ملف :- «جعفر بناهى».. عصفور فى قفص «أحمدى نجاد»

في الإثنين ٢٧ - ديسمبر - ٢٠١٠ ١٢:٠٠ صباحاً

«٦ سنوات سجنا، و٢٠ عاما يمنع خلالها من كتابة السيناريوهات أو إخراج الأفلام والاقتراب من صناعتها بأى شكل من الأشكال، وأيضا يمنع من مغادرة البلاد، وكذلك الإدلاء بأية تصريحات أو عقد أى لقاءات مع وسائل الإعلام الإيرانية والأجنبية».. حكم واضح وصريح فى التعبير عن تقييد الحريات ووأد أى محاولات للديمقراطية فى ظل حكم الرئيس الإيرانى محمود أحمدى نجاد، ورغم أن الحكم صادر ضد جعفر بناهى المخرج السينمائى،

وليس قائدا لانقلاب عسكرى مثلا، فإن النظام الإيرانى أكد من خلاله أنه لا يعترف بالإبداع أو صناعة السينما أو أى شكل من أشكال التعبير عن الرأى والديمقراطية التى رأت كثير من وسائل الإعلام العالمية أن ٢٠١٠ عام اغتيالها فى إيران بصدور هذا الحكم القاسى الذى يلزم أحد أبرز رموز وصناع السينما فى العالم بالابتعاد طيلة ٢٦ عاما عن محبوبته الأولى (السينما)..

والتى تغلغل فى صناعتها منذ أن كان صبيا فى العاشرة من عمره، وقضى ٤٠ عاما حتى الآن فى عشقها وممارستها. تقديرا لهذا الفنان وإنجازاته فى التعبير عن آرائه رغم محاولات التعتيم وتقييد حريته.. تلقى «المصرى اليوم» قليلا من الضوء على مشوار جعفر بناهى الذى اكتفى بالتعبير عن تمسكه بـ«الصبر والإرادة» تعليقا على هذا الحكم.

٢٦ عاما فى قبضة النظام.. والتهمة: الدعاية ضد الجمهورية الإسلامية

 
المخرج الإيرانى جعفر بناهى

فى أوائل مارس الماضى، اعتقلت القوات الإيرانية المخرج «جعفر بناهى» وزوجته وابنته فى موقف وصف بأنه لتقويض الحركة الخضراء المعارضة للرئيس الإيرانى محمود أحمدى نجاد، وسبق ذلك رفض السلطات منحه تصريحا للسفر إلى ألمانيا لحضور فعاليات مهرجان «برلين» السينمائى الدولى، وهو الرفض الذى اعتبره كثير من المحللين السياسيين أمرا بات معهودا فى إيران ويمارس ضد الفنانين هناك، ونفذ من قبل مع كثير منهم وكان آخرهم الممثلة «فاطمة معتمد آربا» التى منعت من السفر للعمل فى هوليوود، بدعوى أنها «تمثل دون حجاب»، وأيضا مع مخرجين بحجة عدم حصولهم على تصاريح لتصوير الأفلام وعلى رأسهم «باهمان جوبادى» وغيره،

فى خطوة حللت بأنها محاولة من النظام الإيرانى للتصدى لسطوة السينمائيين الإيرانيين الذين وجدوا متنفسا لهم فى المهرجانات الدولية الكبرى ونجاحهم والفوز بجوائزها عن أفلام معارضة للنظام وكاشفة لممارساته القمعية خاصة بعد الثورة الخضراء التى اجتاحت المجتمع هناك عبر الاحتجاجات والمظاهرات بعد فوز نجاد بفترة رئاسية ثانية، وهذا ما دعا مستشار الرئيس الإيرانى للشؤون الفنية للتصريح بأن «إيران ستقاطع المهرجانات الغربية إذا تحولت إلى مناسبة لعرض النشاطات الهدامة ضد الحكومة»، على حد وصفه، وذلك تعليقا على عرض بعض الأفلام مؤخرا فى عدد من المهرجانات مثل «الأيام الخضراء» لـ«حنا مخملباف» الذى يرصد مظاهرات الشارع الإيرانى التى تلت إعلان النتائج فى يونيو الماضى، و«تهرون» لـ«نادر همايون» الذى يبرز الجانب المظلم لطهران وانتشار العاهرات والشحاذين ومروجى المخدرات فيها.

