الفصل الثالث : اجتهادات إبن خلدون لعصره وعصرنا
( ق2 ف3 ) : أخطاء خلدونية مختلفة

آحمد صبحي منصور في الإثنين ٢٨ - سبتمبر - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً

 

كتاب مقدمة إبن خلدون: دراسة تحليلية 

  القسم الثاني : قراءة في مقدمة إبن خلدون

 الفصل الثالث : اجتهادات إبن خلدون لعصره وعصرنا 

أخطاء خلدونية مختلفة :

أولا : أخطاء صغيرة غريبة

 1 ـ    على أن تنقيح إبن خلدون الهزيل للمقدمة فى مصر لم يعصمها من أخطاء تاريخية نستغرب صدور بعضها عن مؤرخ مثله ، فهو يقول أن الخليفة المستظهر بالله العباسي أعطي لقب أمير المؤمنين إلى يوسف بن تاشفين [1]. والمشهور تاريخيا أنه أعطاه لقب " أمير المسلمين " . وقد ظننت في الأمر خطأ مطبعيا في طبعة بولاق الأصلية التي اعتمدت عليها في هذا البحث، ولكن وجدت نفس الكلام في طبعات أخرى للمقدمة . والغريب أن إبن خلدون  بعدها في التاريخ يقرر أن الخليفة العباسي منح إبن تاشفين لقب أمير المسلمين ، وذلك في معرض تأريخه للمرابطين في الجزء السادس [2].

2 ــ    ومن هذه الأخطاء التاريخية الغريبة حديثه عن معرفة الصحابة بالغيب في معرض كلامه عن الملاحم والجفر ويذكر من الصحابة كعب الأحبار ووهب بن منبه [3]. وهما من مسلمة بني إسرائيل وكعب الأحبار أسلم في خلافة عمر حيث جاء المدينة لأول مرة ، وبالتالي فلم يشهد النبي ولم يره ، ولم يكن من الصحابة .

3 ــ       ويؤكد إبن خلدون في أكثر من موضع على أن مصطلح " القراء " هم الذين يعرفون القراءة والكتابة من الصحابة ، أي أنه مفهوم يناقض " الأمية " [4] ، وذلك تفسير خاص بإبن خلدون لا يتفق مع البداية التاريخية لولادة هذا المصطلح ، إذ أن مصطلح القراء كان لا يعني القراءة وإنما كان يعني الأعراب الذين كانوا يتهجدون بالليل يقرؤون القرآن ، وأولئك إنضموا إلى علي بعد ثورتهم على عثمان ، وحاربوا مع علي في الجمل وصفين ، وهم الذين أرغموا عليا على قبول التحكيم في صفين ، يقول  الطبري في تاريخه بعد رفض علي للتحكيم " فقال له مسعر بن فدك التميمي وزيد بن حصين الطائي في عصابة معهما من القراء الذين صاروا خوارج فيما بعد : يا علي أجب إلى كتاب الله إذا دعيت إليه " [5]، وفعلا إشتهر الخوارج الأوائل بلقب القراء مع ألقاب أخرى . ولم يكن أولئك الأعراب يكتبون ويقرأون بالمدلول العلمي للكلمة .

4 ــ     ومن آراء إبن خلدون التي كانت تحتاج إلى تنقيح ومراجعة تاريخية قوله بأن الخلفاء العباسيين إستحدثوا لقبا آخر للخلفاء يتميزون به فكان من ألقابهم المنصور والمهدي والهادي والرشيد ، وسار على نهجهم الفاطميون ، واضطرب تفسيره لذلك [6].

