(ق2 ف1 ) المنهج الفكري اليونانى وتأثيره فى الحضارة العربية

آحمد صبحي منصور في الإثنين ٢١ - سبتمبر - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً

(ق2 ف1 ) المنهج الفكري اليونانى وتأثيره فى الحضارة العربية

كتاب مقدمة إبن خلدون: دراسة تحليلية 

  القسم الثاني : قراءة في مقدمة إبن خلدون   

  الفصل الأول : موقع مقدمة إبن خلدون فى تاريخ الحضارة العربية

 

المنهج الفكري للحضارة اليونانية

   تشابهت عقائد الشرق الهندية والغرب اليونانية وأدى غزو الإسكندر الأكبر لامتزاج الحضارتين الشرقية والغربية فيما يعرف بالثقافة الهلينية ، ومن الطبيعي حينئذ ان تتطابق عقائد الشرق والغرب . ووحدة الوجود التي هي أساس عقائدهم الوثنية لا ترى فارقا أساسيا بين الخالق والكون ، والحضارة اليونانية كانت تعلى من شأن العقل بقدر ما تحتقر العمل اليدوي ، من هنا كان العقل أساسا للبحث اليوناني في فترته الأولى .

     فالعقل اليوناني كان الأساس في بحث الطبيعة وما فيها من مواد وأجسام ، كما كان نفس العقل أساسا للبحث فيما وراء الطبيعة من سمعيات كالألوهية والقضاء والقدر ومشكلة الشر ونشأة العالم ..

    ومن الطبيعي أن يفشل العقل في بحث الأمور الطبيعية التي لابد لها من المنهج التجريبي القائم على السير في الأرض والنظر والتفكر وإجراء التجارب كما أشار لذلك القرآن الكريم .

    ومن الطبيعي أيضا أن يفلس العقل في بحث ما هو فوق طاقته من ذات الله تعالى وصفاته وقضائه وقدره وجنته وناره . وأدى إفلاس المنهج العقلي إلى البحث عن منهج آخر ، وكان البديل منبثقا عن نفس عقيدة وحدة الوجود ، وتم ذلك الإنقلاب الجديد على يد افلوطين السكندري الذي نشر مذهب الأفلاطونية الحديثة وقد استوحاها من نظرية الفيض الإلهي التي قال بها أفلاطون .

       فأفلاطون قال بإمكانية صعود النفس للعقل الألهي حيث تخلص إلى عالم البقاء وذلك إذا تخلصت النفس من عجز الجسد والمادة ، وقد استوحى أفلوطين السكندري من تلك المقالة نظريته الجديدة في المنهج الفكري فطالما أن بإمكان النفس أن تتحد بالعقل الإلهي  فيمكنها حينئذ أن تشرق فيها المعرفة الإلهية وتأخذ العلم من لدن الله .

      من هنا بدأت مقولة العلم اللدني في الوسط المسيحي وأدت إلى تعزيز سيطرة رجال الكهنوت المسيحي الذين اتخذهم الناس أربابا من دون الله فأصبح من حقهم وحدهم بالرياضيات(الروحية) والأذكار والطقوس أن يصلوا إلى العلم الإلهي حيث لامجال للإعتراض أو المناقشة أو الحوار مع علم يزعمون أنه من لدن الله تعالى .

    ومن الطبيعي حينئذ أن تتوقف الحياة العلمية العقلية التي أظهرتها مناقشات المنهج العقلي الذي ساد قبلا ، فالعلم اللدني ينظر أصحابه إلى العلم الآخر(العلم الظاهر ) نظرة إحتقار لأنه علم بشري مكتسب ، ويشترطون فيمن يتصدى للحصول على العلم الإلهي اللدني أن يكون قلبه فارغا من العلم البشري وصالحا لتلقي العلم الإلهي وذلك بوسائل أبعد ما تكون عن تحصيل العلم ( الظاهر ) والسعي إليه ، ثم إذا وصل صاحبنا بزعمه إلى العلم الإلهي فلا اجتهاد مع وجود نص ، ولا مجال لمناقشته أو الإعتراض عليه بل يجب أن يؤمن الناس بما يقوله وإن يسمعوا ويطيعوا.

