كتاب مقدمة إبن خلدون: دراسة تحليلية
القســــــم الأول : عـرض مقدمــــــــــة إبن خلــــــــــــدون
تابع الباب الثالث:( في العمران السياسي ) في الدولة العامة والملك والمراتب السلطانية
الفصل السادس والثلاثون
التفاوت بين مراتب السيف والقلم في الدول
السيف والقلم من أجهزة الدولة ، إلا أن الدولة في بدايتها وتوطيدها تحتاج أكثر إلى السيف ، ويكون القلم خادما للسيف . والدولة أيضا في نهايتها تحتاج أكثر للسيف ، حيث تحتاج إلى من يدافع عنها ، وفي الحالتين يكون أرباب السيف أوسع جاها وثروة .
أما في وسط الدولة حيث تتوطد الأمور فإن الحاكم يستغنى بعض الشئ عن السيف ويحتاج إلى من يعاونه من أرباب القلم في تنظيم وتكثير الإيرادات ، وحينئذ يكون أرباب القلم أوسع جاها وثروة وأقرب من السلطان مجلسا ، بينما يكون أصحاب السيف مبعدين عن السلطان وتقوى الشكوك بينهم وبينه ، ولذلك قالأبو مسلم الخراساني للمنصور أخوف ما يكون الوزراء إذا سكنت الدهماء " .
الفصل السابع والثلاثون
شارات الملك خاصة به
هناك سمات للبذخ خاصة بالسلطان يتميز بها عن غيره .ومنها :
الآلة : أي الموسيقى العسكرية والأعلام الوطنية والرسمية ، أو حسبما يقول إبن خلدون " من شارات الملك إتخاذ الآلة من نشر الألوية والرايات وقرع الطبول والنفخ في الأبواق ، وذلك لإرهاب العدو في الحرب ، إذ أن للأصوات الهائلة تأثيرا في النفوس يخلق فيها الحماسة ، خصوصا مع الغناء الحماسي ، وكان العجم يستخدمون الموسيقى العسكرية في حروبهم , واتخذ العرب في حروبهم التغني بالشعر ، وكذلك كانت تفعل قبائل زناته في حروبها ، وكانوا يسمون الغناء الحماسي " ناصو كايت " .
أما تكثير الرايات وتلوينها وإطالتها فذلك للتهويل والحماسة . وعلى حسب قوة الدولة واتساعها يكثر ويقل إتخاذ الموسيقى والأعلام والرايات ، وكانت الرايات ولاتزال إشارات الحرب .
ولم يهتم المسلمون في بداية الأمر بالموسيقى العسكرية ، فلما إنقلبت الخلافة إلى مُلك تشبهوا بالفرس والروم في البذخ والترف ، وكان منها الموسيقي العسكرية ، فكان قائد الجيش أو الوالي يخرج من دار الخلافة في موكب من أصحاب الرايات والموسيقى العسكرية.
الرايات دليل على أصحابها
وكانت رايات العباسيين سوداء حزنا على ما أصاب الهاشميين من قتل وبغي ، وصارت كلمة المسودة دليلا على الجيش العباسي في بداية الدولة ، وحين خرج العلويين على العباسيين جعلوا راياتهم بيضاء وسموا المبيضة ، وصارت الأعلام البيضاء دليلا على كل ثائر على العباسيين من كل فرق الشيعة كالفاطميين والقرامطة .ونزعالمأمون لبس السواد واختار اللون الأخضر.
الإستكثار في الرايات والآلات الموسيقية ليس له حد
فالعزيز بالله الفاطمي حين خرج إلى فتح الشام كان معه خمسمائة من البنود والأعلام وخمسمائة من الأبواق ، وملوك البربر من صنهاجة لم يقتصروا على لون واحد وكانوا يحلون الرايات بالذهب ، فلما جاءت دولة الموحدين وزناته بعدهم جعلوا الطبول والبنود قصرا على السلطان في موكب خاص يسمى الساقة .
وهناك تباين في العدد ، إذ اقتصر الموحدون وبنو الأحمر في الأندلس على سبع تبركا بالعدد سبعة ، ومنهم من بلغ عشرا أو عشرين كما في زناته ، وفي سلطنة أبي الحسن الذي أدركه إبن خلدون كان هناك مائة من الطبول ومائة من البنود من الحرير والذهب ، وهناك رايات ضئيلة من الكتان وطبل صغير في الحرب للولاة والقادة .
