يقول الشاطبي في الموافقات.. "أن وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معا"..(الموافقات 2/9).. وقال في موضع آخر من الكتاب.."مجموع الضروريات خمسة، وهي: حفظ الدين، والنفس، والنسل، والمال، والعقل"..وعلق عليها لاحقاً بقوله.."أن مصالح الدين مبنية على المحافظة على الأمور الخمسة المذكورة فيما تقدم، فإذا اعتبر قيام هذا الوجود الدنيوي مبنيا عليها، حتى إذا انخرمت لم يبق للدنيا وجود أعني: ما هو خاص بالمكلفين والتكليف، وكذلك الأمور الأخروية لا قيام لها إلا بذلك."..(الموافقات 2/32)
ومعنى كلام الشاطبي أن الدين لا يقوم إلا بهذه المقاصد التي أسماها ضروريات الدين، أي لا يقوم الدين إلا بها، فلا معنى لدين لم يحفظ النفس ولا النسل ولا المال ولا العقل، وفي ذلك يقول في نفس الصفحة.." لو عدم الدين عدم ترتب الجزاء المرتجى، ولو عدم المكلف لعدم من يتدين، ولو عدم العقل لارتفع التدين، ولو عدم النسل لم يكن في العادة بقاء، ولو عدم المال لم يبق عيش...فلو ارتفع ذلك لم يكن بقاء، وهذا كله معلوم لا يرتاب فيه من عرف ترتيب أحوال الدنيا، وأنها زاد للآخرة"..انتهى...وفي الموافقات أسهب بالاستدلال على هذه المقاصد من عقلاً ونقلا وتوسع فيه أيما توسع، بل ربما يُقال أن الشاطبي هو أفضل من تكلم عن المقاصد بإسهاب، ومذهبه في المقاصد مشهور..ولا أعلم لو كان الشاطبي يعيش في زمن داعش والإخوان وجبهة النصرة هل سيظل على موقفه أم سيتغير؟..
لكن مع هذه الرؤية الثاقبة من الشاطبي وقع في ما وقع فيه غيره من الشيوخ وبالأخص الجويني حين اعتقد أن علاقته بالمستفتي –كعالِم- هي علاقة تقليد تبعاً لما قلناه في السابق أن رجل الدين يرى الدين كما يرى المهندس العمارة السكنية التي بناها بعلمه..حيث يقول.." إن المقلد إذا عرضت له مسألة دينية؛ فلا يسعه في الدين إلا السؤال عنها على الجملة"..(الموافقات 5/283) لاحظ قوله.."المقلد"..ويعني أن السائل لديه مقلد يجب أن يلزم قول المفتي أو على الأقل يحترم قوله لو ظهر له خلاف ذلك، وقد سبق للشاطبي تقرير منزلة أهل الإفتاء أنهم في منزلة الرسول حيث قال.." المفتي قائم في الأمة مقام النبي..والدليل على ذلك أمور:أحدها: في الحديث: "إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم" ..(الموافقات 5/253).