الغريب أن المسؤولين عن الثقافة فى الحكومة الإيرانية يحاولون إظهار نوايا حسنة «مصطنعة» عن معاملة أفضل للسينمائيين فى الفترة المقبلة، فقد أعلن المعاون الجديد لوزير الثقافة والإرشاد الإسلامى للشؤون السينمائية عن نيته تأسيس مجلس أعلى للسينما يقع تحت إدارة رئيس الجمهورية مباشرة ويكون الهيئة العليا التى تحدد السياسة الرئيسية فى الشؤون السينمائية، وتخول إعطاء تصاريح الإنتاج والعرض، كما أكد قرب عقد لقاء مع صناع السينما المستقلة الذين كانوا قد عبروا فى رسالة جماعية عن قلقهم لما آلت إليه أحوال ذلك النوع الذى صنع شهرة للسينما الإيرانية عالميا، كما استنكروا القيود المفروضة عليها وظروف عرض أعمالهم فى إيران والرقابة التى تخضع لها ومنعها.

تأتى هذه التصريحات بعد مقاطعة عدد من الفنانين لمهرجان الفيلم الوثائقى مؤخرا فى إيران احتجاجا على القيود التى تحملها مخرجو الأفلام الوثائقية لنقل صورة حقيقية عما جرى بعد الانتخابات الرئاسية، وكان أبرزهم «رخشان بنى اعتماد» التى قدمت فيلمها «نحن نصف المجتمع الإيرانى» عن حملة الانتخابات الرئاسية، وتتحدث خلاله مع المرشحين عن خططهم بخصوص وضع المرأة الإيرانية.

ورغم هذه الظروف القمعية، لم يخش «بناهى» من إظهار مواقفه المعارضة لنجاد وممارساته، وكان قد أعلن عن تقديمه فيلما عن مظاهرات الاحتجاج على إعادة انتخاب نجاد رئيسا للمرة الثانية فى يونيو قبل الماضى، وكشف عن تأييده خصم نجاد ومنافسه المعتدل «مير حسين موسوى» الذى كان رئيسا للوزراء، واعتبرته الحكومة وقتها من أبرز معارضيها، حيث اعتقلت السطات الأمنية «بناهى» وزوجته وابنته من منزلهم فى مارس الماضى.

كان ذلك الاعتقال للمرة الثانية، فقد اعتقل «بناهى» فى يوليو ٢٠٠٩ عقب مشاركته فى حفل تكريم «ندا أغا سلطان» الشابة الإيرانية «شهيدة الحجاب» التى قتلتها الحكومة الإيرانية أثناء مظاهرات الاحتجاج على إعادة انتخاب نجاد رئيسا للمرة الثانية فى يونيو ٢٠٠٩، وكان «بناهى» قد توجه بصحبة مجموعة من المعارضين لزيارة قبر «ندا»،

كما شارك فى مهرجان «مونتريال» بوشاح أخضر على كتفيه كرمز للثورة الخضراء المعارضة لنجاد، وهو ما رأته الحكومة الإيرانية تعبيرا خطيرا عن موقفه، وأفرج عنه، لكن تم التحفظ على جواز السفر الخاص به، وحين توجه للحصول على تصريح للسفر إلى «برلين» فى فبراير الماضى للمشاركة فى المهرجان الذى عقد فعالية لتكريم السينما الإيرانية تحت عنوان «السينما الإيرانية»: الحاضر والمستقبل.. توقعات داخل وخارج إيران»،

رفضت السلطات منحه التصريح، ثم ألقت القبض عليه أوائل مارس. قضى «بناهى» ما يزيد على شهرين فى المعتقل فى ظروف سيئة، فقد تم الإفراج عن زوجته وابنته، لكن لم يسمح لأحد حتى عائلته أو محاميته بزيارته حتى ١٨ مارس الماضى، وهدد «بناهى» بالإضراب عن الطعام فى حال استمرار تلك الظروف التى وصفتها زوجته «طاهرة سعيدى» لوكالات الإعلام بعد السماح لها وابنتهما بزيارته فى محبسه، حيث صرحت لوكالة الأنباء الفرنسية بأن زوجها لم يجهز أى فيلم عن الانتخابات، مؤكدة أنه صور لقطات داخل منزله ولا تقترب بأى شكل من النظام الإيرانى.

منع الحبس «بناهى» من المشاركة فى عضوية لجنة تحكيم المسابقة الدولية لمهرجان «كان»، وهو ماعلق عليه وزير الثقافة الفرنسى «برنار كوشنير» وقتها فى بيان أصدره: «شعرنا بالندم لعدم تواجد بناهى، لكن مقعده فى لجنة التحكيم ترك خاليا تكريما له، ونأمل أن يعود لنشاطه لنحتفى جميعا بالسينما الإيرانية».

