قال : اعرف ان يكون القرآن هدى ورحمة ، لكن لا افهم كيف يكون القرآن نفسه إضلالا ؟ ففى القرآن آية تقول ( وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين الاخسارا . ) كيف لا يزيدهم الا خسارا؟ .
قلت : أى كتاب تراثى فى الأخلاق يمكن التلاعب به وتحريفه وتشويهه .
قال : لا أفهم .
قلت : دعنا نفترض أن هناك كتابا تراثيا فى الدعوة الى الأخلاق الحميدة . يستطيع أى باحث صاحب هوى أن يشوّه هذا الكتاب وأن يتسقّط الأخطاء للمؤلف . تزيد الفرصة هذا الباحث فى تسقط الأخطاء للمؤلف إذا كان المؤلف قد كتب هذا الكتاب بمصطلحات خاصة بوقته ومفاهيم للألفاظ لا تتفق مع المستعمل فى عصرنا . تزيد الفرصة أكثر إذا كان المؤلف يكرر المواعظ الأخلاقية وما يشرحها من حكايات وتشريعات فى ثنايا كتابه . هنا يجد الباحث عن الأخطاء فرصة كبرى فى تصيّد المزيد مما يتصوره أخطاءا ، وبدلا من أن يكون الكتاب فى الدعوة الى الأخلاق الحميدة يجعله الباحث متناقضا مشوها، ويُضيع ثمرته الأخلاقية .
قال : هل هو نفس الحال مع القرآن ؟
قلت : ــ نفس الحال مع القرآن الكريم . من السهل على من يريد الهداية أن يهتدى به ، ومن السهل ايضا على من يريد الاضلال أن يضلّ به . بل تأسست على الإضلال بالقرآنالأديان الأرضية للمحمديين ، وكتبهم وأسفارهم المقدسة عندهم ، وأبرزها ( التفسير ) و ( الحديث ) و ( الفقه والتشريع ) ثم هناك ما يسمى بعلوم القرآن ، ونشرنا أبحاثا عن ( علوم القرآن التى تطعن فى القرآن ) ، ثم هناك ( النسخ التراثى ) بمعنى إلغاء التشريعات القرآنية تلاعبا بالقرآن الكريم . ولنا بحث منشور هنا عن ( لا ناسخ ولا منسوخ فى القرآن الكريم : النسخ فى القرآن يعنى الكتابة والإثبات وليس الحذف والالغاء )
قال : أعطنى مثلا عمليا
قلت : أعطيك مثلا من سورة الاسراء نفسها التى جاء فيها قول الله جل وعلا : ( وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً (82) الاسراء ) .
قال : أولا ماهو معنى الآية المباشر؟
قلت : أى إذا كنت مؤمنا بالقرآن أصبح لك القرآن شفاءا ورحمة . إذا كنت ظالما فلن تزداد بالقرآن إلا خسارا .
قال : تعنى أن لى حرية الاختيار فى أن يصبح القرآن لى شفاء ورحمة أو يكون لى إضلالا ؟
قلت : نعم . أنت معك حرية الاختيار ، فالهداية مسئولية شخصية ، ومن إهتدى فلنفسه ، ومن أضل فعلى نفسه ، يقول جل وعلا فى نفس السورة :( مَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (15) الاسراء )
قال : وما صلة هذه الآية بموضوعنا ؟
قلت الصلة وثيقة ، لأنه بعدها مباشرة يقول جل وعلا الآية الخاصة بموضوعنا : ( وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً (16)الاسراء ) . أى فأنت لك الحرية فى الهداية أو الاضلال حتى فى فهمك لهذه الآية : (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً (16)الاسراء ).
قال : إذا إخترت الإضلال فما هى طريقة الاضلال فى فهم الآية الكريمة ؟
قلت : ــ إذا كنت ضالا تريد تشويه القرآن ستقول إن الله ( جل وعلا ) يأمر المترفين بالفسق لكى يدمر هذه القرية . وتستنج من هذا أن الله جل وعلا ظالم ، فحين يريد إهلاك قرية يأمر مترفيها بالفسق فيها ليتخذ من ذلك حُجة لتدميرها . وإذا قيل لك إن تفسيرك هذا يتعارض مع آيات أخرى فى القرآن الكريم فيها النهى عن الظلم وفيها الأمر بالقسط يمكن أن تقول ببساطة : هذا يؤكد أن القرآن تتناقض آياته . وطبعا ستجد من يصفق لك . أنت هنا تزداد بالقرآن ضلالا . ولكن تذكّر أنها حريتك ومشيئتك وإختيارك . ورب العزة يتركك وما تختار لنفسك ، هو جل وعلا يحذّر مقدما أولئك الذين يُلحدون فى آياته ، بأنه جل وعلا يعلم ما يفعلون ، ويقول لهم: إعملوا ما شئتم وموعدكم يوم القيامة ، يقول جل وعلا : ( إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40)فصلت ) ، ويقول جل وعلا بعدها يصف القرآن الكريم :( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) فصلت ) .
