( ق2 ف3 ) أ ــ إجتهادات خلدونية في السياسة العمرانية (علم الاجتماع السياسي )

آحمد صبحي منصور في الأربعاء ٣٠ - سبتمبر - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً

كتاب مقدمة إبن خلدون: دراسة تحليلية 

  القسم الثاني : قراءة في مقدمة إبن خلدون   

الفصل الثالث  :  اجتهادات إبن خلدون لعصره وعصرنا

 

حظيت المقدمة بقراءات متعددة من متخصصين في علوم الإجتماع الحديث . ومن هنا نرجو منهم السماح لنا بهذه القراءة غير المتخصصة في " المادة الاجتماعية " في علم العمران الخلدوني . . وسبق لنا التعرض لآراء إبن خلدون وثقافته الدينية والصوفية وتجاوبه مع عصره فيها . وبقى أن نعيش مع آرائه في علم العمران ، وما يعبر منها عن  العصور الوسطى ، وما يصلح منها لعصرنا .

 

أ ــ إجتهادات خلدونية في السياسة العمرانية (علم الاجتماع السياسي )

العرب والأنهار :

  1-  أعطى إبن خلدون للعرب صفات محددة ، ومنها أنهم لا يتغلبون إلا على السهول أو المناطق الزراعية غير المحصنة ، وهنا إشارة لقصة العلاقة بين الصحراء والأنهار، حيث إعتاد البدو الأعراب الإغارة على المناطق  الزراعية المتاخمة للدول المجاورة إذا وصلت إلى دور الضعف ، ويخلص إلى النتيجة التالية ، وهي أنهم إذا سيطروا من خلال هذه الغارات على أوطان أسرع إليها الخراب .

    ومع أن كلامه هذا يتناقض مع حديث له آخر عن البدو يصفهم فيه بأنهم أحسن أخلاقا وعقولا ، مع ذلك فإن حديثه الصادق هو عن وصف العرب بتخريب السهول المجاورة ، وهو يؤكده بأن طعام الأعراب أو العرب في انتهاب ما في أيدي الناس وأن رزقهم في ظل رماحهم. وقد صيغت هذه العادة البدوية السيئة في حديث كاذب  منسوب للنبي يقول أن رزقه في ظل رمحه ، وهذا الحديث لا يزال متداولا حتى الآن بين الجماعات الإرهابية التي تستحل النهب والسلب للآخرين .

2- والشواهد التاريخية تؤكد ذلك ، سواء في تاريخ أعراب الجزيرة العربية قبل الإسلام وبعده ، فالسلب والسبي من مفاخر الأعراب ، وقد قاسى جنوب العراق والشام من غاراتهم ، ودفع الثمن الحجاج القادمون من الرافدين ومصر . كما أن أعراب الصحراء الغربية قاموا بتخريب العمران المصري الذي كان ممتدا بين السلوم والإسكندرية ، وفي العصر المملوكي كانت بعض القبائل الأعرابية تخدم الدولة وتحارب باسمها القبائل الأخرى التي كانت  تغير على القرى وتصل غاراتها أحيانا إلى أسوار القاهرة . وكان تخريبهم لأطراف العمران المصري شديدا خصوصا في الشرقية والبحيرة والصعيد  ولم يكن ذلك بعيدا عن إبن خلدون قبل وبعد أن أتى لمصر .