والذي نراه أن الأمويين كانوا حكاما عربا أقرب إلى شيوخ القبائل يحكمون بمنطق القوة وحدها ، أي بمنطق المُلك الطبيعي في مصطلح إبن خلدون . فجاء العباسيون بمنطق الدولة الدينية وشاراتها ورموزها ، وكان من رموزها تلقيب الخليفة بلقب ديني ، وبدأ هذا اللقب الديني بالمنصور والمهدي والهادي والرشيد والأمين والمأمون ، ثم أضيف له فيما بعد لفظ الجلالة ، كالمعتصم بالله والمكتفي بالله والناصر لدين الله . . وعلى نفس المنوال سار الفاطميون ، ثم الأيوبيون حيث كان يضاف لفظ الدين " صلاح الدين " " أسد الدين.." ثم أصبح عاما تلقيب كل إنسان في العصر المملوكي بلقب ديني خصوصا من العلماء ، مثل شهاب الدين ،زين الدين ، أكمل الدين . حيث سيطر التدين السطحي على الحياة الإجتماعية بعد أن انتقلت إليها العدوى من الحياة السياسية .

 5 ــ    ويقتضينا واجب الإنصاف أن نذكر لإبن خلدون أنه ذكر رسالة حي بن يقظان ونسبها إلى صاحبها الأصلي الرئيس إبن سينا ، وليس كما هو مشهور الفيلسوف الأندلسي ابن الطفيل.

ثانيا : أخطاء فى العلوم الطبيعية  

   وهذا يدخل بنا على المنهج العقلي الطبيعي وما تناثر من أخطاء في المقدمة في هذا المجال . ومنبع الخطأ هنا هو في أنه إتبع الثقافة السائدة في عصره.

1 ـ في الجغرافيا وتقسيم العالم إلى مناطق جغرافية وأجناس بشرية تابع ابن خلدون ما قاله بطليموس . وأخذ عنه تأثير الهواء في الناس وفي الألوان ، واكتسب منه رؤية عنصرية نحو الأفارقة ، وجعلهم أقرب إلى الحيوان ، مع أنه كان أقرب من بطليموس إلى الأفارقة في المكان والثقافة ، وسجل بعض تواريخهم في كتابه في العلاقة بالبربر على الخصوص ، لذلك فإنه من الخطأ أن يقول عنهم " تذعن السودان للرق لنقص الإنسانية فيهم وقربهم من  الحيوان [7]. ويستثني الجزيرة العربية من الأقاليم الجغرافية البدائية وفق تقسيم بطليموس ، ويقول إن البحر أحاط  بالجزيرة العربية فترطب هواؤها وأصبحت معتدلة نسبيا ، وهذا خطأ واضح ، ونرجو أن يكون قد عرف هذا الخطأ حين قام بالحج من مصر سنة 789هـ .

2 ــ     وفي مجال التشريح نقل إبن خلدون أقسام المخ وموقعها من التفكير والتخيل ، وهو يخالف المعروف الآن عن فصوص المخ على الجانبين ،ولا ننتظر منه بالطبع أن يفعل ما فعله عبداللطيف البغدادي حين قدم إلى مصر في سلطنة العزيز عثمان بن صلاح الدين الأيوبي ، وكان وقت مجاعة ، والجثث منتشرة فأخذ يتفحصها وأضاف ثروة إلى معلوماته ومعلومات عصره .

 ولكننا ننتظر منإبن خلدون رؤية واضحة لعلم العمران مستقاة من أحكام تاريخية ناضجة .

ثالثا : أحكام سياسية خاطئة

    إلا أن بعض أحكامه السياسية تقع في الخطأ من وجهة نظرنا ، ونعطي أمثلة :

  1- يقول أن الأمة المغلوبة التي غلبتها غيرها يسرع إليها الفناء [8] ، وليس ذلك صحيحا بدليل بقاء وتكاثر الموالي في العراق وإيران والأنباط في الشام والمصريين والبربر بعد الفتوحات . وبدليل أن بريطانيا كانت لا تغيب عن أملاكها الشمس ، وتناقص سكانها الآن بينما تضاعف سكان مستعمراتها فيما بين الهند شرقا إلى مصر وأمريكا غربا .

   2- ويقول إن عظم الدولة واتساعها وبقاءها بقدر نسبة القائمين بها ، واستدل بأن كثرة الجيوش العربية أسقطت فارس وهزمت الروم . ولكن عدد سكان العرب كان بالتأكيد أقل من سكان الفرس والروم ، بل كان عدد سكان مصر في ذلك الوقت يتجاوز عشرة ملايين بدليل مقدار الجزية المدفوع ، والتفسير الصحيح ليس بالعدد أو الكم ولكن بالكيف ، فالعرب كانوا قوة مسلحة ناهضة لديها مشروع يحقق لهم خيرا دنيويا ويعدهم بالجنة في الآخرة ، وذلك في مواجهة إمبراطوريات متخمة أرهقها الترف .