قال : وما هى طريقة الهداية فى فهم الاية الكريمة؟
قلت : نبدأ بمعرفة التفصيلات القرآنية
قال : كيف ؟
قلت : يقول جل وعلا عن تفصيلات القرآن الكريم : ( وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) الاعراف ). نزل القرآن مفصلا ، وتفصيلات القرآن ليست ثرثرة بل تفصيلات أنزلها الله جل وعلا (عَلَى عِلْمٍ ) لتكون (هُدًى وَرَحْمَةً ) ليست للجميع ، ليست للضالين بل (هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ). الضالون المُضلون الذين فى قلوبهم زيغ يدخلون بضلالهم على التفصيلات القرآنية يتتبعون المتشابه منها لاضلال الناس ،يقول جل وعلا يفضحهم مقدما : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ (7) آل عمران )
قال : أنا مؤمن بالقرآن الكريم وبتفصيلاته التى هى هدى ورحمة للمؤمنين . قُل لى كيف أفهم آية : ( وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً (16)الاسراء )؟
قلت : إذا كنت مؤمنا بالقرآن تتدبره وتتبع السياق القرآنى فى تفهّم آياته وموضوعاته ستبدأ بسؤال : هل الله جل وعلا يأمر بالفسق أم يأمر بالقسط ، هل يأمر بالظلم أم يأمر بالعدل؟
قال : أترك لك الاجابة .
قلت : الجواب فى قوله جل وعلا : ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) النحل ) .
قال : هذا من حيث المبدأ ، ولكن البشر المتدينين بالذات هم أشد الناس كفرا وأشدهم نفاقا وأكثرهم إنحلالا . ألا ترى ما يحدث من داعش وبقية الوهابيين ؟
قلت : البشر فى أديانهم الأرضية يفترون على الله جل وعلا كذبا ، يرتكبون الفسق ويزعمون أن الله جل وعلا أمرهم بالفحشاء ، يقول جل وعلا عنهم : (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (28) الأعراف ) . ويرد عليهم جل وعلا بأنه يأمر بالقسط وإخلاص الدين لوجهه الكريم : ( قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) الاعراف ). بل إن الله جل وعلا جعل إقامة القسط بين الناس هو الهدف من إرسال الرسل وإنزال الكتب السماوية ، يقول جل وعلا : ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ) (25) الحديد ).
قال : إذن قوله جل وعلا : : ( وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً (16)الاسراء ) تعنى ( أمرنا مترفيها بالقسط ففسقوا فيها )
قلت : نعم وبالتأكيد .
قال : إذن لماذا تم حذف ( بالقسط ) وجاءت الآية بدونها :( وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا ) ؟
قلت : لأن هناك فى الفصاحة العربية والقرآن ما يُعرف بالايجاز بالحذف ، أى حذف شىء مفهوم معروف .
قال : أعطنى أمثلة قرآنية للإيجاز بالحذف .
قلت : يقول جل وعلا عن نعيم أهل الجنة : (مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) الرحمن ). قوله جل وعلا (وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ ). ( دان ) أى قريب ، وهى صفة ، أى جنى الجنتين شخص دان أى شخص قريب . تم حذف الموصوف وهو ( شخص / خادم من الولدان المخلدين ) وجىء بالصفة لتدل عليه ، فقال جل وعلا (وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ ). هنا الايجاز بحذف الموصوف إكتفاءا بالصفة . ويتكرر الايجاز بالحذف بأنواع مختلفة ؛ ففى سورة يوسف مثلا . فيها الايجاز بحذف المفعول به إكتفاء بالمجرور ، وحذف الفعل ، كقوله جل وعلا : (وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82) يوسف )أى : واسأل أهل القرية ..وإسأل أهل العير . ومنه حذف ( الحال ) فى قوله جل وعلا عن يوسف وإمرأة العزيز : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ) (24) يوسف )أى : همّت به فعلا وهمّ بها فعلا لولا أن رأى برهان ربه . وتكرر الايجاز بالحذف فى آيتى : (وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَاي إِنْ كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43)، (يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ ) (46) يوسف ) المعنى بدون حذف هو : أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع بقرات عجاف ، وأرى سبع سنبلات خضر يأكلهن سبع سنبلات يابسات . وفى تأويل يوسف لهذه الرؤيا إيجاز بالحذف أيضا : ( قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ) يوسف )، أى ثم يأتى من بعد ذلك سبع سنوات شداد . وعلى هذا النسق من الايجاز بالحذف يقول جل وعلا : ( وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً (16)الاسراء ) بمعنى ( أمرنا مترفيها بالقسط ففسقوا فيها )، وهنا إيجاز بحذف الجار والمجرور .
قال : قلت من قبل أن الايجاز بالحذف هو حذف شىء مفهوم معروف . وسبق قولك أن الله جل وعلا يأمر بالعدل والقسط وهذا شىء معروف . ولكن أحتاج لشواهد أخرى معروفة .
