان نجسا رجسا " .!. ثم ظهر فساد سعيد بن العاص الأموى فاستبد بالأموال ، وأعلن أن ( السواد ) أو ريف العراق هو ( بستان قريش ) أى ملك لقريش دون قبائل العرب، فقال له الأشتر النخعى : " اتجعل ما أفاء الله علينا به بسيوفنا ورماحنا بستانا لك ولقومك ؟. وجاء الأشتر الى المدينة ومعه سبعون من زعماء يشكونه لعثمان فرفض عثمان مقابلتهم . وامتدت إقامتهم بالمدينة بلا جدوى .

4 ـ وبعث عثمان لأقاربه الولاة يستشيرهم ، فجاء اليه معاوية وابن ابى السرح وعبد الله بن عامر . فقال له معاوية : "أما أنا فراض بى جندى ". وقال ابن عامر : " ليكفك إمرؤ ما قبله أكفك ما قبلى ". وقال ابن أبى السرح : " ليس بكثير عزل عامل للعامة وتولية غيره " ، فقال سعيد بن العاص :" إنك إن فعلت هذا كان أهل الكوفة هم الذين يولّون ويعزلون " . واقترح أن يرسل المعارضين للغزو ليتخلص منهم .

5 ـ وعرف عمرو بن العاص بما دار فى الاجتماع، وكان يكره عثمان لأنّ عثمان عزله عن مصر ، فأخبر الزبير وطلحة، واتصلوا بالأشتر زعيم معارضة الكوفة وأبلغوه بما دار وبأن عثمان ينوى إرسالهم فى الغزو ليتخلص منهم . وأعطوه وأصحابه مائة الف درهم لينظم المعارضة ضد عثمان فى الكوفة .

6 ـ ورجع الأشتر ورفاقه الى الكوفة قبل رجوع الوالى سعيد بن العاص ، ووصعد الأشتر المنبر وأخبر بما حدث ، فبايعه أهل الكوفة على منع الوالى سعيد من دخول الكوفة . وكتب الأشتر الى عثمان : " إنّا والله ما منعنا عاملك الدخول لنفسد علينا عملك ،ولكن لسوء سيرته فينا .. فابعث الى عملك ما أحببت ". فولى عليهم أبا موسى الأشعرى .

7 ـ ولكن تطورت المعارضة ضد عثمان ، بسبب تحكم مروان بن عبد الملك فيه ، وإغداق عثمان عليه الأموال .، و ضرب عثمان (عبد الله بن مسعود) أصبحت قبيلة هذيل ضد عثمان. وضرب عثمان (عمّار ابن ياسر) فكرهه بنو مخزوم ،لأن عمّار كان حليفا لهم . ثم نفى عثمان (أبا ذر) الى الربذة ، وأهانه لأنه إعترض على معاوية ، فتعاطف أهل المدينة مع أبى ذر ، وتخاصم ( على ) مع عثمان بسبب ذلك .

8 ـ وتفاقم الأمر بقيام عثمان بتسيير معارضيه ، وهى عقوبة تعنى الآن ( الكعب الدائر ) فى العُرف المصرى ، أة كان يُطاف بأولئك الناس فى الشام والعراق . وأدى هذا الى أتفاق المعارضين على الثورة الجماعية على ( عثمان ) . فثار أعراب من مصر بزعامة عبد الرحمن بن عديس البلوى ، وأعراب البصرة بزعامة حكيم بن جبلة العبدى ، واعراب الكوفة بقيادة مالك بن الحارث النخعى .وتواعد أولئك الثوّار على القدوم لعثمان فى المدينة للشكوى ، فجاءوا الى مكة بزعم الحج ، ومنها قدموا المدينة. فنزلوا مكانا قريبا منها اسمه ذو الخشب . وتوسط (على ) بين الثوار وعثمان ، ووافق عثمان على أن يستجيب لمطالب الثوار بعزل الولاة المفسدين وإقرار العدل . فرفعوا الحصار ، ورجعوا الى الكوفة والبصرة والفسطاط بمصر.

9 ـ و فى طريق العودة لمصر شكّ الثوار الأعراب ( المصريون ) فى غلام على بعير ، فإذا هو ( ورش ) غلام عثمان ، ففتشوه فوجدوا معه رسالة من عثمان الى عبد الله بن أبى السرح والى مصر يأمره فيها عثمان بقتل  وقطع أيدى الثوار إذا أتوا اليه. وكانت الرسالة بخطّ مروان بن الحكم . فرجعوا الى المدينة ومعهم بقية الثوار البصريين والكوفيين ، واحتلوها ووضعوا أهل المدينة تحت إرهاب سيوفهم، وحاصروا عثمان فى داره ، وتفاوضوا معه، فأنكر أن يكون هو الذى بعث الرسالة ، فطلبوا منه تسليم مروان بن الحكم فرفض. وخلال مدة الحصار تفاوض بين عثمان والثوار ( على ) ثم محمد بن مسلمة  ثم  الأشتر النخعى ، وفى كل مرة كان عثمان يتعهد بالاصلاح وعزل الولاة المفسدين  ثم يتراجع . وكان  يماطل الثوار إنتظارا لمجىء جيش ينقذه من الشام أو مصر أو العراق . وكرهه أهل المدينة لأنه السبب فى مجىء الثوار واحتلالهم المدينة وإهانة أهلها ، ثم بسبب رفضه الاصلاح . وقد طلب منه الثوار التنازل عن الحكم فقال : " لا أنزع قميصا كسانيه الله "، فاستمر حصاره 49 يوما ثم منعوه الماء . وحاول بعضهم ومنهم على بن أبى طالب بأبنائه الدفاع عنه ، ولكن عثمان رفض ان يتدخل أحد منتظرا وصول ( جيش الانقاذ ) . وعندما علم الثوار أن جيشا قادما لانقاذ عثمان باردروا باقتحام بيت عثمان وقتله.كان هذا موجز ما ورد فى تاريخ المسعودى ( مروج الذهب ) وتاريخ الطبرى .

ثانيا : الروايات فى قتل عثمان  ودفنه

1 ـ دور محمد بن أبى بكر : ويأتى ذكر محمد بن أبى بكر فى كيفية قتل عثمان ، وتتفق الروايات كلها على أنه كان البادىء بالهجوم ، ولكن بعضها يقول بانسحابه دون أن يشارك فى قتله:( قال أبو المعتمر فحدثنا الحسن أن محمد بن أبي بكر دخل عليه فأخذ بلحيته قال فقال له ( عثمان ): قد أخذت منا مأخذا وقعدت مني مقعدا ما كان أبو بكر ليقعده أو ليأخذه .! قال فخرج وتركه. ) (.. ودخل محمد بن أبي بكر على عثمان ، فأخذ بلحيته .فقال ( عثمان ) : "أرسل لحيتي فلم يكن أبوك ليتناولها "!. فأرسلها . )

وتقول رواية أخرى فى الطبرى أنه بدأ بطعن عثمان وتبعه آخرون : ( وذكر محمد بن عمر أن عبد الرحمن بن عبدالعزيز حدثه عن عبدالرحمن بن محمد: أن محمد بن أبي بكر تسوّر على عثمان من دار عمرو بن حزم ، ومعه كنانة بن بشر بن عتاب وسودان بن حمران وعمرو بن الحمق ، فوجدوا عثمان عند امرأته نائلة ، وهو يقرأ في المصحف في سورة البقرة . فتقدمهم محمد بن أبي بكر ، فأخذ بلحية عثمان فقال : "قد أخزاك الله يا نعثل .!" فقال عثمان : "لست بنعثل ولكني عبدالله وأمير المؤمنين ." قال محمد : "ما أغنى عنك معاوية وفلان وفلان."  فقال عثمان : "يابن أخي دع عنك لحيتي فما كان أبوك ليقبض على ما قبضت عليه." فقال محمد:" لو رآك أبي تعمل هذه الأعمال أنكرها عليك ، وما أريد بك أشد من قبضي على لحيتك " قال عثمان: "أستنصر الله عليك وأستعين به." ثم طعن جبينه بمشقص..) 

2 ـ وتختلف الروايات فى تفاصيل قتل عثمان. يقول الطبرى: ( ودخل عليه رجل يقال له الموت الأسود .. فخنقه ثم خفقه..ثم خرج فقال :" والله ما رأيت شيئا قط ألين من حلقه .!.والله لقد خنقته حتى رأيت نفسه يتردد في جسده كنفس الجان ".) ، ( دخل على عثمان رجل فقال ( عثمان ) : " بيني وبينك كتاب الله " ..والمصحف بين يديه ..فهوي له بالسيف، فاتقاه بيده،  فقطعها .! ) ، (..فلما خرج محمد بن أبي بكر وعرفوا انكساره، ثار قتيرة وسودان بن حمران السكونيان والغافقي فضربه الغافقي بحديدة معه، وضرب المصحف برجله ، فاستدار المصحف فاستقر بين يديه ، وسالت عليه الدماء. ) ( ودخلوا عليه، فمنهم من يجؤه بنعل سيفه ، وآخر يلكزه ، وجاءه رجل بمشاقص معه، فوجأه في ترقوته، فسال الدم على المصحف . وهم في ذلك يهابون في قتله . وكان كبيرا وغشي عليه. ودخل آخرون فلما رأوه مغشيا عليه جروا برجله،  فصاحت نائلة وبناته . وجاء التجيبي مخترطا سيفه ليضعه في بطنه فوقته نائلة فقطع يدها ، واتكأ بالسيف عليه في صدره . )، ( ورفع كنانة بن بشر مشاقص كانت في يده فوجأ بها في أصل أذن عثمان فمضت حتى دخلت في حلقه ، ثم علاه بالسيف حتى قتله .) ( ..ضرب كنانة بن بشر جبينه ومقدم رأسه بعمود حديد فخرّ لجبينه ، فضربه سودان بن حمران المرادي بعد ما خرّ لجبينه فقتله .  وأما عمرو ابن الحمق فوثب على عثمان فجلس على صدره وبه رمق ، فطعنه تسع طعنات . قال عمرو : فأما ثلاث منهن فإني طعنتهن إياه لله ، وأما ست فإني طعنتهن إياه لما كان في صدري عليه .).

واخيرا يقول الطبرى: ( لما قتل عثمان رضي الله عنه أرادوا حز رأسه ، فوقعت عليه نائلة وأم البنين ،  فمنعنهم ، وصحن وضربن الوجوه وخرقن ثيابهن . فقال ابن عديس : اتركوه . فأخرج عثمان ولم يغسل إلى البقيع ، وأرادوا أن يصلوا عليه في موضع الجنائز فأبت الأنصار . وأقبل عمير بن ضابئ وعثمان موضوع على باب فنزا عليه، فكسر ضلعا من أضلاعه .وقال : سجنت ضابئا حتى مات في السجن . )

3 ـ انتهاك حُرمة امرأة عثمان . ( وأخذت ابنة الفرافصة حليها فوضعته في حجرها وذلك قبل أن يقتل ، قال فلما ..قُتل ناحت عليه. قال قال بعضهم : قاتلها الله ما أعظم عجيزتها .! ) أى مؤخرتها .!. ( وجاء سودان بن حمران ليضربه فانكبت عليه نائلة ابنة الفرافصة واتقت السيف بيدها فتعمدها ونفح أصابعها فأطن أصابع يدها وولت ، فغمز أوراكها وقال : إنها لكبيرة العجيزة ) .!

4 ـ سلب مال عثمان :  ( وانتهبوا ما في البيت وأخرجوا من فيه ثم أغلقوه على ثلاثة قتلى .. ودار القوم فأخذوا ما وجدوا ، حتى تناولوا ما على النساء . وأخذ رجل ملاءة نائلة  (زوجة عثمان ) والرجل يدعى كلثوم بن تجيب ، فتنحت نائلة فقال : ويح أمك من عجيزة، ما أتمك ...وتنادوا في الدار : " أدركوا بيت المال لا تسبقوا إليه."  وسمع أصحاب بيت المال أصواتهم وليس فيه إلا غرارتان فقالوا : النجاء ، فإن القوم إنما يحاولون الدنيا " ، فهربوا . وأتوا بيت المال فانتهبوه ، وماج الناس فيه . ) ( وقتل عثمان رضي الله عنه قبل غروب الشمس ونادى مناد : ما يحل دمه يحل ماله .؟ فانتهبوا كل شيء،  ثم تبادروا بيت المال ، فألقى الرجلان المفاتيح ، ونجوا وقالوا : الهرب الهرب هذا ما طلب القوم . ).

5 ـ ومنعوا دفن عثمان  فى مقابر المسلمين ، ودفنوه ليلا وسرأ فى ( الحش ) وهو مقبرة قديمة لليهود أصبحت فيما بعد موضعا  لقضاء الحاجة. و هذا هو معنى ( الحش ) يومئذ . ظل جثمان عثمان ثلاثة أيام بلا دفن ، الى أن دفنوه ليلا . وهذا يذكّرنا بدفن أبى بكر ليلا، ودور عثمان فى التآمر على حياته مع عمر . الجديد هنا أنهم فى حالة أبى بكر دفنوه بسرعة وفى حجرة عائشة بجوار النبى لاسترضاء أل أبى بكر . أما فى حالة عثمان فقد تأخروا فى دفنه خوفا ، واضطروا لدفنه فى موضع سور بستان أو حائط فى مكان إسمه ( الحش ) أى هو مكان التبول والتبرز وقضاء الحاجة كان من قبل مقبرة لليهود.

