عرض مقدمة ابن خلدون: ب5:(ف 23: 33 ) أنواع الصنائع

آحمد صبحي منصور في الجمعة ١١ - سبتمبر - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً

كتاب مقدمة إبن خلدون: دراسة تحليلية 

القســــــم الأول : عـرض مقدمــــــــــة إبن خلــــــــــــدون

 تابع الباب الخامس :  في اقتصاد العمران في المعاش ووجوه من  الكسب

            والصنائع وما يعرض في ذلك كله من الأحوال ، وفيه مسائل

                                        الفصل الثالث والعشرون

                                        الإشارة إلى أمهات الصنائع

    الصنائع كثيرة تستعصى على الحصر ، ويقتصر إبن خلدون على الضروري والشريف منها. ويجعل من الضروري الفلاحة والبناء والخياطة والتجارة ، أما الحرف أو الصنائع الشريفة فهي التوليد والكتابة والوراقة والغناء والطب . التوليد تتم به حياة المولود ورعاية الوالدة ، والطب حفظ الصحة ودفع المرض ، والكتابة تحفظ حاجة الإنسان وتحميه من النسيان وتخلد الأفكار والعلوم ، أما الغناء فهو الذي يظهر جمال الأصوات للأسماع ، وهذه الصنائع الثلاث ( الطب والتوليد ، ثم الكتابة ، ثم الغناء ) من وسائل الاتصال بالملوك ،ولذلك يجعلها إبن خلدون من الصنائع الشريفة .

                                  الفصل الرابع والعشرون

                                                    صناعة الفلاحة

     ثمرة الفلاحة إتخاذ الأقوات والحبوب عن طريق الإستنبات والرعاية بالسقي وخلافه إلى الحصاد ، وهي أقدم الصنائع لارتباطها بالقوت أول الضروريات . لذلك اختصت الفلاحة بالبدو لأن البداوة سابقة للحضارة ، لذلك كانت الفلاحة بدوية لا يقوم عليها الحضر ولا يعرفونها لأن أحوالهم كلها تالية بعد البداوة . وإبن خلدون هنا يعبر عن بيئته حيث لم يكن هناك فارق بين الفلاح في القرى الجبلية وبين البدو والقريبين منه ، وهذا وضع يختلف عن الأوطان فى أودية الأنهار مثل مصر والهند والصين  .       

                                   الفصل الخامس والعشرون

                                                 صناعة البناء

     أول صنائع العمران الحضري وأقدمها ، وهي معرفة العمل في إتخاذ البيوت والمنازل للسكن في المدن كي تدفع عن الإنسان الأذى والحر والبرد .

كيف تنشأ المدينة

     وأهل الحضر يتخذون البيوت بالأسقف والحيطان ، أما أهل البداوة فيسكن بعضهم الكهوف المعدة بطبيعتها ، أو يتخذون المأوى ، وقد يتكاثر البدو في المكان الواحد ، ويحدث بينهم شقاق فيأخذ كل فريق في التكتل داخل سور وحوله ماء ، وتنشأ بذلك المدينة التي تحتاج إلى حكم وإدارة وحصن وجيش وأمراء ونظام اجتماعي واقتصادي . وتختلف أحوالهم بين غني وفقير.

البناء يدل على الغنى أو الفقر

     وكذلك أحوال المدن ، من أهلها الأغنياء والحكام ويظهر ثراؤهم في البناء ، ومنهم الفقراء الذين يقيمون في بيوت بسيطة . وقد يقيم الملوك مدنا عظيمة وقصورا هائلة يتفننون في إتقانها . وصناعة البناء توجد في المناطق المعتدلة ، ولاتوجد صناعة البيوت في المناطق المنحرفة إذ يكتفي أهلها بحظائر من الطين والأعشاب .

اختلاف صناعة البناء

    ويتفاوت أهل صناعة البناء في المهارة ، كما تختلف الصناعة بين البناء بالحجارة التي تلتصق فيما بينها بالطين والكلس ، والبناء بالتراب ، وذلك بصنع ألواح الطين بطريقة الطابية. وذكر إبن خلدون طريقة أخرى في صناعة البناء بالتراب ، وطريقة لعمل السقف وبناء الصهاريج ، وقال أنه عندما يتسع العمران ويزدحم السكان تتكاثر الخلافات بين الجيران حول الطرق والمنافذ وارتفاع البناء والحوائط والمياه والمجاري ، ويحتكمون إلى السلطات وتحتاج بدورها إلى خبراء .

