كان إبن خلدون في مصر، فهل كانت مصر في إبن خلـدون ؟
فى تفسير موت ابن خلدون الغامض : هل تآمر إبن خلدون على دولة المماليك ؟

آحمد صبحي منصور في الأربعاء ٠٧ - أكتوبر - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً

فى تفسير موت ابن خلدون الغامض : هل تآمر إبن خلدون على دولة المماليك ؟

كتاب مقدمة إبن خلدون: دراسة تحليلية 

  القسم الثاني : قراءة في مقدمة إبن خلدون   

الفصل الرابع :   كان إبن خلدون في مصر، فهل كانت مصر في إبن خلـدون ؟

أولا

1 ـ ــ في البداية فإن إنشغال إبن خلدون في التآمر هو التفسير المنطقي لسكونه العلمي، فقد ودّع نبوغه العبقرى فجأة وهو فى مصر حيث كان متوقعا أن يتفرغ للإبداع . بل من الغريب اختفاؤه بين سطور التاريخ المصرى بما لا يناسب قامته الفكرية وقربه من أهل الحكم فترة حياته في مصر ، وهذا بعد حياة حافلة بالإنجاز العلمي والتفاعل السياسي المتوهج . الانشغال بتحقيق هدف كبير هو التفسير المقبول لتوقف الابداع الخلدونى وأيضا التوقف ( المعلن ) لنشاطه السياسى الذى كان محور حياته من قبل . ونعيد القول بأنه من  الغريب أن حياةإبن خلدون في مصر قد تحولت إلى سكون عجيب لا يتفق مع خضم الصراعات التي نشأت عليها أسرته ، والتي إنطبع بها تاريخه الشخصي خلال(31 )عاما ، فهل نتصور أن يحدث هذا من إبن خلدون في مصر المملوكية والتي يتاح فيها المجال للتآمر لكل قادر عليه ، خصوصا وأنه حين وصل إلى مصر في الثانية والخمسين من عمره كان أستاذا في التآمر ؟

2  ـ اللمحات القليلة التي ظهر فيها إبن خلدون بين سطور التاريخ المصري في هذه الفترة ( 784 ـ 808 ) المليئة بالتآمر كان  فيها تأثيره كبيرا وواضحا ، وذلك مثل إتصاله السريع بالسلطان برقوق بمجرد وصوله للقاهرة ، وهذا لا يتأتى بسهولة لأى قادم لمصر ، وعلى مبلغ علمنا لم يحدث لأى فقيه أورحالة مغربى قادم لمصر أن تتيسّر له صلته بالسلطان ،وأن تتيسر له سُبُل المعاش والرعاية بسرعة . ثم هذه الصداقة  السريعة مع السلطان برقوق ، وهوأحد كبار المتآمرين في العصر، ثم العلاقة الغامضة بين إبن خلدون و الأمير يلبغا الناصري الذي نجح في إزاحة برقوق من السلطة ، ثم عودة العلاقات إلى مجاريها  بسرعة بين إبن خلدون والسلطان برقوق بعد عودة برقوق إلى السلطة ، ثم تلك الغرابة فى مسلك السلطان برقوق الذى إنتقم من كل من خانه ما عدا إبن خلدون ، ثم مقتل أحد خصوم إبن خلدون بعد أن دبر مكيدة لعزل إبن خلدون وسجنه، وذلك بعد موت برقوق ، واللقاء الذي تم بين إبن خلدون وسفاح عصرهتيمورلنك حين كان يحاصر دمشق.