الرايات المملوكية
أما في الدولة المملوكية فهناك راية واحدة عظيمة في رأسها خصلة كبيرة من الشعر إسمها الشالش والجتر وهي شعار السلطان . ثم تتعدد الرايات للصناجق والصنجق تعني الراية باللغة التركية ، أما الطبول فيسمونها الكوسات ، ولكل أمير أن يتخذ ما يشاء من الصناجق والكوسات ما عدا شعار السلطنة أي الشالش .
الفرنجة والأسبان
أما الفرنجة والأسبان فهم يتخذون الألوية الطويلة ومعها الموسيقي الوترية والمزمار والغناء .
السرير
هو منضدة جلوس السلطان ، ويطلق عليه أحيانا المنبر ، والتخت والكرسي والأريكة ، وتكون مرتفعة عن كراسي الجالسين مع السلطان . وكان ذلك من سنن الملوك قبل الإسلام وبعده . وقد يتزين بالذهب في عصر ترف الدولة وازدهارها ، وقد يكون بسيطا مع بساطة الدولة وبداوتها .
ومعاوية هو أول من اتخذ سرير الملك وبرر ذلك باصابته بالبدانة ، أماعمرو بن العاص فكان يجلس في قصره على الأرض مع العرب ، وكان يأتيه المقوقس حاكم مصر السابق إلى مقره ومعه سريره الذهبي محمولا على الأيدي حتى يجلس عليه عندعمرو فيجلس عمرو على الأرض ولا ينكر عليه ما يفعل وفاء بعهد الذمة وهجرا لأبهة المُلك ، ثم أصبح اتخاذ سرير المُلك عادة للعباسيين والفاطميين وسائر ملوك المسلمين .
السّكة
السك أي ختم الدنانير والدراهم بنقش أو صورة بعد تقدير عيار الفضة في الدرهم أو الذهب في الدينار عن طريق السبك مرة بعد أخرى . وبها يكون التعامل المالي عن طريق العدد أو القيمة . ولفظ السكة جاء من الحديدة التي كان يتم بها سك النقوش على الذهب أو الفضة . ثم إستعملت في وظيفة أو مصلحة سك العملة.
وسك العملة من وظائف المُلك ليتميز السليم من المغشوش من النقود ، لذلك كان يتم التأكد بختم السلطان .
سك العملة في الإسلام
وكانت نقوش العملة قبل الإسلام وفي غير دول الإسلام بالتصوير والتمثيل ، وجاء الإسلام فكان المسلمون يتعاملون بالدرهم والدينار كما يتعاملون بالذهب والفضة وزنا ، وعلى أساسها يحسبون قيمة الدينار والدرهم، فلما كثر الغش أمر عبدالملك بن مروان الوالي الحجاج بضرب الدراهم سنة 74-75 هـ . وتم التعامل بها سنة 76 وكتب عليها " الله أحد الله الصمد " ثم استمرت التحسينات في إصدار العملة في ولايةابن هبيرة للعراق وخالد القسري ويوسف بن عمر .
وهناك رأي يقول أن أول من سك العملة في الإسلام هو مصعب بن الزبير في العراق بأمر أخيه عبدالله بن الزبير حين إستولى على الخلافة ، وكتب " بركة الله " على وجه منها ، وعلى الوجه الآخر كتب إسم الله ، ثم غيرها الحجاج . وتقدير وزن الدرهم في عهد عمر كان ستة دوانيق ، فلما أصدر عبدالملك الدرهم العربي التزم بنفس الوزن ، وجعل فيه كلمات وليس صورا لأن العرب أقرب للكلام والبلاغة من الصور ، ولنهي الشرع عن الصور ، وهذا ما سار عليه الناس .
وكان الدرهم والدينار على شكل دائرة والكتابة في دوائر متوزاية ، ويكتب في وجه اسم الله والرسول مع التسبيح والتحميد والصلاة على النبي ، وفي الوجه الثاني تاريخ الإصدار واسم الخليفة أو السلطان ، وهكذا كان يفعل العباسيون والفاطميون والأمويون بالأندلس . وفي صنهاجة لم يتخذوا عملة إلا متأخرا في عهد المنصور صاحب بجاية كما ذكر ابن حماد في تاريخه .
ولما جاءت دولة الموحدين بمحمد بن تومرت المهدي أصدر درهما ودينارا كل منهما في وسطه إسم الله في جانب وفي الجانب الآخر إسمه وإسم الخلفاء قبله ، وذلك في شكل مربع لذلك أطلق عليه صاحب الدرهم المربع حيث تنبأ المنجمون بظهور صاحب الدرهم المربع قبل مجيئه.
وفي المشرق فإن العملة غير مقدرة ، ويتعاملون معها بالصنجات ، أي بالوزن . ولايطبعون عليها بالكلمات كما يفعل أهل المغرب.
