اجتهادات إبن خلدون فى العلم والتعليم
ابن خلدون : إحترنا فيك .!

آحمد صبحي منصور في الأحد ٠٤ - أكتوبر - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً

( ق2 ف3 ) : ابن خلدون : إحترنا فيك .!

د – إجتهادات خلدونية في متفرقات إجتماعية:  فى العلم والتعليم  

كتاب مقدمة إبن خلدون: دراسة تحليلية 

  القسم الثاني : قراءة في مقدمة إبن خلدون   

الفصل الثالث  :  اجتهادات إبن خلدون لعصره وعصرنا : فى العلم والتعليم

  عموما :

1 ــ  كعادته يربط إبن خلدون كل مظاهر الحضارة بتقدم العمران وإزدهاره . لذلك يقول هنا أن إزدهار التعليم بإزدهار العمران .

2 ـ ، ويدعو إلى الرحلة في طلب العلم ، وكان ذلك عادة في التاريخ العلمى العربي ، إلا أن الرحلة كانت تقتصر على داخل العالم الإسلامي ، حيث لا حدود ولا قيود.  

وهذه الدعوة للرحلة طلبا للعلم لاتزال سارية المفعول فى عصرنا، ولكن ليس للعالم الثالث ، ولكن إلى بلاد الحضارة حيث كانت، من اليابان شرقا إلى أوربا وأمريكا غربا .

3 ــ وفي العلوم دعا إبن خلدون إلى عدم التفريع في العلوم التي ليست مقصودة لذاتها كالنحو ، لأن التفريع فيه يصبح لغوا ويزيدها تعقيدا . هى ( علوم للوسائل ) أى بها يمكن فهم (علوم المقاصد ) وهى عندهم العلوم المتصلة بالقرآن والحديث والفقه والتشريع .

وكالعادة فإن مصطلح ( العلماء ) فى العصر المملوكى ـ عصر ابن خلدون ــ ينصرف أساسا الى الفقهاء والمتخصصين فى الحديث . وليست هذه فعلا علوما  لأنها قامت فى العصر العباسى على إفتراء الأحاديث وبناء الفقه عليها . ثم جاء عصر التقليد العلمى ـ العصر المملوكى ـ الذى إنعدم فيه الابتكار والاجتهاد والتجديد ،فنشر هذه الأكاذيب وشرحها ولخّصها على أنها علوم .! .

4 ــ وفي التعليم أشار ابن خلدون من طرف خفي للربط بين زيادة الذكاء بالتعليم وممارسة الصنائع حتى تزداد ملكات التلميذ ، كما نهى عن الشدة في ضرب التلميذ ، ومراعاة التدرج في التدريس له [1].

  5 ــ  عرفنا المستوى الهابط للعلم في العصر المملوكي حيث دار حول التقليد والجمود وتلخيص ما سبق ثم شرح التلخيص ، ثم تحويل الملخص إلى متن وإعادة شرحه وهكذا ، وقد هاجم إبن خلدون هذه الظاهرة تحت عنوان "كثرة الإختصارات في العلوم مخلة بالتعليم " وعنوان " كثرة التأليف في العلوم عائقة عن التحصيل " وفيها رصد الأثر السئ لهذه الظاهرة على درجة إستيعاب الطالب لهذه المؤلفات التي تدور حول حشو وقشور وتفصيلات شكلية لا طائل من ورائها.

6 ــ  إلا أن إبن خلدون فاته أن ينبه على خطورة الحفظ والتلقين فى قتل ملكة الإبداع والنقد ، وخصوصا حفظ مثل تلك المؤلفات والمتون والملخصات المتخلفة الهابطة .  

7 ـ ولقد إهتم إبن خلدون بتنمية ملكات النفس في حديثه عن التعليم والصنائع ، إلا أنه كان يربطها  أحيانا بملكة الحفظ والتلقين دون أن يدري خطورة التلقين على مستوى العقلية . بل إنه يعتقد بأهمية التلقين ويرى أن التعليم الفعلي يكون بالمباشرة والتلقين ، ويفتخر بشيخه السطي بأنه كان في الفقه لا يجاريه أحد في الحفظ والفهم . ومن هنا كان خضوع إبن خلدون لمنطق عصره القائم على الحفظ والتلقين وترديد ما قاله السابقون دون نقد أو إعتراض ، مع أن عقليته المتفردة كانت تطل بين السطور تبتكر وتقول ما لم تقله عقول الآخرين في عصره ، وعلى سبيل المثال فإنه يعلل إنتشار المذهب المالكي في شمال أفريقيا والأندلس برحلتهم إلى الحجاز دون المرور على العراق فاقتصروا على الأخذ عن علماء المدينة ومذهب مالك فيها ، ثم تشابه الظروف البدوية بين الحجاز وشمال أفريقيا [2].

