مقدمة عن كيفية فهم الأسلام
ان الله جل وعلا يقول عن القرآن الكريم :" وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين الا خسارا. الأسراء 82". فالمؤمن الحقيقى هو الذى يبحث عن الهداية داعيا ربه جل وعلا فى صلاته قائلا مخلصا" اهدنا الصراط المستقيم" راجيا الهداية مستعدا لأن يضحى فى سبيلها بكل ما يعارضها مما توارثه من اقاويل وعقائد. هذا المؤمن يبحث عن الهدى فى كتاب الله العزيز وقد اخلص لله جل وعلا قلبه وأخلى عقله من كل الأفكار المسبقة والأحكام الجاهزة وأصبح مستعدا ذهنيا و قلبيا للقبول والأيمان والتسليم بما يقرره القرآن ويكون مخالفا لما وجدنا عليه آباءنا . لهذا المؤمن يكون القرآن الكريم شفاء ورحمة. والقرآن نفسه يكون للظالمين خسارا , اذ يدخلون عليه بفكر سابق مخالف للحق القرآنى و ينتقون من القرآن بعض آياته يخرجونها عن السياق ويتجاهلون بقية الآيات الأخرى فى نفس الموضوع, أو يبدلون مصطلحات القرآن بمفاهيمهم , وكل ذلك ليعززوا وجهة نظرهم. أى يدخلون على القرآن وهم " ظالمون" يريدون التلاعب بآياته فلا يزدادون بالقرآن الا خسارا.
وعليه فهناك رؤيتان للاسلام ، رؤية الاسلام من خلال مصدره الالهي ،وهو القرآن الكريم . ومنهج هذه الرؤية هي ان تفهم القرآن من خلال مصطلحاته ولغته ، فللقرآن لغته الخاصة التي تختلف عن اللغة العربية العادية ،فاللغة العربية هى أقدم لغة حتى الآن , وهى –كأي لغة –هي كائن متحرك تختلف مصطلحاته ومدلولات الكلمات حسب الزمان والمكان وحسب الطوائف والمذاهب الفكرية وحسب المجتمعات ..وبالتالي فان الذي يريد ان يتعرف علي الاسلام من خلال مصدره الالهي القرآن – عليه ان يلتزم باللغة العربية القرآنية ،ثم يبدأ ـ بدون ادني فكرة مسبقة ـ في تتبع الموضوع المراد بحثه من خلال كل ايات القرآن سواء ما كان منها قاطع الدلالة شديد الوضوح وهي الآيات المحكمة ،او ما كان منها في تفصيلات الموضوع وشروحه وتداخلاته ،وهي الايات المتشابهة ،وهنا يصل الي الرأي القاطع الذي تؤكده كل ايات القرآن . هذه الرؤية القرآنية للاسلام .
والرؤية الثانية للاسلام هي الرؤية التراثية البشرية التى تخلط بينه و بين المسلمين , وهي ان تنظر للاسلام من خلال مصادر بشرية متعددة منها تفسيرات القرآن والاحاديث المنسوبة للنبي وروايات أسباب النزول ،واقاويل الفقهاء والمفسرين ..ومن الطبيعي ان تجد آراء متناقضة حسب كل مذهب بل وفى داخل كل مذهب،وكل رأي يبحث عما يؤيده من القرآن بأخراج الاية من سياقها ،وان يفهمها بمصطلحات تراثه ومفاهيمه, و هم يبررون تضارب الأراء بمقولة تتهم القرآن العظيم بأنة حمال أوجه , وهم بذلك ينكرون قوله تعالى عن القرآن الكريم: " كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير. هود 1 " " أفلا يتدبروت القرآن ؟ ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا. النساء. 81 .
ومن الطبيعي ان هذا الفهم للاسلام يتعارض مع حقيقة الاسلام ومع الرؤية القرآنية له . ومن الطبيعي ان من هذه الرؤية تخرج التشريعات التي يكون بها الاسلام متهما بالعنف والتخلف والتطرف .
والواقع ان المسلمين في العصور الوسطي كانوا مثل غيرهم من البشر يعيشون ثقافة العصور الوسطي بتعصبها وتطرفها وحروبها الدينية والمذهبية ومحاكم التفتيش ودولها الدينية المستبدة المتألهة ، وقد قام أكثر علمائها بتأويل ايات القرآن وصناعة احاديث وتفاسير لتلائم تلك الثقافة ،وجعلوها مقدسة بنسبتها الي النبي (عند اهل السنة)او بنسبتها الي اقارب النبي (عند الشيعة)او بنسبتها للائمة المقدسين (عند الصوفية ).
والذي يؤمن بهذه الرؤية التراثية البشرية للمسلمين ويأخذ عنها الاسلام لن يجد منها الا أكثرية من التخلف والخرافة والتعصب و العنف والارهاب ،اما اذا رجع يطلب الهدى من القرآن يتدبر آياته ومفاهيمه وتشريعاته ،فسيفاجأ بأن الاسلام هو دين التعقل و التحضر والتسامح والسلام الذي لا مثيل له .