لم يكن موقف وزير الثقافة الفرنسى هو الوحيد الداعم لصانع الأفلام الشهير، بل دعمه أيضا عدد من زملائه من السينمائيين العالميين وأعضاء رابطة المخرجين الأمريكيين، فخلال فترة اعتقاله أصدروا التماسا موقعا بأسمائهم إلى الحكومة الإيرانية للإفراج عن «بناهى»، ومن بينهم «روبرت دى نيرو» و«فرانسيس فورد كوبولا» و«ستيفن سبيلبيرج» و«مارتن سكورسيزى» و«جوليت بينوش» و«مايكل مور» و«أنج لى» و«كين لوتش»، كما قدم ٥٠ من زملائه الإيرانيين التماسا بالمعنى نفسه منهم «أشجار فرهادى» و«فاطمة معتمد آريا» و«عباس كياروستامى»، إلى جانب التماسات من عدد من إدارات المهرجانات الدولية والاتحادات السينمائية مثل «برلين» و«تورنتو» و«كارلو فيفارى».

تم الإفراج عن «بناهى» فى ٢٥ مايو الماضى بكفالة ٢٠٠ ألف دولار، مع التأكيد على أنه سيخضع لمحكمة الثورة، وهو ما حدث ليصدر ضده هذا الحكم القاسى الذى يعتقل بموجبه ٦ سنوات، وبعدها يبقى ٢٠ عاما دون مغادرة البلاد ودون صناعة الأفلام، أو عقد أى حوارات أو لقاءات مع الإعلام، أى يخرج من السجن ليسجن مجددا لما تبقى من عمره الذى تجاوز الخمسين حتى الآن، وفى حيثيات مقتضبة للحكم ذكرت محكمة الثورة فى بيان صادر عنها «هذا الحكم ضد جعفر بناهى بسبب التجمهر والتواطؤ وتوافر نية ارتكاب جرائم ضد الأمن القومى فى البلاد والدعاية ضد الجمهورية الإسلامية».

 

ردود فعل الإعلام الغربى على سجن مخرج «أوفسايد»
 

 

أثار الحكم عاصفة من الاستهجان فى وسائل الإعلام العالمية المختلفة، والتى أجمعت على ضرورة انتهاز فرصة تزامن صدوره مع الاستعداد لموسم توزيع الجوائز السينمائية الكبرى، مثل «سيزار» و«أوسكار» و«بافتا» و«جولدن جلوب» وحتى «الرازى» رغم أنها مخصصة لتوزيع جوائز أسوأ الأعمال والنجوم خلال العام، ودعوة جميع السينمائيين للتذكير باسم بناهى وما حدث له، وخاصة لحظة تسلمهم جوائزهم حين تكون عدسات وكاميرات المصورين كلها مركزة عليهم، حتى يظل حاضرا فى أذهان الإعلام ولا ينسى فى ظل تواجده فى قبضة النظام الإيرانى.

واللافت للانتباه أن بعض وسائل الإعلام خاصة الأمريكية لم تمنح خبر الحكم على بناهى الأهمية الكافية، فجاء ضئيلا، وكذلك المتابعة والتغطية الخبرية له مثل الأخبار السابقة عن اعتقاله، والإفراج المؤقت السابق عنه فى مايو الماضى، فى الوقت الذى يتصدر فيه أى خبر رغم تفاهته النشرات الفنية على المواقع والصحف الأمريكية، وهو ما دفع موقع «statescene» للتأكيد على أن بناهى من الفنانين المحاصرين الذين قلما يهتم الإعلام الأمريكى بهم،

 رغم أهميتهم على خريطة السينما العالمية والتأثير الكبير الذى أحدثوه بها، وأشار الموقع إلى واقعة سابقة حدثت مع بناهى حين حاول الهجرة من هونج كونج إلى الولايات المتحدة عام ٢٠٠٣، حيث أراد المسؤولون الأمنيون عن شؤون المهاجرين فى مطار «جى إف كى» تصويره والحصول على بصمات أصابعه (تفييشه)، لحين السماح له بالدخول فرفض رغم وضع الأصفاد الحديدية فى يديه، وتم إرجاعه إلى هونج كونج.

لكن الصحف الكبرى فى الولايات المتحدة اهتمت بإبراز حزنها على سجن بناهى، وتساءلت صحيفة «الاندبندنت»: ما الجريمة التى ارتكبها بناهى؟ هل هى العمل على صناعة فيلم عن الانتخابات الرئاسية العام الماضى؟ إذن كان يمنع الفيلم من الخروج إلى النور، لا مخرجه نفسه»، وعلقت مجلة «تايم»: «أن يحكم على صانع أفلام بعدم العمل كأنه يسجن تماما، وإن خرج من السجن الصغير إلى سجن أكبر»، وهى التعليقات نفسها التى أدلى بها بناهى لوكالة الأنباء الفرنسية عقب صدور الحكم، وربما تكون الأخيرة وفقا لما تلزمه به السلطات الأمنية لحين استئناف الحكم على يد محاميته فريدة خيرت.