تقول الروايات : (  نبذ عثمان رضي الله عنه ثلاثة أيام لا يدفن . ثم إن حكم بن حزام القرشي ثم أحد بني أسد بن عبد العزي وجبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف كلما عليا في دفنه ، وطلبا إليه أن يأذن لأهله في ذلك ففعل وأذن لهم علي. فلما سمع بذلك قعدوا له في الطريق بالحجارة وخرج به ناس يسير من أهله وهم يريدون به حائطا بالمدينة يقال له حش كوكب ، كانت اليهود تدفن فيه موتاهم ، فلما خرج به على الناس رجموا سريره ، وهموا بطرحه. فبلغ ذلك عليا فأرسل إليهم يعزم عليهم ليكفنّ عنه . ففعلوا . فانطلق حتى دفن رضي الله عنه في حش كوكب.  فلما ظهر معاوية بن أبي سفيان على الناس أمر بهدم ذلك الحائط حتى أفضى به إلى البقيع . فامر الناس أن يدفنوا موتاهم حول قبره حتى اتصل ذلك بمقابر المسلمين. )، ( دفن عثمان رضي الله عنه بين المغرب والعتمة ولم يشهد جنازته إلا مروان بن الحكم وثلاثة من مواليه وابنته الخامسة،  فناحت ابنته ورفعت صوتها تندبه . وأخذ الناس الحجارة ، وقالوا نعثل وكادت ترجم ، فقالوا الحائط الحائط فدفن في حائط خارجا . )، (  لبث عثمان بعد ما قتل ليلتين لا يستطيعون دفنه، ثم حمله أربعة حكيم بن حزام وجبير بن مطعم ونيار بن مكرم وأبو جهم بن حذيفة . فلما وضع ليصلى عليه جاء نفر من الأنصار يمنعونهم الصلاة عليه ، فيهم أسلم بن أوس بن بجرة الساعدي وأبو حية المازني في عدة ومنعوهم أن يدفن بالبقيع . فقال أبو جهم ادفنوه فقد صلى الله عليه وملائكته. فقالوا لا والله لا يدفن في مقابر المسلمين أبدا.  فدفنوه في حش كوكب . فلما ملكت بنو أمية أدخلوا ذلك الحش في البقيع فهو اليوم مقبرة بني أمية . ) ( حدثنا أبو بكر بن عبدالله بن أبي أويس قال حدثني عم جدي الربيع بن مالك بن أبي عامر عن أبيه قال كنت أحد حملة عثمان رضي الله عنه حين قتل حملناه على باب وإن رأسه لتقرع الباب لإسراعنا به وإن بنا من الخوف لأمرا عظيما حتى واريناه في قبره في حش كوكب . )   (  عثمان لما قتل أرسلت نائلة إلى عبدالرحمن بن عديس فقالت له إنك أمس القوم رحما وأولاهم بأن تقوم بأمري أغرب عني هؤلاء الأموات ..فشتمها وزجرها . حتى إذا كان في جوف الليل خرج مروان حتى أتى دار عثمان فأتاه زيد بن ثابت وطلحة بن عبيدالله وعلي والحسن وكعب بن مالك وعامة من ثم من صحابه فتوافى إلى موضع الجنائز صبيان ونساء ، فأخرجوا عثمان ، فصلى عليه مروان . ثم خرجوا به حتى انتهوا إلى البقيع فدفنوه فيه مما يلي حش كوكب .) .

6 ـ وعن يوم قنله يقول الطبرى : ( اختلف في ذلك ، بعد إجماع جميعهم على أنه قتل في ذي الحجة . ) كان قتله كان فى شهر ذى الحجة الحرام . لقد استمرت الفتوحات فى عهده خلال الأشهر الحرم فعاقبه رب العزة بقتله فى شهر حرام ، مثلما حدث مع رفيقه عمر.

أخيرا :  

1 ـ كان العرب فى الجاهلية يعرفون المواقيت بالسنة القمرية ، وبها كانوا يمارسون الشعائر من صلاة وحج واحترام للأشهر الحرم وفق المتوارث من ملة ابراهيم . وسُئل النبى عليه السلام عن ( الأهلّة ) أو التوقيت القمرى عسى أن يكون هناك شىء جديد يخصّه فى الاسلام ، وكالعادة ، انتظر النبى حتى نزل القرآن بالاجابة: (يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ) (189)(البقرة). قال جل وعلا (هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ) أى أنّ العرب وقتها كانوا يستعملون التوقيت القمرى فى حياتهم وفى تحديد أشهر الحج ، او الأشهر الحرم التى يمكن فى خلالها تأدية مناسك الحج ، وهى تبدأ بأول شهر فى السنة القمرية ( ذو الحجة ، ثم محرم ثم صفر ثم الرابع ربيع الأول ) وبعده تبدأ الأشهر غير الحرم بريبع ثانى وتنتهى السنة بذى القعدة. وفي بداية الأشهر الحرم يكون موسم إفتتاح فريضة الحج والتى يستمر بعدها الحج مدة الأشهر الأربعة . كان العرب يعلمون هذا ويتعاملون به لذا وصف رب العزة أشهر الحج الحرم بأنها اشهر معلومات : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ )(197)البقرة).  

2 ـ بل كان اللسان العربى يسمى السنوات ( حجج )والسنة ( حجة ) بكسر الحاء، نسبة الى شهر ذى الحجة بداية السنة وبداية موسم الحج ،لأن التقويم القمرى تبدأ فيه السّنة بذى الحجة، وقد ساد فى الجزيرة العربية وخارجها استعمال كلمة ( حجة ) دليلا على العام أو السنة ، وفى قصة موسى عليه السلام قال له الرجل الصالح فى (مدين):(قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَةَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ )(27)(القصص).( ثَمَانِيَةَ حِجَجٍ ) أى ثمانية أعوام.

3 ـ ولكن الفتوحات التى انتهكت الأشهر الحرم سرعان ما بدأت إنتهاكا آخر يجعل ذا الحجة وهو بداية السنة القمرية هو آخر السنة القمرية . وكان هذا على الأرجح فى خلافة ( عمر ) الذى أجلى أهل الكتاب من الجزيرة العربية ، وجعل الهجرة بداية التأريخ للمسلمين . وفيها جعلوا المحرم بداية السنة وليس ذا الحجة .

4 ـ إشتدت كراهية الفرس لأبى بكر وعمر وعثمان لأنهم الذين أزالوا من الوجود الامبراطورية الفارسية والمجد الفارسى ، وتكونت حول تلك الكراهية دين التشيع القائم على التبرى من ابى بكر وعمر وعثمان ومعاوية والسيدة عائشة وأبى هريرة..الخ ، والتولى لعلى بن أبى طالب وبنيه . أما مصر فقد استراحت لدين التصوف السّنى الذى يقدس كبار الصحابة وعلى رأسهم الخلفاء الراشدون الأربعة ، وبدلا من مقت عمر بن الخطّاب فلا يزال المصريون يعبدون عمر بن الخطاب .!! هذا هو الفارق بين إعتزاز الفرس بلغتهم و بقوميتهم وشعوبيتهم وجعلها دينا يعتنقه ملايين غير الفرس ، وبين المصريين الذى يعبدون من إحتل بلادهم واسترق نساءهم وسلب أموالهم وطمس شخصيتهم ومحا لغتهم وأنهى ريادتهم وحقّر مجد حضارتهم .

6 ـ وبعلو الدين السلفى الوهابى الحنبلى السّنى أصبحت مصر منذ أكثر من أربعين  عاما تابعة للأسرة   السعودية التى أعادت فتح مصر بالريال ، وبه اشترت مبارك والاخوان ..ويهرف الاخوان باعادة فتح مصر ، أى بتكرار تجربة عمر بن الخطاب وعمرو بن العاص فى سلب ونهب مصر واسترقاق نسائها . وطبقا للدين السنى فولاء الاخوان والسلفيين ليس للوطن مصر بل للعقيدة الوهابية. مصر بالنسبة لهم كما كانت للصحابة أرباب الدين السنى ـ هى بقرة يمتصون لبنها ودماءها ..

7 ـ نكتفى بهذا ، ونترك بقية التفاصيل عن (عثمان ) لتأتى فى بحث قادم بعونه جل وعلا، بعنوان :(عثمان: خليفة فاسد قتله عصره ).

     

الباب الرابع : مكر قريش والفتنة الكبرى  

الفصل الثالث  ( خلافة على والانتقام الالهى فى موقعة الجمل )

 مقدمة  :هذه الفتنة الكبرى التى لازلنا نعيش فى ظلامها

1  ـنبّا بها رب العزّة مقدما بما سيحدث من قوم النبى محمد ، من تكذيب عملى بالقرآن بالفتوحات ، ثم ما سيليها من فتنة كبرى ينقسمون فيها شيعا وأحزابا وحروب أهلية يذيق فيها بعضهم بأس بعض . فى سورة مكية قال جل وعلا يخاطب خاتم المرسلين:( قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) ( الأنعام). هذه الآيات الكريمة  صيحة تحذير قبل الهاوية، والهاوية هى حرب أهلية تفتح أفواهها لتلتهم مصر وغيرها . فليس هذا خطابا محددا بقريش حين كذّبت بالقرآن وجاءها التهديد من الرحمن بل هو تهديد يتخطى الزمان والمكان ، وهو إنذار لكل كذّب بآيات الله فى القرآن ، وعاند وصدّ عن سبيل الله جل وعلا. التهديد هنا بقدرة الخالق جل وعلا على أن يبعث عليهم عذابا من فوقهم أو من تحت أرجلهم ، مثل الأوبئة والتلوث والفساد فى البر والبحر بما كسبت أيديهم ، أو أن تقع بينهم الحروب وحمامات الدم ، ويذيق بعضهم بأس بعض. هذا ما جاء فى قوله جل وعلا : (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ .). ولم يفقهها الملأ الأموى القرشى ، ولم يفقها أتباعهم وأنصارهم ممن سار على سنّتهم ، فتقول الآية التالية:(وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ ). أى كذّبوا بالقرآن ـ وهو الحق ـ

2 ـ والردّ على تكذيبهم يأتى من الله جل وعلا ، وهو من جزئين :

ـ الجزءالأول هو: (قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ )، أى أمر الاهى لخاتم المرسلين أن يعلن لهم أنه ليس مسئولا عنهم ،وتكرر هذا كثيرا فى القرآن الكريم ،ومنه قوله جل وعلا له عليه السلام: (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ إِلاَّ مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ)(الغاشية21: 26 ) . أى هو مجرد (مُذَكِّرٌ ) أو ( مبلّغ ) ليس عليه سوى البلاغ ،فلا إكراه فى الدين ، وليس له السيطرة على أحد ( لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ). ومرجعهم الى الله جل وعلا وحده ، وهو الذى يتولى حسابهم وعذابهم ، ومن عذابهم ما سيأتى فى الدنيا والآخرة :(إِلاَّ مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ)، ومرجعهم الى الله جل وعلا وحده ، وهو الذى يتولى بعثهم وحسابهم (إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ).أى ليس للنبى من الأمر شىء: ( آل عمران : 128) بل لله جل وعلا الأمر كله، لذا قال له ربه جل وعلا:(وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) ( هود 121 : 123 ).

ـ الجزء الثانى من الرّد هو قوله جل وعلا مهددا مرة أخرى منن يكذّب بكلام رب العالمين :( لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ).أى يحمل لهم المستقبل أنباء سيئة آتية لا محالة جزاء تكذيبهم. لم يكن كل قوم النبى مكذبين ، فقوله جل وعلا (وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ ) يتحدث عن الأغلبية المسيطرة،أى الأمويين .وتتميز سورة الأنفال بأن معظم حديثها ينصبّ على قريش ، من آمن منهم ومن كفر ، فقد نزلت تعقّب على الانتصار فى معركة بدر على قريش الكافرة. وبعد الحديث عن مشركى قريش جاء التحذير للقرشيين المهاجرين هائلا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَّهُم مُّعْرِضُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)(الأنفال 20 : 28). نقول أنه خطاب موجّه فى الأساس للصحابة المهاجرين بدليل قوله جل وعلا لهم يذكّرهم بالاضطهاد السابق : (وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ). والمستفاد منه أن هناك من القرشيين المهاجرين المشاركين فى بدر ،أو ( البدريين ) من جاء فى حقه هذا التقريع لأفعال بدرت منه منها معصية الرسول والتولى عنه ومتابعة الكافرين المعاندين من قومهم القرشيين الذين كانوا يتندرون على النبى بقولهم (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ )، بل أكثر من ذلك هو تحذيرهم من خيانة الله جل وعلا والرسول  مع علمهم بما يفعلون :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ). والمستفاد بكل أسف إن هذه القلة المؤمنة من البدريين القرشيين لم تسلم من التكذيب ، وإلا ما قال رب العزة فيهم هذا الكلام . محل الاستشهاد هنا هو أن منهم من بلغ به التكذيب درجة أن يقول فيهم رب العزة : (وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ )، أى فهناك منهم من هو عريق فى الظلم ، وهناك منهم من يسمع ويطيع لأولئك الظالمين ، والله جل وعلا يحذّر مقدما من طاعة أولئك الظالمين حتى لا يأتى العذاب ليشمل الجميع ، ونعيد قراءة هذا التحذير الخطير: (وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) وبعده يذكّرهم باضطهاد قومهم لهم : ( وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) ثم يحذرهم من الخيانة : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) . الذى أنزل هذا التحذير هو ربّ العزة الذى يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور. وهو جل وعلا يتحدث عن غيب وسرائر السابقين زمنا فى الاسلام من المهاجرين القرشيين . وهذا الغيب وتلك السرائر التى فضحها رب العزة تتناقض مع الشكل السطحى والمظهر الخارجى لأولئك السابقين زمنا فى الاسلام ، وهذا يؤكد صدق قوله جل وعلا للنبى وهو فى مكة عن أغلبية قومه:(وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ ).