ان تدبر القرآن فريضة اسلامية منصوص عليها فى الكتاب العزيز " النساء81 محمد 24 المؤمنون 68 وكذلك الحال فى دراسة القرآن والكتب السماوية الأخرى. "ال عمران 79 الأنعام 105 . و هذه الفريضة ـ الغائبة ـ لها منهج دينى هو طلب الهداية باخلاص , ولها منهج علمى عقلى هو البحث المحايد بدون أحكام مسبقة مع الألتزام بمصطلحات الكتاب وعدم فرض مفاهيم خارجية عليه.
والان ماذا عن علاقة الاسلام بالسلام ؟
ان السلام هو الاصل في مفهوم الاسلام في علاقات المسلمين بغيرهم , وفي تشريعات الجهاد في الاسلام. وسنتعرض لهذا بالتفصيل علي النحو التالي :
الاسلام والسلام من حيث المفهوم :
نبدأ بمفهوم الاسلام والايمان طبقا لمصطلحات القرآن ولغته الخاصة .
أ ـ ان كلمة الايمان في اللغة العربية وفي مصطلحات القرآن لها استعمالان :"آمن بـ"أي اعتقد في ،"آمن لـ"أي وثق و اطمئن ،ونشرحهما بايجاز :
一-
1ـ آمن ب" أي اعتقد ،مثل قوله تعالي (آمن الرسول بما انزل اليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين احد من رسله :البقرة 285) وآمن بـ بمعني اعتقد بالإيمان القلبي الباطني. وفي العقيدة أو التعامل مع الله تعالي يختلف الناس حتي في داخل المذهب الواحد والدين الواحد , والقرآن يؤكد علي تأجيل الحكم علي الناس في اختلافاتهم العقيدية الي يوم القيامة والي الله تعالي وحده (البقرة 113،آل عمران 55،يونس 93،النحل 124،المائدة 48 ،الزمر 3،7،46).
2- الاستعمال الاخر هو :( آمن لـ) أي وثق واطمأن واصبح مأمون الجانب يطمئن له الناس ويثقون فيه ،وتكرر هذا المعني في القرآن خصوصا في القصص القرآني ،ففي قصة نوح قال له المستكبرون (انؤمن لك واتبعك الارذلون :الشعراء 111)أي كيف نثق فيك ونطمئن لك وقد اتبعك الرعاع، وتكرر ذلك المعني عن (آمن لـ )في قصة ابراهيم (العنكبوت 26)وقصة يوسف (17)وقصة موسي (الدخان 21)(المؤمنون 47)وفي حديث القرآن عن احوال النبي محمد في المدينة (آل عمران 73 )(البقرة 75)ومواضع اخرى كثيرة . والايمان بمعني الأمن والامان والثقة والاطمئان هو بالطبع حسب السلوك أو التعامل مع الظاهر ،فكل من تأمنه وتثق فيه ويكون مأمون الجانب هو انسان مؤمن في مصطلحات القرآن ،اما عقيدته ـ ان كانت بوذية او مسيحية او يهودية او اسلامية –فهذا شـأنه الخاص بعلاقته مع ربه .والله تعالي هو الذي سيحكم عليك وعليه وعلي الجميع يوم القيامة .
(3) وقد جاء الاستعمالان معا لكلمة الايمان في قوله تعالي عن النبي محمد (يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين :التوبة 61)أي يؤمن بالله اى يعتقد فيه وحده الاها ،ويؤمن للمؤمنين أي يثق فيهم ويطمئن لهم .
والخلاصة ان الايمان في القرآن الكريم هو الامن في السلوك البشرى وفى التعامل مع الناس ،وكل انسان يامنه الناس ويثقون فيه يكون مؤمنا .ومعناه العقيدى أى في التعامل مع الله تعالي هو الايمان به وحده الاها لا شريك له , هو وحده الشفيع والولى والنصير والوكيل والمستحق وحده بالعبادة والتقديس ،والحكم علي هذا الاعتقاد الذي يختلف فيه الناس- مرجعه لله تعالي وحده يوم القيامة -والمهم ان يتعامل الناس فيما بينهم بالثقة والامن والامان …والسلام ..أي ان الايمان في الاسلام هو قرين السلام في التعامل مع الناس .
ب- مفهوم الاسلام يشبه مفهوم الايمان في القرآن له معني سلوكى أو ظاهري في التعامل مع الناس ،ومعني باطني ،قلبي ،اعتقادي في الأعتقاد أو التعامل مع الله .
1-الاسلام في معناه القلبي الاعتقادي هو التسليم والانقياد لله تعالي وحده . والاسلام بهذ المعني نزل في كل الرسالات السماوية علي جميع الانبياء وبكل اللغات القديمة ،الي ان نزل اخيرا باللغة العربية ،وصار ينطق بكلمة "الاسلام"التي تعني الاعتقاد والتسليم والانقياد والطاعة المطلقة لله تعالى وحده (الانعام 161:163)وهذا هو معني الاسلام في الاعتقاد ،والذي سيحكم الله تعالي عليه يوم القيامة ،لأن الله تعالي لن يقبل يوم القيامة دينا آخر غير الخضوع أو الاستسلام له وحده ،وذلك معني قوله تعالي (ان الدين عند الله الاسلام ). (ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الاخرة من الخاسرين :آل عمران 19ـ 85)فالاسلام هو الخضوع لله تعالي بكل اللغات وفي كل زمان ومكان وفي كل الرسالات السماوية , الا انه عندنا وللاسف قد تحول الى وصف باللغة العربية لقوم معينين في عصور معينة .