4 ــ الأهم من ذلك كله والأغرب،  هى تلك العلاقة الغامضة بين إبن خلدون وتلميذه المجهول الأمير سعد الدين إبراهيم المعروف بإبن غراب ، ذلك الشاب الذي وصل إلى قمة النفوذ فى شبابه المبكر ، وذلك بتخطيط عبقري لا نتصور صدوره منه. هو نفس الشاب الذي تلاعب بالسلطة المملوكية في عصر أبناء برقوق فعزل الناصر فرج بن برقوق وعين أخاه عبد العزيز ،ثم عزل عبد العزيز وأرجع الناصر فرج ،

يقول المقريزى عن هذا الشاب المصرى( الأميرسعد الدين إبراهيم المعروف بإبن غراب ) وتلاعبه بالسلاطين من أبناء برقوق:( اقام دولة ثم ازال دولة ،ثم اقام ما ازال وازال ما اقام من غير حاجة او ضرورة الجأته الى ذلك ، وانه لو شاء اخذ الملك لنفسه)، كلام هائل من شيخ المؤرخين المصريين الذى كان شاهدا على عصره . هذا الشاب المصرى كاد يتولى السلطة بنفسه ليكون أول مصري يتولى السلطة بعد الفرعون أبسماتيك ، لولا أنه مات فجأة يوم 19 رمضان سنة 808 ،ثم مات أستاذه المجهول فجأة أيضا يوم 26 رمضان سنة 808 ، أي بعد أسبوع . وبالمناسبة فهذا الأستاذ المجهول هو إبن خلدون . يقول المقريزى فى وفيات شهر رمضان 808 : ( شهر رمضان، أوله الأحد:.. وفي تاسع عشره: مات سعد الدين إبراهيم بن غراب .  ومات عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن خلدون أبو زيد ولي الدين، الحضرمي، الأشبيلي، المالكي، في يوم الأربعاء خامس عشرين شهر رمضان فجأة، ولي المالكية عدة مرار.ومات إبراهيم بن عبد الرازق بن غراب، الأمير القاضي سعد الدين بن علم الدين ابن شمس الدين، في ليلة الخميس تاسع عشر شهر رمضان، ولم يبلغ الثلاثين سنة. ).

من المستحيل فى رأينا ، ومن واقع التخصص فى العصر المملوكى أن يصل شاب مصرى ـ من أصل قبطى ـ  غير عسكرى الى موقع يتحكم فيه فى السلاطين المماليك إلا إذا كان وراءه عقل جبار متمرس فى فن التآمر . وهذا العقل هو ابن خلدون.

ثانيا : استاذ التآمر ( ابن خلدون ) فى عاصمة التآمر ( القاهرة المملوكية )

1 ــ والعادة أنه فى حلبة التآمر فى الدولة المملوكية قد يصل المتآمر الى السلطة وقد يصل الى الموت.

2 ـ المناخ فى العصر المملوكى كان جاهزا للتآمر فى كل وقت ، لأن التآمر كان هو العملية السياسية المُتاحة للترقى وللوصول الى الحكم ، والاحتفاظ به . إن مفتاح الشخصية المملوكية – كنظام سياسي – هو المساواة بينهم جميعا في الأصل والنشأة والتفاضل بينهم يكون بالمقدرة القتالية والدهاء السياسي ، فكلهم جيء به من بلاده الأصلية رقيقا لينخرط في سلك المماليك ثم ليتدرج بكفاءته السياسية والحربية حتى يصل إلى السلطنة ، ولا عبرة إلا بملكات المملوك وقدراته. لذا نجد بعض الغرائب ؛ فالظاهر بيبرس كان في الأصل مملوكا لأحد الأمراء، وهو الأمير البند قداري ونسب الله فقيل بيبرس البند قداري . واعتقه سيده ثم وصل بيبرس بدهائه وقدرته إلى أن أصبح سلطانا وسيده السابق أصبح مجرد تابع صغير له في دولته . ومهارة بيبرس تتجلى في قدرته الفائقة على المؤامرات والدهاء مع نشاطه الحربي .وحين يصل مملوك ما بدهائه وحذقه في المؤامرات إلى السلطنة فأنه يواجه مؤامرات الآخرين إلى أن يموت نتيجة المؤامرة، أو يقضى على خصومه . وهكذا تدور السياسة المملوكية في حلقة لا تنتهي من الدسائس والمؤامرات . وقد تنتهي المؤامرة بقتل السلطان – وحينئذ يتولى القاتل السلطنة طالما كان كفئا , وبذلك يصبح قتل السلطان مسوغا شرعيا عندهم لصلاحية القاتل كسلطان شأن مجتمع الغاب , وذلك هو الأغلب في السلطات العسكرية فالأقوى هو الأغلب , ومعنى ذلك إن الأمراء لا يخضعون للسلطان إلا لأنه أقواهم , وهو قرين لهم وندُّ فإذا ما مات فحظ ابنه أن يكون مجرد فترة انتقالية ليظهر فيها الأكفاء من بينهم ليتغلب على السلطنة ويمسك بزمام الأمور ويعزل السلطان الصغير أو يقتله.  ومن عجب إن أكثر السلاطين كان يخدع نفسه ويصدق نفاق أتباعه فيخيل إليه أنهم سيرعون حقه عليهم بعد موته في رعايتهم لابنه ولى عهده ، فيأخذ عليهم العهود والمواثيق ،ويمكن لابنه في حياته ما استطاع . ومع ذلك فإن أخلص ممن يقوم بأمر ابنه في حياته يكون هو نفسه الذي يعزله بعد فترة انتقالية معقولة ويتسلطن , وينشيء أتباعا جددا من المماليك الذين يشتريهم , ويبعد عنه رفاقه السابقين في المؤامرات ، , وأعدائه طبعا.  وبعد أن تقترب منيته يظن أن الأمور استتبت له فيأخذ العهد لابنه ويأتمن عليه أخلص أتباعه إلا أن القصة تتكرر بحذافيرها , ويعزل التابع ابن سيده السلطان السابق وتتكرر القصة ، وهكذا ،  وتستمر المؤامرات . وبهذا قامت الدولة المملوكية البحرية وبهذا استمرت، وبذلك قامت الدولة المملوكية البرجية وبذلك استمرت إلى أن سقطت . 