    وتختلف صناعة البناء حسب درجة التقدم الحضاري ، فالمجتمع البدوي بسيطة صناعته في البناء ،لذلك استوردالوليد بن عبدالملك العمال المهرة لبناء المساجد في دمشق والقدس والمدينة .

     وقال أن صناعة البناء تحتاج إلى دراية بالهندسة في تسوية الحيطان وإجراء المياه وجر الأثقال من أسفل إلى أعلى . وهنا يخلط إبن خلدون بين الهندسة والميكانيكا في رفع الأثقال عن طريق البكر.

                                       الفصل السادس والعشرون

                                           صناعة النجارة

معنى صناعةالنجارة

 من ضروريات العمارة ومادتها الخشب الذي يؤتي به من الشجر ، والشجر من نعم الله على الانسان .        

 وخشب الشجر يكون وقودا ويصنع منه العصيان والدعائم والأوتاد والرماح لأهل البدو ،والسقف والأبواب والكراسي في عمران أهل الحضر . وتحويل الخشب إلى هذه المنافع يكون بصناعة النجارة . والنجار يبدأ بتفصيل الخشب إلى قطع أصغر أو ألواح حسب الشكل المطلوب ثم بعدها بالإنتظام إلى أن تكون الشكل المطلوب .

إزدهار النجارة مع عصر الترف

    وتعظم صناعة النجارة بازدياد العمران ودخول عصر الترف ، وحينئذ يتأنق النجار في صناعته ويحتاج إلى الزخرفة في الأبواب والكراسي ،ويحتاج النجار إلى صناعة الخرط . وتدخل النجارة في صناعة المراكب البحرية ذات الألواح .

صناعة السفن

    ويصنع المركب على هيئة الحوت ويعتمد على طريقته في السياحة بالمجاديف ، وهي صنعة تحتاج إلى الكثير من الهندسة ، لذلك كان أئمة الهندسة اليونانيون من النجارين مثل إقليدس صاحب كتاب الأصول في الهندسة . وأبلونيوس صاحب كتاب المخروطات ، ويقال أن نوح عليه السلام هو معلم هذه الصناعة ، ولا يقوم على ذلك دليل . إلا أن سفينة نوح تؤكد قدم صناعة النجارة .

                                 الفصل السابع والعشرون

                                             صناعة الحياكة والخياطة

     هما ضروريتان للعمران ، والحياكة لنسج غزل الصوف والقطن والكتان ، والخياطة لتقدير المنسوجات المختلفة حسب الموضه ( العوائد) حيث يتم تفصيلها بالمقص ثم تلحم القطع بالخياطة . وتزدهر في الحضر لأن أهل البدو يستغنون عنها ، حيث يلبسون القماش بلا تفصيل أو خياطة ، وهذا سر تحريم المخيط في الحج حيث يعتمد الحج على نبذ الزخرفة الدنيوية حتى يزداد تعلقه بالله .

    وهاتان الصنعتان قديمتان في الخلق لأن طلب الدفء من ضرورات الحياة في المناطق المعتدلة ، أما السودان فأهله عراة في الغالب ، وينسبون هذه الصناعة إلى إدريس عليه السلام.