والله تعالي لا يهتم بما يطلقه البشر علي انفسهم من القاب وتقسيمات مثل (الذين آمنوا ) والذين هادوا (اليهود ) والنصاري والصابئين (أي الخارجين علي دين اقوامهم )لذلك فان القرآن يؤكد في آيتين ان الذين يؤمنون ايمانا باطنيا وظاهريا (بالامن والامان مع البشر وبالاعتقاد في الله وحده )ويعملون الصالحات ويؤمنون باليوم الاخر ويعملون له فهم من اولياء الله تعالي سواء كانوا من اتباع القرآن ،أو من الذين هادوا ،أو من النصاري او من الصابئين (البقرة 62 المائدة 69 )أي ان من يؤمن بالله واليوم الاخر ويعمل صالحا فهو عند الله قد ارتضي الاسلام أو الانقياد لله عز وجل، سواء كان من المسلمين او اليهود او النصارى او الصابئين في كل زمان او مكان او بكل لسان وذلك ما سنعرفه يوم القيامة، وليس لأحد من البشر ان يحكم علي انسان بشأن عقيدته ،والا كان مدعيا للالوهية، هذا هو معني الاسلام الباطني القلبي الاعتقادي ، هو فى التعامل مع اللة تعالي استسلام وخضوع له بلغة القلوب ،وهي لغة عالمية يتفق فيها البشر جميعا، وعلي اساسها سيكون حسابهم جميعا امام الله تعالي يوم القيامة.
(2) اما الاسلام في التعامل الظاهري فهو السلم والسلام بين البشر مهما اختلفت عقائدهم يقول تعالي (يا ايها الذين أمنوا ادخلوا في السلم كافة )البقرة 208 .أي يأمرهم الله تعالي بايثار السلم .
ونتذكر هنا تحية الاسلام الا وهي السلام وان السلام من اسماء الله تعالي، كل ذلك مما يعبر عن تأكيد الاسلام علي وجهه السلمي ويؤكد المعني السابق للايمان بمعني الامن والامان .
هذا …
(3) والانسان الذي يحقق الايمان السلوكى في تعامله مع الناس فيكون مأمون الجانب لا يعتدي علي احد ويحقق الايمان العقيدى في تعامله مع الله فلا يؤمن في قلبه الا بالله تعالي وحده الاها، هذا الانسان سيكون مستحقا للامن عند الله يوم القيامة . و الانسان الذي يحقق الاسلام السلوكى في تعامله مع الناس فيكون مسالما لا يعتدي علي احد ،ويحقق الاسلام العقيدى في تعامله مع الله تعالى فيسلم قلبه وجوارحه لله تعالي وحده ،هذا الانسان يكون مستحقا للسلام عند الله تعالي يوم القيامة ،وفي ذلك يقول جل شأنه (الذين آمنوا ولم يلبسوا ايمانهم بظلم اولئك لهم الامن وهم مهتدون :الانعام 82)أي ان الذين آمنوا بالله في عقيدتهم وآمن الناس لهم واطمئنوا اليهم لأنهم لم يظلموا احدا ،لهم الامن في الاخرة لأن الجزاء من جنس العمل .
لذلك فان الله تعالي يعدهم بالسلام و الامن فى الجنة: يقول تعالي (ادخلوها بسلام آمنين :الحجر 46)ويقول عن الجنة (لهم دار السلام عند ربهم :الانعام 127)أي ان السلام والامان في التعامل مع البشر +الاستسلام لله والايمان بالله وحده وطاعته وحده =السلام والامان في الجنة .والاعتداء والظلم لله تعالي والناس = الجحيم.
الكفر والشرك فى مفاهيم القرآن الكريم بايجاز نقول:
1 ـ الكفر و الشرك سواء, هما قرينان فى مصطلح القرآن لذلك يأتيان مترادفين فى النسق القرآنى. يقول تعالى:" ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على انفسهم بالكفر. التوبة17", واذا قرأت الآيات الأولى من هذه السورة وجدت اطلاق مفهومى الشرك والكفر معا على اعداء الاسلام وقت نزول هذه السورة الكريمة , وأمثلة أخرى منها قول مِؤمن آل فرعون لقومه: " تدعوننى لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لى به علم ": غافر 42"
2 ـ الكفر فى الغة العربية يعنى التغطية, أى كفر بمعنى غطى , ومثلها أيضا " غفر" ومنه المغفر الذى يغطى الوجه فى الحرب. وكلمة "كفر" أى غطى انتقلت الى لغات أخرى منها الأنجليزية : [Cover]. الا ان الله تعالى وصف المزارعين بالكفار, فالزارع كان يطلق عليه فى اللغة العربية "كافر" لأنه " يكفر الزرع " اى يغطيه بالتراب والماء لينمو. وفى ذلك يقول المولى جل وعلا: " اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب و لهو وزينة وتفاخربينكم و تكاثر فى الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته. ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما. الحديد 20" . لقد خلق الله تعالى البشر بفطرة نقية لا تعرف تقديسا الا لله تعالى ولا تعرف غيره جل وعلا ربا والاها و معبودا ووليا وشفيعا ونصيرا . ثم تأتى البيئة الأجتماعية وموروثاتها الدينية فتغطى تلك الفطرة النقية بالاعتقاد فى آلهة وأولياء و شفعاء ينسبونهم الى الله تعالى زورا , ويزعمون أنها تقربهم الى الله تعالي زلفا أو أنها واسطة تشفع لديه. ذللك الغطاء او تلك التغطية هى الكفر بالمعنى الدينى . و فى نفس الوقت فان ذلك هو أيضا شرك لأنه حول الألوهية الى شركة وجعل لله تعالى شركاء فى ملكه ودينه.