3 ـ والذى حذّر منه رب العزة مقدما وهو قوله جل وعلا :(وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) وقع فيه القرشيون بعد موت خاتم المرسلين ، وانتهاء القرآن نزولا ، وبعد أن اجتمعت قريش معا وتزعمت العرب . عندها توحّد المهاجرون الذين نزلت فيهم الآيات السابقة من سورة الأنفال مع الأمويين وبقية القرشيين الذين دخلوا فى الاسلام بعد طول عداء وحروب وخصام . أى إن من تحدثت عنهم سورة الأنفال وتحاربوا مع بعضهم انتهى بهم الأمر لأن يتحدوا مع بعضهم ، وأن يهمّشوا الأنصار الذين (آووا ونصروا ) والذين مدحهم رب العزة فى نهاية سورة الأنفال نفسها . خالف القرشيون المهاجرون وصية رب العزة بالانصار وتحذير رب العزة من التحالف مع الكفار ( الأنفال 72 75 ). وأتيح للأمويين تصدر الموقف بعد موت خاتم النبيين ، مما سهّل عليهم قيادة المسلمين الى الفتوحات العربية باستغلال إسم الاسلام ، وتلك جريمة كبرى فى حق شريعة الاسلام لأنها اعتداء على شعوب لم تبدأ المسلمين بالاعتداء ، ولأنها سلب ونهب واسترقاق وسبى واستعمار واحتلال لأمم لم تقدم سيئة للعرب أو المسلمين . ولأن الأمويين كانوا هم القادة فى هذا الظلم ـ من وراء ستار فى عهد أبى بكر وعمر وعثمان ـ وعلنا بعد أن أقاموا دولتهم ـ فقد تسببوا فى الحرب الأهلية الى قتلت قادة المهاجرين ، فمات أبو بكر بالسّم ، ومات عمر بالاغتيال ، وقتل الثوار الأعراب عثمان ، وقتلوا عليا ، وفى الحرب الأهلية فى معركة الجمل قتل الزبير وطلحة ـ وهما من رءوس الفتنة . وقتل آلاف من الجانبين كل منهما يهتف ( الله أكبر ) ، وكانت موقعة الجمل ـ موضوعنا الآن ـ أكبر دليل على تجسد اللعنة التى حاقت بالصحابة ، ثم تكررت المذابح فى صفين والنهروان فى خلافة ( على ) ، وتطورت فى حروب مستمرة بين الخوارج ومعاوية ، ثم فى عهد ابنه يزيد حدثت المآسى الثلاث : كربلاء واقتحام المدينة واستباحة دماء الأنصار وأعراضهم ، ثم حصار الكعبة وضربها بالمجانيق .

أولا : خلافة ( على ) فى سطور من ( الطبقات الكبرى ) لابن سعد  :

1 ـ ( لما قتل عثمان يوم الجمعة لثماني عشرة ليلة مضتمن ذي الحجة سنة خمس وثلاثين وبويع لعلي بن أبي طالب بالمدينة الغد منيوم قتل عثمان بالخلافة، بايعه طلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد بن عمروبن نفيل وعمار بن ياسر..وجميع من كان بالمدينة من أصحاب رسول الله صلىالله عليه وسلم وغيرهم. )

2 ـ ( ثم ذكر طلحة والزبير أنهما بايعا كارهين غير طائعين وخرجاإلى مكة وبها عائشة. ثم خرجا من مكة ومعهما عائشة إلى البصرة يطلبون بدم عثمان . وبلغعليا ذلك فخرج من المدينة إلى العراق . ) ، أى حنث الزبير وطلحة ببيعتهما لعلى ، وخرجا ومعهما السيدة عائشة الى البصرة للطلب بالثأر لعثمان .!! فخرج (على) وراءهم الى العراق. ( فنزل ذا قار.وبعث عمار بن ياسروالحسن بن علي إلى أهل الكوفة يستنفرهم للمسير معه، فقدموا عليه ، فسار بهم إلى البصرة. ) وحدثت موقعة الجمل (فلقي طلحة والزبير وعائشة ومن كان معهم من أهل البصرة وغيرهم يوم الجمل في جماديالآخرة سنة ست وثلاثين ، وظفر بهم . وقتل يومئذ طلحة والزبير وغيرهما . وبلغت القتلىثلاثة عشر ألف قتيل . وأقام علي بالبصرة خمس عشرة ليلة ثم انصرف إلى الكوفة ‏.‏).

3 ـ وبعدها كانت موقعة (صفّين ): ( ثم خرج يريد معاوية بن أبي سفيان ومن معه بالشام فبلغ ذلك معاويةفخرج فيمن معه من أهل الشام والتقوا بصفين في صفر سنة سبع وثلاثين فلم يزالوايقتتلون بها أياما ..وقتل بصفين عمار بن ياسر وخزيمة بن ثابت وأبو عمرة المازنيوكانوا مع علي ...ورفع أهل الشام المصاحف يدعون إلى ما فيها ، مكيدة من عمرو بن العاص،أشار بذلك على معاوية وهو معه،  فكره الناس الحرب ، وتداعوا إلى الصلح. وحكّموا الحكمين، فحكّم علي أبا موسى الأشعري وحكّم معاوية عمرو بن العاص ، وكتبوا بينهم كتابا ؛ أن يوافوارأس الحول بأذرح فينظروا في أمر هذه الأمة . فافترق الناس . فرجع معاوية بالألفة من أهلالشام ، وانصرف علي إلى الكوفة بالاختلاف والدغل . )

4 ـ وأدى التحكيم الذى فرضه الأعراب التابعون لعلى الى خروجهم على (على ) وأصبحوا ( الخوارج ) وقد أفنى (على ) معظمهم فى موقعة ( النهروان ) : ( فخرجت عليه الخوارج من أصحابه ومنكان معه وقالوا : لا حكم إلا الله وعسكروا بحروراء .فبذلك سموا الحرورية . فبعث إليهمعلي عبد الله بن عباس وغيره فخاصمهم وحاجّهم،  فرجع منهم قوم كثير. وثبت قوم على رأيهم،وساروا إلى النهروان فعرضوا للسبيل وقتلوا عبد الله بن خباب بن الأرت . فسار إليهمعلي فقتلهم بالنهروان..وذلك سنة ثمان وثلاثين. ثم انصرف علي إلىالكوفة فلم يزل بها يخافون عليه الخوارج من يومئذ إلى أن قتل رحمه الله . )

5 ـ وجاءت نتيجة التحكيم لصالح معاوية بسبب خداع عمرو لأبى موسى الأشعرى :( واجتمعالناس بأذرح في شعبان سنة ثمان وثلاثين ، وحضرها سعد بن أبي وقاص وابن عمر وغيرهما منأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقدم عمرو أبا موسى فتكلم فخلع عليا وتكلم عمروفأقر معاوية وبايع له، فتفرق الناس على هذا‏.‏).

5 ـ بعدها إغتال الخارجى عبد الرحمن بن ملجم عليا وهو على وشك أن يصلى الفجر ، يقول الطبرى : ( فلما خرج من الباب نادى أيها الناسالصلاة الصلاة كذلك كان يفعل في كل يوم يخرج ومعه درته يوقظ الناس فاعترضه الرجلانفقال بعض من حضر ذلك فرأيت بريق السيف وسمعت قائلا يقول لله الحكم يا علي لا لك ثمرأيت سيفا ثانيا فضربا جميعا فأما سيف عبد الرحمن بن ملجم فأصاب جبهته إلى قرنهووصل إلى دماغه وأما سيف شبيب فوقع في الطاق وسمعت عليا يقول : لا يفوتنكم الرجل . وشدّالناس عليهما من كل جانب ، فأما شبيب فأفلت ، وأخذ عبد الرحمن بن ملجم فأدخل على عليفقال:  أطيبوا طعامه وألينوا فراشه فإن أعش فأنا أولى بدمه عفوا وقصاصا وإن أمتفألحقوه بي أخاصمه عند رب العالمين )  ( ومكث علي يوم الجمعةوليلة السبت وتوفي رحمة الله عليه وبركاته ليلة الأحد لأحدى عشرة ليلة بقيت من شهررمضان سنة أربعين ) . ووصل خبر مقتل ( على ) الى عائشة فشمتت فى (على )،يقول الطبرى:( وذهب بقتل علي عليه السلام إلى الحجاز سفيان بن أمية بن أبي سفيان بن أمية ابنعبد شمس فبلغ ذلك عائشة فقالت‏:‏

فألقت عصاها واستقرت بها النوى ** كما قر عينا بالإياب المسافر). لم تقل ( يرحمه الله ).! . إنه الفصل الأول من ليل الفتنة الكبرى، وكان فيها إنتهاك ألشهر الحرم والبيت الحرام . ولا يزال.!

ثانيا : تحليل معركة الجمل كلعنة الاهية  :

1 ـ إستمرت موقعة الجمل يوما واحدا فقط ، هو الخميس العاشر من شهر جمادى الأولى عام 36 . كان القتلى فيه خمسة آلاف من جيش ( على ) و 13 ألفا من جيش عائشة. ضاعت حياتهم فى معركة غبية ملعونة وكعقوبة الاهية . كان محكوما عليها مقدما بالفشل ، لأن القائمين بها ليسوا أصحاب ثقل فى قريش ، فليسوا من بنى هاشم أو من بنى أمية، وهو نفس السبب تقريبا الذى أفشل ثورة عبد الله بن الزبير . وهناك أسباب فرعية للفشل ترجع للشخصيات الثلاثة القادة ، إذ يجمعهم الحقد الشديد على بنى هاشم والأمويين، مع التنافس الواضح بين الزبير و طلحة،فقد إختلفا فيمن يؤّم الناس بالصلاة، يقول المسعودى فى ( مروج الذهب ): ( وتشّاحّ طلحة والزبير فى الصلاة بالناس ، ثم إتفقوا على ان يصلى عبد الله بن الزبير يوما ، ومحمد بن طلحة يوما .زفى خطب طويل كان بين طلحة والزبير الى أن إتفقا .) . هو غباء منقطع النظير من الناحية السياسية، لأنهم حتى لو هزموا ( عليا ) فلن يهزموا معاوية،ولو هزموا معاوية فلن يتفقا على من يتولى منهما الخلافة .

2 ـ هبط الزبير وطلحة الى مستوى منحطّ فى الكذب والقتل، فقد إستأذنا عليا فى الذهاب لمكة لأداء العُمرة ، فقال لهما ( على ): " لعلكما تريدان البصرة أو الشام ؟. " فأقسما أنهما لا يقصدان غير مكة . وحنثا باليمين وحنثا ببيعتهما لعلى . ثم زحفوا بجيشهم للبصرة ، وكان واليها يتبع ( عليا ) ، وهو عثمان ابن حنيف فقاومهم فهزموه وأسروه وعّذّبوه ونتفوا لحيته ، ومنعهم من قتله خوفهم من أخيه سهل بن حنيف وقومه الأنصار . وأرادوا سلب بيت المال فى البصرة فقاومهم امناء بيت المال ، وهم السبابجة ، فقتلوا منهم سبعين رجلا ، وأسروا خمسين ، قتلوهم صبرا ، أى تعذيبا حتى الموت ، وكان أرحم بهم لو ضربوا أعناقهم، يقول المسعودى:(وهؤلاء أول من قُتل ظلما فى الاسلام وصبرا. ).وقبل المواجهة بينهم وبين ( على ) وقف عمّار بن ياسر يعظهم فرموه بالسهام فأفلت منها. ثم بدءوا القتال.

3 ـ كانت هذه المعركة فى الأصل تخطيطا أمويا ، فقد أراد معاوية إنهاك جيش ( على ) بأن يشغله فى معركة مفاجئة لم يتحسّب لها ، واستغل غباء طلحة والزبير وعائشة وكراهيتهم لعلى والهاشميين ، فتم دفعهم للخروج على ( على ) بزعم المطالبة بدم عثمان ، مع أنهم كانوا المحرّضين على قتل عثمان ، ومع أنهم ليسوا أولياء دم عثمان . ومن الطريف أن محمدا بن أبى بكر أخ عائشة والذى شارك فى قتل عثمان التحق بجيش (على ) ضد جيش أخته عائشة التى تطالب بالثأر من قتلة عثمان ، أى من أخيها محمد بن أبى بكر ،وقد كانت له بمثابة ( الأم ) فى خشيتها عليه .!

4 ـ ولم يكتف الأمويون بمجرد التحريض ، بل قاموا بتمويل قادة الثورة . كان ( يعلى بن أمية ) والى عثمان السابق على ( اليمن ) .وهو فى نفس الوقت صهر عتبة بن أبى سفيان . جاء ( يعلى ) الى مكة ، وقابل عائشة وطلحة والزبير ومروان بن الحكم ولآخرين ، فأعطاهم 400 الف درهم وخيلا وسلاحا، وأهدى عائشة ( الجمل ) الذى حملها ، والذى دارت حوله المعركة ، وقُتل حوله آلاف المسلمين كل منهم يهتف ( الله أكبر ) .!. وإقترح عليهم عبد الله بن عامر ( والى البصرة من قبل عثمان سابقا ) أن يتجهوا للبصرة ، وقال لهم إن له فيها أنصارا وأموالا وسلاحا ، وأعطاهم مليون درهم ومائة من الابل وغير ذلك ، حسبما يذكر المسعودى فى (مروج الذهب ).

5 ـ وظل الأمويون يشعرون بالامتنان لقادة حرب الجمل اعداء ( على ) . يروى ابن عبد ربه فى ( العقد الفريد) عن العتبى عن أبيه أنه :‏ ( قدم زيد بن أمية  من البصرة على معاوية - وهو أخو يعلى بن أمية  صاحب جمل عائشة رضي الله عنها ومتولي تلك الحروب ورأس أهل البصرة . وكانت ابنة يعلى عند عتبة بن أبي سفيان - فلما دخل على معاوية شكا دينه ، فقال‏:‏ يا كعب أعطه ثلاثين ألفاً‏.‏ فلما ولى قال ( معاوية ) ‏:‏ وليوم الجمل ثلاثين ألفاً أخرى‏.‏ ثم قال له‏:‏ الحق بصهرك - يعني عتبة - فقدم عليه مصر... فأعطاه ستين ألفاً كما أعطاه معاوية‏.‏ ).

6 ـ ومن الطريف أن مروان بن الحكم صحب جيش عائشة ، وقد استغلها مروان فرصة لإغتيال طلحة ثأرا لعثمان . يقول المسعودى:( فلما قتل عثمان وسار طلحةوالزبير وعائشة إلى البصرة يطلبون بدم عثمان خرج معهم مروان بن الحكم ، فقاتل يومئذأيضا قتالا شديدا. فلما رأى انكشاف الناس نظر إلى طلحة بن عبيد الله واقفا ، فقال: "والله إن دم عثمان إلا عند هذا ، هو كان أشد الناس عليه وما أطلب أثرا بعد عين ." ففوّقله بسهم ، فرماه به، فقتله. ). وهرب الزبير فلقى حتفه على يد ابن جرموز   .

7 ـ وقبل المعركة قال لهم على : علام تقاتلوننى ؟ فأبوا إلا الحرب . فبعث لهم برجل يقال له "مسلم"  معه مصحف يدعوهم الى الله ، فرموه بسهم فقتلوه ، وقالت أمه :

يا رب أنّ مسلما أتاهم   يتلو كتاب الله لا يخشاهم

فخضبوا من دمه لحاهم    وأمّه   قائمة   تراهم 

 تقصد أن أم المؤمنين السيدة عائشة تراهم يقتلونه راضية بما يحدث .