3- وعادة السلب والنهب تتعاظم وتتصاعد حين تجد متنفسا لها من خلال دعوة دينية تسبغ الشرعية على سلب الآخرين وتحوله إلى غنيمة وتعدهم بالجنة إذا قتلوا شهداء . وبهذا كان الإنتصار الساحق للفتوحات العربية والإمتداد العربي من اواسط آسيا والهند  الى أسبانيا . وبذلك تم لقريش توظيف قوة العرب المسلحة وحياتهم القائمة على السلب والنهب في الفتوحات بديلا عن متاعبهم داخل الجزيرة العربية . وبعد إستقرار الدولة العربية الإسلامية ثار عليها الأعراب تحت دعاوي دينية أخرى حملت لواء الخوارج ، ثم الزنج ، ثم القرامطة ، وخرجت كلها من منطقة نجد إلى درجة أنهم صاغوا حديثا يؤكد أن قرن الشيطان يبرز من نجد ، وظلت نجد تصدر الدعوات الدينية المسلحة التي تستحل نهب الآخرين وسلبهم ، وحين لا تخرج منها تلك الدعوة الدينية فإن أهلها يمارسون قطع الطريق على الحجاج وسلبهم وقتلهم واغتصابهم في الصحراء  ــ  بدون تسويغ ديني . وفي النهاية أقيمت في نجد الدولة السعودية على أساس دعوة دينية هي الوهابية ، واعتمدت كالعادة منهج " الدم الدم الهدم الهدم " وسقطت الدولة السعودية مرتين ، وأقيمت ثلاث مرات ، وفي المرة الأخيرة أتيح لها نشر المذهب الوهابي السلفي في مصر في إطار دعوة الإخوان  المسلمين القائمة على نسق حركة الأخوان السعودية.  ومن مصر إنتشر ذلك المذهب السياسي الديني في العالم " الإسلامي "، ومن معالم هذا المذهب الأساسية الإستحلال ، ولذلك يتردد حتى الآن في الجماعات الإرهابية حديث " جعل رزقي تحت ظل رمحي ".

4- وما قلناه أشار إليه إبن خلدون في عنوان يقول أن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين . . وهي مقولة تنطبق  على العرب الصحراويين في العصور الوسطى وغيرها ، ومن الطبيعي أن هذا النوع الذي يجيد التخريب ينطبق عليه قولإبن خلدون " العرب أبعد الأمم عن سياسة الملك " لأن سياسة الملك في رأي إبن خلدون تقوم على الإصلاح والعدل وإقامة العمران ، ومن لا يجيد إلا الهدم لايستطيع التعمير والإصلاح. وهذا ينطبق على أعراب الغزو والإغارات ، ولكن لا ينطبق على أحفادهم الذين يصبحون مسؤولين عن توطيد الملك وتعميره . والأعراب إذا عاشوا مسالمين على هامش الحضر عاجزين  عن الإستيلاء عليه فهم في حالة إحتياج لهذا الحضر وتابعون له .[1] وكان يمكن لإبن خلدون أن يعطي المزيد لو إستفاد بالخبرة التاريخية المصرية في هذا الموضوع .

أطوار الدول والعمران

 1-  يرىإبن خلدون أن العمران كله من بداوة وحضارة له  عمر زمني كالأشخاص ، وحين يصل العمران إلى درجة الترف تبدأ مرحلة الإنحلال ، وفيها يقترن الترف بالسرف والغلاء والتضخيم مع الفساد والفسق ، وتصبح للمال الغلبة على كل شئ وتضيع القيم الأخلاقية الرفيعة في خضم ذلك الصراع حول المال ، حيث يعني المال السيطرة السياسية ، وحيث يكون كل شئ معروضا للبيع . وهنا يكون المجتمع مرشحا للإنهيار والإنفجار من الداخل أو السقوط بعامل خارجي . وهذا الوصف الخلدوني ينطبق على العصر العباسي قبيل سقوط بغداد على أيدي المغول . كما ينطبق الآن على ما يحدث فى كثير من الدول الشرق أوسطية في عصرنا .

   2- ويرى إبن خلدون للدول أعمارا طبيعية كالأشخاص ، من قيام الدولة إلى توطيدها وإزدهارها ثم إلى ضعفها ثم سقوطها . بنفس المراحل الزمنية للإنسان حيث قال تعالى : {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفا وشيبة ) الروم 54 ) ونسي إبن خلدون الإستشهاد بهذه الأية الكريمة  في أطوار الدولة فجعله خمسة : الإستيلاء على الحكم ، الإستبداد بالحكم ، ثم الدعة والراحة ، ثم القنوع والمسالمة والإسراف والتبذير [2] قبيل الإنهيار والسقوط .

