الفصل الخامس : تحقيق النظرية الخلدونية فى الدولة السعودية الأولى (1158-1233 /1745 –1818 )
تحقيق ( النظرية الخلدونية )على ( نجد ) قبل قيام الدولة السعودية

آحمد صبحي منصور في الإثنين ١٢ - أكتوبر - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً

تحقيق ( النظرية الخلدونية )على ( نجد ) قبل قيام الدولة السعودية

كتاب مقدمة إبن خلدون: دراسة تحليلية 

  القسم الثاني : قراءة في مقدمة إبن خلدون   

 الفصل الخامس : تحقيق النظرية الخلدونية فى الدولة السعودية الأولى (1158-1233 /1745 1818 ): 

 

  تحقيق ( النظرية الخلدونية )على ( نجد )  قبل قيام الدولة السعودية.

اولا : كيف تحدث إبن خلدون عن العصبية القبلية والصراع القبلي والسياسي  في نجد؟

مع أن إبن خلدون لم ير صحراء نجد إلا أن خبرته التاريخية ومعيشته مع القبائل في الصحراء الكبري في شمال أفريقيا المماثلة لصحراء نجد جعلت رؤيته تنطبق على نجد ،ليس فقط في عصره في القرن الثامن الهجري ،ولكن أيضا قبيل وأثناء نشأة الدولة السعودية الأولى في منتصف القرن الثاني عشر الهجري .

ونتتبع رؤية إبن خلدون على النحو الآتي :

بين الوحشية والقوة الحربية :

في البداية يضع إبن خلدون قاعدة هامة تقول أن نوعية الحيوان تحدد درجة التحضر لدي الرعاة ومدي تنقلهم ،فرعاة البقر والغنم لا ينتقلون كثيرا ولا يبتعدون عن المدن الحضارية ،أما رعاة الإبل فهم الأكثر والأبعد في التنقل ،حيث يمكن للإبل تحمل العطش والتوغل في الصحراء ،وحيث أن العرب قد تخصصوا في الإبل فقط فقد كانوا أكثر توغلا في الصحراء ،وأشد بأسا ،وأشد توحشا حسب قوله - .

ويربط إبن خلدون بين الوحشية أو (البأس ) والقدرة الحربية للقبيلة ،فيقول (إن أهل البداوة أكثر شجاعة وأقدر على هزيمة أهل الحضر ،ومن كان أعرق في البداوة والتوحش ،كان أقدر على التغلب على من سواه من القبائل التي تعيش بجانب المدن الحضارية ،وتزول عنها خشونتها واستبسالها ،واستشهد إبن خلدون بتغلب قبائل مُضَرْ الصحراوية على قبائل ربيعة التي استوطنت أرياف العراق ،ويؤكد على أنه إذا كانت الأمة وحشية (أي باسلة )كان ملكها أوسع [3].

رحلة الليدي آن تؤكد رؤية إبن خلدون :

وما قاله إبن خلدون ينطبق على نجد إذ أنه بعد خمس قرون نرى صدى الرؤية الخلدونية يتردد عبر مشاهدات وملاحظات الليدي آن في رحلتها (1297 هـ 1879 م) إذ تتحدث عن قبائل نجد التي تتجول في صحراء النفوذ وتسيطر على الطرق المؤدية للمدن وهم ميالون للحرب بطبيعتهم ،وتصف جبل شمر بأنها من أقفر الصحاري ،وتصف سكان القبائل بأنهم أشرس من في العالم ،ومع ذلك فإنها الأكثر أمنا بسبب سيطرة الأمير محمد بن الرشيد على المنطقة ،وهذا الأمير الذي قابلته الليدي آن ووصفته بدقة يحرص على خشونته البدوية ، إذ  يترك عاصمته ليقضي في الصحراء وقتا طويلا مع البدو،يعيش معهم مثلهم ، يخلع نعليه وكل ترف المدينة ويجوب معهم صحراء النفوذ ،ويفعل هذا في فصل الربيع وهو فصل الحروب ،وعندما تبلغ حرارة الصيف مداها يعود إلى حائل،وفي حائل يحرص إبن الرشيد على أن لا ينسيه ترف المدينة خشونة الصحراء ،لذا يشارك بنفسه في التدريب العسكري .وقد وصفت الليدي آن معركة مصطنعة أو مناورة حربية يشارك فيها إبن الرشيد بنفسه حيث كان يندفع كالآخرين وينسى هيبته وطباعه المدنية ويصبح بدويا حاسر الرأس تسيل ضفائره البدوية في الريح حافي القدمين عاري الساعدين ، يعدو هنا وهناك ، يطارد الآخرين ويطاردونه ،في معركة أو مناورة حربية كان فيها مثل أي شخص آخر من أتباعه [4] وبهذه الخشونة البدوية إتسع سلطان إبن الرشيد حيث لم يكن يملك دعوة دينية تمكنه من التوسع .