قلت : نتوقف مع السياق القرآنى العام فى الحديث عن إهلاك القرآ الظالمة ، والتى جاء فيها قوله جل وعلا : ( وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً (16)الاسراء )
قال : لماذا ؟
قلت : لأن التدبر القرآنى يعنى أن تتبع الموضوع فى سياقه الخاص فى الآية ما قبلها وما بعدها ، وهذا ما فعلناه بالربط بين الآية 16 من سورة الاسراء وما قبلها الآية 15 عن المسئولية الشخصية فى أن من يهتدى فلنفسه ومن ضل فعليها .. ثم الآية 17 بعدها عن إهلاك القرية بسبب ذنوبها : (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (17) الاسراء ). الآن نحن مع السياق القرآنى العام لموضوع إهلاك القرى.
قال : أسمعك
قلت : سبق من السياق العام أن الله جل وعلا يأمر بالعدل والقسط ، ومنه أيضا قوله جل وعلا : ( وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209) الشعراء). هنا أسلوب قصر وحصر يؤكد أن الله جل وعلا لا يهلك قرية إلا بعد أن يأتيها المنذرون يأمرون بالقسط . والله جل وعلا لا يريد ظلما للعالمين : (وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (108) آل عمران ). فالملمح الأول للإهلاك هو رفض الظالمين لأوامر الله جل وعلا بالعدل والقسط
قال : هذا مفهوم .
قلت : الآيات الأخرى تربط الاهلاك بالمترفين المجرمين وظلمهم ورفضهم الحق .
قال : أولا ما معنى المترف ؟
قلت : هناك الغنى الميسور الثرى . حين تظهر أقلية تتحكم فى السلطة و تحتكر الثروة فهذه هى الطبقة المترفة ، وفى العادة ترث ثروة وسلطة مؤسّسة على الظلم والقهر ، وبها ينقسم المجتمع الى أغلبية ساحقة من الفقراء والمساكين والجوعى والمحرومين ، ثم أقلية غاية فى الضآلة هم المترفون ، وبينهما توجد طبقة متوسطة ضئيلة من المنتفعين تحاول النجاة من السقوط فى مستنقع الفقر . أى يمكن أن تقول أن 95% من الشعب فقراء مساكين أو ينتظرون دورهم للسقوط فى بئر الحرمان ، و4 % من الطبقة المتوسطة ، ثم واحد فى المائة فقط من الشعب هم الذين يملكون 99% من الثروة يتوارثونها ، ويضاعفونها بالظلم والاجرام ، وكل عام يزداد معدل الفقر والفقراء بينما تتضخم ثرواتهم ، وبهذا يتدمر المجتمع من الداخل بسبب هذا الفسق والظلم .
قال : وهذا حال الشرق الأوسط الآن .
قلت : ولهذا يتم تدميره الآن .
قال : أسمعنى الآيات القرآنية التى تربط الاهلاك بالمترفين المجرمين وظلمهم ورفضهم الحق .
قلت : عن رفض المترفين المجرمين للحق يقول جل وعلا : ( وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) سبأ )، ( وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) الزخرف )، (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123) وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124)الانعام )
قال : فماذا عن إهلاك هؤلاء الظالمين المجرمين ؟
قلت : يقول جل وعلا : (وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا) (59) الكهف ) (أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37)الدخان ). وأيضا يقول جل وعلا : ( وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59) القصص ).
قال : وماذا يبقى من القرية الظالمة بعد إهلاكها ؟
قلت : يقول جل وعلا يصور القرية أو المجتمع الذى يسيطر عليه المترفون فتتدمر ويبقلى منها قصر مشيد وبئر للفقراء معطلة : (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) الحج ) . البئر المعطلة هى المرافق الضرورية للاغلبية المُعدمة ، مع ذلك عطلها المترفون أصحاب القصور . وبعد إهلاك تلك القرية الظالمة بقى من معالم ظلمها بئر معطلة وقصر مشيد خال من سٌكانه . هو نفس الحال فى الشرق الأوسط ، حيث يعيش الفقراء فى عشوائيات وفى القبور وعلى الأرصفة وبلا مرافق ، بينما ترتفع قصور المترفين وشاليهاتهم ويخوتهم داخل وخارج بلادهم .
قال : لماذا لا يوجه رب العزة رسالة تحذيرية لأولئك المترفين فى عصرنا .
قلت : كل القصص القرآنى للعبرة والعظة ، يقول جل وعلا ويكرر : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40) القمر) . وقال جل وعلا عن القصص القرآنى (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111) يوسف )
قال : أقصد تحذيرا مباشرا لنا
قلت : يقول جل وعلا عن الأمم السابقة : (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) يونس ) ثم يقول بعدها لنا ( ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14) يونس ).
قال : ودائما : صدق الله العظيم .!!