3- وهذه الأحكام الخلدونية تنطبق على الدول المستبدة التي تتركز في عائلة حاكمة ولها عصبية مسلحة ، ويستأثر السلطان بالحكم والثروة . وقد ينطبق هذا في عصرنا على الملكيات المستبدة والنظم العسكرية الحاكمة . أما النظم السياسية التي يختارها الشعب فعلى قدر تعبيرها عن الشعب يكون بقاؤها ، وتبقى ببقاء الشعب الذي يملك إختيارها وعزلها وتغييرها . ومن هنا فإن الملكيات المستنيرة في الغرب إختارت أن تكون مجرد رمز للشعب ووحدته ، وتدع الشعب يحكم نفسه من خلال نظم نيابية . وبهذا إستمرت من أواخر العصور الوسطى إلى عصرنا الراهن . ويمكن أن تستمر باستمرار تعبيرها عن شعبها واحتضان شعبها لها .

4- وفيما بين السطور يشير إبن خلدون إلى تفصيلات في أطوار الدولة على نسق العصر الأوسطي ، فالقبيلة إذا وصلت إلى الملك كثر عددها وتكاثر أنصارها [3]، وحتى مجرد بيت من قبيلة إذا وصل إلى  السلطة عن طريق دعوة دينية ، فإنه يعمل على أن تتكاثر أعداد الأسرة لتصبح قبيلة ، وهذا ما حدث مع الأسرة السعودية التى تكاثرت عددا بالاكثار من الزوجات والإماء ، وحدث قبل ذلك مع الأسرة العباسية التي أصبحت عشرات الألوف في العصر العباسي الأول ، فيذكر إبن الجوزي في تاريخ المنتظم أن إحصاء بني العباس سنة 200هـ بلغ 33 ألفا من الذكور والإناث [4].

5- وينحت إبن خلدون مصطلح الإلتحام ويقصد به دوام الإنتماء والدفاع عن نظام الحكم القائم ، ويقول أنه يكون في البداية عن طريق العصبية في القوة المسلحة التي تقيم السلطنة وتقوم بتوطيدها ، وبعد التوطيد يحدث النفور بين السلطان وتلك العصبية التي يكون لها عليه دلال ونفوذ ، ولذلك يصطنع السلطان في المرحلة الثانية عصبية جديدة من الموالي يستعين بها على منافسيه من البيت الحاكم ومراكز القوى في العصبيات القديمة ، ويحاول أن يصنع لهم نفوذا ومجدا ، ولكن لا يصل إلى مجد العصبية الأولى التي أقامت السلطان ، ولا يكون لأولئك الموالي الجدد نفس الإلتحام الذي كان للعصبية السالفة [5].

6- وفي فترة التوطيد والتوسيع تصل الدولة إلى أقصى إتساع لها ، ولكن إذا زادت في التوسع عن إمكاناتها كان ذلك خطرا عليها ، لذلك يقرر إبن خلدون أن لكل دولة حصة من الممالك والأوطان لا تزيد عليها [6]، وهو تحليل رائع يصدق تماما على العصور الوسطى حيث كان سهلا أن تقوم الدول وأن تتوسع فإذا ازداد توسعها فوق إمكاناتها العسكرية أسرع إليها الفناء ، وحدث ذلك في الفتوحات العربية الإسلامية ، كما حدث في الغزو المغولي والسلجوقي . وبعد كتابة المقدمة شهد إبن خلدون فتوحات تيمورلنك التي وصلت إلى دمشق ، وقابلهإ ابن خلدون فيها ، ثم سرعان ما انهارت دولة تيمورلنك بعد موته .

7- وفي العصر الحديث ينطبق ذلك على الإمبراطورية البريطانية التي كانت لا تغيب عنها الشمس ، وسرعان ما انفصلت واستقلت عنها تلك المستعمرات ، والآن يتهدد الوطن البريطاني نفسه ( المملكة المتحدة ) بحركات إنفصالية ليست قاصرة على أيرلنده ، بل قد تمتد في المستقبل إلى سكوتلاندة ، ولنتذكر مشاعر الاسكتلنديين بعد فيلم " القلب الشجاع  " هذامع وجود النظام الديمقراطي العريق في ( المملكة        المتحدة ) .  