بين العصبية والقبلية :

يري إبن خلدون أن الأعراب يعيشون مع الإبل في تنقل داخل الصحراء لا يختلطون بغيرهم ،لذلك تظل أنسابهم نقية محفوظة ،أما عرب التلال القريبة من المدن فتختلط أنسابهم .وفي عرب الصحراء توجد أنساب خاصة أشد تماسكا من النسب المشترك العام ،وفيه تنحصر الرياسة ،وفيه توجد العصبية ،أو القلب التي تتجمع حوله باقي الأنساب ،ويحظي بانتماء باقي القبيلة إليه ،وهذا القلب هو موضع الرياسة أو الشرف .ويؤكد إبن خلدون على أن العصبية هي أساس حماية القبيلة وتماسكها ،لذا يقول أنه لا يسكن الصحراء إلا أصحاب النسب الواحد ،وتصبح العصبية أساس الحماية للدعوة السياسية أوالدينية ، خصوصا في قيامها على الإلتحام بالنسب والدفاع عن الأهل والعشيرة .

بين العصبية والملك :

ويري إبن خلدون أن العصبية تكون بها النصرة والحماية ،والبشرفي إجتماعهم يحتاجون إلى من يقوم بنصرة الضعيف ،أي يحتاجون إلى حاكم ،فلا بد للحاكم على عصبية تعينه على هذه المهمة ويتغلب بها على الناس ،وهذا التغلب هو الملك . وهكذا فالملك هو غاية العصبية ،وإذا بلغت العصبية قوتها حازت الملك ،إما بالإستبداد أو بمناصرة الملك المستبد والعمل معه. ويعطي إبن خلدون تفصيلات أكثر في أثر العصبية القبلية في تكوين الملك والدولة ،فيقول أنه في القبيلة الواحدة تتعدد العصبيات ويستلزم الأمر وجود عصبية أقوى تتغلب على الجميع وتلتحم بها كل العصبيات الأخرى ،وإلا وقع الإختلاف ، فإذا اشتدت عصبية القبيلة تطلعت إلى السيطرة على قبيلة أخرى أو عصبية أخرى ،فيحدث الإقتتال ،فإن غلبتها إلتحمت بها واتحدت معها ،وتضاعف طموحها ،وهكذا إلى أن تصبح دولة .وهكذا تؤدي العصبية القبلية إلى تكوين دولة يحكمها أمير أو ملك على أساس القوة أو القهر .

وبالتالي فإذا كانت العصبيات القبلية متكافئة إستحكم بينها الصراع القبلي ،وانتشر معه الدمار وسفك الدماء ،خصوصا مع قبائل شديدة البأس ،أو شديدة الوحشية حسب التعبير الخلدوني .وهنا نري أن إبن خلدون يتحدث على أن العرب إذا تمكنوا من أوطان أسرع أليها الخراب ،وهذا يعني أن تلك القبائل البدوية الصحراوية في تنافسها الصحراوي لاتجد ما تدمر ،حيث يعيشون في خيام ،أما إذا اشتد التنافس إلى السيطرة على المدن وتمكنوا من اقتحامها ،فإنه سرعان ما يصيبها الخراب [5].

 

ثانيا :مدي إنطباق الرؤية الخلدونية علي أحوال نجد قبيل وأثناء نشأة الدولة السعودية الأولي :

 

أدت الفتوحات العربية إلى تحرك الكثير من قبائل نجد من الجزيرة العربية ،إما على هيئة جنود في الجيوش أو كمجموعات إستقرت في البلاد المفتوحة .ومن هنا إختفت قبائل أسد وطيئ ،وبكر بن وائل،واستقر معظمها في العراق وسوريا .وفي منتصف القرن الثاني عشر الهجري حين ظهرت الدولة السعودية الأولى كان أهم القبائل في نجد هي عنزة وشمر والدواسر وسبيع وتميم وقحطان وظفير والصلة ،ويجاورهم في الأحساء آل مطير وبنو خالد والمناصير وعدنان وآل مرة وبني ياسر والعوازم والرشايدة [6].