   3- ويقول إن بقاء الدولة يتوقف على مدى قوة عصبيتها في النفوس ومدى رسوخ دعوتها في قلوب المؤمنين بها [9]، وليس ذلك قاعدة مضطردة . فقد تستمر الدولة الضعيفة باقية لظروف إقليمية أو دولية ، ينطبق ذلك على الدولة العباسية والدولة الفاطمية والدولة العثمانية ، في فترات الضعف . إذ منع سقوطها السريع عوامل خارجية بعضها إقليمي وبعضها دولي  .

   4- وقال أن الدعوة الدينية تزيد قوة الدولة فوق قوة عصبيتها . ويرى أن  الصبغة الدينية للدعوة تمنع التنافس الذي يصاحب العصبية ، ويجعل أهل الدول متحدين حول هدف واحد في مواجهة الدولة الأخرى التي يريدون فتحها والوثوب عليها . ويرى أن هذه الدولة الأخرى المطلوب فتحها يكونون كثرة إلا أنهم متخاذلون قد أرهقهم الترف وحب الدنيا ، لذا ينهارون سريعا أمام الدولة الفتية الناشئة ، ويستشهد بالفتوحات العربية الإسلامية وحركة الموحدين في شمال أفريقيا والأندلس .[10]

    ومع تناقضه هنا مع رأيه السابق ، إلا أن تفسيره الثاني هو الأقرب للصواب ، وهي وقوع القوة الأخرى في الترف ، أما الصبغة الدينية فقد تنجح ولكن في البداية ، ثم يتحول الإتحاد إلى تفرق عند توزيع الغنائم والتنافس في المتاع الدنيوي . ويؤدي ذلك سريعا إلى تقاتل وشقاق مذهبي وعقيدي ، وذلك ما حدث فى الفتنة الكبرى بعد الفتوحات  العربية ، وما نشأ عن من تأسيس أديان أرضية أكسبت الصراع بُعدا طائفيا دينيا ــ لا يزال حتى الآن .

 5- ويؤكد رأيه السابق حين يقول أن السبب في إنشاء الدولة إذا كان دنيويا إستدعى التنافس والخلاف ، أما إذا كان دينيا إتحد الجميع خلف هدف واحد .[11] ونكرر ما قلناه ،بأن الهدف في جميع الأحوال سياسي دنيوي ، وقد يكون مختفيا حول شعارات دينية مثل العباسيين والشيعة . وفي كل الأحوال ، فالحركات الدينية السياسية التي تنجح في إقامة الدولة أو تفشل في ذلك ليست حركات دينية ، وإنما هي حركات مذهبية دينية ، أي تقوم على رؤية دينية خاصة مستقاة من أغراضها السياسية ، وتزعم أن هذه الرؤية السياسية الفكرية هي صحيح الدين ، وتريد أن تقفز على أكتاف الناس بهذا الإدعاء . وإذا وصلوا إلى الحكم بهذا السبيل لا يلبث الشقاق أن يدب ببينهم في خلافات داخلية يزعم كل منها أنه الأصح دينيا ويتهم الآخر بالكفر والمروق .

