المصريون وسيكولوجية الرعية

كمال غبريال في الجمعة ٢٣ - مارس - ٢٠٠٧ ١٢:٠٠ صباحاً

ربما أهم ما يعترض منطقتنا – وأخص بالدرجة الأولى مصر- من إشكاليات، هو ضعف أو حتى انعدام الاهتمام الشعبي بدعاوى الديموقراطية وتداول السلطة، فلا يكاد يتجاوز هذا الاهتمام في أحسن الحالات مجرد الدردشة الفاترة، دون الحماس الضروري، الذي يدفع للمشاركة الفعالة في تغيير الأوضاع.

لا نرى الأمر ناتج عن مجرد نقص التوعية السياسية، والتي لا تحتاج لأكثر من الإعلام والتبشير، بحقوق المواطن وواجباته في الدولة الحديثة، فالرسالة المقصودة يتم إبلاغها للجماهير حالياً، عبر القنوات الفضائية المفتوحة، والتي تطلعنا عما تستطيع الشعوب أن تساهم به في صياغة مستقبلها، والإمساك بزمام حياتها بين أيديها، فرأينا أولاً ما فعله الشعب البولندي، مروراً بثورة أوكرانيا البرتقالية، وأخيراً وليس الآخر حركة الشعب اللبناني فيما يعرف بحركة 14 آذار، وهي نماذج جيدة لتحفيز الشعوب على إدراك الدور المنوط بها لتغيير واقعها، والبرهنة على قدرتها على مواجهة قوى الاستبداد العاتية، وهي مجردة من كل سلاح، سوى إرادتها في حياة حرة.

يدلنا ما نشاهده أيضاً من أحوال عالمنا في عصر السماوات المفتوحة، على أن قبضة الحكومات البوليسية لم تعد هي العائق الذي كان أمام حرية الشعوب، فارتباطات المصالح بين الدول، واحتلال الدول الشمولية لقاع العالم من حيث القوة الاقتصادية على الأقل، جعل مما يمكن تسميته بالضغوط الخارجية، خير معين للشعوب المطالبة بحريتها، في مواجهة عسف سلطاتها المحلية وتجبرها، كما حدت إلى درجة كبيرة من المدى الذي تستطيع هذه السلطات الذهاب إليه، في استخدام القوة لقمع الشعوب، فلا يمكن الآن مثلاً أن يتكرر ما حدث في المجر 1956، ولا في ربيع براغ 1968، وربما كان سقوط نظام البعث الصدامي في التاسع من أبريل 2003، هو النهاية لعصر الأنظمة القادرة على التصدي لإرادة الجماهير بالقوة الغاشمة التي لا تعرف لها حدوداً.

كما لا يكفي إدراك الجماهير لأزمتها الحياتية، لتتحرك في اتجاه التغيير، بإمساك السلطة بين أياديها، بمعنى وضعها بين يدي من ترى أنهم جديرون بتحقيق آمالها، فالجماهير تعاني حياتها التي تزداد صعوبة، وربما مأساوية يوماً بعد يوم، ومع ذلك فهي تكتفي بدور المراقب الصابر، وفي أقصى الأحوال تأخذ دور الحانق المتذمر، لكنها لا تتقدم بعد ذلك خطوة.

نرصد أيضاً حركة النخب الثقافية المعارضة، والتي ترفع شعارات التغيير والديموقراطية وتداول السلطة، لنجد فيها ذات الملامح للموقف من الحاكم، وهو موقف الرعية التي تطلب من الراعي أن يوفر لها كل ما تطلب، بغض النظر عن شرعية وعدم شرعية طلباتها، وبغض النظر أيضاً عن الإمكانيات المتاحة للأمة لتحقيق تلك المطالب.

ما يميز الأمة المصرية بجماهيرها ونخبها الثقافية، هو سيكولوجية الرعية، التي تنظر إلى الحاكم كقوة خارجية قدرية تحكمها، وهذا يترتب عليه من جانب الجماهير ثلاثة أمور:

الأول هو عدم التفكير في المشاركة في السلطة، وأن أقصى دور لها هو أن تصفق أو تبايع القائد المعروض عليها، لتترك له الأمر بعد ذلك يفعل ما يشاء، وكيفما يشاء، فهذا هو دوره الخاص، وعليها فقط تلقي النتائج، ونأخذ هنا المثال الشهير، والذي يثير التعجب والتساؤل لدى الكثيرين، وهو موقف النخبة المصرية، ممثلة في الشيخ عمر مكرم والشيخ السادات وأصحابهما، بعد رحيل الحملة الفرنسية، وكيف أنهم لم يفكروا في تولية واحداً منهم، بل ذهبوا إلى المغامر الألباني لينصبونه حاكماً، والتفسير الوحيد لذلك اللغز، هو أنهم رغم اعتبارهم صفوة ثائرة، إلا أنهم يتحركون بنفس سيكولوجية الجماهير، التي تري نفسها في دور الرعية، لا تتعداه إلى دور الحاكم، المنظور إليه كقوة خارجية، وبالتالي ليس من المستهجن أن تعطى السلطة ليد غير مصرية، ونفس هذا المنطق نرصده عبر التاريخ في ترشيحات بطاركة كنيسة مصر الأرثوذكسية، والتي لم تلتزم بالجنسية المصرية، إلى حد أن تساءل بتعجب أحد الولاة العرب على مصر، حين رشح له الأقباط شخصية غير مصرية ليجعلونه بطريركاً عليهم.