ويمكن ترتيب العشائر والقبائل النجدية بوجه عام كالآتي:في الشمال شمر ،في الشمال الغربي عتيبة ،وفي الشمال الشرقي عنزة وحرب ،وفي الغرب سبيع ،وفي الشرق آل مرة وبنو خالد والعجمان وفي الجنوب والجنوب الشرقي قحطان .

والصراع لم يكن يتوقف بل كان يمتد داخل القبيلة الواحدة بل داخل البيت الحاكم فيها ،حيث يتقاتل أبناء العم والإخوة ،ويقتل الإبن أباه ،,قد أورد الشيخ إبراهيم إبن صالح بن عيسى في كتابه (تاريخ بعض الحوادث الواقعة في نجد ) الكثير من النماذج منها أن موسى بن ربيعة يحتال على قتل أبيه ربيعة بن مانع المريدي ويجرحه جراحات خطيرة ،ولكن يفلت الأب ويلجأ إلى رئيس العيينة يطلب حمايته ،ثم يندفع موسى بجنوده من المردة والموالفة ويهجم بهم على آل يزيد في النعيمة والوصيل ويقتل منهم أكثر من ثمانين رجلا ويستولي على منازلهم ويدمرها ،ويضرب في نجد بذلك المثل (صبّحهم فلان صباح الموالفة لآل اليزيد ) .ويزحف عريعر بن دجين على بريدة وعنيزة وينتصر عليهما ، ولكنه يموت بعد شهر فيتولى إبنه بطين ،فيقتله أخواه سعدون ودجين ،ويتولى دجين فيقتله سعدون .وفي 1081  تقع معركة الملتهبة وموقعة أكيتال بين قبائل الظفير والفضول ،وأمثلة أخرى عديدة للغارات على عنيزة والعيينية .[8]

وفي كتابه الذي تتبع به مدينة الرياض منذ أن كان إسمها حجر ،يذكر الشيخ حمد الجاسر نماذج للصراع القبلي الذي دار فيها وحولها، ونأخذ منها أمثلة سريعة : ففي عام 1033 قُتلَ أولاد مفرج بن ناصر صاحب بلدة مقرن ، وفي 1037 إستولى عليها آل مديرس ، وفي سنة 1056 مقتل محمد بن مهنة أمير مقرن ، ثم حكمها أبو زرعة 1099 ،وأطلق على مقرن إسم الرياض سنة 1049 ، واستمر آل زرعة يحكمون الرياض إلى أن  إستولى دهام بن دواس عليها وحكمها ثلاثين عاما ، ودخل في حروب مع آل سعود فيما بين 1159 : 1187 ، وحدثت فيها خمسة وثلاثون معركة، وكان ضحاياها من الفريقين حوالي  أربعة آلاف [9].

وظلت هذه هي طبيعة المنطقة بعد سقوط الدولة السعودية الأولى  ثم فى الدولة السعودية الثانية ودخول آل سعود في فترة الحروب الأهلية فيما بينهم  ،وبروز قوة محمد بن الرشيد . وتذكر الليدي آن بلنت سيرة آل الرشيد ووصول محمد بن الرشيد للحكم واغتياله للأمير محمد بن متعب ،وهو  إبن أخيه ،وبعد أن قتله إستولى على القلعة ،وقتل أطفال محمد بن متعب ،وجميع أبناء عمه ،وانفرد بالحكم [10].

وفي خلال هذا الصراع الذي يتسع بين القبائل ويضيق ليصل  إلى أبناء البيت الواحد ،لابد أن يصحبه الدمار ،ولعل ما أصاب مدينة الرياض على مر تاريخها خير شاهد على ذلك [11].

وبهذا تنطبق آراء إبن خلدون على منطقة نجد سكانها وحواضرها ،فإلى أي حد تنطبق على الدولة السعودية الأولى ؟.

اجمالي القراءات 9924