8- ونعود للدولة بعد التوطيد حيث يصبح الإستسلام للدولة عادة بمرور الزمن ، ويصبح القتال عنها عقيدة ، ويلقي إبن خلدون بملاحظة ذكية في الموضوع حيث يقول " ولهذا جرت العادة على وضع الكلام في الإمامة بعد العقائد الإيمانية كأنه من جملة الإيمان " وينسى أن يشير إلى عقيدته الثيوقراطية التي تجعل الإمامة كإحدى العقائد ، وهوما تعلنه الشيعة في عقائدها . والمهم أنه بينما يخضع الناس للدولة والسلطان بحكم العادة والعقيدة فإن السلطان ربما يكون طفلا أو شابا ماجنا واقعا تحت سيطرة مراكز القوى التي تحاول شغل السلطان الصغير بالمجون ليترك لهم تصريف السلطنة ، ويرى إبن خلدون أن ذلك يحدث عندما تنفرد أسرة بالحكم وتتوارثه ، فيدفع الثمن ولي العهد الصغير حين يتحكم فيه الوزير أو القائد العسكري ، وذلك المتغلب على السلطة يمارسها فعلا ويترك رسوم السلطنة وشعاراتها للسلطان الصغير المستضعف الذي حكم بإسمه ، ولاينتزع منه شارات السلطنة ومظاهرها حتى لا يثير عصبيات السلطان الصغير [7].

9- ثم إذا وصلت الدولة إلى الترف واقترن الترف بالإستبداد دخلت في الشيخوخة والهرم وتأهبت للسقوط [8].

10- وتتوالى تقعيدات إبن خلدون لمرحلة الشيخوخة والسقوط ، وقد جعلها على شكل عناوين وتحليلات ، مثل إن الهرم إذا نزل بالدولة لا يرتفع ، وإن الخلل يأتي للدولة من أسس قوتها وهي العصبية ( القوة المسلحة ) والمال ، ويبدأ الإنهيار في الأطراف بالإنقسام ويتوالى الإنقسام بضعف الدولة ، ويقوم بذلك الإنقسام عصبيات ناشئة منتصرة على غيرها وتضمها إليها ، ثم تتوسع في الأطراف إلى أن تتمكن أخيرا من إسقاط الدولة [9] .

طبيعة السلطان المستبد : الإنفراد بالسلطة والثروة

  1- وبرغم تشريعه للثيوقراطية واستبداد الملوك إلا أنه كان أمينا في وصف طبيعة السلطان المستبد ، بما يعطي للقارئ فرصة في كراهية هذا النوع من الأنظمة . فيرى إبن خلدون أن طبيعة الملك الإنفراد بالمجد ، وهو عنوان دقيق أو عبارة دقيقة ، فلم يقل إن طبيعته الإنفراد بالأمر أو بالحكم ، وإنما قال الإنفراد بالمجد ، حيث لا يطيق المستبد أن يمدح الناس غيره في ملكه أو حتى خارج ملكه ، هذا ينطبق على العصور  الوسطى وعلى الأنظمة الإستبدادية في عصرنا ، وذلك ما يفهمه تماما جهاز الإعلام الذي ينافق الإستبداد فيفرض صورة الزعيم الملهم على الناس صباح مساء ولايسمح إلا بوجود أقزام حول الزعيم .

  2- ويرى أن طبيعة السلطان المستبد الترف ، وعلى قدر ملكه يكون حظه من الترف ، والعبارة الأخيرة غير دقيقة ، فهناك من الممالك الفقيرة ما يغالي السلطان فيها في الترف بدرجة تتجاوز سلطانا آخر أكبر شأنا . والأمثلة كثيرة في تاريخنا ، فالمعتضد بالله العباسي في خلافته ( 279- 289) كان مثل أغلب أسلافه يؤثر إكتناز الجواهر  رصيدا للخلافة ، ثم تولى إبنه المقتدر ، وفي خلافته (295- 320) أضاع تلك الجواهر في ترفه وإسرافه ، كما كان الخليفة العباسي المهتدي بالله (255-256) في خلافته القصيرة غاية في الزهد ، وجاء بعده المعتمد على الله (256- 279هـ) فانهمك في اللهو والمجون والترف والسرف . وفي عصرنا الراهن كان الإمبراطور بوكاسا مترفا في مملكته أفريقيا الوسطى مع فقرها الشديد ، والملك الحسن عاهل المغرب لا يدانيه في الترف والسرف مع أن المغرب أكثر ثراء من أفريقيا الوسطى . وملوك أوربا الديمقراطية لا يزيد حظهم من الترف كثيرا عن الأثرياء في بلادهم ، ولا يزيد عن بعض رؤساء الدول الفقيرة المستبدين .