وكانت عائشة على جمل فى هودج محمى باللبود والمسوح وجلود البقر ، فاقترب منها عمّار وناداها : ماذا تدعين ؟ فقالت : الى الطلب بدم عثمان . قال : قاتل الله الباغى والطالب بغير الحق ، ثم نادى : أيها الناس ، أنكم لتعلمون أينا الممالىء فى قتل عثمان ، فرشقوه بالنبل فأفلت منها وهو يقول لعائشة :

فمنك البكاء ومنك العويل   ومنك الرياح ومنك المطر

وأنت أمرت بقتل الامام         وقاتله  عندنا من أمر

ورجع  فقال لعلى : ماذا تنتظر يا امير المؤمنين وليس لك عند القوم الا الحرب .

وكان ( على ) قد أمر جنده ألّا يبدأوا بالقتال ، فجاء عبد الله بن بديل بأخ له مقتول ، وجاء قوم آخرون برجل مقتول بسهم ، فأمر ( على ) بالقتال.  وحميت المعركة ، وقاد ( على ) بنفسه الهجوم بدل إبنه محمد ( ابن الحنفية ) ،وانكشف جيش عائشة ، ولكن تفانى بنوضبة فى حماية جمل عائشة ، وكل من يأخذ منهم خطام الجمل تُقطع يده ويُقتل ، وبلغ عددهم سبعون رجلا ، وتكاثرت السهام على الجمل وصار الهودج كالقنفذ من كثرة السهام ، ووقع الجمل ، وحوله مئات القتلى . وأخيرا وصل الى الهودج محمد بن أبى بكر فكشف الهودج فصرخت عائشة : من انت ؟ فقال : أنا أقرب الناس اليك وأبغضهم اليك ، أنا محمد اخوك ، يقول لك أمير المؤمنين  هل أصابك شىء ؟ قالت : لا ، إلا سهم لم يضرنى . فجاء ( على ) وضرب الهودج بقضيب وقال لها : يا حميراء .! أرسول الله أمرك بهذا ؟ ألم يأمرك أن تقرى فى بيتك ؟ والله ما أنصفك الذين أخرجوك إذ صانوا عقائلهم وأبرزوك .! ثم أرسلها الى المدينة فى قوة حراسة يقودها أخوها محمد بن أبى بكر. وبعد إنتصاره دخل ( على ) البصرة ، وكانت أياما حزينة كئيبة ملعونة .عمّت الكآبة الجميع المنتصر والمنهزم  . وقد قيل لأبى لبيد الجهضى الأزدى : أتحب عليا ؟ فقال : كيف أحب رجلا قتل من قومى فى بعض يوم الفين وخمسمائة ، وقتل الناس حتى لم يكن أحد يعزى أحدا ؟ واشتغل اهل كل بيت بمن لهم من القتلى .؟

أخيرا

1 ـ  قام جيل الصحابة فى الفتوحات بمذابح لأمم لم تبدأهم بعدوان، فيما بين فارس الى شمال افريقيا. ولما اختلفوا على تقسيم الغنائم والمسروقات اقتتلوا فيما بينهم وقتلوا قادتهم وقتلوا أنفسهم ,اذاق بعضهم بأس بعض. وحق فيهم تحذير رب العزّة فى المدينة بعد معركة بدر : (وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ). وتحقق فيهم ما نبّأ به من قبلها رب العزة حين فضح مكنون الأغلبية من قوم النبى فقال جلّ وعلا:(وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ)، وجاء تفسير النبأ (لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ ) فى الحروب الأهلية التى خاضها الصحابة يقتلون أنفسهم بأنفسهم ، وتحقق ما حذّر منه رب العزة:( قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ).

2 ـ ولكن لم يتحقق فيهم وفينا قوله جل وعلا:( انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ) . فلم يفقهوا الآيات القرآنية ..ولم نفقهها نحن أيضا . لذا بدأ ما يعرف بالفتنة الكبرى بمقتل عثمان وما تلاه من حروب اهلية ولا يزال المسلمون يعيشون نفس المشهد ، فاقتتالهم فيما بينهم مستمر مستقر ، بل وتأسست على هامش هذه (الفتنة الكبرى ) دين السّنة ودين الشيعة ، ولا يزال الشيعة يعيشون ملاحم الفتنة الكبرى بدءا من بيعة السقيفة الى مذبحة كربلاء . ولا يزال العداء مستحكما بين السّنة والشيعة حول كبار الصحابة ، يقدّس الشيعة عليا وذريته ويلعنون أبا بكر وعمر وعثمان والزبير وطلحة والسيدة عائشة ومعاوية وأبا هريرة ويزيد ..الخ ، بينما يقدس دين السّنة كل الصحابة ويجعلهم دواتا معصومة من الخطا ، أو (عدول ) و أنهم كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم . ويجعلون مكانة (على ) بنفس ترتيبه فى الخلافة ،أى الأفضلية لأبى بكر ثم عمر ثم عثمان ثم على. وهذا يسبب للشيعة آلاما نفسية وربما فسيولوجية أيضا. وهذا وثيق الصلة بواقعنا اليوم ، ويكفى متابعة سريعة لشريط الأخبار . ومع الألم مما يحدث فأنّه إعجاز وآية للقرآن الكريم ، فما حذّر منه رب العزة تراه بأعيننا رأى العين . ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلىّ العظيم .

3 ـ وحتى الآن لا يفهم المسلمون أن موقعة الجمل كانت أول  لعنة الهية دامية حاقت بالصحابة فى مسلسل الحروب الأهلية بينهم ، وأنها كانت تجسيدا صريحا لقوله جل وعلا :( قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) ( الأنعام).

4 ـ ولهذا تتكرر أمثال معارك الجمل وصفين والنهروان حتى يومنا هذا.وستظلّ اللعنة تحيق بالمسلمين طالما يتخذون القرآن مهجورا .

 

الباب الرابع : مكر قريش والفتنة الكبرى

الفصل الرابع  إنتهاك الأشهر الحرم فى معركة صفين فى خلافة (على ) 

 

أولا : خلافة ( على ) فى سطور من ( الطبقات الكبرى ) لابن سعد  :

1 ـ ( لما قتل عثمان يوم الجمعة لثماني عشرة ليلة مضتمن ذي الحجة سنة خمس وثلاثين وبويع لعلي بن أبي طالب بالمدينة الغد منيوم قتل عثمان بالخلافة، بايعه طلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد بن عمروبن نفيل وعمار بن ياسر..وجميع من كان بالمدينة من أصحاب رسول الله صلىالله عليه وسلم وغيرهم. )

2 ـ ( ثم ذكر طلحة والزبير أنهما بايعا كارهين غير طائعين وخرجاإلى مكة وبها عائشة. ثم خرجا من مكة ومعهما عائشة إلى البصرة يطلبون بدم عثمان . وبلغعليا ذلك فخرج من المدينة إلى العراق . ) ، أى حنث الزبير وطلحة ببيعتهما لعلى ، وخرجا ومعهما السيدة عائشة الى البصرة للطلب بالثأر لعثمان .!! فخرج (على) وراءهم الى العراق. ( فنزل ذا قار.وبعث عمار بن ياسروالحسن بن علي إلى أهل الكوفة يستنفرهم للمسير معه، فقدموا عليه ، فسار بهم إلى البصرة. ) وحدثت موقعة الجمل (فلقي طلحة والزبير وعائشة ومن كان معهم من أهل البصرة وغيرهم يوم الجمل في جماديالآخرة سنة ست وثلاثين ، وظفر بهم . وقتل يومئذ طلحة والزبير وغيرهما . وبلغت القتلىثلاثة عشر ألف قتيل . وأقام علي بالبصرة خمس عشرة ليلة ثم انصرف إلى الكوفة ‏.‏).

3 ـ وبعدها كانت موقعة (صفّين ): ( ثم خرج يريد معاوية بن أبي سفيان ومن معه بالشام فبلغ ذلك معاويةفخرج فيمن معه من أهل الشام والتقوا بصفين في صفر سنة سبع وثلاثين فلم يزالوايقتتلون بها أياما ..وقتل بصفين عمار بن ياسر وخزيمة بن ثابت وأبو عمرة المازنيوكانوا مع علي ...ورفع أهل الشام المصاحف يدعون إلى ما فيها ، مكيدة من عمرو بن العاص،أشار بذلك على معاوية وهو معه،  فكره الناس الحرب ، وتداعوا إلى الصلح. وحكّموا الحكمين، فحكّم علي أبا موسى الأشعري وحكّم معاوية عمرو بن العاص ، وكتبوا بينهم كتابا ؛ أن يوافوارأس الحول بأذرح فينظروا في أمر هذه الأمة . فافترق الناس . فرجع معاوية بالألفة من أهلالشام ، وانصرف علي إلى الكوفة بالاختلاف والدغل . )

4 ـ وأدى التحكيم الذى فرضه الأعراب التابعون لعلى الى خروجهم على (على ) وأصبحوا ( الخوارج ) وقد أفنى (على ) معظمهم فى موقعة ( النهروان ) : ( فخرجت عليه الخوارج من أصحابه ومنكان معه وقالوا : لا حكم إلا الله وعسكروا بحروراء .فبذلك سموا الحرورية . فبعث إليهمعلي عبد الله بن عباس وغيره فخاصمهم وحاجّهم،  فرجع منهم قوم كثير. وثبت قوم على رأيهم،وساروا إلى النهروان فعرضوا للسبيل وقتلوا عبد الله بن خباب بن الأرت . فسار إليهمعلي فقتلهم بالنهروان..وذلك سنة ثمان وثلاثين. ثم انصرف علي إلىالكوفة فلم يزل بها يخافون عليه الخوارج من يومئذ إلى أن قتل رحمه الله . )

5 ـ وجاءت نتيجة التحكيم لصالح معاوية بسبب خداع عمرو لأبى موسى الأشعرى :( واجتمعالناس بأذرح في شعبان سنة ثمان وثلاثين ، وحضرها سعد بن أبي وقاص وابن عمر وغيرهما منأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقدم عمرو أبا موسى فتكلم فخلع عليا وتكلم عمروفأقر معاوية وبايع له، فتفرق الناس على هذا‏.‏).

5 ـ بعدها إغتال الخارجى عبد الرحمن بن ملجم عليا وهو على وشك أن يصلى الفجر ، يقول الطبرى : ( فلما خرج من الباب نادى أيها الناسالصلاة الصلاة كذلك كان يفعل في كل يوم يخرج ومعه درته يوقظ الناس فاعترضه الرجلانفقال بعض من حضر ذلك فرأيت بريق السيف وسمعت قائلا يقول لله الحكم يا علي لا لك ثمرأيت سيفا ثانيا فضربا جميعا فأما سيف عبد الرحمن بن ملجم فأصاب جبهته إلى قرنهووصل إلى دماغه وأما سيف شبيب فوقع في الطاق وسمعت عليا يقول : لا يفوتنكم الرجل . وشدّالناس عليهما من كل جانب ، فأما شبيب فأفلت ، وأخذ عبد الرحمن بن ملجم فأدخل على عليفقال:  أطيبوا طعامه وألينوا فراشه فإن أعش فأنا أولى بدمه عفوا وقصاصا وإن أمتفألحقوه بي أخاصمه عند رب العالمين )  ( ومكث علي يوم الجمعةوليلة السبت وتوفي رحمة الله عليه وبركاته ليلة الأحد لأحدى عشرة ليلة بقيت من شهررمضان سنة أربعين ) . ووصل خبر مقتل ( على ) الى عائشة فشمتت فى (على )،يقول الطبرى:( وذهب بقتل علي عليه السلام إلى الحجاز سفيان بن أمية بن أبي سفيان بن أمية ابنعبد شمس فبلغ ذلك عائشة فقالت‏:‏

فألقت عصاها واستقرت بها النوى ** كما قر عينا بالإياب المسافر). لم تقل ( يرحمه الله ).! . إنه الفصل الأول من ليل الفتنة الكبرى، وكان فيها إنتهاك ألشهر الحرم والبيت الحرام . ولا يزال.!

ثانيا : تحليل معركة الجمل كلعنة الاهية  :

1 ـ إستمرت موقعة الجمل يوما واحدا فقط ، هو الخميس العاشر من شهر جمادى الأولى عام 36 . كان القتلى فيه خمسة آلاف من جيش ( على ) و 13 ألفا من جيش عائشة. ضاعت حياتهم فى معركة غبية ملعونة وكعقوبة الاهية . كان محكوما عليها مقدما بالفشل ، لأن القائمين بها ليسوا أصحاب ثقل فى قريش ، فليسوا من بنى هاشم أو من بنى أمية، وهو نفس السبب تقريبا الذى أفشل ثورة عبد الله بن الزبير . وهناك أسباب فرعية للفشل ترجع للشخصيات الثلاثة القادة ، إذ يجمعهم الحقد الشديد على بنى هاشم والأمويين، مع التنافس الواضح بين الزبير و طلحة،فقد إختلفا فيمن يؤّم الناس بالصلاة، يقول المسعودى فى ( مروج الذهب ): ( وتشّاحّ طلحة والزبير فى الصلاة بالناس ، ثم إتفقوا على ان يصلى عبد الله بن الزبير يوما ، ومحمد بن طلحة يوما .زفى خطب طويل كان بين طلحة والزبير الى أن إتفقا .) . هو غباء منقطع النظير من الناحية السياسية، لأنهم حتى لو هزموا ( عليا ) فلن يهزموا معاوية،ولو هزموا معاوية فلن يتفقا على من يتولى منهما الخلافة .

2 ـ هبط الزبير وطلحة الى مستوى منحطّ فى الكذب والقتل، فقد إستأذنا عليا فى الذهاب لمكة لأداء العُمرة ، فقال لهما ( على ): " لعلكما تريدان البصرة أو الشام ؟. " فأقسما أنهما لا يقصدان غير مكة . وحنثا باليمين وحنثا ببيعتهما لعلى . ثم زحفوا بجيشهم للبصرة ، وكان واليها يتبع ( عليا ) ، وهو عثمان ابن حنيف فقاومهم فهزموه وأسروه وعّذّبوه ونتفوا لحيته ، ومنعهم من قتله خوفهم من أخيه سهل بن حنيف وقومه الأنصار . وأرادوا سلب بيت المال فى البصرة فقاومهم امناء بيت المال ، وهم السبابجة ، فقتلوا منهم سبعين رجلا ، وأسروا خمسين ، قتلوهم صبرا ، أى تعذيبا حتى الموت ، وكان أرحم بهم لو ضربوا أعناقهم، يقول المسعودى:(وهؤلاء أول من قُتل ظلما فى الاسلام وصبرا. ).وقبل المواجهة بينهم وبين ( على ) وقف عمّار بن ياسر يعظهم فرموه بالسهام فأفلت منها. ثم بدءوا القتال.