الثاني هو توقف الجماهير في حالة سوء النتائج، عند موقف الصابر الراضي أو الحانق المتذمر، حسب درجة سوء النتائج، لكنها لا تتقدم أكثر من ذلك لتعديل أداء الحكام مثلاً أو استبدالهم، لأنها نفسياً تتحرك من دور الرعية، لا الشريك في دور الرعاية، ويدلنا على ذلك موقف الجماهير، وهي تراقب عن بعد تظاهرات حركة كفاية، فبضع عشرات أو مئات من المثقفين يتصايحون مطالبين بالتغيير، فيما الجماهير تكتفي بالوقوف على الأرصفة ببلادة منقطعة النظير، فالأمر سيكولوجياً لا يعنيها، فهي مجرد رعية تتمنى أن يتولى أمرها راعي صالح يحقق لها ما تريد، هنالك أيضاً مثال في اضطرابات 18 و19 يناير 1977، إثر ارتفاع الأسعار بقرارات حكومية مفاجئة، فقد هبت الجماهير من الإسكندرية إلى أسوان، تعلن تذمرها بحجم كان كفيل بأن يجعل من هذا اليوم تاريخ أعظم ثورة شعبية مصرية، فيما لو امتد الأمر لإحداث تغيير في السلطة، بسياساتها ونظمها وشخوصها، لكن الأمر كعادة الرعايا اقتصر على إعلان التذمر وكفى، مادامت الجماهير لا تضمر التدخل في أمر الحكم، وبالتالي لم تضم صفوفها من يتطلع إليه، ناهيك عن وجود من لديه تصور جديد لسياسات الحكم واستراتيجياته.

الثالث في كم ونوع المطالب التي تريدها الجماهير وصفوتها من الحاكم، والتي نلحظ انقطاع الصلة بينها وبين الواقع وإمكانياته واحتمالاته، فنحن نريد من الحاكم مثلاً أن يتحدى الإدارة الأمريكية ويهزمها، دون أن يخطر ببالنا أن ندله على الإمكانيات الخافية عليه، والتي يمكن أن تتيح له ذلك النصر المبين، نريده كذلك –كما في مقولات حركة كفاية- أن يوحد العرب ويزيل إسرائيل من الوجود، أو على الأقل يحاصرها في ركن ضيق يدفعها للاختناق أو الانتحار، نطلب كل هذا دون أن نكلف أنفسنا عناء تأمل الواقع، لنفرق بين الممكن والمستحيل، فهذه ليست مهمتنا، فنحن رعية دورها أن تطالب، والحاكم هو الراعي دوره أن يتدبر أمره ليرضينا.

على ذات المنوال نتوقع من الحاكم أن يقضي على مشكلة البطالة ويوفر لنا الرخاء، رغم أن المطالبين أغلبهم بطالة مقنعة، لا تؤدي دورها في عملية الإنتاج بالصورة التي توفر الحد الأدنى من المعيشة الكريمة لشعب منتج، وليس فقط شعب مستهلك، لا يشبع من الاستهلاك، ولا يمل من المطالبة السلبية.

يصعب حصر الظواهر الاجتماعية والسياسية والدينية التي لا تفسير لها إلا ما أسلفنا من تشخيص، فانقياد الجماهير بل وقادتها لرجال الدين، يسألونهم فيجيبون، ليتم ابتلاع الإجابات أياً كانت منطقيتها ودلالاتها، دون مراجعة أو حتى تأمل فيما يترتب عليها من نتائج، خلف هذا سيكولوجية القطيع، التي تبحث طول الوقت عن الاتجاه الذي تشير إليه عصا الراعي، فتتحرك باطمئنان، بضمانة الراعي، المسئول وحده عن تحديد الاتجاه، والذي لا يواجهه في حالة الفشل إلا التذمر الصامت، أو المصحوب بقليل من الهمهمة.

إذا وصلنا إلى سؤال: وما هو الحل؟ نجد أنفسنا أمام ظاهرة مركبة، فهذه حالة عقلية ونفسية يظاهرها ظروف وتقاليد اجتماعية، كذا نظم اقتصادية وسياسية، ومنظومات ثقافية ودينية، كلها تتداخل وتتفاعل، لتنتج لنا إنساناً منقاداً، يخاف من الحرية ولا يرغب في تحمل تبعاتها، إنساناً استهلاكياً شرهاً، يطالب بالكثير دون استعداد لدفع ثمن ما يطالب به، ولقد شجع حكامنا على مر العصور هذا، سواء بوعي أو عدم وعي بجذوره، فهو يحقق للحاكم أقصى ما يتمناه، وهو تعلق قلوب وعقول الشعب به، انتظاراً لأن يحقق لهم كل ما يطمحون إليه، بما فيها الكرامة، على حد قول جمال عبد الناصر في حادث المنشية، الأمر إذن اعقد وأوسع من تناول علاجه في عجالة كهذه، وأقصى ما أطمح إليه هو لفت الأنظار لعلة الداء، عسى أن يكون محل بحث ودراسات علمية وافية.

 

اجمالي القراءات 11673