وفى الواقع فان فى داخل الكفر والشرك بعض الأيمان حيث يؤِِِمنون بالله ايمانا ناقصا اذ يجعلون معه شركاء فى التقديس , أو يأخذون من مساحة التقديس ـ التى ينبغى أن تكون لله تعالى خالصة ـ ويعطونها لمن لا يستحقها من البشر و الحجر. وبهذا يجتمع ذلك الايمان ـ الناقص ـ بالله تعالى مع الايمان بغيره أي بتأليه البشر و الحجر , وفى ذلك يقول تعالى :" وما يؤمن أكثرهم بالله الا وهم مشركون" : يوسف 106"
والله تعالى لا يأبه بذلك الايمان القليل لأنه " كفر" أى غطى الفطرة الاسلامية بالاعتقاد فى غير الله وتقديس غيره.. ويقول تعالى عن اجتماع الايمان القليل بالكفر :" ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون الا قليلا : النساء 46." ويقول عن ذلك الايمان القليل و كيف لا ينفع عند الله تعالى:" قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا ايمانهم ولا هم ينظرون." السجدة 29".
وبعضهم يرى أن الكفر هو الالحاد أى الانكار التام لوجود الخالق جل و علا , وان الشرك هو الاعتقاد فى آلهة واولياء مع الله, فالشرك عندهم يختلف عن الكفر .
و نقول بالاضافة لما سبق ان الله تعالى ذكر فرعون نموذجا لاكثر البشر كفرا والحادا, بلغ به الحاده الى ادعاء واعلان الربوبية العليا وأن يتساءل ساخرا عن الله تعالى منكرا وجوده لأنه ما علم الاها للمصريين سواه ـ يقصد نفسه." النازعات:23 ـ 24" "القصص38" غافر 36 ـ37 .
هذا الملحد الأكبر كان فى داخله يؤمن بآلهته الفرعونية , بل و يؤِِمن بأن لله تعالى ملائكة ," الزخرف 53".الأعراف 127" ولكنه انخدع بالملك والسلطان والتراث الدينى الذى يزكى طغيانه والكهنة والجند يؤازرونه فازداد طغيانا وتحدى رب العزة جل وعلا. وحين زال عنه سلطانه وجنده وكهنته وكهنوته و أدركه الغرق انكشف غطاء الوهم ورجع سريعا الى فطرته التى غطتها موروثات الشرك ,واعلن اسلامه فى الوقت الضائع حيث لا يجدى الندم ولا التوبة, و أصبح مثلا فى القرآن الكريم لكل مستبد يصل به استبداده الى الالحاد والتأله. ومع ذلك قل من يعتبر من أغلبية المسلمين من الراعى والرعية والرعاع.
ان اعتى الملحدين فى عصرنا لا يستطيع الغاء الفطرة فى داخله, ومهما اعلن انكاره لله جل وعلا فانه عندما يتعرض للمرض أو الغرق أو المصائب يرجع ذليلا لربه جل و علا. وقد يعود الى عتوه بعد زوال المحنة , و قد يظل في غيه الى لحظة الاحتضار . وهنا يصبح اسيرا بين يدى خالقه يصرخ حيث لا يسمعه البشر من حوله وحيث لا ينفع الندم ولا تجدى التوبة. وحديث القرآن عن هذا الغيب وغيره يطول ـ وما أروعه ـ ولكن ليس هتا محله.
هذه هي علاقة السلام باسم الاسلام وحقيقته ،فما هي علاقته بتشريعات الاسلام وعلاقة المسلمين بغيرهم ؟.
المسلمون والسلام من حيث التاريخ :
1- تدوين التاريخ الاسلامي بدأ واستقر في عصر الامبراطوريات التي شيدها المسلمون علي نمط الامبراطوريات الفارسية والرومانية ،ولذلك تلون التاريخ في كتابته بمفاهيم القوة والتسلط والتعصب أو بمعني اخر بمفاهيم الامبراطوريات في العصور الوسطى ، وبذلك اتسعت الفجوة بين القرآن والتراث في مجالات التاريخ والتشريع ،بل والعقائد ايضا .