3 ـ كانت هذه المعركة فى الأصل تخطيطا أمويا ، فقد أراد معاوية إنهاك جيش ( على ) بأن يشغله فى معركة مفاجئة لم يتحسّب لها ، واستغل غباء طلحة والزبير وعائشة وكراهيتهم لعلى والهاشميين ، فتم دفعهم للخروج على ( على ) بزعم المطالبة بدم عثمان ، مع أنهم كانوا المحرّضين على قتل عثمان ، ومع أنهم ليسوا أولياء دم عثمان . ومن الطريف أن محمدا بن أبى بكر أخ عائشة والذى شارك فى قتل عثمان التحق بجيش (على ) ضد جيش أخته عائشة التى تطالب بالثأر من قتلة عثمان ، أى من أخيها محمد بن أبى بكر ،وقد كانت له بمثابة ( الأم ) فى خشيتها عليه .!

4 ـ ولم يكتف الأمويون بمجرد التحريض ، بل قاموا بتمويل قادة الثورة . كان ( يعلى بن أمية ) والى عثمان السابق على ( اليمن ) .وهو فى نفس الوقت صهر عتبة بن أبى سفيان . جاء ( يعلى ) الى مكة ، وقابل عائشة وطلحة والزبير ومروان بن الحكم ولآخرين ، فأعطاهم 400 الف درهم وخيلا وسلاحا، وأهدى عائشة ( الجمل ) الذى حملها ، والذى دارت حوله المعركة ، وقُتل حوله آلاف المسلمين كل منهم يهتف ( الله أكبر ) .!. وإقترح عليهم عبد الله بن عامر ( والى البصرة من قبل عثمان سابقا ) أن يتجهوا للبصرة ، وقال لهم إن له فيها أنصارا وأموالا وسلاحا ، وأعطاهم مليون درهم ومائة من الابل وغير ذلك ، حسبما يذكر المسعودى فى (مروج الذهب ).

5 ـ وظل الأمويون يشعرون بالامتنان لقادة حرب الجمل اعداء ( على ) . يروى ابن عبد ربه فى ( العقد الفريد) عن العتبى عن أبيه أنه :‏ ( قدم زيد بن أمية  من البصرة على معاوية - وهو أخو يعلى بن أمية  صاحب جمل عائشة رضي الله عنها ومتولي تلك الحروب ورأس أهل البصرة . وكانت ابنة يعلى عند عتبة بن أبي سفيان - فلما دخل على معاوية شكا دينه ، فقال‏:‏ يا كعب أعطه ثلاثين ألفاً‏.‏ فلما ولى قال ( معاوية ) ‏:‏ وليوم الجمل ثلاثين ألفاً أخرى‏.‏ ثم قال له‏:‏ الحق بصهرك - يعني عتبة - فقدم عليه مصر... فأعطاه ستين ألفاً كما أعطاه معاوية‏.‏ ).

6 ـ ومن الطريف أن مروان بن الحكم صحب جيش عائشة ، وقد استغلها مروان فرصة لإغتيال طلحة ثأرا لعثمان . يقول المسعودى:( فلما قتل عثمان وسار طلحةوالزبير وعائشة إلى البصرة يطلبون بدم عثمان خرج معهم مروان بن الحكم ، فقاتل يومئذأيضا قتالا شديدا. فلما رأى انكشاف الناس نظر إلى طلحة بن عبيد الله واقفا ، فقال: "والله إن دم عثمان إلا عند هذا ، هو كان أشد الناس عليه وما أطلب أثرا بعد عين ." ففوّقله بسهم ، فرماه به، فقتله. ). وهرب الزبير فلقى حتفه على يد ابن جرموز   .

7 ـ وقبل المعركة قال لهم على : علام تقاتلوننى ؟ فأبوا إلا الحرب . فبعث لهم برجل يقال له "مسلم"  معه مصحف يدعوهم الى الله ، فرموه بسهم فقتلوه ، وقالت أمه :

يا رب أنّ مسلما أتاهم   يتلو كتاب الله لا يخشاهم

فخضبوا من دمه لحاهم    وأمّه   قائمة   تراهم 

 تقصد أن أم المؤمنين السيدة عائشة تراهم يقتلونه راضية بما يحدث .

وكانت عائشة على جمل فى هودج محمى باللبود والمسوح وجلود البقر ، فاقترب منها عمّار وناداها : ماذا تدعين ؟ فقالت : الى الطلب بدم عثمان . قال : قاتل الله الباغى والطالب بغير الحق ، ثم نادى : أيها الناس ، أنكم لتعلمون أينا الممالىء فى قتل عثمان ، فرشقوه بالنبل فأفلت منها وهو يقول لعائشة :

فمنك البكاء ومنك العويل   ومنك الرياح ومنك المطر

وأنت أمرت بقتل الامام         وقاتله  عندنا من أمر

ورجع  فقال لعلى : ماذا تنتظر يا امير المؤمنين وليس لك عند القوم الا الحرب .

وكان ( على ) قد أمر جنده ألّا يبدأوا بالقتال ، فجاء عبد الله بن بديل بأخ له مقتول ، وجاء قوم آخرون برجل مقتول بسهم ، فأمر ( على ) بالقتال.  وحميت المعركة ، وقاد ( على ) بنفسه الهجوم بدل إبنه محمد ( ابن الحنفية ) ،وانكشف جيش عائشة ، ولكن تفانى بنوضبة فى حماية جمل عائشة ، وكل من يأخذ منهم خطام الجمل تُقطع يده ويُقتل ، وبلغ عددهم سبعون رجلا ، وتكاثرت السهام على الجمل وصار الهودج كالقنفذ من كثرة السهام ، ووقع الجمل ، وحوله مئات القتلى . وأخيرا وصل الى الهودج محمد بن أبى بكر فكشف الهودج فصرخت عائشة : من انت ؟ فقال : أنا أقرب الناس اليك وأبغضهم اليك ، أنا محمد اخوك ، يقول لك أمير المؤمنين  هل أصابك شىء ؟ قالت : لا ، إلا سهم لم يضرنى . فجاء ( على ) وضرب الهودج بقضيب وقال لها : يا حميراء .! أرسول الله أمرك بهذا ؟ ألم يأمرك أن تقرى فى بيتك ؟ والله ما أنصفك الذين أخرجوك إذ صانوا عقائلهم وأبرزوك .! ثم أرسلها الى المدينة فى قوة حراسة يقودها أخوها محمد بن أبى بكر. وبعد إنتصاره دخل ( على ) البصرة ، وكانت أياما حزينة كئيبة ملعونة .عمّت الكآبة الجميع المنتصر والمنهزم  . وقد قيل لأبى لبيد الجهضى الأزدى : أتحب عليا ؟ فقال : كيف أحب رجلا قتل من قومى فى بعض يوم الفين وخمسمائة ، وقتل الناس حتى لم يكن أحد يعزى أحدا ؟ واشتغل اهل كل بيت بمن لهم من القتلى .؟

أخيرا

1 ـ  قام جيل الصحابة فى الفتوحات بمذابح لأمم لم تبدأهم بعدوان، فيما بين فارس الى شمال افريقيا. ولما اختلفوا على تقسيم الغنائم والمسروقات اقتتلوا فيما بينهم وقتلوا قادتهم وقتلوا أنفسهم ,اذاق بعضهم بأس بعض. وحق فيهم تحذير رب العزّة فى المدينة بعد معركة بدر : (وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ). وتحقق فيهم ما نبّأ به من قبلها رب العزة حين فضح مكنون الأغلبية من قوم النبى فقال جلّ وعلا:(وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ)، وجاء تفسير النبأ (لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ ) فى الحروب الأهلية التى خاضها الصحابة يقتلون أنفسهم بأنفسهم ، وتحقق ما حذّر منه رب العزة:( قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ).

2 ـ ولكن لم يتحقق فيهم وفينا قوله جل وعلا:( انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ) . فلم يفقهوا الآيات القرآنية ..ولم نفقهها نحن أيضا . لذا بدأ ما يعرف بالفتنة الكبرى بمقتل عثمان وما تلاه من حروب اهلية ولا يزال المسلمون يعيشون نفس المشهد ، فاقتتالهم فيما بينهم مستمر مستقر ، بل وتأسست على هامش هذه (الفتنة الكبرى ) دين السّنة ودين الشيعة ، ولا يزال الشيعة يعيشون ملاحم الفتنة الكبرى بدءا من بيعة السقيفة الى مذبحة كربلاء . ولا يزال العداء مستحكما بين السّنة والشيعة حول كبار الصحابة ، يقدّس الشيعة عليا وذريته ويلعنون أبا بكر وعمر وعثمان والزبير وطلحة والسيدة عائشة ومعاوية وأبا هريرة ويزيد ..الخ ، بينما يقدس دين السّنة كل الصحابة ويجعلهم دواتا معصومة من الخطا ، أو (عدول ) و أنهم كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم . ويجعلون مكانة (على ) بنفس ترتيبه فى الخلافة ،أى الأفضلية لأبى بكر ثم عمر ثم عثمان ثم على. وهذا يسبب للشيعة آلاما نفسية وربما فسيولوجية أيضا. وهذا وثيق الصلة بواقعنا اليوم ، ويكفى متابعة سريعة لشريط الأخبار . ومع الألم مما يحدث فأنّه إعجاز وآية للقرآن الكريم ، فما حذّر منه رب العزة تراه بأعيننا رأى العين . ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلىّ العظيم .

3 ـ وحتى الآن لا يفهم المسلمون أن موقعة الجمل كانت أول  لعنة الهية دامية حاقت بالصحابة فى مسلسل الحروب الأهلية بينهم ، وأنها كانت تجسيدا صريحا لقوله جل وعلا :( قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) ( الأنعام).

4 ـ ولهذا تتكرر أمثال معارك الجمل وصفين والنهروان حتى يومنا هذا.وستظلّ اللعنة تحيق بالمسلمين طالما يتخذون القرآن مهجورا .

 

    

الباب الرابع : مكر قريش والفتنة الكبرى

الفصل الخامس  : (على : خليفة فاشل ، قهره عصره )    

 مقدمة  :  تقييم (على  بن أبى طالب )

1 ـ  ( على ) ليس جزءا من عقيدة الاسلام ، وليس ركنا من ( إسلامنا ) . هو شخصية تاريخية نبحثها بمنهج البحث التاريخى ونقيّمه سياسيا وتاريخيا . ليس عندنا مخلوقات مقدسة ، لأن التقديس هو لله جل وعلا وحده ، وما عداه جل وعلا من إنس وجنّ وملائكة هم مخلوقات للواحد القهّار ، سيأتون أمامه يوم القيامة للحساب ، أفرادا : (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً (95) ( مريم ) لا يجرؤ أحدهم على الكلام إلا بإذن الرحمن جل وعلا ورضاه : (رَبِّ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً (38)( النبأ ) بهذا نعظ من يؤلهون عليا ، ويقتطعون جزءا من التقديس الواجب لله جل وعلا وحده ليجعلوه لعلى وذريته .

2 ـ وكالعادة نحن نستشهد بروايات تاريخية عن ( على ) من تاريخ الطبرى ومروج الذهب للمسعودى والطبقات الكبرى لابن سعد ، وكلها مصادر سنية معتمدة وتبالغ فى إحترام ( على ) .ورواياتها معروفة ومتداولة ، ولكن نعيد قراءتها وبحثها ، لتجلية شخصية ( على ) وفشله فى خلافته . وهو مسئول مسئولية كبرى عن هذا الفشل وما نجم عنه من قتل آلاف الناس . نحن نقيّمه كسياسى مسئول ، وهو نفس التقييم لخصمه معاوية ، وبالتالى فالمقارنة ورادة بل ضرورية ، لأن الخصمين معا أتفقا على أن الفتوحات جهاد اسلامى ، وإستحلّا معا ظلم الأمم المفتوحة واستباحة دمائها وأموالها وأعراضها ، بل إعتبر (على ) غنائم الفتوحات ( تراث محمد ) وأنه الأولى به. فوق أرضية هذا الاتفاق بينهما تنازعا سياسيا وحربيا، ونعقد مقارنة بينهما بالميزان التاريخى وليس الأخلاقى الاسلامى .

أولا : بين معاوية ( العلمانى ) و( على ) الذى يخلط السياسة بالدين

1 ـ كان الهدف الدنيوى واضحا لدى معاوية واتباعه . عمرو بن العاص قال له معاوية : " بايعنى " ، فقال عمرو : لا. والله لا أعطيك من دينى حتى تعطينى من دنياك ." فاتفقا على أن ينضم عمرو اليه مقابل أن يعطيه معلوية ( مصر ) طُعمة له . وقال فى ذلك لمعاوية

معاوى لا أعطيك دينى ولم أنل   به منك دنيا ، فانظرن كيف تصنع

فإن تعطنى مصر فأربح بصفقة          أخذت بها شيخا يضر وينفع

أى يعترف عمرو بأنه باع الآخرة واشترى بها الدنيا . وهذه صراحة مريحة . وفى موقعة صفين وبّخ معاوية النعمان بن جبلة التنوخى على تراخيه فى القتال ، فقال له النعمان:" والله لقد نصحتك على نفسى ، وآثرت ملكك على دينى ، وحدتُ عن الحق وأنا أبصره ، وما وُفقتُ لرشد حين أقاتل على مُلكك ابن عم رسول الله وأول مؤمن به وأول مهاجر معه . ولو أعطيناه ما أعطيناك لكان أرأف منك بالرعية وأجزل فى العطية ، ولكن قد بذلنا لك الأمر ، ولا بد من إتمامه كان غيا أو رشدا . وحاشا أن يكون رشدا . وسنقاتل عن تين الغوطة وزيتونها إذ حُرمنا ثمار الجنة وأنهارها . ".أى إن القتال هنا بصراحة صراع فى سبيل الثروة، وهذا يذكرنا بتحريض خالد جنوده بما فى العراق وفارس من خيرات تستحق القتال فى سبيلها.