وقد اهتم الإعلام بخبر الحكم على بناهى بشكل أكبر من زميله محمد رسولوف الذى صدر ضده هو الآخر حكم بالسجن لمدة ٦ سنوات، لكن شهرة «بناهى» وتأثيره رجحت كفة الاهتمام به أكثر، خاصة أن النظام اعتبره الرأس المدبر الذى كان يجهز لفيلم عما بعد الانتخابات بمعاونة رسولوف.

تعلم صناعة الأفلام فى العاشرة.. وفاز بـ«الكاميرا الذهبية» فى «كان» عن أول أفلامه «البالون الأبيض»

 

 
لقطة من فيلم «الذهب القرمزى»

فى العاشرة من عمره، ألف جعفر بناهى، كتاباً حصل عنه على جائزة إحدى المسابقات الأدبية، وفى العمر نفسه تقريبا بدأ يتشرب صناعة الأفلام، فعمل فى التمثيل والتصوير والمساعدة فى إخراج أفلام بعض المخرجين، كما صنع أفلاما على شرائط ٨ مللى الأصغر حجما فى الشرائط السينمائية والمعروفة باستخدام الهواة لها، وفى فترة خدمته فى الجيش الإيرانى خلال الحرب الإيرانية العراقية (١٩٨٠/١٩٨٨) صور بناهى فيلما وثائقيا عن تلك الحرب.

مع إتمامه دراسته فى كلية «السينما والتليفزيون» بالعاصمة الإيرانية طهران، أخرج «بناهى» العديد من الأفلام للتليفزيون الإيرانى، وكانت النقلة المهمة فى حياته حين عمل مساعدا للمخرج الإيرانى الشهير «عباس كياروستامى» فى فيلمه «عبر أشجار الزيتون» عام ١٩٩٤، ليتتلمذ على يد واحد من أبرز المخرجين فى العالم، وتثمر علاقة التلميذ بأستاذه عن أول أفلامه «البالون الأبيض»، الذى أخرجه «بناهى» عن سيناريو «كياروستامى»، واستقبله الوسط السينمائى بحفاوة بالغة، فقد أثبت خلاله موهبته،

 وأشاد النقاد وزملاؤه من كبار مخرجى السينما العالميين بمستواه الفنى المميز، وحصل على جائزة الكاميرا الذهبية فى مهرجان «كان»، كما اختارته كثير من الصحف الكبرى وعلى رأسها «الجارديان» ضمن قائمتها لأفضل ٥٠ فيلما فى تاريخ السينما، ويتناول الفيلم قصة فتاة صغيرة فى إيران ترغب فى شراء سمكة زينة صغيرة احتفالا بالعام الجديد، لكن والدتها ترفض لحاجتها إلى المال، ومع إلحاح الصغيرة وشقيقها تضطر لتلبية طلبها، وأثناء رحلتها لشراء السمكة تفقد المال، فتضطر للعودة للبحث عنه، وأثناء تلك الرحلة يعرى بناهى الكثير مما يحدث فى المجتمع الإيرانى وخاصة ما يعيشه الفقراء.

فى عام ٢٠٠٠ قدم بناهى تحفته الثانية «المرآة» التى حصل عنها على الجائزة الذهبية فى مهرجان «لوكارنو» و«الأسد الذهبى» فى «فينيسيا» إلى جانب جائزة «فيبرسى» (الاتحاد الدولى للنقاد) فى مهرجان «سان سباستيان»، وخلاله وجه لطمة قوية للنظام والمجتمع الإيرانى معريا أوضاع المرأة الإيرانية، حيث قدم ٧ نماذج لنساء خرجن من السجن، كل منهن لها ظروف مختلفة لسبب سجنها، وكل منهن تلقى معاملة سيئة مختلفة بعد الإفراج عنها، لكنهن يتفقن فى الوضع المتدنى للمرأة فى أى مكان فى إيران، والتى يعاملها الرجال بازدراء.

توالت خبطات بناهى السينمائية التى ينتقد من خلالها النظام الإيرانى والمجتمع القائم على التشدد وغياب الديمقراطية، فقدم فى عام ٢٠٠٣ فيلم «الذهب القرمزى» والذى عاد خلاله للتعاون مع أستاذه «عباس كياروستامى»، حيث كتب له السيناريو، وحصل عنه على جائزة لجنة التحكيم فى قسم «نظرة خاصة» فى مهرجان «كان».

وفى عام ٢٠٠٦، شارك «بناهى» بفيلمه «أوفسايد» فى مهرجان «برلين»، حيث حصل على جائزة لجنة التحكيم الكبرى (الدب الفضى)، واستمر خلاله فى رصد أوضاع المرأة التى تمنع حتى من حضور مباريات كرة القدم، فتتسلل مجموعة من البنات لمشاهدة إحدى المبارايات فى الاستاد، متنكرات فى ملابس رجال.

اجمالي القراءات 5672