ويعني أن الإفتاء وراثة عن النبي ليست من حق الجميع بل لفئة محددة من الناس سماها الشاطبي المفتي أو العلماء..وهو المعنى من وراء العلم عند الشيوخ، وهو معنى الدين في أذهان الشيوخ عامة، ولنا الحق في السؤال لو كان هذا هو معنى الدين فبماذا نسمى اختلاف هذه الفئة الوريثة للنبي إلى أحزاب ومذاهب؟..الشاطبي نفسه مالكي المذهب..ماذا سيقول على الجويني الشافعي أو ابن تيمية الحنبلي أو أبي زهرة والكوثرى الحنفية..وماذا سيقول عن المطهر الحلي وصدر المتألهين وباقر الصدر من الإمامية..وماذا سيقول عن الشوكاني من الزيدية؟
لو قيل أن كل هؤلاء على ضلال فقد ضرب الشاطبي أحد الضرويات الخمسة للدين بتشريعه الكراهية التي هي مقدمة لقتل النفس وليس حفظها كما جاء في ضرورياته..وقد تجلت هذه الكراهية في رؤيته للمبتدعة حين قال.." أن المبتدع قد نزل نفسه منزلة المضاهي للشارع" .. "هذا الذي ابتدع في دين الله قد صير نفسه نظيرا ومضاهيا للشارع، حيث شرع مع الشارع، وفتح للاختلاف بابا، ورد قصد الشارع في الانفراد بالتشريع، وكفى بذلك"..(الاعتصام 1/66) وأدنى قراءة لهذا النص يرى نزعة تكفيرية للشاطبي تجاه خصومه الذين أسماهم مبتدعة، لأن المبتدع لو كان شارعاً مع الله فهو كافر..فكيف يستقيم حفظ النفس والمال مع هذا النص الذي يجيز قتل المبتدع وسلب ماله باعتباره مرتد..وهي نفس الرؤية التي يعاني منها الفقه السني وطبقتها الجماعات الإرهابية بحذافيرها في سوريا والعراق..
لكن للإنصاف يبدو أن للشاطبي رؤية للابتداع تخالف ما ألفته الجماعات القاتلة في سوريا والعراق، فهو يرى المبتدع متحزب ومتشيع ومقرر لفرقة المسلمين كما في قوله.." اعلموا رحمكم الله أن الآيات الدالة على ذم البدعة وكثيرا من الأحاديث أشعرت بوصف لأهل البدعة، وهو الفرقة الحاصلة، حتى يكونوا بسببها شيعا متفرقة، لا ينتظم شملهم بالإسلام، وإن كانوا من أهله، وحكم لهم بحكمه.
ألا ترى أن قوله تعالى: {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء} [الأنعام: 159] وقوله تعالى: {ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا} [الروم: 31] الآية، وقوله: {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} [الأنعام: 153] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على وصف التفرق؟.."..(الاعتصام 2/669)
ويظهر من استدلاله كراهية التفرق وحبه للوحدة بأسلوب حماسي، وعليه يصح قتال تلك الجماعات الإرهابية بوصفها مبتدعة..لكن الإشكال في رؤية الشاطبي للابتداع من أصله، فهو يرى المبتدع شخص ضال أو كافر ..بيد أن الرجل فشل في التعامل مع الابتداع كونه سنة من سنن الله.. كما في قوله تعالى.." ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين".. [هود : 118]..أو كما قال الشيخ أبو زهرة في تاريخ المذاهب.."أن الناس يختلفون في تفكيرهم، وإذا كان العلماء يقولون أن الإنسان من وقت نشأته أخذ ينظر نظرات فلسفية إلى الكون.. فلابد أن نقول أن الصور والأخيلة التي تثيرها تلك النظرات تختلف في الناس باختلاف ما تقع عليها أنظارهم أو تثير إعجابهم ، وكلما خطا الإنسان خطوات في سبيل المدنية والحضارات اتسعت فرجات الخلاف حتى تولدت من هذا الخلاف المذاهب الفلسفية والاجتماعية والاقتصادية المختلفة"..(تاريخ المذاهب الإسلامية للشيخ أبو زهرة صـ 7)..
أي أن تعميم لفظ البدعة على كل مخالف غير صحيح لأنه يناقض سنة الكون والأخيلة والصور في أذهان الناس، وعليه فاختلاف البشر في أديانهم وارد..وما لم يفطن له الشاطبي هو كيفية تعامله مع هذا الخلاف وقبوله في إطار عقلي ونقدي كما عودنا في كتابه الآخر الموسوعي الموافقات، لكن نزعة الاعتدال عند الرجل استحكمت منه حين فرق بين الابتداع وبين الاستحسان والمصالح المرسلة في موضع آخر، أي أنه يرى كل من يعمل للمصلحة ويستحسن في دينه للأنفع ليس مبتدعاً..وهي نزعة براجماتية فعّالة عند الشاطبي ورثها بعض تلاميذه ويعملون بها إلى الآن تحت عنوان.."المصالح المرسلة".