هو نفس حالة ( على ). كان يصارع خصومه فى سبيل الدنيا ، وفى أواخر حياته كان يتنازع مع ولاته فى فارس على الدرهم والدينار ، وهو يعرف أنه أرض مُحتلة قسرا وظُلما . بل حتى فى قتاله فى صفين لم يراع الأشهر الحّرم . وهو فى كل ذلك يطلب بيعتهم ليكون حاكما لهذه الإمبراطورية التى تأسست بالغزو والقهر والظلم لملايين الأبرياء . وبالتالى يكون الوعظ بالتقوى والتحلّى بالورع هواستغلال الدين فى غرض دنيوى ، أى هو أكثر جُرما من الهدف الدنيوى الواضح الصريح لدى معاوية وعمرو وأتباعهما . هذا علاوة على أن خطاب ( على ) هذا كان يرفضه منطق العصر وقتها ، فقد ملّ الناس حزم ( عمرو ) ثم إستغرقوا فى نعيم الدنيا فى خلافة عثمان وفى سبيل التنافس فيه قتلوا عثمان ، وبهذا يكون ( على ) فى خطابه الطوباوى الوعظى يغنّى لهم سيموفونية لم تعد صالحة لوقتها ، بل هى تشوّش على أتباع ( على )  فى حيرة بين الدنيا ( وهى المطلوب الوحيد ) والدين والآخرة ( وهى مجرد شعار عبثى نفعى ) . أكثر من هذا فإن هذا الخطاب الدينى أتاح لأتباع ( على ) المزايدة عليه بل وتكفيره ، كما حدث من الخوارج .وهى عادة سيئة فى كل دولة دينية تخلط السياسة بالدين وتستغل الدين فى الحصول على الدنيا. كان (على ) أبرز ضحايا هذا الخلط . وتتابع بعده الضحايا حتى عصرنا البائس .

2 ـ فشل (على ) لأنه لم يكن متسقا مع نفسه ، زعم أنه يريد الآخرة وهو منشغل بالدنيا ، بينما كان معاوية صادقا مع حبه للدنيا وجهاده فى سبيلها.  أى إنّ أساس الفشل لدى ( على ) أنه كما يقول المثل المصرى ( رقص على السُّلّم ) لم يهبط الى الأسفل كالخلفاء ابى بكر وعمر وعثمان ولم يصعد الى الأعلى متمسكا بشرع الاسلام والسّنة الحقيقية للنبى عليه السلام . فهو لم يعترض على الفتوحات المخالفة للاسلام ، بل على العكس شارك فيها بالرأى واستمتع بما جلبته من سلب وسبى . وفى نفس الوقت لم يشترك فيها مقاتلا برغم أنه وقتها كان لا يزال فى شبابه ، وكان مشهورا بمهارته الحربية والفروسية .  بل أكثر من ذلك كان حريصا على أن ينال ما يستطيع من غنائم الفتوحات وأُعطيات الولاة الأمويين. ففى عهد عثمان اشتهر (عبد الله بن عامر) والى البصرة بكرمه ، وكان يوزع هدايا ممّا كان يسلبه من حروبه فى فارس . يذكر ابن سعد فى ترجمة ابن عامر هذا أنه زار المدينة وغمر أهلها بعطاياه .وقد أرسل  إلى ( علي بن أبي طالب ) بثلاثة آلاف درهم وكسوة ، فاستقلّها: ( وقال:" الحمد لله ، إنا نرى تراث محمد يأكله غيرنا . " فبلغ ذلك عثمان ، فقال لابن عامر: "  قبح الله رأيك أترسل إلى علي بثلاثة آلاف درهم ؟ .. فبعث إليه بعشرين ألف درهم وما يتبعها. ..فراح علي إلى المسجدفانتهى إلى حلقته وهم يتذاكرون صلات بن عامر ..فقال علي : "هو سيدفتيان قريش غير مدافع" ). أى كان ( على ) يرى فى أسلاب الفتوحات تراثا لمحمد ، وأنه الأولى به من الأمويين .

3 ـ كان من الممكن أن يكون (على )على الحق ، لو وقف ضد الفتوحات ، معلنا رأيه فيها بقوة معتزلا لها ولقومه ، ثم إذا أختاروه فيما بعد خليفة ، بادر بالانسحاب من هذه البلاد وإنهاء إحتلالها ، وترك أهلها أحرارا وما يختارونه لأنفسهم ، وعاد بالعرب الى جزيرتهم ، ولو كلفه هذا أن يدخل فى حرب ضد  الظالمين الطغاة من صحابة الفتوحات . لو فعل هذا كان متمسكا بسنّة النبى عليه السلام . فالمفترض فى ( علي) بمكانته وعلمه بالاسلام وصحبته لابن عمه النبى محمد عليه السلام أن يقف بقوة ضد الفتوحات ، وأن يعتزل الناس ، كما فعل من وصفهم رب العزة بالسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ، الذين تواروا عن الأنظار فرارا بدينهم فكسبوا رضوان الله جل وعلا ، وأهملهم التاريخ ،لأنهم إبتعدوا عن مهرجانات الظلم التى حملت اسم الفتوحات والتصارع حول غنائمها السُّحت . لم يفعل ( على ) هذا واختار أن ( يرقص على السُّلم ) لم يشارك قتالا فى الفتوحات ، ورضى أن يأكل منها وأن يتمتع بسباياها ، وأن يشارك فى الحياة السياسية منافسا فى قيادة المسلمين كالآخرين من أبى بكر الى عثمان ، ثم حين أصبح خليفة حاول أن يسير بالعدل فى دولة قامت على الظلم ففشل ورفضه عصره . فهو خليفة فاشل قهره عصره . 

ثانيا : بين عبقرية ( على ) الجنسية وعبقرية معاوية السياسية

1 ـ يبدو من سيرة معاوية أنه لم يكن فارسا فى الفراش ونكاح النساء ، وقد كرهته زوجته ميسون بنت بحدل بنت زعيم كلب . وهي ام ولده يزيد. وقد نقلها معاويه من الباديه واسكنها قصراً منيفا  فى دمشق ، وألبسها الحرير. وعلى الرغم من كل ماهيأ لها من أسباب النعيم فإنها كرهت كل شىء بسبب كراهيتها لمعاوية ، وظلت تحن إلى الباديه حتى بعد أن ولدت ابنها يزيد، جلست تندب حظها مع معاوية وتنشد هذا الابيات :-

لبيـت تخفـق الأرواح فيـه   أحب إليّ من قصـر منيـف
ولبس عبـاءة وتقـرّ عينـي  أحب اليّ من لبس الشفـوف
وأكل كسيرة فـي كسربيتـي  أحب إليّ من أكـل الرغيـف
وأصوات الريـاح بكـل فـج  أحب إلى من نقـر الدفـوف
وكلب ينبـح الطـراق دونـي  أحب إلـي مـن قـط أليـف
وبكر يتبع الأظعـان صعـب  أحب الي مـن بعـل زفـوف
وخرق من بني عمي نحيـف  أحب الي من علـج عنـوف
 فلما دخل معاويه عرفته احدى الوصيفات بما قالت ميسون فقال: ما رضيت ابنة بحدل حتى جعلتني علجا عنوفا؟ هي طالق ثلاثا. ثم سيرها الى اهلها .

وساءت حالة معاوية الجنسية بعدها فى خلافته . وقد روى ابن عساكر في ترجمة خديج الخصي مولى معاوية قال‏:‏ ( اشترى معاوية جارية بيضاء جميلة فأدخلتها عليه مجردة، وبيده قضيب، فجعل يهوي به إلى متاعها - يعني‏:‏ فرجها - ويقول‏:‏ هذا المتاع لو كان لي متاع.) !. ومقابل هذا العجز الجنسى كان معاوية عبقرية سياسية تسير على قدمين ، ورثها عن أبيه الذى كان مكره تزول منه الجبال .

2 ـ وعلى النقيض منه ، كان ( على ) عبقرية جنسية لا يعدلها إلا فشله السياسى . تمتع (على ) بفحولته الجنسية . نستخلص هذا مما ذكره ابن سعد فى الطبقات عن أولاد ( على ) وزوجاته ونسائه من السبايا . فقد أنجب من زوجته السيدة فاطمة الزهراء أربعة فقط هم ( الحسن والحسين وزينب الكبرى وأم كلثوم الكبرى ). وماتت ، فإنهمك ( على ) فى الزواج والتسرّى بالسبايا ، وأنجب منهن بقية أبنائه وبناته ، يقول ابن سعد : ( فجميع ولد علي بن أبي طالب لصُلبه أربعة عشر ذكرا وتسع عشرة امرأة . )، أى أنجب من أولئك النسوة( 29 ) :( 12 ولدا و 17 بنتا ) في 30 عاما ، بعد موت السيدة فاطمة عام 10 الى إغتياله عام 40 هجرية . أى تفرّغ صحابة الفتوحات للقتال ظلما وعدوانا بينما تفرّغ على للنكاح ، وكما قام صحابة الفتوحات بغزوات قتالية قام ( على ) بغزوات نسائية إقتحم فيها أنواعا مختلفة من نساء العرب والعجم ، وبنجاح باهر أسفر عن 29 ولدا وبنتا .!! وهذا هو ( جهاده ) و ( تمامه ).!!.

ومن كثرة أبنائه وبناته فلم تكن الأسماء المتداولة لديه تكفيهم لذا كان يكرر التسميات . فمن إبنائه ( محمد ) الأكبر ، المشهور بمحمد بن الحنفية ، أكبر ابنائه من غير فاطمة الزهراء، يقول عنه ابن سعد: ( ومحمد بن علي الأكبر وهو ابن الحنفية وأمه خولة بنت جعفر .. ). وهناك ( محمد الأوسط بن علي ، وأمه أمامة بنت أبي العاص) ومحمد الأصغر : ( ومحمد الأصغر بن علي قتل مع الحسين وأمه أم ولد .) ومنهم العباس الأكبر ، و عمر الأكبر ..مما يدل على وجود عباس الأصغر والأوسط ، وعمر الأصغر والأوسط لم يعرفهم محمد بن سعد ، إذ يعترف بعدم إحاطته بكل ابناء (على) وبناته ، يقول : (قال محمد ابن سعد : لم يصح لنا من ولد علي رضي الله تعالى عنه غير هؤلاء‏.‏ ). وربما كان السبب قتل كثير من ابنائه فى مذبحة كربلاء ، يقول ابن سعد عمّن بقى من ذرية (على ) وصار له نسل معروف : (وكان النسل من ولده لخمسة الحسن والحسين ومحمد بن الحنفية والعباس بن الكلابية وعمر بن التغلبية ).

وبالمخالفة لشرع الرحمن كان من بين نسائه سبايا من الفتوحات، وأنجب منهن، فمن ابنائه:( عمر الأكبر بن علي ــ ورقية بنت علي. وأمهما الصهباء. وهي أم حبيب بنت ربيعة ...وكانت سبية أصابها خالد بن الوليد حين أغار على بني تغلب بناحية عين التمر.). أى كانت من سبية عربية من قبيلة تغلب ، لذا كانت معروفة النسب دون غيرها من السبايا غير العربيات  . ومن كثرة السبايا من غير العرب لدى ( على ) فلم يكنّ معروفات الاسم ، حتى من أنجب منهن . يقول ابن سعد عن إبنه ( محمد الأصغر بن علي قتل مع الحسين وأمه أم ولد .) ولم يعرف إسمها ، ويقول عن بناته الأخريات (وأم هانئ بنت علي وميمونة وزينب الصغرى ورملة الصغرى وأم كلثوم الصغرى وفاطمة وأمامة وخديجة وأم الكرام وأم سلمة وأم جعفر وجمانة ونفيسة بنات علي وهن لأمهات أولاد شتى . )، أى أنجب إبنا واحدا و13 بنتا من سبايا يملكهن مجهولات الأسم . ولا نعرف عدد السبابا الأخريات اللائى لم ينجبن منه . بورك فيك يا أبا الحسن وفى جهادك الجنسى .!..وملعون ابو الفياجرا .!

3 ـ هذا النبوغ الجنسى لدى ( على ) يذكّرنا بما ساد فى عصر ( على ) واستمر فى العصر الأموى ، وهو كراهية الانجاب من السبايا  من غير العربيات ، واعتبار ابن الأعجمية غير العربية أقل شأنا من إخوته الذين لهم أمهات عربيات . لذا شاع وقتئذ ( العزل ) ، وهو عدم الانزال وقت اللقاء الجنسى مع الجارية المملوكة منعا للإنجاب منها . وربما لم يفلح ( العزل ) مع ( على ) بفحولته فأنجب من جواريه السبايا . ولقد افتى الفقهاء فى العصر العباسى بأن ( العزل مكروه ) . ومن طرائف النوادر العباسية أن رجلا كان يزنى بجارية فقام بالعزل ، فسألته لماذا ؟ فقال : سمعت أن العزل مكروه ، فقالت له : ألم تسمع أيضا أن الزنا حرام ؟ . لا نذكر هذا لمجرد التسلية ، ولكن لتحليل موقف ( على ) . فقد عاش يأكل السُّحت من غنائم الفتوحات وينكح السبايا معتقدا بأن هذا هو ( تراث محمد )، وأنه الأحق به أكثر من غيره ، دون أن يعطى نفسه فرصة لأن يتدبر القرآن الكريم . هو بهذا أراد الدنيا وكفر بالآخرة . وصار فى نفس حزب من سبقه ومن تلاه من الخلفاء ، وإن كان أقل منهم سوءا . وبالتالى فإن ورعه وهو خليفة لا محلّ له من الاعراب . ولا يمكن قبوله لأنه مؤسّس على أرضية من الظلم من أكل السُّحت والنكاح القائم على القهر والسبى . ( على ) مثل ذلك الرجل الذى كان يزنى بالجارية ويرفض العزل تورعا لأن العزل مكروه ، وهو لا يدرى أن الزنا حرام . !