                                          الفصل الثامن والعشرون

                                                   صناعة التوليد

    هي استخراج المولود الآدمي من بطن أمه برفق ، وتهيئة أسباب ذلك ، ورعايته بعد خروجه ، وهي مختصة غالبا بالنساء . وتسمي " القائمة " بذلك القابلة من قبول واستقبال المولود. فالجنين إذا استكمل مدته يتهيأ للخروج ، فيحدث للمرأة ألام الوضع أو الطلق ، وهنا يأتي دور القابلة في تخفيف آلام الوضع بالضغط والتدليك لتسهيل خروج المولود. ثم إذا خرج تقطع الحبل السري من مكان معين ، ثم تعالج مكان القطع في بطن المولود أو في سرته ليلتئم. ثم تقوم القابلة بمعالجة وتحريك وتقليب الجنين حتى تكون أعضاؤه طبيعية ، ثم تراعى الوالدة بعد الوضع حتى تخرج منها الأفرازات التالية للولادة ، وتقوم على نظافتها الموضعية خشية التلوث والتعفن . ثم ترجع للمولود وتدلكه بالأدهان والمراهم ، كما تقوم بتخفيف رطوبات الرحم وتعمل على جفافه ليعود كما كان ، كما تداوي ما قد ينجم من جروح وتمزق في جدران المهبل . وللقوابل في كل ذلك خبرات وأدوية . ثم يقمن على رعاية المولود وهو يتناول رضاعته الأولى حتى الفصال والفطام ، وهن أمهر من الطبيب في هذه  الشئون ، وهي صناعة ضرورية للعمران الإنساني .

     وقد يستغنى عنها بعض الناس بمعجزة كالأنبياء أو بإلهام وهداية وكرامة. وعن المعجزة إستدل إبن خلدون بما روي عنالنبي حيث قيل أنه ولد مختونا واضعا يديه على الأرض ، شاخصا ببصره نحو السماء ، وكذلك شأن عيسى في المهد ، وعن الإلهام يذكر غرائز الحيوان في الولادة ، ويستدل على ذلك بإمكانية الكرامات للأولياء في الولادة خصوصا وأن الطفل يلهم بالتقاط ثدي أمه بالفطرة .

     ويخالف إبن خلدون الفلاسفة المسلمين الذين أنكروا الإلهام الإلهي العام يقول : " وتكلف إبن سينا في الرد على هذا الرأي وأطنب في بيان ذلك في الرسالة التي سماها رسالة حي بن يقظان ".

                                         الفصل التاسع والعشرون

                        صناعة الطب والحاجة إليها في الأمصار دون البوادي

     هي صناعة ضرورية في المدن والأمصار لحفظ الصحة ودفع المرض بالمداواة حتى يأتي الشفاء . ويرى إبن خلدون أن المرض يأتي من الأغذية مستشهدا بحديث : المعدة بيت الداء والحمية رأس الدواء ،والحمية هي الجوع أو الإحتماء من الطعام ، فالجوع هو الدواء العظيم ، وكذا حديث " أصل كل داء البردة " والبردة هي إدخال الطعام على الطعام قبل أن يتم هضم الأول . ويشرح إبن خلدون بأسلوب عصره كيف ينشأ المرض من "البردة  ويتفرع في شرح الهضم ، وينشأ عن الخلط في الطعام الحمي ، وعلاجها قطع الغذاء أسابيع معلومة ، وإلا وقع المرض .

    ويقرر أن أهل الحضر تروج فيهم الأمراض لكثرة المأكل وتعدده وخلطه بالتوابل والبقول والفواكه ، ثم لايمارسون الرياضة . أما البدو فالأغلب عليهم الجوع وقلة الأكل وكثرة الحركة فيحسن بذلك هضم طعامهم البسيط في مناخهم الجاف . لذلك لا يوجد الطبيب في البوادي .

                                          الفصل الثلاثون

                              الخط والكتابة من الصنائع الإنسانية

معنى الخط والكتابة

    هو رسوم وأشكال حرفية تدل على الكلمات المسموعة الدالة على مافي النفس ، وهو ثاني رتبة من الدلالة اللغوية . وهي صناعة شريفة لأنها تختص بالإنسان دون الحيوان ، ولأنها تطلع على ما في الضمائر وتتأدى بها الأغراض وتسجل بها العلوم والمعارف .

إزدهارها بالحضارة

    وهي تكون بالتعليم ، وعلى قدر الحضارة والعمران ، لذلك يجود الخط في المدن فيصبح من جملة الصنائع ، بينما يكون أغلب البدو أميين ، ومن يقرأ منهم يكون خطه قاصرا . وفي المقابل عندما يستحكم العمران والحضارة يزدهر الخط والكتابة ، يقول إبن خلدون " كما يحكي لنا عن مصر لهذا العهد وأن بها معلمين منتصبين لتعليم الخط ، يلقون على المتعلم قوانين وأحكاما في وضع كل حرف ".

