ثانيا : التأويل بين الشيعة والصوفية
1- الشيعة هم اقدم الفرق الاسلامية ، ويرجع استمرارها فى الوجود حتى الان الى عاملين الاول: انهم نجحوا فى تحويل فكرهم الدينى الى دين كامل عن طريق التأويل او تطويع النصوص ، وهم اشهر القائلين بالتأويل بالمصطلح التراثى ، ولهم فى التأويل مناهج وفلسفات . الثانى : انهم تعرضوا لكثير من الاضطهاد وعاشوا كثيرا فى خندق المقاومة . والتجربة الانسانية تؤكد ان اضطهاد الفكر هو السبيل الوحيد لكى ينتشرذلك الفكر ويسود طالما يواجة العنف بديلا عن النقاش . وقد كان للحكومات السنية فى العصور الوسطى الفضل فى نشر الفكر الشيعى وعقائدة بسبب الاضطهاد الدينى الذى اوقعوه بالشيعة ، وهو درس ينبغى ان يتعلم منه عصرنا الراهن . وقد خرج الشيعة من هذه التجربة التاريخية المريرة بشيئين ، اقامة بعض الدول الشيعية ، ثم التفنن فى التقية وفى التأويل .
- ومع كل الاختلافات داخل الشيعة الا انهم يتفقون حول مبدأ اساسى، هو التولى والتبرى . اى موالاة على بن ابى طالب وذريته والتبرؤمن خصومه السياسيين ، كأبى بكر وعمر وعثمان ومعاوية وام المؤمنين عائشة . ويختلفون فى مقدار التولى والتبرى فمنهم من يصل بموالاة على الى تقديسه وتأليهه , ومنهم من يصل بالبراءة من ابى بكر وعمر الى درجة تكفيرهما. ولكن يظل الاجماع الشيعى قائما حول عصمة ( على ) وذريتة وان تكون فيهم الامامة بالنص والتعيين ، وان يكون ذلك جميعا جزءا من الدين الشيعى. ولكى يكون جزءا من الدين لجأوا الى التأويل بمعنى تطويع النصوص القرآنية ثم اختراع احاديث تخدم عقائدهم .
نعطى نماذج سريعة للتأويل الشيعى :
- فهم يرون ان قوله تعالى ( يا ايها الذين امنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين : التوبة 119 ) مقصود به على بن ابى طالب وذريته .مع ان كلمة الصادقين جاءت عامة ، وقد يرد عليهم السنة بقولهم :ما المانع ان تشمل ابا بكر وعمر ؟ وما المانع ان تشمل كل مشهور بالصدق الى قيام الساعة؟.
على أن القرآن الكريم يفسر بعضه بعضا , فالآية الكريمة السابقة يفسرها قوله تعالى:" ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا: النساء 69.".
ليس فى الاسلام اعتقاد فى شخص وانما هو الاعتقاد فى الوحى الذى يصير به شخص ما نبيا من الانبياء ويصير به ذلك النبى صادقا لأنه يحمل الصدق أو الوحى الألهى الصادق. ونحن كمؤمنين نؤمن بذلك الصدق الذى جاء به اولئك الانبياء الصادقون. واذا نجح ايماننا فى أن يجعلنا متقين طيلة حياتنا الدنيا فاننا يوم القيامة سنكون مع اولئك الصادقين, هذا معنى قوله تعالى " والذى جاء بالصدق وصدق به اولئك هم المتقون: الزمر33." اذن قوله تعالى لنا " وكونوا مع الصادقين." يعنى أن نكون مع الأنبياء ايمانا بكل الكتب التى نزلت عليهم بدون تفرقة او تفضيل بينهم , وبهذا الايمان الخالص بالله تعالى اذا اقترن به عمل صالح وطاعة حقيقية كنت معهم يوم القيامة.
وهم يرون ان على بن ابى طالب وزوجته وابناء ه هم المقصودون بقوله تعالى ( انما يريد الله ليذهب عنكم الرجز اهل البيت ويطهركم تطهيرا : الاحزاب 33) وبسبب الدعاية الشيعية اعتقد كثيرون ان ذرية على هم آل البيت ، مع ان الايات تتحدث عن نساء النبى ، والمصطلح القرآنى -آل البيت- يكون مقصودا به الزوجة سواء كانت زوجة ابراهيم ( قالوا اتعجبين من امر الله ، رحمة الله وبركاته عليكم اهل البيت : هود 73) او كانت امرآة العزيز فى مصر ( وراودته التى هو فى بيتها عن نفسه: يوسف 23) والعجيب ان الاية التى حرف الشيعة معناها قاطعة الدلالة فى أن المقصود بها نساء النبى يقول تعالى ( يا نساء النبى لستن كأحد من النساء ) ثم يقول لهن ( وقرن فى بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الاولى واقمن الصلاة واتين الزكاة واطعن الله ورسوله انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس اهل البيت ويطهركم تطهيرا )
والشيعة يرون ان عليا بن ابى طالب وزوجته هما المقصودان بقوله تعالى ( ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما واسيرا : الانسان 8) مع عمومية الآية لأن السياق قبلها يتحدث عن نعيم الأبرار فى الجنة لأنهم كانوا يوفون بالنذر ويخشون يوم الحساب ويطعمون المحتاج من أحب أنواع الطعام لديهم . اذن هى آية عامة وتسري على كل من يتصف بهذه الصفات النبيلة.