  ثالثا : نموذج للمقارنة السياسية بين ( على ) ومعاوية

1 ـ كانت عين معاوية على مصر لأن السيطرة على مصر تحمى ظهره فى الشام . لقد فهم (معاوية ) استراتيجية المنطقة وأيقن أن مصيره في الشام مرتبط بسيطرته على مصر ، وأكد له ذلك الرأي حليفه ( عمرو بن العاص ) الذي بايعه على الخلافة . لذا عمل معاوية على شغل ( على ) بحرب الجمل فى العراق ليتفرغ معاوية لأخذ مصر .وأثناء انشغال (علي ) بأهل الجمل الثائرين عليه كان (معاوية ) في الشام يعد العدة للاستيلاء على مصر , فتعاون عمرو  مع معاوية في قتل ( ابن أبى حذيفة ) الناقم على الخليفة ( عثمان ) والذي أخرج من مصر والي عثمان عليها وهو عبد الله بن أبى السرح ، في الوقت الذي تولى فيه ( على ) الخلافة . ولم يتريث  معاوية  وعمرو بل أسرعا  فحاولا دخول مصر للاستيلاء عليها ، فلم يتمكنا فلجأ  عمرو  للخديعة وما زال بابن حذيفة  يخادعه حتى أخرجه إلى العريش في ألف رجل وتحصن بها ، وحاصره فيها عمرو و معاوية ونصبا عليه المنجنيق حتى نزل في ثلاثين من أصحابه فقتلوهم .

2 ـ وأسرع ( على ) فبعث واليا من قبله على مصر هو ( قيس بن سعد بن عبادة ) زعيم الأنصار و المشهور بالدهاء فدخل مصر , واستقام له أمر الناس . ولكن كان في مصر جماعات من أتباع ( عثمان ومعاوية ) منهم فرقة اعتصمت بقرية يقال لها ( خربتا ) . ورأى ( قيس ) مهادنتهم ، فاستجابوا له قائلين ( إنا لا نقاتلك فابعث عمالك ، فالأرض أرضك . لكن أقرنا على حالنا حتى ننظر إلى ما يصير أمر الناس ) . ولكن فرقة أخرى من مناصرى معاوية بزعامة مسلمة بن مخلد الانصارى تنادت للآخذ بثأر عثمان ، فبعث إليه ( قيس بن سعد ) وهو أنصارى مثله – يقول له ( ويحك؟! أعلىّ أنا تثب ؟ فوالله ما أحب أن لي ملك الشام ومصر وأنى قتلتك ) . اى خاطبه بالانتماء القبلى وأنه لا يصح لهما أن يقتتلا ، فاستجاب إليه مسلمة ، وبعث يقول له: ( أنى كاف عنك ما دمت أنت في مصر ).

3 ـ ولم يكن ( معاوية ) ليهدأ وهو يرى ( عليا ) ينتصر في الجمل ويرى قيس بن سعد بن عبادة والى ( على ) في مصر يمهد أمرها  له ، فأيقن بالهلاك أن لم يسيطر على مصر لأنه إن لم يفعل فأمامه (على) في العراق وخلفه( قيس بن سعد بن عبادة) في مصر وسيحاصرانه بينهما . فحاول بالدهاء والتهديد أن يسبر  حال ( قيس ) ويعده ويمنّيه لينضم اليه ، فكتب إليه ( قيس) بنفس الدهاء يلاطفه ويباعده ليكسب وقتا حتى تقع المواجهة بين ( على ) ومعاوية فيكون قيس شوكة فى ظهر معاوية. ولم يقتنع معاوية إذ كان فى عجلة يريد أن يستوثق من ولاء قيس له وخروجه على ( على )  فكتب لقيس : (أما بعد . فقد قرأت كتابك فلم أرك تدنو فـأعدك سلما ولم أرك تباعد فأعدك حربا . ليس مثلي يصانع المخادع ولا يتنزع للمكايد ومعه عدد الرجال وبيده أعنة الخيل . ) .فلما  قرأ  قيس كتاب معاوية ورأى أنه لا يقبل المهادنة والملاطفة كتب إليه بموقفه الصريح في الولاء ( لعلى ) والخصومة له ومن معه .

4 ـ ولما لم يفلح ( معاوية ) مع ( قيس ) عزم على الإيقاع بينه وبين ( على ) ليعزله ( على ) عن مصر . فقال ( معاوية ) لأهل الشام ( لا تسبوا قيس بن سعد ولا تدعوا إلى غزوه فإنه لنا شيعة ، يأتينا كيّس نصحه سرا , ألا ترون ما يفعل بإخوانكم الذين عنده من أهل خربتا يجرى عليهم اعطياتهم .. ويؤمن سربهم ويحسن إلى كل راكب قدم عليه منكم ) . أى يريد معاوية أن يقتنع ( على ) بأنّ قيس بن سعد يخونه . وهذا ما حدث فعلا بسبب سذاجة ( على ) . إذ أبلغ جواسيس ( على ) بالشام مقالة معاوية وأوصلوا الحديث ( لعلى ) . ولم يكتف معاوية بذلك بل اختلق كتابا زعم أنه من ( قيس بن سعد ) وادعى أن ( قيسا ) كتبه إليه ، فقرأه على أهل الشام فيه التأييد( لمعاوية ). أقتنع ( علي) بأن قيس بن سعد يماليء معاوية , وبادر ( على ) ليختبر ولاء قيس فأرسل (علي ) إليه يطالبه بقتل أهل خربتا ، ولكن (قيس بن سعد) رفض قائلا ( أتأمرني بقتال قوم كافين عنك مفرغيك لقتال عدوك؟ وانك متى حاربتهم ساعدوا عليك عدوك ) .وهكذا أفلحت خدعة معاوية ، فجعل عليا يعزل قيسا عن مصر . ويستريح معاوية من وال حازم داهية كان شوكة في جنبه بمصر .    

5 ـ وأرسل (علي) واليا آخر على مصر هو (محمد بن أبي بكر الصديق ) وهو متهم بقتل عثمان ، أى إن عليا باختياره لهذا الشاب إنما يريد إشعال حرب فى مصر . هذا علاوة على إن هذا الشاب كان متهورا ويفتقر للحنكة السياسية . وقد بادر (محمد بن أبي بكر ) بالهجوم علي أتباع معاوية ونهب دورهم فشبت بينهم الحرب ،  وعقد صلح بينهم وسمح لهم بمقتضاه محمد بن أبى بكر أن يلحقوا  بمعاوية في الشام . وبذلك أدت سياسة (محمد بن أبي بكر) إلى تعضيد معاوية في حربه ضد(علي) بإرسال مقاتلين جددا هم أصحاب (خربتا ) .  وبعد ( صفين ) وإنشغال (على ) بمتاعبه مع جنده فى العراق رأى معاوية بأن الأحوال مناسبة له لينتزع مصر من ( محمد بن أبى بكر ) فأرسل إليه من يفوقه دهاء ومقدرة حربية ودراية بأحوال مصر , وهو فاتحها الول ( عمرو بن العاص ) وانتهى الأمر بهزيمة ساحقة لابن أبى بكر وقتله وحرق جثته . وأصبحت مصر تابعة لمعاوية تحت حكم عمرو بن العاص . أضاعها ( على ) بسذاجته وسوء سياسته . وكان يمكن ( لعلى ) أن يستغل مصر فى القضاء على ( معاوية ).

رابعا : من مظاهر الفشل السياسى لعلى :

ألف باء السياسة أن تقوم بتحييد عدوك ما إستطعت ، وأن تحوّل المحايدين الى أنصار ، وألا تدخل فى حرب إلا للضرورة . وهذا نقيض ما سار عليه ( على ) . تحرّش بخصومه وأعطاهم الفرصة ليحاربوه ، بل و إختلق لنفسه خصوما من المحايدين بلا داع ، وهؤلاء المحايدون الذين جعلهم (على ) خصوما له إستحضرهم ( على ) الى جانبه وأعطاهم الفرصة ليتآمروا عليه وليقوموا بتدميره . سياسة  رائعة فى الفشل . ونعطى أمثلة : 

1 ـ رفض نصيحة المغيرة بن أبى شعبة ، أحد دُهاة العرب . جاء المغيرة لعلى بعد خلافته ونصحه ألّا يبادر بعزل معاوية وعبد الله بن عامر وعبد الله بن سعد بن أبى السرح وسائر ولاة عثمان ، وهم يحكمون الشام والعراق وخراسان ومصر وليبيا ، ونصحه المغيرة أن ينتظر حتى يأخذ منهم البيعة له بالخلافة ، وأن يضمن ولاء جنودهم له ، وبعد أن يستوثق من أستتباب نفوذه يقوم بعزلهم أو يقرر بقاءهم الى حين . هو الرأى الصواب ، ولكن رفضه ( على ) مصمما على المبادرة بعزلهم . فترجّاه المغيرة أن يعزل من يشاء ويستبقى معاوية الى حين ، فرفض (على ) مصمما على عزل معاوية والجميع . فانصرف المغيرة وأتى المغيرة لعلى فى اليوم التالى وأعلن له أنه موافق على رأى ( على ) وأن الصواب هو ما رآه ( على ) من المبادرة بعزلهم . وخرج المغيرة يقول ( نصحته فلم يقبل فغششته ) ، وصاغ ذلك شعرا وتحالف مع معاوية .

2 ـ ودخل عبد الله بن عباس على ( على ) وسأله عما قال له المغيره فحكى له ( على ) ما حدث ، فقال له ابن عباس: "أنه نصحك أولا ثم غشّك ثانيا .".وأكّد ابن عباس لابن عمه ( على ) نفس ما قاله المغيرة ، أن ينتظر دون المبادرة بعزل ولاة عثمان الى أن يضمن تثبيت سلطانه ، بل قال له : ( كان الرأى أن تخرج حين قُتل عثمان أو قبل ذلك الى مكة ، فتغلق عليك باب دارك ، فإن كانت العرب مائلة مضطرة فى أثرك فلا تجد غيرك . فأما اليوم فإن بنى أمية سيحسنون الطلب بأن يلزموك تبعة هذا الأمر ، ويشبّهون فيك على الناس . ). وهذا ما حدث فعلا . ولم يأخذ ( على ) بنصيحة ابن عباس والمغيرة فجعل من معاوية ندّا له .!!

3 ـ وفى تحويله المحايدين الى خصوم ثم الاستعانة بهم بعد أن اكتسب عداءهم نعطى مثالا بما فعله بجرير بن عبد الله البجلى . كان جرير هذا واليا لعثمان على ( همدان ) فى فارس ، وبادر ( على ) بعزله بلا مبرّر ، فاكتسب عداوته . الغريب أن ( عليا ) إستدعاه وبعثه رسولا من لدنه ليقنع معاوية بأن يبايع ( عليا ) بالخلافة ويترك إمارته . وقد حذّر الأشتر ( عليا ) من مغبّة إختيار ( جرير ) بالذات لهذه المهمة ، ولكن كان ( على ) عنيدا كالعادة فرفض النصيحة. وأرسل بجرير رسولا الى معاوية، فانضمّ جرير الى معاوية ، ممّا رفع من معنويا جُند معاوية .

4 ـ الكارثة الكبرى هى ما فعله ( على ) مع الأشعث بن قيس . أى عزل الأشعث بن قيس ثم إستجلابه اليه ليكيد له الأشعث ، فكان ( على ) مثل من يقوم بطعن نفسه بسكين ليهزم نفسه أمام معاوية . الأشعث بن قيس هذا ، كان أحد زعماء قبائل كندة اليمنية . وقد فشل فى أن يكون ملكا عليها ، ورأى فى الاسلام  فرصة لتحقيق طموحاته السياسية فأسلم  . ولكن سيطرة قريش على الأمور بعد موت النبى أضاع طموحاته فارتد ، ثم عاد الى الاسلام ، وتزوج اخت ابى بكر طمعا فى أن يأخذ دورا قياديا ، لذا شارك فى الفتوحات وقاتل فى اليرموك والقادسية ، وفى فتح أصفهان مع النعمان بن مقرن وفتح المدائن وجلولاء ونهاوند. وبسبب خطورته وزعامته وسُرعته الى الفتنة إرتعب عمر بن الخطاب حين علم أن خالد بن الوليد أجزل العطاء للأشعث بن قيس ، وخاف عمر من تحالف بين ( خالد ) و( الأشعث ) ومعهما جند الفتوحات من عرب قحطان وعرب ( ربيعة ومُضر ) وكان هذا من أسباب التعجيل بعزل خالد . وفهم الأمويون خطورة الأشعث بن قيس وعرفوا مكانته بين قومه ومهارته القيادية والحربية فولاّه عثمان على  ولاية أذربيجان ، وأطلق فيها يده . وحين تولى ( على ) الخلافة اسرع فعزل الأشعث وحقّق معه فى تصرفاته المالية فاكتسب عدوا خطير الشأن . ولم يكتف (على ) بذلك ، بل إستحضر الأشعث الى جانبه ليحارب معه . وانتهز الأشعث الفرصة ليكيد لعلى ، فأرغم عليا على الموافقة على التحكيم ، وهدد بأن يقوم بتسليم ( على ) الى معاوية إن لم يوافق . وترك ( على ) الحبل على غاربه للأشعث فجعل معظم جُند ( على ) يرغبون فى الهدنة ويوافقون على التحكيم ، وذهب الأشعث الى معاوية ليوافقه على التحكيم ، ثم  رفض الأشعث أن يكون عبد الله بن عباس ممثلا (لعلى) فى التحكيم لأنه يريد حكما من القبائل القحطانية وهو ابو موسى الأشعرى العدو الصريح ( لعلى) ، فرشّح (على ) الأشتر فرفض الأشعث . أى أدت سياسة ( على ) الى ان صار هو المأمور وصار الأشعث هو صاحب الأمر والنهى ، وإنتقم الأشعث من ( على ) شر إنتقام . 

5 ـ فشل آخر وقع فيه ( على ) ،هو استسلامه لأتباعه من الأعراب المُشاغبين.أولئك الأعراب لم يكونوا معظم جيش ( على ) بدليل أنهم حين خرجوا عليه كانوا عدة ألوف فقط من جيشه الذى جاوز مائة ألف ، وبدليل أنه إستأصلهم فى ساعات قليلة وبسهولة تامة فى موقعة النهروان .ومن هنا نفهم فشله السياسى فى تعامله معهم من البداية . كان يجب أن يأخذهم بالشدة ويستعين عليهم بقبائلهم وبزعمائهم ، ويقوم بتحجيم المتمردين من زعمائهم ، وأن يحتج عليهم بالطاعة العمياء التى يتمتع بها معاوية من جنده أهل الشام . بهذا الحزم كان يمكنه أن يسيطر عليهم ، ولكنه تردّد وضعف ، فأتاح لهم أن يتطوّر نفوذهم ، وأن يكونوا أكبر سبب فى فشله وفى فوز معاوية بالخلافة .