الخط العربي حتى عهد النبي(ص)

    وبلغ الخط العربي غاية الإتقان في دولة  التبابعة في اليمن ، وهوالخط الحميَري ، ومنها إنتقل إلى الحيرة في دولة المناذرة بالعراق ومن الحيرة إنتقل للطائف ومكة ، ويقال أن أباسفيان هو الذي تعلم الكتابة من الحيرة .

     وكانت لحميَر كتابة تسمى المسند حروفها منفصلة ، وكانوا يمنعون تعلمها إلا بإذنهم . ومن حميَر إنتقلت إلى مُضر الكتابة العربية إلا أنهم لم يجيدوها لأنهم بدو لذلك كان الخط العربي في بداية الإسلام غير متقن ، وتأثرت بذلك كتابتهم الأولى للمصحف ، ثم اقتفى أثرهم التابعون تبركا بما كتبه الصحابة . ويعللإبن خلدون إختلاف كتابة القرآن  عن الكتابة العادية بسبب عدم إتقان الصحابة للكتابة . وقال إن صناعة الخط ليست كمالا في حق الصحابة ، كما أن الأمية ليست عيبا في خاتم النبيين لأنه تنزه عن الصنائع العملية التي هي من أسباب المعاش .

الخط العربي بعد الفتوحات

    وبعد الفتوحات إحتاج العرب إلى الكتابة فراجت صناعتها خصوصا في الكوفة والبصرة . ثم ترقت صناعة الكتابة في العصر العباسي وظهر الخط البغدادي والخط الأفريقي ، والخط الأندلسي ، ومع ازدهار الحضارة إزدهرت الكتابة ونسخ المؤلفات ، وبعد تدمير بغداد إنتقل العلم والحضارة إلى مصر والقاهرة ، فازدهرت فيها أسواق الكتابة ، وتعليم الحروف وقوانينها .

    أما أهل الأندلس بعد نكبتهم فقد انتقلوا إلى شمال أفريقيا وشاركوا أهلها بما لديهم من صناعة ومعارف فغلب خطهم الأندلسي على الخط الأفريقي . ولما تراجعت الحضارة بزوال دولة الموحدين تراجع الخط والكتابة لارتباطهما بالتقدم الحضاري . ومع ذلك بقيت هناك آثار للخط الأندلسي . وفي دولة بني مرين في المغرب الأقصى تأثروا بالخط الأندلسي ، ثم لم  يلبث أن ضاع هذا التأثير فأصبحت الكتابة هناك رديئة مليئة بالأخطاء حيث تناقصت الحضارة .

                                      الفصل الحادي والثلاثون

                                         صناعة الوراقة

إزدهارها بالحضارة

    إزدهرت مع ازدهار الحضارة والعمران حيث عني بالدواوين العلمية والسجلات ونسخها وتجليدها وتصحيحها بالرواية والضبط ، وكثرت التآليف العلمية والدواوين ، وحرص الناس على تناقلها ونسخها وتجليدها ، وازدهرت في صناعة الوراقين القائمين بالإنتساخ والتصحيح والتجليد وكل مايتعلق بالكتابة والدواوين وتخصصت في ذلك الأمصار العظيمة العمران .

من الجلد إلى الكاغد

     وفي البداية إقتصرت الكتابة على الرسائل السلطانية وديوان الرسائل ومتطلبات الدولة فاستعملوا رقائق الجلد طلبا للصحة والاتقان . ثم ازداد التأليف والتراسل وعلاقات الدولة ولم تعد رقائق الجلد تكفي فاشارالفضل بن يحيي بصناعة الكاغد ، وراجت صناعته " والكاغد هو ورق البردي ".

الضبط  والتنقيح في النسخ

     وزاد الإهتمام بالضبط والتصحيح للدواوين والروايات وإسنادها لأصحابها تحريا لصحة السند ، وتوارثت الأجيال هذا الإهتمام في الأحاديث حتى تلقت بالقبول ما ورثته عن السلف . واشتهرت بذلك الأندلس والمشرق حيث كانت الكتب المنتسخة عنهم غاية في الإتقان ، وبقي بعضها إلى عصر إبن خلدون يتناقلها الناس بكل عناية . بينما إضمحلت هذه الصناعة في شمال إفريقيا والمغرب من حيث النسخ والخط والتصحيح والإهتمام بالرواية والسند ، فكثر الفساد في الكتابة والخط وفي الفتيا والروايات حتى كاد العلم أن ينقطع بالكلية عن المغرب ، ويقول " ويبلغنا لهذا العهد أن صناعة الرواية قائمة بالمشرق وتصحيح الدواوين لمن يرونه بذلك سهل على مبتغيه " ثم يناقض نفسه ويقول " وأما النسخ بمصر ففسد كما فسد بالمغرب وأشد ".