  إقتراب من نظريات علمية حديثة   وتلك العقلية الخلدونية إقتربت بالفكر المجرد – دون تجربة – من بعض النظريات الحديثة في مجال العلم ، وقد شهدنا إقترابها من نظرية العرض والطلب ،وإبتكارها لكثير من قوانين العمران ، وصلاحية أغلب تلك القواعد والقوانين لعصرنا ، مع إختلاف الظروف .

1 ـ  فقد سبق نيوتن في قانون الجاذبية القائل : كل فعل له رد فعل مساو له في القوة ومضاد له في الإتجاه ، إذ قال إبن خلدون : أن الآثار إنما تحدث عن القوة التي كانت بها أولا ، وعلى قدرها يكون الأثر [3].

2 ــ  وسبقإبن خلدون نظرية النشوء والإرتقاء أو التطور التي نادى بها دارون وسماها إبن خلدون التدرج ونظرية إبن خلدون مختلفة عن نظريةدارون وأوسع وأشمل ، لأنها تبدأ بالمعادن وقابلية أعلى درجة منها لأن تلتحق بالدرجة السفلى من  النبات ، ثم قابلية أفق النبات لكي يلحق بأسفل  درجة من الحيوان ثم قابلية أفق الحيوان لأن يلتحق بالإنسان ، ثم قابلية أكمل البشر للسمو إلى عالم الملائكة [4]، وفيها يحدث الوحي . وهي نظرية خلدونية نرفضها تماما . 

والحقيقة أننا فى حيرة مع العقلية الخلدونية

إبن خلدون : إحترنا فيك

  وهذا بدوره يجعلنا نقترب من العقل الخلدوني الحائر بين الإنطلاق العبقري والخضوع لثوابت عقله .

1 ـ  ففي أجزاء من نظريته عن التدرج يتفق بعقله المجرد مع حقائق علمية أثبتتها التجربة من حيث تحول المعادن إلى كائنات حية ، فهناك جراثيم الإنفلونزا ، التي تمر بفترة بيات  وسكون تكون فيها مجرد بلورات معدنية ثم إذا جاءتها نقطة ماء دبت فيها الحياة ، إلا أن إبن خلدون حين يخضع لثوابت عصره ومنها العلم اللدني يقع في  الخطأ ويفترض صعود الإنسان إلى عوالم الملائكة ، مع تأكيدات القرآن بأن الإنسان لن يرى الملائكة إلا عند الموت وعند البعث ، أي بعد أن يتخلى عن جسده المادي .

2 ــ  وهناك مثل آخر على هذه الحيرة الخلدونية ، ففي الرد على أسطورة عوج بن عناق العملاق الذي كان يتناول السمك من البحر ليشويه في الشمس يقولإبن خلدون أن الحر هو الضوء ، والضوء فيما قرب من الأرض أكثر مما بعد عنها حيث تنعكس الأشعة من سطح الأرض بمقابلة الأضواء فتتضاعف  الحرارة بسبب ذلك ، فإذا تجاوز الإنسان مطارح الأشعة الشمسية المنعكسة إنخفضت الحرارة ، أو بتعبيره " لا حر هناك بل يكون البرد حيث مجاري السحب " وهنا كلام علمي جميل ، إلا أنه سرعان ما يخضع لثوابت عصره فيردد ثقافة العصر القائلة بأن الشمس في حد ذاتها جسم بسيط مضئ ليس حارا ولا باردا [5]، ويتجاهل وصف القرآن للشمس بأنها سراج وهاج . وفي أثناء تأكيده على نظريات العلم اللدني الخرافية تتسلل بين السطور عبارات صحيحة علميا كقوله أن " سرعة فكر الإنسان أسرع من لمح البصر " [6] أو " أن الأحداث توجد في عوالم الملائكة ( أي البرزخ) مجردة عن زمن الحدوث ".