2- وفي ما يخص موضوعنا نجد الفجوة واضحة بين حديث القرآن عن المسلمين الاوائل في عصرالنبي و غزواته وبين السيرة النبوية التي تمت كتابتها بعد النبي بقرنين من الزمان ،في عصور الامبراطورية العباسية ،فالسيرة النبوية لأبن هشام وابن اسحاق الطبري وغيرهم تركز علي شدة بأس المسلمين في حروبهم في عهد النبي وتؤكد بين سطورها ان الاسلام انتشر بالسيف وذلك كي يبرروا ما حدث بعد موت النبي من فتوحات وغزوات تخالف تشريع الاسلام , ولكن نري في القرآن شئا اخر مختلفا .
3- والبداية هنا تعود الي مصطلح القرآن عن الذين آمنوا وكيف انه يعني اساسا الذين اختاروا الامن والامان في تعاملهم مع الناس حتي لو كان هؤلاء الناس يعتدون عليهم ويضطهدونهم بسبب الدين. وحتي نفهم المعني المراد بالذين آمنوا في خطاب القرآن لأتباع النبي واصحابه نقرأ قوله تعالي لهم (يا ايها الذين أمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل علي رسوله والكتاب الذي انزل من قبل ،ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الاخر فقد ضل ضلالا بعيدا :النساء 136) فالله تعالي يدعو هنا الذين امنوا الي الايمان بالله ورسله وكتبه السماوية . أي يدعوا الذين اختاروا الايمان بمعني الامن والامان ان يضيفوا الي ذلك الايمان القلبي بالله وكتبه ورسله .وعلى هذا النسق فالخطاب للذين آمنوا مقصود به الذين اختاروا السلم و الامن طريقا ،ويأتي الخطاب يدعوهم للايمان القلبي والطاعة واقامة الفرائض , أي يدعوهم الي الايمان القلبي ولوازمه من الطاعات ليتحقق الايمان القلبي مع الايمان الظاهري، او ليتحقق الامن والسلام مع الايمان بالاله وكتبه ورسله , ويتحقق اخيرا في الاخرة نعيم الجنة حيث السلام والامان .
4- وهؤلاء المؤمنون المسالمون الذين اجتمعوا حول النبي في مكة ثم في المدينة اثروا السلم وتحمل الاضطهاد ، ولم يحاول احدهم الدفاع عن نفسه ،وتحملوا التعذيب في مكة وهاجروا منها الي الحبشة مرتين ثم هاجروا الي المدينة ،وعاشوا في مطاردة وقتال من المشركين الذين يريدون ارغامهم علي العودة لدين الآباء .وكان ممكنا ان يستأصلهم المشركون بالاضطهاد والقتل لولا ان نزل تشريع القرآن يبيح لهم الدفاع عن النفس .
5- وعلماء التراث في العصور الوسطي لا يعطون آية الاذن في القتال حقها من التدبر لأن التدبر في معناها يعطي حقائق مسكوتا عنها ،فالاية تقول (اذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وان الله علي نصرهم لقدير :الحج 39)فهي اذن صريح لكل من يتعرض للظلم والقتل بأن يدافع عن نفسه بغض النظر عن عقيدته ودينه، اذ يكفي ان يكون مظلوما ومعرضا لاحتمال الابادة بالقتل حينئذ يأتيه نصر الله اذا قاتل دفاعا عن حقه في الحياة ،وقد غفل علماء التراث عن عمومية الآية في تشريعها الالهي لكل مظلوم يفرض الاخرون عليه الحرب ، اى كان من حق الشعوب التى فتحها المسلمون عنوة ان يدافعوا عن انفسهم و ان يردوا الاعتداء بمثلة.
6- وغفل علماء التراث عن معني اخر اهم ،وهو ان الايذاء الذي اوقعه المشركون بالمؤمنين وصل الي درجة القتل، وحين يقاتل المشركون قوما مسالمين لا يردون علي انفسهم القتل فان الابادة لاولئك المستضعفين حتمية . أي ان القرآن يشير الي حقيقة تاريخية اغفلتها عنجهية الرواة في العصر العباسي الامبراطورى وهي ان المشركين قاموا بغارات علي المدينة وحدث قتل وقتال للمسلمين ، وسكت المسلمون لأن الاذن بالقتال لم يكن نزل بعد , فلما نزل التشريع اصبح من حقهم الدفاع عن النفس .
7- وغفل علماء التراث ايضا عن التدبر في الاية التالية لتشريع الاذن بالقتال .
فالاية تقول (الذين اخرجوا من ديارهم بغير حق الا ان يقولوا ربنا الله، ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ...:الحج 4)الاية هنا تعطي حيثيات الاذن بالقتال لرد العدوان ،الاول ان اولئك المظلومين تعرضوا للقتل والقتال، والثاني انهم تعرضوا للطرد من بيوتهعم ووطنهم لمجرد انهم يقولون ربنا الله ،وهذا ما اشار اليه علماء التراث لكنهم غفلوا بسبب التعصب الديني في عصر الامبراطورية العباسية في القرون الوسطي – عن التدبر في الفقرة الثانية من الاية والتي تؤكد انه لولا حق المظلوم في الدفاع عن نفسه لتهدمت بيوت العبادة للنصاري واليهود والمسلمين وغيرهم حيث يذكر العابدون فيها اسم الله كثيرا .