                                  الفصل الثاني والثلاثون

                                          صناعة الغناء

معنى صناعة الغناء

    هي تلحين الأشعار الموزونة بتقطيع الأصوات على نسب منتظمة معروفة يوقع كل صوت منها توقيعا عند قطعه فيكون نغمة ، ثم تؤلف تلك النغمات بعضها إلى بعض على نسب متعارفة فتكون متعة سماعية بسبب التناسب وماينشأ عنه من تلون الأصوات .

السلم الموسيقي

    وفي علم الموسيقى تتناسب الأصوات فيكون منها نصف  صوت وربع صوت وخمس صوت إلى جزء من أحد عشر جزءا . وتتنوع من البساطة إلى التركيب ، والصوت الممتع له تراكيب خاصة حصرها أهل علم الموسيقى. 

الآلات الموسيقية

      ويدخل في تلحين النغمات تقطيع أصوات أخرى من الجمادات بالقرع والنفخ في الآلات الموسيقية ، ومنها الشبابة ، وهي قصبة جوفاء لها ثقوب معدودة في جوانبها وحين ينفخ فيها يتم تقطيع الصوت فيها بالأصابع الموضوعة على الثقوب الجانبية وبذلك يخرج اللحن حسبما يريده النافخ.

    والمزمار هو شكل القصبة منحوته الجانبين من الخشب جوفاء من غير تدوير وفيها ثقوب معدودة ، ينفخ فيها بقصبة صغيرة فينفذ منها الصوت إلى القصبة الكبرى ويتم تقطيع الصوت بالأصابع الموضوعة على الثقوب الجانبية .

     والبوق، هو من نحاس أجوف يتسع وينفرج ،وينفخ فيه بقصبة صغيرة فيخرج الصوت منه تخينا مدويا ، وفيه أيضا ثقوب يتم بها تقطيع الصوت.  وآلات الأوتار ، وكلها جوفاء ، وتكون على شكل الكرة مثل المربط والربّاب وتكون على شكل مربع كالقانون . ويتم شد الأوتار من رأسها إلى نهايتها . ويتم قرع الأوتار بعود أو بوتر آخر مشدود  بين طرفي قوس يمر عليها بعد أن يطلي بالشمع ، ويقطع الصوت بتخفيف اليد أو نقله من وتر إلى وتر . وأثناء ذلك تقوم اليد اليسرى توقع بأصابعها على أطراف الأوتار ، ليحدث التناسب الممتع بين الأصوات . وقد يكون القرع في الطسوت بالقضبان أو في الأعواد بإيقاع متناسب.

سبب متعة الفن

    ويفسر إبن خلدون سبب المتعة التي يحس  بها الإنسان عند الطرب وذلك بتفسير عصره حيث تناسب المسموعات ما تهواه النفس وتمتزج به امتزاج أرواح العاشقين ويحسب الإنسان أنه قد امتزج بالكون واتحد به ،وتناسب الأصوات والألحان يعطيه هذا الإحساس. وبعض الناس يكون لديه القابلية للغناء والرقص مثل موهبة الشعر ومثل موهبة التلحين الذي يقوم عليه علم الموسيقي .  

قراءة القرآن بالتلحين

     ويقول إبن خلدون أن الإمام مالك  أنكر قراءة القرآن بالتلحين وأجازها الشافعي . وليس المراد تلحين القرآن بالموسيقى الصناعية ، فذلك محظور قطعا ، لأنه يخالف القرآن بكل وجه . ولكن المراد بالتلحين هنا هو التلحين البسيط الذي يهتدي إليه القارئ بطبعه فيردد صوته بالقراءة ترديدا  على نسب يدركها العالم بالغناء .