     وهكذا كانت مقولة العلم اللدني هي القاضية على الحياة العلمية ، وحين بدأت الفتوحات الإسلامية كانت المدارس اليونانية في الشام والعراق وآسيا الصغرى تعاني من تسلط الكهنوت المسيحي صاحب العلم اللدني وخرافاته ومزاعمه .

     وبهذا انتهى المنهج اليوناني ، إلى لا شئ . وكان لابد أن ينتهي إلى نفس النتيجة كل من يتأسى بالمنهج اليوناني ، وذلك ما حدث مع الحضارة ( الإسلامية) .

المنهج الفكري للمسلمين

    لم يرتبطوا بمنهج القرآن الذي أوضحناه في بداية المبحث وإنما التزموا منهج اليونان الذي  عايشوه قبل الفتح الإسلامي بقرون .

أثر الموالي :

   ويرجع ذلك إلى أن الموالى – أبناء البلاد المفتوحة هم الذين سيطروا على الحياة العلمية حيث انشغل العرب بالسياسة والحكم والحرب والفتن ، والعرب أساسا ليسوا أصحاب حضارة ومنهج فكري ، أما الموالي فهم اصحاب حضارة قديمة ولديهم الفراغ حيث لا إنقطاع للسياسة أو الحكم ، ولديهم أيضا الدافع للتفوق والإمتياز على العرب في مجال العلم الذي يجيدونه ويتفوقون فيه ، ثم لديهم دافع آخر هو توجيه الحضارة ( الإسلامية ) إلى ما ألفوه في سابق حياتهم ، ولدى بعضهم حقد على الإسلام وحرص على حربه ، ووسيلته للإنتقام هي تحريف عقيدة الإسلام بعقائد الشرك تحت ستار التشيع والتصوف والحب والوجد ، وليس مستغربا أن يكون رواد التشيع والتصوف من الأعاجم بل من أصحاب الحرف أحط  طبقات المجتمع وقتها .

نظرتهم للقرآن

    والموالي قادة الحضارة ( الإسلامية ) سواء كانوا حسني النية أو سيئي النية نظروا للقرآن الكريم نظرة قاصرة ، اعتبروه معجزا للعرب في الفصاحة فقط ، فحولوه إلى نص فصيح يستشهدون به في أمور البلاغة والبيان والاعراب ، ولاتزال تلك النظرة الخاطئة سارية حتى الآن ، وكانت النتيجة أنهم حرموا أنفسهم والعالم والمسلمين من الإستفادة بالقرآن الكريم في منهجه وحقائقه التشريعية والعلمية التي كانت في متناول المسلمين منذ أكثر من عشرة قرون دون أن يستفيدوا منها ، لأنهم استغرقوا في إعراب آيات القرآن الكريم وتبين أوجه البلاغة فيها دون فهم حقيقي لمضمونها ومقصودها .

    ثم كانت المصيبة الأخرى التي فرض بها الموالي آراءهم على القرآن الكريم وتسللوا بها لتحريف معانيه وتشريعاته ، وهي اختراع علم ( التفسير) ومعلوم أن لفظ ( التفسير) لايناسب أن يرتبط بالقرآن الكريم ، فالقرآن الكريم ليس بحاجة لتفسير ، فالتفسير إنما يكون لكلام الغامض المستغلق على الفهم ، أما القرآن فهو ( كتاب مبين ) يسره الله تعالى للذكر ({وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ. القمر }( فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ  .. مريم 97)  {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ الدخان 58}.