ومثلا فقد تآمر الأمير بيبرس وقتل السلطان قطز وتولى مكانه ، وقام بيبرس بتوطيد الدولة المملوكية ، وحاول في أخريات حياته أن يوطد الأمر لابنه سعيد بركة فولاه العهد من بعده . وحتى يضمن ولاء المماليك له من بعده فقد زوجه من ابنة كبير المماليك قلاوون الألفي وجعل قلاوون نائبا له ، ولكن تآمر قلاوون على ابن بيبرس وعزله  سنة 678 وتولى مكانه .وأقامت أسرة قلاوون في حكم مصر نحو قرن أو يزيد 678 – 784 ..وأنشأ قلاوون لنفسه عصبة خاصة من المماليك وأقام لهم أبراجا خاصة بالقلعة فعرفوا( بالمماليك البرجية) وأولئك هم الذين تآمروا على اغتصاب السلطة من أبناء وأحفاد السلطان قلاوون، ثم استطاع أحدهم في النهاية وهو برقوق إقامة الدولة المملوكية البرجية .  

ولقد انعكس نفوذ المماليك البرجية على مصير السلاطين من أبناء وأحفاد الناصر محمد بن قلاوون بعد وفاته فكثر توليهم وعزلهم تبعا لمؤامرات كبار الأمراء البرجية ،  حتى انه في العشرين سنة الأولى التي أعقبت وفاة الناصر محمد بن قلاوون تسلطن ثمانية من أولاده ( 741 – 762 ) ، وفي العشرين سنة التالية تسلطن أربعة من أحفاده . وبعضهم تسلطن وعمره عام واحد كالسلطان الكامل شعبان بن ناصر محمد ، وبعضهم لم يبق في الحكم إلا شهرين مثل الناصر أحمد بن الناصر محمد.    وقد تمكن برقوق بسلسلة من الدسائس والمؤامرات أن يقيم الدولة البرجية وتغلب على مصاعب عديدة وصلت إلى درجة عزله من السلطنة إلا أنه عاد للسلطنة للمرة الثانية سنة 797 . ومات برقوق سنة 801 وتولى ابنه الناصر فرج .

3 ـ عاش ابن خلدون فى مصر فى فترة الاضطراب هذه ( نهاية الأسرة القلاوونية ، وتأسيس الدولة المملوكية البرجية على يد برقوق ) ، وشارك فى حلبة التآمر من وراء ستار إستخدم فيه الشاب سعد الدين ابراهيم ( ابن غراب ) .