 3- ويرى إبن خلدون أن طبيعة الملك الدعة والسكون ، إذ أنه بعد أن يصل إلى الحكم ويحقق هدفه يؤثر التمتع بالدنيا ، وذلك ليس حكما عاما ، إذ يتوقف على شخصية السلطان وظروف عصره ومراكز القوى حوله ، خصوصا وأن إبن خلدون نفسه تحدث عن إستظهار أو إستقواء السلطان على مراكز القوى أو عصبية أبيه بإنشاء موالي وأتباع يدينون له بالولاء والسمع والطاعة [10] ، ولم يكونوا مثل العصبية السابقة لأبيه قد رأوه صغيرا ولهم عليه الفضل في صيانة المملكة وتسليمها له . وهكذا فإن ذلك السلطان في الوقت المناسب لراحته وسكونه يكون مطالبا بتغيير جذري في الحاشية ومراكز القوى ، وقد يكلفه ذلك حياته وسلطانه ، وبالتأكيد  فإنه يكلفه راحته وهدوء باله . ومن الطبيعي أن ذلك ينطبق على دول العالم الثالث ، ما يعيش منها في ظل إستبداد صريح أو ما يجتاز منها فترة التحول الديمقراطي . 

  4- وعن الثروة وعلاقتها بالسلطان ، يضع إبن خلدون لها قواعد تتعلق بحركة الثروة بين السلطان ومراكز القوى – أو العصبية – حوله ، ويكون الإنفراد بالسلطة هو المعادل الموضوعي للثروة .

 يقول إبن خلدون أنه في بداية الدولة يكتفي السلطان بالسلطة وتتوزع الثروة على القائمين بتوطيد نفوذه ، وبعد توطيد الدولة ينفرد السلطان بالثروة  دون الذين أسهموا في توطيد الدولة . ثم يزداد إنفراد السلطان بالثروة في شيخوخة الدولة ليحمي نفسه ويقوي سلطته . أي أنه طبقا لما يقوله إبن خلدون فإن السلطان يستأثر بالثروة  في مرحلتي توطيد الدولة وشيخوختها . ولكنه يسمح بتوزيعها في بداية الدولة . ولكن الأغلب أن الثروة وثيقة الصلة بالسلطة ، وربما ينطبق على معاوية فقط أنه أفاض بالأموال على أنصاره وأعدائه السابقين حتى ينفرد بالسلطة باعتباره أول سلطان ملك  بالمفهوم الصريح للملكية في تاريخ المسلمين ، وكان لا بد في وصوله  إلى هذا التحول الخطير أن يعطي تنازلات ، منها إعطاء مصر طعمة أي ضيعة خاصة لعمرو بن العاص يأخذ خراجها لنفسه في مقابل أن يستولي عليها من ولاة " علي بن أبي طالب " ، ومنها العطايا المالية غير المسبوقة للقرشيين والهاشميين بعد توليه الخلافة . ولكننا نرى النقيض في بداية الدولة العباسية حيث كانأبو جعفر المنصور مشهورا بلقب أبي الدوانيق ، والدانق هو ما يساوي المليم ، وكان أبو جعفر المنصور في بخله الشديد يحاسب الولاة والقواد على الدرهم والدانق ، فسمى بأبي الدوانيق ، ومما يحكي عنه من نوادر أنه أراد فرض ضرائب على أهل الكوفة سنة 155 وأراد أن يعرف عددهم أولا ، فأمر بإعطاء كل فرد في الكوفة خمسة دراهم ، وتمكن بذلك من معرفة عددهم الصحيح ، وبعدها فرض على كل فرد منهم اربعين درهما ، ومن حصيلة الضرائب أقام سورا حول الكوفة وخندقا . فقال شاعر كوفي .