          وحقيقي فإن من إعجاز القرآن هو سهولته واقترابه من مدارك الشخص العادي إذا تدبر وتعقل معناه مع كونه في أعلى درجات الفصاحة المعجزة ، ويكفي أنه أعجز العرب الجاهلين في فصاحته ولايزال بيننا ميسرا للذكر ، هذا مع أننا لو قرأنا شعرا جاهليا رقيقا في الغزل لعجزنا عن فهمه لجزالة لفظه وغرابة معناه ، فاللغة كائن حي يتطور حسب ظروف كل مجتمع ، ولكن القرآن الكريم فهمه العرب الجاهليون كما فهمه أبناء القرن العشرين . والقرآن الكريم لايحتاج إلى تفسير لأنه يفسر بعضه بعضا ، فهو كتاب مثاني يجنح للتكرار المعجز ، يقول تعالى {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً. الفرقان 33 }  فآيات القرآن هي أحسن تفسير لآيات القرآن ، والباحث في القرآن لا يفسره وإنما يتدبر الآيات في الموضوع المبحوث بمنهج عقلي غير منحاز ، وكذلك يجمع الآيات ويستعين ببعضها على البعض ليتوصل إلى حقائق جديدة وليس ذلك بالتفسير ، وإنما هو التعقل والتدبر ، وتدبر القرآن فريضة إسلامية .

      وإذا جاز ـ فرضا ــ التسامح في إطلاق لفظ التفسير على البحث في كتاب الله تعالى فإنه لا يمكن التسامح مع استخدام ذلك التفسير لفرض آراء البشر على كلام الله تعالى ، فهنا يتحول التفسير إلى تحريف ، وذلك مع الأسف هو ما ارتبط بعلم التفسير حيث تسللت الإسرائيليات إليه وأفسدت عقائد المسلمين وافكارهم ، ولازلنا حتى اليوم لا نعترف بالآية القرآنية إلا أذا كانت أقوال المفسرين شفيعا لها ، وذلك منتهى الظلم لله تعالى ولكتابه الكريم ، وإلى الموالي يرجع ذلك التردي الذي لازلنا نعيشه في نظرتنا للقرآن الكريم وتعاملنا معه .

      والموالي ــ قادة الحضارة ( الإسلامية ) ــ طالما نظروا للقرآن الكريم هذه النظرة فلا يمكن أن يخضعوا له في منهجهم العلمي ولابد أن تحدث الفجوة بين منهج القرآن والمنهج الذي سارت عليه الحضارة الإسلامية، بفعل قادتها من الموالي .

تناقص منهج الحضارة العربية مع القرآن الكريم

    وهناك مظاهر عديدة لتناقض المنهج الفكري للحضارة ( الإسلامية ) مع القرآن الكريم أهمها ما يلي :

1-  مخالفة المنهج القرآني في البحث التجريبي:

      فقد رأينا القرآن يدعو للمنهج التجريبي في بحث العالم المادي الذي سخره الله تعالى للإنسان وذلك بالسير والسعي والنظر والتفكر واستعمال الحواس كي يصل الباحث إلى معرفة قدرة الله تعالى في الخلق .

     أما المنهج اليوناني في مرحلته الأولى فقد كان يعول أساسا على البحث العقلي ويحتقر العمل اليدوي وقد تابع رواد الحضارة الإسلامية إتجاه اليونان إذ عكفوا على شرح التراث اليوناني وتأييد نتائجه في العلوم الطبيعية من طب وهندسة وكيمياء وفلك وجغرافيا ، ولم يختلفوا معه إلا بالقدر اليسير ، فكانوا إلى مجتهدي المذاهب أقرب ، أي مثل ذلك الذي يجتهد في إطار مذهب فقهي معين ، قد يأتي بجديد ولكن في إطار المذهب الفقهي الذي يتبعه ، وبالطبع لا يمكن أن يكون ذلك المجتهد في مذهب معين مبتكرا أو عالما مجددا ، وذلك حال علماء العرب والمسلمين في العلوم الطبيعية مثل إبن سينا والإدريسي وجابر بن حيان .