4 ـ ونعيد ما قلناه من قبل عن المسرح السياسى المملوكى وابن خلدون :  قبيل وصول إبن خلدون لمصر كان السلطان الرسمي هو الصبي حاجي إبن الأشرف شعبان القلاووني ، وكان كبار أمراء المماليك يتصارعون ليصل الأقوى منهم إلى السيطرة على السلطان الصغير حتى يعزله ويتولى مكانه. وفعلا تحالف الأميران بركة وبرقوق حتى تحكما  في السلطنة ، ثم اختلفا وتصارعا وتغلب برقوق وانفرد بالحكم ، وبعدها عزل السلطان القلاووني الصغير وتولى السلطنة في 18 رمضان 784 . وكان إبن خلدون قد سافر إلى الأسكندرية في شعبان من نفس العام فوصل إليها في عيد الفطر 784 . ثم وصل إلى القاهرة في أول ذي القعدة 874 حيث كان برقوق يبدأ أول سنة له في الحكم سلطانا ،  ثم لم يلبث أن ثار علىبرقوق سنة789 مملوكه الأمير منطاش والأمير يلبغا الناصري نائب الشام وانهزم عسكر برقوق وانضم أكثره إلى المماليك الثائرين ، فاختفى برقوق ، ثم سلم نفسه إليهما ، فأرسلوه سجينا إلى الأردن ( الكرك).  ثم حدث الخلاف بين الأميرين منطاش ويلبغا الناصري ، وانتصر منطاش . وهرب برقوق من سجنه في الأردن وتجمع حوله أتباعه فجاء بجيش هزم به منطاش وعاد إلى السلطنة للمرة الثانية 792هـ . واستقر له السلطان إلى موته سنة 801.

  5 ــ وتولى إبنه فرج بن برقوق وكان عمره أقل من عشر سنوات وثار عليه المماليك ، وهنا تجلى نفوذ سعد الدين ابراهيم (ابن غراب ) حين اقنع السلطان الناصر فرج ابن برقوق بالهرب والاختباء واخفاه فى بيته كى يتخلص من خصومه ، وقام سعد الدين باجلاس عبد العزيز بن برقوق على الحكم وسيطر على الدوله ، ثم بعد سبعين يوما عزل عبد العزيزواعاد الناصر فرج،وتلك ظاهرة لم تتكرر فى التاريخ المصرى بطوله ، او كما يقول المقريزى (اقام دولة ثم ازال دولة ،ثم اقام ما ازال وازال ما اقام من غير حاجة او ضرورة الجأته الى ذلك ، وانه لو شاء اخذ الملك لنفسه). ومن الصعب أن نصدق أن شابا مصريا مهما بلغت عبقريته يصل الى هذه الحنكة فى فنّ التآمر. والتفسير المقبول هووجود ابن خلدون من وراء ستار يحرّك الأحداث ويوجهها.وفشلت المؤامرة ، ودفع ابن خلدون وتلميذه الشاب الثمن ، فماتا ( فجأة ) .  

6 ـ لا يمكن أن يتوب ابن خلدون عن التآمر وهو أستاذ فى هذا الفن ، وقد جاء الى أكبر حلبة للتآمر فى عصره ، وكان يتوق من قبل للمجىء اليها . ولنتذكر أن ابن خلدون السياسى ( أكبر ) من ابن خلدون مؤسس علم العمران والمؤرخ ، صحيح أنه فشل سياسيا ونجح واشتهر عالما ومؤرخا ، ولكننا نضع معيار الجهد والوقت الذى قضاه ابن خلدون فى ميدانى التأليف والعمل السياسى ، ولقد قضى أقل وقته فى التأليف وأغلب وقته فى العمل السياسى . وبذل بقية عمره فى مصر لكى يحقق بالسياسة ( وهى فنُّ التآمر وقتها ) ما كتبه عالما مؤرخا عن ( العصبية ).

7 ـ ولكن لا تزال هناك إسئلة مشروعة .!

اجمالي القراءات 15286