3 ــ     وحتى في الأمور الطبية نرى عقله يفتي بأراء جيدة كقوله عن أهل الحضر أنه تكثر فيهم الأمراض لكثرة الأكل وتعدد ألوانه وخلطه بالتوابل والبقول ( أي الطعام المسبك ) ثم لا يمارسون الرياضة . أما البدو فالأغلب عليهم الجوع وقلة الأكل وكثرة الحركة والنشاط فيحسن بذلك هضم طعامهم البسيط القليل في مناخهم الجاف ، لذلك لا يحتاجون إلى الطبيب. وما أروع قوله عن طب البادية أنه مبني على  التجربة القاصرة ، وليس على قانون طبيعي ، ويجعل منه الطب النبوي المنسوب للنبي ، وهذا كلام جيد خصوصا حين يقول أن النبي لم يأت ليعلمنا الطب وإنما لكي يعلمنا الشرائع . وليته يتوقف عند ذلك ، ولكنه يسرع باسترضاء ثوابت عصره فيقول أن ما جاء في الأحاديث يمكن استعماله على سبيل التبرك وصدق الإعتقاد فيكون له أثر عظيم في النفع تبعا للإيمان [7].

4 ــ     وتصاحبنا هذه الحيرة حتى في آرائه الأدبية . إذ يطالعنا بآراء معقولة عن الملكات الأدبية مثل " إذ تنازعت ملكتان تعذر أن تتم الملكتان معا " أي في الألسن واللغات ، ويجعلها مثل الصنائع ، ويقول " ملكة الفصاحة تستفاد بالتعليم منذ الطفولة " ، " لا تتفق الإجادة في الشعر والنثر معا إلا للأقل من الناس "، " الفصاحة أساس الشعر والنثر " ،" صناعة النظم والنثر في الألفاظ وليس المعاني " [8].

    وفي موضوع السجع الذي ساد النثر في العصرين المملوكي والعثماني نرى موقف إبن خلدون عجيبا . إذ يهاجم السجع ويرى وقوع الأدباء في السجع بسبب عجزهم عن الفصاحة ، لذا يسترون بالسجع فقرهم في البلاغة ، وهذا كلام صحيح ، ويعززه حديثه عن نفسه في تاريخه أنه حين عمل كاتبا للسر لدى السلطان أبو سالم لم يلتزم بأسلوب السجع المعتاد ، يقول عن طريقة السجع " لضعف انتحالها وخفاء المعاني منها على أكثر الناس ، بخلاف الكلام المرسل " ويقول أنه  إنفرد بهجر أسلوب السجع وكتب كلاما مرسلا فاستغربه أهل صناعة الكتابة .[9]

  وهذا كلام جميل . . إلا أن إبن خلدون في إفتتاحية المقدمة أنشأها بأسلوب السجع المتكلف اللزج المملوء نفاقا للسلطان أبي فارس وحتى لا تنتقده حاشية السلطان .

ولم يدرك إبن خلدون بعبقريته المعهودة أن ذلك السلطان لن يلبث أن يصبح نكرة مجهولا ، وإن إسم إبن خلدون هو الذي سيبقى في دنيا الحضارة . وما كان أجدره أن يحذف هذه السطور ويتخلى عن السجع الذي التزم به في الإفتتاحية  حتى لا نحتار معه في تلك المتناقضات .

   ولكنها في النهاية حيرة سهلة ، لأنها كانت تعبر عن ظاهرة العقلية الخلدونية التي تناقضت مع مألوف عصرها ولكن أرادت التصالح مع ذلك المألوف . وبين التناقض والتصالح تنشأ الحيرة .  وإذا عُرف  السبب بطلت الحيرة وبطل العجب .

 

 

 

 

 



[1]
- المقدمة  :  الفصول 3، 33، 30,31، 2، 32، 29 من الباب السادس

[2]- المقدمة : الفصول 28 ، 27، 33، 7 من الباب السادس ، وتاريخ ابن خلدون 7/389.

[3]- المقدمة : الفصل 18 ، الباب 3

[4]- المقدمة 81: 82 .

[5]-  المقدمة : الفصل 18 ، الباب الثالث

[6]- المقدمة : الفصل 1 ، الباب 6

[7]- المقدمة : الفصل 29 ، الباب 5 ، الفصل 19 ، الباب 6

[8]-  المقدمة : الفصول 43، 45، 46، 47، الباب السادس

[9]- المقدمة : الفصل 44 الباب السادس ، تاريخ ابن خلدون 7/405.

اجمالي القراءات 9588