     ولو اتخذ أولئك من القرآن هاديا ومرشدا واتبعوا منهجه لساروا في الأرض ونظروا كيف بدأ الله الخلق وكيف أحكم كل شئ وقدّره تقديرا ، ولجعلوا التجربة العملية الرائد الذي يتبعونه لا التراث اليوناني واساطينه ، ولو فعلوا لكان التقدم العلمي الحديث من نصيب المسلمين .

2-  مخالفة منهج القرآن في البحث في عالم الغيب والسمعيات :

    وعرفنا منهج القرآن في عالم الغيب والسمعيات ، إنه يدعو للإيمان بغيب الله وحده ، ومعنى أن يؤمن الإنسان يعني أنه لا مجال لديه إلا التسليم والإعتقاد بما أخبره به كتاب الله تعالى ، فالمؤمن مطالب بالإيمان بالله وملائكته والجن والملائكة ويوم الدين .

     والله تعالى صاحب الشأن في هذه الغيوب ، وقد خلق العقل الإنساني وهو أعلم بما خلق ويعلم أن العقل الإنساني الذي خلقه لا يستطيع أن يفهم إلا ما سخره الله له في الكون من جماد ونبات وحيوان أما فوق ذلك فلا يستطيع ، والبحث في الأمور الغيبية يؤدي إلى الضلال والتفرق والشقاق .

    ولكن اليهود الذين ضلوا بالعلم البغي حاولوا أن يضلوا المسلمين في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام بأن أوعزوا إلى  بعضهم بالسؤال عن ذات الله ، فكانت إجابة القرآن تنهي عن  الخوض في ذلك   {أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ }  {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ   ... البقرة 108 ، 109}  {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللّهُ عَنْهَا وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ، قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ  .. المائدة 101، 102}، وسأل بعض المسلمين بإيعاز من اليهود عن جبريل صاحب الوحي وهو روح الله – وهذا لقبه – الروح – فقال تعالى  . {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً.. الإسراء 85} وسألوا عن موعد الساعة ومتى تقوم القيامة فكانت الإجابة ({يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللّهِ. 187 الأعراف} ، { يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا  فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا  ؟ إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا  . إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا... النازعات 42: 45 }.

إذن فالإبحار في بحر الغيب الإلهي ممنوع – وقد حذر الله تعالى من الخوض في ذات الله تعالى وجبريل – وهو الروح – وموعد الساعة ، وكان القرآن الكريم يخبر الرسول عما يسأله الناس من أمور الدين والدنيا والكون  {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ، وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ.. . يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِير ... البقرة 189، 219، 217 }أما حين يأتي السؤال في المنهي عنه يأتي التحذير كما أشرنا .

     كان أولى بعلماء الحضارة ( الإسلامية ) أن يتبعوا منهج القرآن فلا جدال في الله ( ُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ .الرعد13 } إلا أنهم مع شديد الأسف اتبعوا منهج السلف .. بحثوا في ذات الله وصفاته والقضاء والقدر وعلامات الساعة ، وقد ذكرنا الآيات التي ترجع علم الساعة إلى الله تعالى وحده وحتى فالرسول نفسه لا يعلم علاماتها ، ومع ذلك البيان الصريح بأنه لا يجلي الساعة لوقتها إلا الله وحده والرسول (ص) نفسه لا يعلم شيئا عنها ، فإنهم نسبوا للرسول أقوالا عن علامات الساعة ووقتها ويعتقدون حتى الآن صحتها .

مراحل علم اللاهوت عند المسلمين :

1- وقد بدأ علم اللاهوت – علم البغي – عند المسلمين فيما يعرف بعلم الكلام – أو ما يطلقون عليه علم التوحيد ثم انتهى إلى فلسلفة محضة .