والاهمية القصوي هنا في تأكيد القرآن علي حصانة بيوت العبادة لليهود والنصاري والمسلمين حيث ذكر الصوامع والبيع والصلوات ،أي كل ما يعتكف فيه الناس للعبادة من اديرة وكنائس وغيرها ثم جاء بالمساجد في النهاية وقال عن الجميع انهم يذكرون فيها اسم الله كثيرا ولم يقل طبقا لعقيدة الاسلام في الالوهية (يذكر فيها اسم الله وحده) حتي يجعل لكل بيوت العبادة لكل الملل والنحل حصانة ضدالاعتداء .
والاهمية القصوى هنا ايضا ان تشريع الاذن بالقتال ليس فقط لرد الاعتداء وانما ايضا لتقرير حرية العبادة لكل انسان في بيت عبادته ،مهما كانت العقيدة والعبادة ،فلكل انسان فكرته عن الله وعقيدته في الله وهو يقيم بيوتا لعبادة الله و لابد ان تكون هذه البيوت واحة آمنة تتمتع هي ومن فيها بالامن والسلام ،
وتلك هي حقيقة الاسلام الذي غفل عنها علماء التراث .
8- وكان منتظرا من المؤمنين المسلمين حول النبي ان يبتهجوا بتشريع الاذن بالقتال ورد الاعتداء والدفاع عن النفس ،ولكن حدث العكس اذ انهم تعودوا الصبر السلبي وتحمل الاذى ،ولذلك كرهوا تشريع الجهاد برد الاعتداء وغفلوا انه ضرورى لحمايتهم من خطر الابادة لأنه اذا عرف العدو انهم لن يسكتوا فسيتوقف عن الاعتداء عليهم ،وبذلك يتم حقن الدماء، وفي ذلك يقول سبحانه وتعالي للمؤمنين (كتب عليكم القتال وهو كره لكم ،وعسي ان تكرهوا شيئا وهو خير لكم، وعسي ان تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وانتم لا تعلمون :البقرة 21:67)لقد كرهوا القتال دفاعا عن النفس وهو خير لهم واحبوا الاستكانة والخضوع لمن يحاربهم وهو شر لهم، والسبب انهم تعودوا السلام والصبر الي درجة اصبحت خطرا علي وجودهم ودينهم .
الا ان هذا التوضيح القرآني للمؤمنين المسالمين لم يكن كافيا لبعضهم لكي يخرجهم من حالة الخضوع الي حالة الاستعداد لرد العدوان ولذلك فان فريقا منهم احتج على تشريع القتال، ورفع صوته لله بالدعاء طالبا تأجيل هذا التشريع , وفي ذلك يقول الله تعالي (الم تر الي الذين قيل لهم كفوا ايديكم واقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ، فلما كتب عليهم القتال اذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله او اشد خشية ،وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا اخرتنا الي اجل قريب قل متاع الدنيا قليل والاخرة خير لمن اتقي: النساء77).
كانوا في مكة مأمورين بكف اليد عن الدفاع عن النفس اكتفاء باقامة الصلاة وايتاء الزكاة فلما فرض عليهم القتال الدفاعي إحتج فريق منهم وطلب التأجيل , وهذا يدل علي عمق شعورهم بالمسالمة وكراهية الدماء .
9ـ وكانت الغزوات في عهد النبي اكبر دليل علي انحياز المسلمين للسلام وكراهيتهم للحرب الدفاعية التي اضطروا اليها. ونستشهد من خلال القرآن علي موقف المسلمين من ثلاث غزوات :بدر والاحزاب وذات العسرة .
كانت غزوة بدر هي الاولي والاشهر، ولكي نفهم اسبابها الحقيقية علينا ان نعرف معني الايلاف في قريش التي اشارت اليه سورة قريش (لإيلاف قريش ايلافهم رحلة الشتاء والصيف ، فليعبدوا رب هذا البيت الذي اطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ) . لقد تعودت قريش علي رحلتي الشتاء والصيف بين الشام واليمن ، لتنقل التجارة بين الهند والروم. تأتى بضائع الهند الى اليمن فتنقلها قريش الى الشام, ومن الشام تأتى ببضائع الروم الى اليمن, ومن ثم الى الهند. وكان الايلاف يعني خارج مكة تأمين طريق القوافل القرشية بين مكة والشام وبين مكة واليمن ،وكان يعني داخل مكة ان يشترك القرشيون جميعا في تمويل قافلتي الشتاء والصيف وذلك بتقسيم رأس المال الى اسهم وفي نهاية كل عام تحسب ارباح الاسهم ويأخذ كل انسان حصته علي قدر اسهمه .