الخلافات الدنيوية السياسية الواضحة  هى الأقرب إلى الحل ، لأنها مؤسسة على السياسة وتقبل أنصاف الحلول والصفقات المتبادلة ، أما الخلافات السياسية التي تختفي وراء المذاهب الدينية فلا سبيل إلى تجاوزها ، لأنها تدخل في نطاق الزعم بامتلاك الحقيقة المطلقة ، فكل فريق يرى أنه على الحق والآخر على الباطل . وهنا لابد من تصفية الخلاف بتصفية الآخر تماما . وهنا يظهر حد الردة ، كما حدث حين اخترعه العباسيون لأول مرة في تصفيتهم لخصومهم الفرس فيما يعرف بحركة الزندقة . وقام بذلك الخليفة المهدي( لاحظ مدلول اللقب ) ضد الزنادقة ( لاحظ أيضا مدلول اللقب ). وإستمر هذا هذا ساريا داخل الدول الشيعية ( الانشقاقات داخل الفاطمييين وداخل مذهبهم الشيعى الاسماعيلى ) ، ولا يزال هذا ساريا داخل الوهابية الحنبلية السنية فى عصرنا ( الخلافات بين عبد العزيز والاخوان النجديين ، الخلافات بين السعودية والاخوان المسلمين ، الخلافات بين التنظيمات الوهابية المسلحة ). ويتبع الخلاف التكفير ومحاولات التدمير.

  6-  وقال إبن خلدون [12] إن نهاية الحسب في العقب الواحد أربعة آباء ، واستشهد بالحديث القائل :  

" إنما الكريم إبن الكريم إبن الكريم إبن الكريم يوسف بن يعقوب بنإسحق بن إبراهيم " مع أنه لا علاقة لذلك الحديث باستشهاد إبن خلدون ، حيث استمر الحسب الطاهر متمثلا في نسب الأنبياء من بني إسرائيل حتى عيسى من ذرية يعقوب وإبراهيم عليهم السلام . بل يمكن القول بأن الإستشهاد بالحديث جاء على العكس ، لأن يوسف – على أساس الرؤية الخلدونية -- هو العقب الأخير ، ولكن يوسف لم يهدم ملك آبائه أو حسب آبائه وشرفهم . بل أن يوسف هو الذي استقدمهم إلى مصر حين أصبح العزيز فيها ، وهو الذي رفع أبويه على العرش وأقام لإخوته في  مصر جاها سياسيا .

7 ــ    وفي هذا السياق إستشهد إبن خلدون بما جاء في التوراة من أقوال نراها محرفة – وهي أن الله تعالى يأخذ الأبناء بذنوب الآباء على الثوالث والروابع ، أي حتى الجيل الرابع ، وذلك يخالف القاعدة الإلهية ، من أنه لا تزر وازرة وزر أخرى .

8 ـ     وفي النهاية فإن القول بأن نهاية الحسب في أربعة آباء قد تصح حينا ، ولكنها تسقط كثيرا ، والأدلة كثيرة في بيوت علمية إشتهرت لأكثر من  أربعة أجيال في العصر المملوكي ، مثل بيت الشحنة بين حلب والقاهرة ، وقد تخصصوا في القضاء ، وبيت البلقيني وبيتالسبكي . ولماذا تذهب بعيدا ونترك الحسب العباسي الذي  استمر منذ العباس عم النبي عليه السلام ثم تملك أمر المسلمين في الدولة العباسية إلي أن سقطت الدولة بالمغول ، ثم استمرت الخلافة العباسية في مصر المملوكية إلى أن انتقلت إلى بني عثمان بعد الغزو لمصر سنة 921، أي استمر هذا البيت وحده عشرة قرون متمتعا بالحسب والنسب والجاه .  ومما لا شك فيه أن بعض هذه الأخطاء أوقع إبن خلدون في تناقض .

والتناقض سمة أساس في المقدمة .

 



[1]
-  الفصل الثاني والثلاثون ، الباب الثالث.

[2] - تاريخ ابن خلدون : الجزء السادس ص 188 . ط بولاق

[3] - الفصل الرابع والخمسون ، الباب الثالث

[4] - الفصل الخامس والثلاثون ، الباب السادس

[5] - تاريخ الطبري ، 5/ 49.

[6] - الفصل الثاني والثلاثون ، الباب الثالث

[7] - الفصل الرابع والعشرون ، الباب الثاني 44- 49 .

[8] - الفصل الرابع والعشرون ، الباب الثاني

[9] - الفصل الثامن ، الباب الثالث .

[10] - الفصل الخامس ، الباب الثالث

[11] - الفصل الرابع ، الباب الثالث

[12] - الفصل الخامس عشر ، الباب الثاني .

اجمالي القراءات 8556