   بدأ علم الكلام فحوّل الفرق السياسية المسلمة إلى فرق مختلفة في العقيدة ، إختلف المسلمون حول الخلافة ومن يستحقها بين شيعة وخوارج ومرجئة فجاء علم الكلام فحول تلك الخلافات السياسية إلى خلافات عقيدية لاهوتية ، وتمت بذلك الكارثة ، فطالما وصل الإختلاف إلى الدين فقد وقع المحظور {وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ   مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعا )ًالروم 31 : 32}  {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ..الانعام 159 )

    وكان أثر الفلسفة أكبر في الشيعة وهم فرس وأعاجم ويهود ممن أدمن الفلسفة ، لذا رأينا التشيع المتطرف يظهر منذ البداية في فرقة السبأية التي ادعت ألوهية ( علي ابن أبي طالب ) في خلافة (علي ) نفسه ، فكان أن حرّقهم علي بالنار ، ثم استمر تيار التشيع المتطرف وازداد حتى أقام له دولا كالدولة الفاطمية والدولة الزيدية والقرامطة .

2_وبعد أن استنفذ علم الكلام غرضه من تحويل الفرق السياسية إلى فرق لاهوتية أقام لنفسه فرقا لاهوتية صميمة مثل الأشاعرة والماتردية والمعتزلة ... وكلها فرق فلسفية فرقت وحدة المسلمين وفرقت دينهم ، وإذا راجعت مثلا كتاب أبي الحسن الأشعري ( مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين ) وجدت فرقا كثيرة يصاحبها الخلاف حول كل شئ وتبحث في العلم الباغي واستنفذت جهود المسلمين في بحث ذات الله وصفاته وقضائه وقدره دون النظر في الكون والبحث فيما سخره الله تعالى للإنسان ، وكان أولى بالبحث والاهتمام، ولو فعلوا لتجنبوا مشقة الإختلاف ولأحرزوا النهضة العلمية التي دعا إليها القرآن ، وكانت من نصيب أوربا في النهاية.

     وعلى سبيل المثال عرض الأشعري لمقالات فرقة المرجئة ، ونقتطف العناوين فقط

 ( إختلفوا في الإيمان على اثنتي عشرة فرقة .. إختلافهم في الكفر على سبع فرق ، إختلافهم في المعاصي وأصحابها على مقالتين ، قولهم فيمن يقلد الإيمان ، إختلافهم فيما أورده الله تعالى من أخبار على سبع فرق ، إختلافهم في الأمر والنهي .. على مقالتين ، إختلافهم في تخليد الكفار في النار ، إختلافهم في فجار أهل القبلة – هل يخلدهم الله في النار على خمسة أقاويل ... إختلافهم في الصغائر والكبائر والتوبة ومعاصي الأنبياء وكفر المتأولين والعفو عن العباد والتوحيد ورؤية الله والقرآن وماهية البارئ تعالى والقدر وأسماء الله وصفاته ...الخ)

     كلها أقوال واختلافات لفرقة واحدة هي المرجئة بدأت بالسياسة ثم أقحمت نفسها في اللاهوت ، وامتلأت به إختلافا وتفرقا مع غيرها وفي داخلها .

     أما المعتزلة وهي فرقة لاهوتية صميمة فقد بحثت ـ مثلا ــ  في مكان الله تعالى واختلفوا هل هو في مكان أو في لا مكان ، واختلفوا في رؤية الله وعلمه وقدرته ( لم يزل عالما بالأجسام ، وهل المعلومات معلومات قبل كونها ، وهل الأشياء أشياء لم تزل أن تكون ... اختلفوا على سبع مقالات ...) واختلفوا في أفعال الله وصفاته الأزلية وأسمائه وحياته ، وفي القرآن الكريم هل هو صفة من صفات الله ، واختلفوا في صفات فعل الله وفي صفة القدم ، وهل الله تعالى (شئ) وفي صفة (الوجود) و( التكلم ) والسمع والبصر والقدرة ، والإرادة ، وهل الله تعالى جسم أم لا ، وهل يبقى كلام الله أم لا ، وحين يتكلم الإنسان بالقرآن هل يكون كلامه الخارج من لسانه كلام الله أم لا ، وكلام الله هل هو حروف أم لا وهل هو موجود مع كتابته أم لا ... وهكذا اختلاف في كل صفة وبحث في كل ما ينسب لله تعالى من أفعال وصفات ، ويضيق الوقت عن متابعة إختلافاتهم في كل تلك المباحث ...