                         يالقومي مالقينـــــــــا               من أمير المؤمنينــــــــا

                       قسم الخمسة فينــــــــــا               وجبانا أربعينـــــــــا[11]

 5-  ونعود إلىإبن خلدون وهويؤكد حقيقة تاريخية عجيبة ، يقول أن السلطان لا يستطيع الفرار بأمواله من بلده ، وكذلك صاحب النفوذ التابع للسلطان [12] ، ولايستطيع أن يجد مثالا لهذه الحقيقة إلا في تاريخ موطنه شمال أفريقيا ، حيث كان سهلا أن تقوم الدولة وأن تسقط . وفي موطن يغلب عليه عدم الإستقرار السياسي فمن المنتظر أن نرى سلطانا يهرب من السلطنة بأمواله ، أو أن يفرض السلطان على أتباعه عدم الحج خوف الفرار ، وذلك ما أشار إليهإبن خلدون عن نظم الحكم المتشاحنة في الأندلس . إلا أن الحال إختلف في مصر المملوكية في نفس العصر ، فالسلطان والأمراء قاموا بتحصين أموالهم من المصادرة عن طريق الوقف الأهلى . بأن يقيم أحدهم مسجدا أو خانقاه ويوظف فيها هيئة كاملة  من الإدارة والتعليم ، ثم يوقف للصرف عليهم أراضي زراعية وعقارات ويجعل نفسه قائما على ذلك الوقف ، وبالتالي تتحصن أطيانه الزراعية وعقاراته ومنشآته من المصادرة إذا ضاع سلطانه ونفوذه ، ومع هذا فقد كان بعض السلاطين يحتال على ذلك بالإستبدال كي يستولي على الأطيان الزراعية الجيدة بأراضي بور أو صحراوية وتكون متماثلة المساحة على الورق ومختلفة تماما في القيمة الحقيقية ، وكان قضاة السوء والفساد يساعدون في هذا التزييف.

وفي عصرنا تكفلت الحسابات السرية الأجنبية بحل المشاكل ، وكل عام وأنتم بخير .

 6- وأشارإبن خلدون إلى قيام الملوك بتسخير الرعايا بدون أجر ، وقيامهم باحتكار السلع وعملهم بالتجارة إستغلالا منهم للنفوذ والسلطة ، وقد احتج إبن خلدون على ذلك ، إلا أن الإحتكار والتسخير للناس يعبر عن منطق الإستبداد ، إذ أن السلطان يعتقد أنه يملك الأرض ومن عليها ، طبقا للثيوقراطية التي آمن بها إبن خلدون.

 7- ولأنه يعرف أنه ظالم معتد أثيم فإن السلطان المستبد يتوقع العقاب في الدنيا وأن يقع عليه ما يوقعه بالآخرين ، وبسبب هذا القلق السياسي على المستقبل فإن أولئك الملوك يتشوقون لمعرفة غيب المستقبل ، وهذا ما أشار إليه إبن خلدون حين قال أن الملوك والأمراء أكثر الناس إهتماما بمعرفة مستقبل دولهم . لذلك يهتمون بمدعى العلم بالغيب [13] وتلك أهم ملامح الإستبداد السياسي في الرؤية الخلدونية . ونستطيع أن نرى بعضها في عصرنا .



[1]
- المقدمة ، الفصل 25، 26، 27، 28، 29، من الباب الثاني .

[2] -  المقدمة ، الفصل 14، 15 من الباب الثالث                                                   

والفصل 18 من الباب الرابع .

[3] - المقدمة الفصل السادس عشر الباب الثالث

[4] - ابن الجوزي ، المنتظم 10/86. ط . بيروت

[5] - المقدمة الفصل 20 الباب الثالث

[6] - الفصل 7 الباب الثالث .

[7] - الفصل 2 الباب  3      

الفصل 21 الباب 3   

الفصل 22 ، الباب 3

[8] - الفصل 13 الباب 3

[9] - الفصول 21، 46، 47، 48، 49، 50 ، الباب 3.

[10] -  الفصول ، 10، 11، 12، من الباب الثالث .

[11] - ابن الجوزي ، المنتظم 8/184.

[12] - المقدمة ، الفصل 42 الباب 3

[13] - المقدمة ، الفصل 54، الباب 3

اجمالي القراءات 8520