وبإيذاء المسلمين وطردهم من مكة الي المدينة استولي المشركون علي بيوتهم في مكة ورؤوس اموالهم في قافلتي الشتاء والصيف، ولم يكن المسلمون ليجرءوا علي استرداد اموالهم طالما كانوا يتحملون ضرب عدوهم ،فلما نزل تشريع الاذن بالقتال كان طبيعيا ان يحصلوا علي حقهم من الايلاف بالاغارة علي القافلة التي تتاجر بأموالهم الضائعة ليحصلوا منها علي بعض ما ضاع من حقوقهم ،وجاءتهم البشارة اما بالنصر أوبالحصول علي القافلة. ومع عدالة القضية ووضوحها الا انه عندما نجت القافلة وجاء علي اثرها جيش المشركين ليقاتل الفرقة المسلمة قليلة العدد فان بعض المسلمين حين عرفوا بأنه تحتم عليهم ملاقاة الجيش بدلا من القافلة انزعجوا وخافوا مع ان البشرى لهم بالنصر قائمة طالما فرت القافلة . ولا نجد احسن من وصف القرآن لهذا الفريق الخائف من اهل بدر، يقول تعالي :(كما اخرجك ربك من بيتك بالحق ،وان فريقا من المؤمنون لكارهون، يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون الي الموت وهم ينظرون :الانفال5،6)أي انهم كانوا كارهين للحرب واعلنوا عن موقفهم بالجدال في الحق الذي اصبح واضحا, وعندما تحتم عليهم القتال الفعلي كانوا كأنما يواجهون الموت وينظرون اليه .
وبالمناسبة نذكر ان حديث القرآن عن غزوة بدر يناقض روايات السيرة التي تؤكد خلافا للحقيقة ان جميع المسلمين في بدر تحمسوا للقتال ولم يرتفع صوت واحدبالتردد . ولولا ما ذكره القرآن ما عرفنا حقيقة الموضوع ،وان كانت الثقافة الاسلامية المعاصرة لم تنتبه حتي الان الي هذه الايات وغيرها اذ ان معظم الحقائق الاسلامية غائبة ولاتزال.
وفي غزوة الاحزاب حاصر المشركون المدينة فبلغ الخوف من المؤمنين غايته ،ويكفي ان نتدبر قوله تعالي يصف المؤمنين وقتها(...واذ زاغت الابصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا ،هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا :الاحزاب 10،11)وادي الخوف ببعضهم الي الهرب وتعويق المقاتلين ونشر الاشاعات (الاحزاب 18،19،60)وفي المقابل ظهر المعدن الاصيل لبعض المؤمنين فازدادوا ايمانا وتسليما :ا(الاحزاب 22،33)
وفي غزوة ذات العسرة آخر الغزوات ظل المسلمون حتي ذلك العهد غير متحمسين للقتال ورد الاعتداء مما جعل آيات القرآن اكثر تأنيبا لهم (التوبة 13،16)ومنها قوله تعالي (يا ايها الذين آمنوا مالكم اذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم الي الارض ،التوبة 38 )أي كانوا يتثاقلون اذا جاءهم الامر بالقتال ،أي ان التثاقل ظل معهم من البداية الي نهاية عهد النبي، هذا بخلاف المنافقين , فنحن نتحدث عن الذين آمنوا لنعرف كيف انهم آمنوا بمعني احبوا الامن والامان وكرهوا الحرب والقتال حتي لوكان الحرب والقتال دفاعا ضد عدوان لا ينتهي .
ويكفي ان الله تعالي وصف حرب المشركين لهم بأنها حرب مستمرة تهدف لإرجاعهم الي دين الاباء ،يقول تعالي (ولا يزالون يقاتلونكم حتي يردوكم عن دينكم ان استطاعوا :البقرة 217) و جاء التشريع ليواجة باعداد اقصى قوة ممكنة ـ ليس للاعتداء ولكن لردع اولئك المعتدين وارهابهم حتى لا يفكروا فى الاعتداء. وهى سياسة الردع الوقائى التى ارساها القرآن الكريم وجعلها فى تأكيد السلم والحفاظ علية . ولمزيد من العلم تدبرقولة تعالى" وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون بة عدو اللة و عدوكم.الأ نفال"60" و لاحظ اختلاف مصطلح القرآن عن الارهاب ـ ترهبون ـ عن مفهومة فى عصرنا, ليس فقط فى المفهوم ولكن ايضا فى التشريع , فارهاب العدو المعتدى هنا ليكف عن اعتدائة, اي لارساء السلام وليس لقتل المدنيين المسالمين.
هذا ما كان عليه المسلمون الاوائل ضد مشركي مكة ولكن مالبث ان دخل مشركوا مكة في الاسلام بعد فتحها، وسرعان ما تصدروا جيوش المسلمين في حرب الردة بعد موت النبي ثم تصدروا الجيوش في فتوحات الشام ومصر ثم حكموا البلاد المفتوحة ثم وثبوا على السلطة واقاموا الامبراطورية الاموية بالحديد والنار، وتوارثوا السلطة وبعدها تغير المسلمون، واتسعت الفجوة بينهم وبين الاسلام .
تشريعات الجهاد و القتال في الاسلام :
1- في الاطار السابق نفهم تشريعات الجهاد في الاسلام .
والجهاد في مصطلح القرآن يعني النضال ابتغاء مرضاة الله بالنفس والمال ،وقد يكون ذلك بالدعوة السلمية بمجرد قراءة القرآن كقوله تعالي (فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا :الفرقان 52)وقد يكون الجهاد دفاعا عن النفس وهنا تتوالي تشريعات القرآن لتضع احكامه وقواعده واهدافه .