    ثم إختلف المتكلمون في أمور فلسفية أخرى في ماهية الجسم ( على اثنتي عشرة مقالة ) وفي الجوهر ( على أربعة أقاويل ) وفي الجواهر ( هل كلها أجسام أم لا على ثلاثة أقاويل ) ( وهل الجواهر جنس واحد وهل جوهر العالم جوهر واحد على سبعة أقاويل )( وهل يجوز على جميعها ما يجوز على بعضها ، وهل يتفرق الجسم أو يجتمع . والجزء الواحد هل تحل فيه حركتان أم لا ، وفي السكون والتحرك واجتماعهما أو تفرقهما ، وماهية الإنسان والروح والنفس والحواس ووصف الشئ لنفسه ، والأعراض في رؤيتها وفنائها وخلقها وبقائها وفي الخلق والبقاء والفناء والمعاني وأعراض الأجسام والأضداد ... الخ .

    وتلك أمور أرهقت الفلسفة اليونانية ولم يزدادوا بها إلا تفرقا وجدلا وجهلا لأنهم بحثوها من وجهة نظر عقلية محضة ، ومع قابلية بعضها للتجربة العملية والبحث العلمي المادي إلا أنهم اكتفوا في بحثها بالعقل والجدال والمنطق .

3- وبعد تلك الفرق اللاهوتية المحضة جاء الفلاسفة الذين يتحدثون في العلم البغي جهارا تحت إسم الفلسفة حيث ردد فلاسفة المسلمين أقوال اليونان بحذافيرها وشرحوها واتخذوهم أئمة وأساتذة حتى في الدين والعقيدة ، فكان من الطبيعي أن يعيد التاريخ نفسه ، فكما عرفنا ، أفلس المنهج العقلي المحض في بحث الإلهيات والطبيعيات فجاء على أثره المنهج الإشراقي بعلمه اللدني الخرافي على يد أفلوطين السكندري .

      ولأن الحضارة ( الإسلامية) تابعت طريق اليونان فقد عرفت المنهج العقلي المحض الذي بدأ بتحويل الفرق السياسية إلى فرق لاهوتية وأفرز في النهاية فرقا لاهوتية محضة مثل المعتزلة والأشاعرة والمجسمة والجبرية والجهمية ... الخ ، ثم توجت هذه المرحلة العقلية المحضة بظهور الفلاسفة أمثالالفارابي وإبن سينا وهم تلامذة مخلصون لأرسطو وأفلاطون ..

    وأفلس المنهج العقلي المحض في الحضارة الإسلامية كما أفلس من قبل في الثقافات المسيحية والأثينية ، وكما ظهرت الغنوصية الإشراقية بالعلم اللدني لترث المنهج العقلي المحض قبل الإسلام فبعد الإسلام ظهر الغزالي يكرر نفس المقالة الغنوصية ويدعو للعلم اللدني وتقديس الأولياء أصحاب المقامات والعلم الإلهي اللدني وقفل باب الاجتهاد ويعلن أنه ( ليس في الإمكان أبدع مما كان ..) والعلم إما ظاهر مكتسب وإما باطني لدني إلهي يجب الإيمان به والحرص على اكتسابه بالرياضيات(الروحية) والخلوة والعزلة والجوع وقتل النفس وتنقية القلب والروح حتى يصعد العارف إلى الحضرة فينكشف عن قلبه الحجاب ويعلم الغيب وما كان وما سيكون ..

     إذن لا جديد تحت الشمس ، عاد المسلمون بعد الفتح إلى سيرة آبائهم في عصر المسيحية ، وتابعوهم شبرا شبرا ، وما قالهأرسطو ردده فيما بعد الفارابي وإبن سينا وإبن رشد في المدرسة العقلية المحضة ، وما قاله أفلوطين السكندري والغنوصية ردده الغزالى وإبن عربي .

اجمالي القراءات 11394