والشيعة فى تأويلاتهم يؤيدونها بقصص واحاديث للتأكيد على عصمة على والائمة من ذريته ولكى يتحول فى النهاية ذلك الفكر الى دين ثم الى دين ودولة ، وذلك ما حدث فعلا فعلا فى الماضى والحاضر.
2ـ والتصوف هو الابن الشرعى او غير الشرعى للتشيع .
ويتفق الصوفية مع الشيعة فى تقديس على وذريته وان اختلفوا فى بعض الشكليات ، فالشيعة يجعلونهم ائمة مقدسين ، والصوفية يجعلونهم اولياء معصومين ، الا ان الاختلاف الاساسى بين الفريقين يكمن فى ان الصوفية لا يلعنون بقية الكبار من الصحابة كما يفعل الشيعة ، كما أن الصوفية تخففوا من الطموح السياسى ومتاعبه ، واكتفوا بدولة الباطن الوهمية والخرافات المقدسة التى جعلوها حكرا عليهم ، وتمتعوا بتقديس العوام والنذور والموالد والولائم ، وبدأ التصوف منذ القرن الثالث ، ثم انتشر وازدهر وسيطر وتحكم خصوصا فى العصرين المملوكى والعثمانى ، وظل الامر كذلك الى ان جائت الحركة السلفية الراهنة بالتدين الحنبلى المنافس اللدود للصوفية تحت اسم الوهابية فغلب على الساحة بريالات النفط ونفوذه .
وكالتشيع استطاع التصوف ان يحول الافكار الدينية – المخالفة للاسلام – الى دين يحمل لافتة الاسلام ، وذلك عن طريق التأويل وعن طريقة التلاحم العضوى بالطبقات الاجتماعية من خلال الطرق الصوفية ، واخيرا عن طريق تسويغ الانحلال الخلقى وتشريعه فى اطار التسامح الصوفى . وقد كان التصوف فى العصر المملوكى ميدان بحثنا فى رسالة الدكتوراه ، وهى اخطر رسالة علمية عرفتها جامعة الأزهر في تاريخها الطويل وعلمها الهزيل.
والتأويل الصوفى حرص على تجنب الصدام مع السلطان واصحاب النفوذ لذلك كان يسير احيانا مع الرمز ويحتج احيانا( بالوجد ) اى تأجج عاطفة الصوفى بحيث تغلب مشاعره فينطق { بما يحسبه الناس}كفرا ، ، ولكنه عندهم معذور لان ( الحال) قد غلبه فخرج عن السياق.
وتسرب الي عقائد المسلمين من التأويل الصوفى ان الصوفية وحدهم هم المقصودون بقوله تعالى ( الا ان اولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون : يونس 62) مع ان الاية الكريمة تصف اولياء الله بالايمان والتقوى اللتين هما صفات عامة مطلوب من الناس جميعا التحلى بهما, وهما صفات عرضية تزيد وتنقص وليست صفات لازمة ، وهما صفات غيبية لا يعلم حقيقة الاتصاف بها الا الله تعالى الذى يعلم خائنة الاعين وما تخفى الصدور . ومع ذلك نجح التأويل الصوفى فى اقناعنا بأن الصوفية وحدهم هم اولياء الله ، ثم تطرف فجعل للاولياءالصوفية صفات الله تعالى من العلم بالغيب والتصريف فى خلق الله والتحكم فى الدنيا والاخرة عن طريق كراماتهم المزعومة.
واستلزمت الكرامات الصوفية تأويلا اخر انصب على فهم خاطىء لبعض القصص القرآنى مثل قصة العبد الصالح مع موسى ، والذى يؤكد السياق القرآنى انه نبى حيث لا يعلم بعض الغيب الا بعض الانبياء وحيث لا يتلقى الوحى المباشر من الله تعالى الا الانبياء . وتلك ملامح النبوة فى ذلك العبد الصالح فى قصته مع موسى وتعليمه اياه . ولكن التأويل الصوفى جعل ذلك النبى الصالح شخصا صوفيا اسمه الخضر ، وأعلى مكانته فوق النبى موسى حيث كان يتعلم منه النبى موسى لتتأكد العقيدة الصوفية التى تقول ان الولى الصوفى افضل من النبى , وفقا لمقالة شيخهم الأكبر ابن عربى :
مقام النبوة فى برزخ فوق الرسول ودون الولى
ثم جاءت الاقاصيص الصوفية لتجعل للخضر حياة الوهية خالدة متجددة ، ولتجعله على قمة المملكة الصوفية الكهنوتية ، من الاقطاب والابدال والأوتاد واصحاب النوبة غيرهم.