     ويقول إبن خلدون أن الظاهرة تنزيه القرآن عن ذلك كله كما ذهب إليه الإمام أحمد لأن القرآن محل خشوع وليس مقام تمتع بالصوت أو اللحن ، ويرى إبن خلدون أن حديث " أوتي مزمارا من مزامير داود" أنه ليس المراد به التلحين وإنما حسن الصوت .

العرب والغناء قبل الإسلام

     ويرى أن صناعة الغناء تنشأ في مجتمعات الترف التي تجاوزت مراحل الضروريات إلى الكماليات ويبدأ المجتمع في التفنن في المتع ومنها صناعة الغناء وهكذا كان العجم في حضارتهم . أما العرب فقد كان فيهم فن الشعر الذي امتازوا به وافتخروا ، وجعلوه ديوانا لأخبارهم وأيامهم ، وضم الشعر ( بما فيه من تناسب بين الأجزاء الساكنة والمتحركة ، ومافيه من وزن وقافية ) بداية الموسيقى العربية إلا أنهم لم يحفلوا بذلك حيث كانوا مطبوعين على الشعر بدون تكلف أو تعلم . إلا أن ترديدهم للشعر جعلهم يرجعون الأصوات ويترنمون بالشعر فظهر الغناء بالشعر . أما  إذا كان بالتهليل أو بالقراءة سمي تغييرا . وعرفوا التناسب البسيط بين النغمات وكانوا يسمونه السناد ، وكان أكثره في الوزن الخفيف الذي يرقص عليه مع الدف والمزمار ، وكانوا يسمونه الهزج ، وذلك من أوائل التلحين ، وواضح أنه كان تلحينا فطريا بدون تعلم .

الغناء بعد الإسلام

    وبعد الإسلام والفتوحات ودخولهم في عصر الترف عرفوا الغناء عن طريق الموالي وآلاتهم الموسيقية ، وظهر بالمدينة مغنون مشاهير منهم مثل طويس وسائب ونشيط ، وأولئك قاموا بتلحين شعر العرب وغنوه ، وأخذ عنهم شريح وأنظاره ، ثم اكتملت الصناعة في عصر بني العباس بإبراهيم بن المهدي وإبراهيم الموصلي وإبنه إسحق وإبنه حماد . وتفننوا في مجالس الغناء والرقص ، بل اتخذوا للرقص آلات تسمي الكرج وهي تماثيل خيل مسرجه من الخشب معلقه فيها أقبية تلبسها النسوة ويحاكين بها امتطاء الخيل ويمثلون الكر والفر ، وأقيمت في ذلك حفلات سمر في الولائم والأعراس والأعياد ومجالس المجون ، وكثر ذلك في العراق وغيرها ، واشتهر زرياب في الموصل وهجرها إلى الأندلس فأكرمه حاكمها الحكم بن هشام حفيد عبدالرحمن الداخل ، فأقام زرياب في الأندلس صناعة الغناء ، وظلوا يتناقلون تلك الصناعة في ملوك الطوائف ، وبعد انهيار حكمهم إنتقل الغناء إلى شمال أفريقيا مع من هاجر من الأندلسيين إليها . وبقيت منها آثار على عهدإبن خلدون ، لأن صناعة الغناء لا تروج إلا في التقدم الحضاري .

                                           الفصل الثالث الثلاثون

                  الصنائع تكسب صاحبها عقلا ، خصوصا الكتابة والحساب

    النفس الناطقة توجد في الإنسان بالقوة ، وتتحول إلى فعل يتحد مع العلوم والإدراك عن المحسوسات ، ثم يكتسب القوة النظرية إلى أن يصير إدراكا بالفعل وعقلا محضا ثم يصبح ذاتا روحانية كاملة .

   وينتج عن الصنائع إستفادة علمية ، فالحنكة تفيد عقلا شأن الحضارة الكاملة ، وذلك بسبب الإختلاط وتحصيل المعارف والآداب والقيام بأمور الدين وآدابه ، وكلها ينتج عنها قوانين وعلوم تزيد في إتساع العقل . والكتابة أبعد أثرا في ذلك لاشتمالها على العلوم وتنميتها للخيال والإبداع ، وكذلك الحساب لأنه يحتاج إلى إستدلال وإبتكار .

اجمالي القراءات 17469