وعموما فالاحكام في التشريعات القرآنية هي اوامر تدور في اطار قواعد تشريعية ،وهذه القواعد التشريعية لها مقاصد او اهداف ،او غايات عامة ،فالامر بالقتال له قاعدة تشريعية وهوان يكون للدفاع عن النفس ورد الاعتداء بمثله او بتعبير القرآن (في سبيل الله )،ثم يكون الهدف النهائي للقتال هو تقرير الحرية الدينية ومنع الاضطهاد في الدين ،كي يختار كل انسان ما يشاء من عقيدة وهو يعيش في سلام وامان حتي يكون مسئولا عن اختياره امام الله تعالي يوم القيامة .
ونضرب بعض الامثلة :
يقول تعالي (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا ان الله لا يحب المعتدين :البقرة195) فالامر هنا (قاتلوا)والقاعدة التشريعية هي (في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا ان الله لا يحب المعتدين )وتتكرر القاعدة التشريعية في قوله تعالي (فمن اعتدي عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم :البقرة 194)اما المقصد او الغاية التشريعية فهي في قوله تعالي (وقاتلوهم حتي لا تكون فتنة ويكون الدين لله :البقرة 193)أي ان منع الفتنة هي الهدف الاساسي من التشريع بالقتال . والفتنة في المصطلح القرآني هي الاكراه في الدين والاضطهاد في الدين ،وهذا ماكان يفعله المشركون في مكة ضد المسلمين يقول تعالي (والفتنة اكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتي يردوكم عن دينكم ان استطاعوا :البقرة 217).
وبتقرير الحرية الدينية ومنع الفتنة او الاضطهاد الديني يكون الدين كله لله تعالي يحكم فيه وحده يوم القيامة دون ان يغتصب احدهم سلطة الله في محاكم التفتيش واضطهاد المخالفين في الرأي ،وذلك معني قوله تعالي (وقاتلوهم حتي لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله : الانفال 39 ).
والواضح ان هذه التشريعات في القتال في الاسلام تتفق مع مفهوم الاسلام والايمان والمسلم المؤمن ،او بمعني اخر هي تشريعات تؤكد علي السلام وتحميه من دعاة العدوان ،وتؤكد علي حرية العقيدة وتفويض الامر فيها له سبحانه وتعالي يوم القيامة وتحميها من دعاة التعصب والتطرف واكراه الاخرين في عقائدهم واختياراتهم.
ومع وضوح الصلة بين المفهوم الاسلامي والايمان وتشريعات القتال ،الا ان تشريعات القرآن جاءت بتأكيدات اخرى حتى تقطع الطريق علي كل من يتلاعب بتشريعات القرآن ومفاهيمه ،ونعطي لذلك مثالا ساطعا في سورة النساء وهي تتحدث عن حرمة قتل انسان مسالم مؤمن مأمون الجانب ،تقول الاية 92 من سورة النساء (وما كان لمؤمن ان يقتل مؤمنا الا خطأ )أي لايمكن ان يقتل مؤمن مسالم مؤمنا مسالما الا علي سبيل الخطأ، او بمعني اخر لا يمكن ان يتعمد المؤمن المسالم قتل المؤمن المسالم الاخر، ثم تتحدث الاية عن الدية المفروضة واحكامها .
وتتحدث الاية 93 عن عقوبة قتل المؤمن المسالم (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه واعد له عذابا عظيما )فالذي يقتل مؤمنا مسالما جزاؤه الخلود في جهنم مع العذاب العظيم ولعنة الله وغضبه ،وهي عقوبات فريدة قلما تجتمع فوق رأس احد من الناس يوم القيامة .
وتتحدث الاية 94 عن ذلك المؤمن المسالم الذي تحرص تشريعات القرآن علي حقه في الحياة: يقول تعالي (يا ايها الذين آمنوا اذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ،ولا تقولوا لمن القى اليكم السلام لست مؤمنا )أي في ساعة المعركة علي المؤمنين ان يتبينوا حتي لا يقعوا في جريمة قتل انسان مسالم شاء سوء حظه ان يوجد في الميدان. ويعطى القرآن مسوغا للنجاة لكل مقاتل في الجهة المعادية فيكفي ان يقول (السلام عليكم )فاذا القاها حقن دمه واصبح مؤمنا مسالما حتي في ذلك الوقت العصيب ،أي ان المسلم المسالم المؤمن هو من يقول (السلام) حتي في ساعة الحرب واذاتعرض للقتل فان قاتله يستحق الخلود في النار والعذاب العظيم ولعنة الله وغضبه .
و اذا كان محاربا يقتل المسلمين في الحرب ثم بدا له ان يراجع نفسه فما عليه الا ان يعلن الاستجارة ،وحينئذ تؤمن حياته او يعطي الامان، ويسمعونه القرآن حتي يكون سماعه للقرآن حجة عليه يوم القيامة ،ثم علي المسلمين ايصاله الي بيته في امن وسلام، وذلك معني قوله تعالي (وان احد من المشركين أستجارك فأجره حتي يسمع كلام الله ثم ابلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون :التوبة 6)