وفي ذلك يقول الشيخ أبو زهرة.." ومن نواحي الأحكام الإسلامية هي المصلحة ودفع الفساد ، وتلك غاية محققة ثابتة في كل الأحكام الإسلامية، فما من أمر شرعه الإسلام بالكتاب والسنة إلا كانت فيه مصلحة حقيقية"..(تاريخ المذاهب أبو زهرة 297)
لكن السؤال ما هي المصلحة؟؟
هل من المصلحة قتل المخالف في الدين؟..هل المصلحة في تحصيل الجزية من أهل الكتاب ؟..هل المصلحة في إقامة الحدود ولو بالشبهات؟..إذا اتفقنا أن مقاصد الدين هي حفظ النفس والمال..إلخ..فما هي تلك النفوس والأموال؟..هل المصلحة عامة أم خاصة؟..الشيخ أبو زهرة نفسه لم يحل هذه الإشكاليات في توضيحه معنى المصلحة، وذهب إلى أن حفظ العقل مثلاً هو للعموم..فلو خرج عاقل عن المجموعة وقالوا بانحرافه فلهم الحق أن يعاقبوه..وهذا ما يفعله الأزهر الآن بقمع حرية الفكر والتعبير ومصادرة الكتب..فهم يؤمنون أن هذا القمع ضرورة من ضرويات الدين بحفظ عقول الجماهير على ما توارثوه من فكر ولو كان فاسدا..
إذن هناك معضلة بين المصلحة والحرية لم يحلها فقهاء المسلمين..وعليها كانت فهومهم للمقاصد غير منضبطة وينقصها الكثير.
فالسؤال الذي يتبادر للذهن أن الحرية هل هي نسبية أم مطلقة؟..هل صحيح وجود مؤثرات طبيعية تحد من حرية الإنسان ؟..هل الإنسان قادر على الفعل والاختيار؟..في تقديري أن فقهاء المعتزلة تعرضوا قديماً لهذه المسائل، وبعد قمعهم وهزيمتهم- بعد أحداث خلق القرآن في زمن العباسيين -حدث فراغ بين مناقشتهم لهذه المسائل وأصول الفقه..يعني الشاطبي وأبي زهرة والجويني وغيرهم ممن تعرضوا للمقاصد تحاشوا الدخول في مسائل المعتزلة لصورتهم السلبية في الوعي السني، وعليه حدث فراغ كبير في تقدير المصلحة نزولاً لجهلهم معنى الحرية..
يرى إيمانويل كانط أن الحرية هي صفة للموجودات العاقلة إجمالا، يعني تقرير ببدهية الحرية للإنسان وأن أي محاولة لقمعها ستبوء بالفشل، لكن في نفس الوقت يربط فهم معاني الحرية بالمحسوس..وأن أي محاولة لفهم الغير محسوس ستبوء بالفشل، وهو في ذلك يقترب من الأشاعرة الذين يرون الأحكام الغيبية لا مجال للعقل فيها، وأن سلطة العقل تبحث في الموجودات الحسية.
لو سلمنا برؤية كانط فالمصالح يمكن فهمها وربطها بالحرية عن طريق العقل، وأن العقل وحده قادر على تعيين المصلحة، وهي رؤية معتزلية في الأخير..لأن المصلحة حسب المذاهب السنية والشيعية هي في أقوال الأئمة والخلفاء..ومساحة الخروج عن أقوالهم ضيقة..لذلك من السهل على كانط أن يفهم مقاصد الدين الخمسة كما قررها الشاطبي، لكن ليس من السهل على الشاطبي أن يربط مصلحته بالحرية كما ربطها كانط..ومن هنا تكون الحاجة لعقل فلسفي ونقدي مع أصول الفقه، وتجديد الموروث الديني يساهم في التخلص من الأخبار والنصوص القديمة الغير ملائمة، أو على الأقل إعادة طبعها في الذهن وفهمها من جديد..