6 ـ وفى عام 40 وقبيل قتل (على ) أتفق ( على ) ومعاوية على توقف الحرب بينهما وأن يحتفظ كل منهما بما يسيطر عليه .  وفى تفس العام إنفضّ عن ( على ) معظم أنصاره بسبب فشله الذريع . وكان آخر من هجره وإنفض عنه ابن عمّه عبد الله بن عباس . ويبدو أن إبن عباس قد ملّ من عناد ( على ) ورفضه للنصائح ، وتدهور حاله ، وكان ابن عباس واليا على البصرة ، فهرب منها ومعه بيت المال . 

  أخيرا  :

فشل ( على ) السياسى أضاع معظم ما حصل عليه من غنائم الفتوحات ، أنفق فى خلافته الشاقة العسيرة التي استمرت حوالى 5 سنوات كل مدخرته . ومات قتيلا ، وكانت تركته 700 درهم فقط ويقال 600 ويقال 250 درهما . رقص المسكين على السّلم ، فلم ينجح فى دنيا السياسة مثل عمر وعمرو ومعاوية ، وطبقا لما نعرفه من تاريخه فقد عاش يأكل السُّحت من دماء وأموال ونكاح نساء الأمم المفتوحة المنهوبة.

 

الخاتمة

لا زلنا نعيش هذا التناقض الفتوحات وصحابة الفتوحات وبين الاسلام ، دينيا وتاريخيا وندفع الثمن حتى الآن .

1 ـ الفتوحات العربية التى تحمل إسم الاسلام زورا وظلما وبُهتانا رفعت صحابة الفتوحات وخلفاءها ( الراشدين ) الى موقع التأليه ، مع أنها تناقض الاسلام فى تشريعاته وقيمه العليا ( العدل والحرية والسلام ) ، وأنها جعلت المسلمين حتى الآن ينسون حُرمة الأشهر الحُرُم ، وأقامت لهم أديانا أرضية يتقاتلون تحت لواءها ، خلال الأشهر الحُرُم وغيرها ،وهم يحسبون أنهم يحسنون صُنعا . بهذه الأديان الأرضية للمحمديين أصبح ( محمدا ) رسول الحرب والارهاب والاكراه فى الدين طبقا لحديثهم القائل ( أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا  .. )، ونسى الجميع الشخصية الحقيقية الحانية لخاتم المرسلين الذى بعثه الله جل وعلا بالقرآن رحمة للعالمين لا لإرهاب وقتل العالمين .

2  ـ الفتوحات لها جانب تاريخى وجانب دينى . من الناحية الدينية صحابة الفتوحات قاموا بها ينسبون عملهم الى الاسلام ، فلا بد أن نحتكم بشأنهم الى القرآن الكريم ، وهذه فريضة إسلامية ( أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمْ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً )(114)الأنعام ).  وبالاحتكام الى القرآن الكريم فإنّه لا بد من إختيار واحد من إثنين، أى ( إمّا و إمّا ) . إن كانت تلك الفتوحات جهادا إسلاميا حقيقيا فهم مسلمون حقّا ، ولكن بلا تأليه وتقديس ، شأن أى قائد مسلم يدافع عن وطنه من غزو خارجى ، ويطبّق شرع الله فى القتال الدفاعى دون أن يبدأ عدوانا على أحد . إمّا إن كانت تلك الفتوحات إعتداءا وظلما وبغيا فهى تناقض الاسلام ، وتجعل القائمين أعداءا للاسلام . يزداد الأمر إذا حملوا راية الاسلام وهم يرتكبون إجراما يأباه الرحمن ودين الاسلام . هنا يكون الكُفر بأحطّ درجاته . ويكون العقاب الأخروى هائلا . نستطيع أن نتخيله من تدبر قوله جل وعلا : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً (93) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (94 )( النساء ). فى بحث ( الاسلام دين السلام ) أوضحنا بهذه الآيات وغيرها أنها جريمة هائلة أن تقتل مؤمنا يشير بالسلام حتى لو كان فى أرض العدو وفى معسكر الأعداء المعتدين على المسلمين . هى جريمة هائلة ، يستحق بها القاتل المتعمد الخلود فى جهنم وغضب الله جل وعلا عليه ، وان يلعنه ربّ العزة ، وقد أعدّ له عذابا عظيما . هذا جزاء قتل إنسان مُسالم واحد ، فكيف بفتوحات الصحابة وضحاياها من الشعوب وهم بمئات الألوف من الجنود الأبطال المدافعين عن أوطانهم ومن المدنيين من الرجال والنساء والولدان ؟ وكيف بالسبى والسلب والنهب ؟، وكيف بالاحتلال والجزية والخراج ونهب ومصّ دماء الشعوب ؟ هذا ظلم يتكون من ظُلمات بعضها فوق بعض . ولكنه قد يظلّ ظلما للناس . الأفظع منه أن ترتكب هذا الظلم الهائل وتنسب جريمتك للاسلام ، ولرب العزة وشريعته السمحة السلمية التى تشجب الظلم وتؤسس العدل والقسط والحرية وكرامة الانسان . هنا يكون الظُّلم الأكبر ، وهو أن صحابة الفتوحات ظلموا أيضا رب العزة ، وحكموا على أنفسهم أن يكونوا من ( أكفر ) خلق الله .

ونرجع الى الاختيار الحتمى لكل مُسلم ، بعد الاحتكام الى الله جل وعلا فى أمر صحابة الفتوحات ، من أبى بكر وعمر وعثمان وغيرهم . أمام المُسلم الاختيار بين مناصرة الله جل وعلا أو مناصرة أولئك الصحابة . إمّا أن ( يوالى ) الله جل وعلا و ( يناصر ) الله جل وعلا ، وإمّا أن يوالى ويناصر الصحابة المعتدين على رب العزة ، والذين هم أظلم الناس للناس ورب الناس . إما أن ينحاز الى رب العزّة جل وعلا ويحكم بأن أولئك الصحابة اشدّ الناس كُفرا واشد الناس عداءا لله جل وعلا ورسوله ، وإمّا أن ينحاز لأولئك الصحابة فى بغيهم وظلمهم ، ويصمم على تقديسهم وتأليههم والدفاع عنهم .

المحمديون الذين لا يقدرون الله جل وعلا حق قدره سيسارعون بالانحياز لصحابة الفتوحات ، خصوصا السنيين المتطرفين منهم . أمّا الذين اسلموا لله جل وعلا قلوبهم وآمنوا بما نُزِّل على ( محمد ) فيعتبرون حق الله جل وعلا هو الأقدس وهو الأعظم وهو الأولى بالرعاية ، لذا يسارعون الى التبرؤ من صحابة الفتوحات وتكفيرهم ، ولا تأخذهم فى حقّ الله جل وعلا لومة لائم .

هناك من لا يزال فى قلبه مرض ، وهذا المرض يجعله يحتج علينا بأننا نُكفّر أشخاصا . ونقول لهم : أننا نحكم من خلال التاريخ على شخصيات تاريخية حسب عملها المكتوب فى التاريخ . لا نعلم عنهم إلّا عملهم ، فنحكم عليهم بعملهم ، أى بصفاتهم . أى هو فى النهاية تكفير للأعمال وللصفات ، وهو تكفير لجرائم حكم رب العزة بكفرها . وهو تكفير واجب وفرض حتى نبرىء الاسلام من جرائمهم لأنهم هم الذين نسبوا جرائمهم الى الاسلام . فإما أن يكونوا على حق والاسلام على باطل ، وإمان أن يكونوا على بطل وأنهم يكفرون بالاسلام الحق . أى بالاحتكام الى رب العزة فى القرآن يتأكد عداؤهم لله جل وعلا وكُفرهم بالله جل وعلا ورسوله . ولا عُذر لهم فى ذلك ، فقد عايشوا النبى عليه السلام ، ثم إختاروا التنكب عن دينه بمجرد وفاته ، وصاروا رُوّادا فى الكفر وائمة للظالمين المعتدين الذين جاءوا من بعدهم يظلمون ويبغون وينسبون ظلمهم وبغيهم الى الاسلام . وبالتالى فلا سبيل إلا إعلان كفرهم وبراءة الاسلام منهم .

الفزع الذى يصيب من يُقدّس الصحابة قد يدفع أحدهم الى إنكار الفتوحات وإنكار الفتنة الكبرى ، وتكذيب المكتوب فى التاريخ .. هذا ندعو له بالشفاء العاجل ، ونطلب إيداعه أقرب مستشفى للمراص العقلية . 

3 ـ من الناحية التاريخية فالمفروض فى اى شعب تجرّع ـ فى حقبة من تاريخه ـ الاحتلال والاسترقاق والظلم والاستعباد من قوة اجنبية أن يُعادى أولئك القادة الأجانب الذين أذلوا أجداده واستعبدوهم وإمتصوا دماءهم . أى المّنتظر من المصريين وأهل الشام والعراق وشمال أفريقيا أن يتوارثوا كراهية الصحابة والخلفاء الراشدين والأمويين ، وأن يقرأوا تاريخ أجدادهم وتاريخ بلادهم تحت القهر فى تلك الحقبة التاريخية بموضوعية ، وأن يعايشوا التعاطف مع أجدادهم المظلومين المقهورين . ولكن الذى يحدث هو العكس تماما . هو تقديس للصحابة وتمجيد لما أجرموا فيه بحق الأجداد والأسلاف ، وقراءة تاريخ الصحابة فى ظل هذا التقديس وذلك التمجيد . لا ينجو من هذا البلاء إلا من ظل على دينه الأصلى كأقباط مصر ومسيحيى الشام والعراق . ونجا جزئيا من هذا البلاء الايرانيون فقدسوا عليا وأعتبروا كراهية أبى بكر وعمر وعثمان والزبير وطلحة ومعاوية ...الخ من معالم دينهم الشيعى .

وهذا يصل بنا الى أساس المشكلة . وهو ربط الفتوحات بالاسلام زورا وبهتانا ، وتدمير معالم الدين الاسلامى لتقوم على أنقاضها أديان أرضية تؤلّه وتُقدّس الصحابة أو بعض كبارهم ، وبالتالى تحصين الفتوحات والفتنة الكبرى من النقد ، وجعل بحثها والاحتكام الى القرآن الكريم بشأنها من المُحرّمات . وهذا ظلم هائل للاسلام ولله جل وعلا ولرسوله الكريم ، كما انه ظلم هائل لأسلافنا المصريين وغير المصريين الذين عانوا القهر والنكال ، ثم لا يجدون من أحفادهم مجرد الشعور بالرثاء ، بل التغنّى بما حدث لهم من مصائب وتأليه الجانى المُجرم والتشفى فى الضحية المسكين .

 المصريون لم يقرأوا عن أحوال أجدادهم الأقباط فى عصر الخلفاء الراشدين والأمويين إلّا من خلال ما كتبه المؤرخون السنيون الذين يقدسون الصحابة . ومع هذا فإن هذه الكتابات التاريخية تحوى بين سطورها معالم ظلم هائل تعرض له أجدادنا . هو ظلم هائل يأباه الله جل وعلا ورسوله ودين الاسلام . ولكن تقديس الخلفاء الراشدين فوق كل إعتبار ، حتى فوق مقام رب العزة ودينه القائم على العدل والحرية والسلام . دعنا نتخيل أننا نقرأ تاريخا كتبه المصريون الأقباط ضحايا الغزو والاحتلال العربى ، كتبوا فيه معاناتهم من الغزو والقهر والاسترقاق والسبى والسلب والنهب والجزية والخراج .. لو قرأ المصريون المحمديون هذا ـ إفتراضا ـ فلن يتغير الموقف ، سيظلون فى تقديس الخلفاء الراشدين وفى تمجيد الفتوحات . والسبب أنهم ( محمديون سنيون ) ترجع جذور دينهم الأرضى الى  تلك الفتوحات .

هى أديان ظالمة نشأت عن فتوحات ظالمة ، وقام بها قادة كفروا بالله جل وعلا ورسوله كفرا عمليا بسلوكهم المُجرم ،ونسبوا إجرامهم هذا الى الاسلام ، فدمّروا الاسلام . ومع هذا فهم (الخلفاء الراشدون ) . والدين السّنى فى تقديسه لهم يضع أحاديث فى تمجيدهم ، منها : ( أصحابى كالنجوم ، بأيّهم إقتديتم إهتديتم ) وسار المحمديون على سُنّتهم ، فهم فى الفتنة الكبرى والحروب الأهلية لا يزالون واقعين وبها سائرين ومستمسكين  . وصاغ الدين السّنى حديثا آخر يقول ( الله الله فى أصحابى . لا تتخونهم غرضا من بعدى ) أى يمنع بحث الفتنة الكبرى والفتوحات ، حتى لا تتوجّه لهم سهام النقد . بمعنى أن القرآن الكريم يأتى فيه تأنيب الأنبياء وتكفير معظم الصحابة ، ولكن من الممنوع التعرض للصحابة باى نقد . وحاول أن تقدم برنامجا أو تنشر بحثا أو تخطب خطبة فى مصر ـ تنتقد فيها الفتوحات ( الاسلامية ) وقادتها ، ومهما إستشهدت بآيات القرآن الكريم فلن يُنجيك هذا من العقاب .! . إن لم يقتلك أحد المصريين  ـ المتدينين بالدين السُّنّى سيعتقلك النظام المصرى بتهمة إزدراء الدين . الدين السُّنّى طبعا ..أمّا أن تسُبّ دين الله فلا شىء ..وكأنّ شيئا لم يكن .!

حسنا ..

نحن لا تأخذنا فى الدفاع عن الاسلام لومة لائم . وموعدنا يوم الفصل ، يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة وسوء الدار : (  إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمْ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) ( غافر )

 ودائما : صدق الله العظيم .   

اجمالي القراءات 138400