أظن مجرد ظن أنه قبل انقلاب "المغامرين الأشرار" عام 1952، كان الفساد مستشرياً في مصر، على كل من المستويين القاعدي والوسيط، وبدرجة أقل على مستوى القمة. بعد هذا التاريخ المشؤوم، بدأ استشراء الفساد المالي لأفراد العصابة الحاكمة، بالاستيلاء على مجوهرات وأملاك الأسرة المالكة وكبار الملاك والرأسماليين، وانحسر فساد قمة الهرم السياسي في فساد القيادة، التي ألقت باحتياطي الذهب بالخزانة المصرية إلى قبائل اليمن، ودمرت مدن القناة وأهدرت الدماء في مغامرات وحروب عبثية، علاوة بالطبع على تدمير الاقتصاد المصري بالسياسات العشوائية، التي لم تكن تنتمي لا للاشتراكية ولا للرأسمالية.
بدأ الفساد المالي بشكله الذي نعرفه الآن مع عصر السادات، حين اتجه لانفتاح اقتصادي، في وقت لم يكن لدينا فيه "رجال أعمال" حقيقيين كما يعرفهم العالم الحر، بل فقط وحصرياً "لصوص الثورة المجيدة" وأبناؤهم، كما أبدع في عرض ذلك الرائع الراحل أسامة أنور عكاشة في مسلسل "ليالي الحلمية" التليفزيوني. في عهد مبارك ومع استمرار التوجه نحو الاقتصاد الحر، بدأ ظهور "رجال أعمال" حقيقيين في مصر، بجانب المغامرين واللصوص المحترفين من مخلفات ثقافة العهود السابقة. وانقسم رجال الأعمال الشرفاء الذين تقدموا للعمل في مصر إلى ثلاث فرق، فريق بعد أيام وشهور وربما سنين من المعاناة، جمع أمواله ورحل، لما عاينه من بيئة تسد عليه كل المنافذ، وتعمل بمبدأ "ادفع كي تمر" أو بالبلدي "أبجني تجدني". وفريق برجماتي اختار أن "يدفع كي يمر". وفريق ثالث جاهد ومازال ليعمل ويكسب بشرف، في ظروف محيطية بالغة الصعوبة والفساد.
مشكلة الفساد المصري فيما نرى خلفها ثلاثة عوامل:
العامل الأول هو ما نزعمه من القابلية الشديدة للشخصية المصرية للفساد. ينقم عموم الشعب المصري على الفاسدين الكبار، ويتمنى لو يصلبهم أو يحرقهم في الميادين العامة. لكن لا يوجد أو يندر بيننا من يستحرم أو يستجرم الاستيلاء على المال العام، أو إهداره بالإهمال والتدليس. . هل نجرم مجتمعياً مثلاً التهرب من الضرائب، أو الاستيلاء على أراض الدولة؟. . لا أنسى أن الشؤون القانونية في شركة قطاع أعمال عام، كانت تحرر عقوداً لأساتذة جامعة للعمل لديها كمستشارين، بصيغة تتيح لهم التهرب من الضرائب، فتجعل قيمة العقد "عشرة قروش" مثلاً، وبدل المواصلات "مائة قرش"!!. . وأعرف عائلة شديدة التدين، لم تكن تستشعر غضاضة أو عاراً، في أن يكون أحد أفرادها من مافيا الاستيلاء على أراض الدولة. . هو شعب متدين بطبعه!!
العامل الثاني هو النظام السياسي والاقتصادي "اشتراكي الهيكلية"، الذي يتغول ويهيمن فيه الجهاز البيروقراطي على سائر الأنشطة الاقتصادية، بحيث يسد على رجال الأعمال كل المنافذ للعمل والكسب، ولا يمر إلا من يدفع. . سلطات خطيرة في يد موظفين يتقاضون مرتبات "بالملاليم"، ويتحكمون بها في مصير مشروعات "بالملايين" و"المليارات".
العامل الثالث هو النظام السياسي الديكتاتوري المهيمن المفتقد للشفافية وسيادة القانون، بحيث لا يسمح بكشف وافتضاح فساد، إلا لحالات "المغضوب عليهم"، نتيجة الصراعات الداخلية بين مختلف مكونات عصابات الحكم، أو لحالات غير المحميين أو المسنودين، والذين لا يمانع النظام المهيمن في التخللي عنهم، وتقديمهم كقربان للشعب، لإقناعه بنزاهة النظام "الذي لا يتستر على فساد"!!
العامل الأول وهو ضعف مقاومة الشخصية المصرية للفساد، يكاد لا يكون لنا حيلة فيه على المدى القصير، وأقصى ما نطمح إليه أن ينجب لنا المستقبل، في ضوء تغير الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، أجيال أكثر مقاومة للفساد.
العامل الثاني وهو هيمنة الجهاز البيروقراطي، نستطيع البدء فوراً في معالجته، إذا ما صدقنا التوجه المنفتح باتجاه الرأسمالية والسوق الحر، بتقليص هيمنة الدولة وجهازها البيروقراطي على الحياة الاقتصادية. هذا بالطبع يتعارض مع ما يتم الآن جهاراً نهاراً، من إضافة سيطرة القوات المسلحة على الاقتصاد المصري، بالإضافة إلى سيطرة الجهاز البيروقراطي العتيد.
العامل الثالث الذي يؤدي لاستشراء الفساد، وهو طبيعة النظام السياسي، ليس لنا أن نأمل في معالجته على المدى القصير، ولا نستطيع أن نتركه للمدى الطويل، نظراً لشدة خطورة تأثيره، لذا يتوجب علينا السعي للزحف التدريجي، باتجاه تأسيس حكم ديموقراطي شفاف، يقوم على السيادة التامة الكاملة للقانون.
هي إذن ليست قصة فساد أفراد، كذلك الذي نراه، حتى في أكثر الدول حضارة وحرية وشفافية. هي قصة فساد شعب، وفساد ثقافة، وفساد نظم اجتماعية واقتصادية وسياسية.
Kamal Ghobrial
Alexandria- Egypt
+201226834061