تقدير الدرهم الشرعي والدينار الشرعي
الدرهم الشرعي تساوي العشرة منه سبعة مثاقيل من الذهب ، والمثقال 72 حبة شعير ، ووزن الدينار الشرعي 72 حبة شعير من الشعير الوسط .
الخاتم
أي ختم السلطان الرسمي على الرسائل والصكوك ، وكان ذلك معروفا في الدول قبل الإسلام ، وقد اتخذالنبي (ص) خاتما نقش فيه " محمد رسول الله" وختم به كتابه إلى قيصر ، وكان هذا الختم مع أبي بكر وعمر وعثمان ، ثم سقط من عثمان في بئر أريس وضاع ولم يعثر عليه . وصنع علي خاتما آخر .
معنى الخاتم
وكلمة الخاتم تطلق على الخاتم الملبوس في اليد ، وعلى نهاية الشئ وعلى غطاء الآنية ، كما تطلق على الأثر الناشئ من الخاتم حين تختم به على ورقة أو شمع ، ومنه خاتم السلطان أو خاتم القاضي ، وقد يكنى بالخاتم عن الوزارة ، كما قال الرشيد ليحيى البرمكي أريد أن أحول الخاتم من يميني إلى شمالي ، فعرف أنه يريد استبدالالفضل بأخيه جعفر بن يحيى في الوزارة ، وقد أرسلمعاوية إلى الحسن بن علي ختما على ورقة بيضاء ليكتب فيها ما يشاء ، أي شيك على بياض .
ديوان الخاتم
ومعاوية هو أول من اتخذ ديوان الخاتم ، لأنه أرسل مع عمر بن الزبير رسالة لزياد أن يعطيهزياد مائة ألف ، ففتح عمر الرسالة وجعل المائة مائتين ، فأعطاه زياد مائتين ، فلما عرف معاوية استرجع منه المائة ألف ، واتخذ ديوان الخاتم منعا للتزوير .
وديوان الخاتم يرسل رسائل السلطان وعليها ختمه بالشمع الأحمر أو بالعلامة السرية ، وهناك ما يعرف بطين الختم ، وكان يأتي من سيراف ويغمس فيه الخاتم ثم ينقش به على الورق ، وكان ذلك ساريا في ديوان الرسائل ، وللوزير في العصر العباسي . ثم إختلف العرف ، وأصبحوا في المغرب يستعملون الخاتم الملبوس في الإصبع يلبسه السلطان ويكون مرصعا بالأحجار الكريمة ، ويعدونه من علامات الملك ، كما كانت البردة والقضيب في الدولة العباسية ، والمظلة في الدولة الفاطمية .
الطراز
كانوا يطرزون أسماءهم وشعاراتهم على ثيابهم الحريرية ، ويأتي التطريز بلون مختلف للثوب وبخيوط الذهب وعلى أعلى مستوى من المهارة للتنويه بمن يرتدي ذلك من السلطان وأتباعه . وكان ملوك العجم يطرزون بصور الملوك وصور أخرى ، واستبدل الملوك المسلمون هذا بكتابة أسمائهم مع عبارات حسنة متفائلة .
وأقيمت دور الطراز داخل القصور الملكية ، ويرأسها صاحب الطراز ، وهو يشرف على الآلات والخياطين ومرتباتهم ، ويتولى هذه الوظيفة كبار الموظفين ، وهكذا كان الحال في الدولة الأموية بالأندلس والفاطمية والسلاجقة .
وتزدهر هذه الوظيفة مع ترف الدولة وثرائها ، وتنكمش مع بساطة الدولة وبداوتها وفقرها .
فدولة الموحدين في البداية مع أول القرن السادس لم تأخذ بذلك إذ كانوا يتورعون عن لباس الحرير والذهب والفضة ، ثم أخذ اللاحقون في التنعم واتخاذ الطراز . وأدرك إبن خلدون في الدولة المرينية بالغرب في عنفوانها وشموخها وهي تأخذ طريقة جديدة في الطراز تأثروا فيها بملوك الطوائف بالأندلس .
أما في الدولة المملوكية فلا يصنع الطراز داخل القصر السلطاني ، وإنما تصنعه للسلطان المصانع المختصة ، تصنع له " المزركش " من الحرير والذهب الخالص وعليه إسم السلطان أو الأمير .
الفسطاط والسياج
من شارات الملك وترف المملكة اتخاذ الخيام البديعة أو الفسطاط للسكن فيها أثناء السفر والنزهة ، وهي من ثياب الكتان والصوف والقطن ، وتتنوع الألوان والفخامة حسب ثروة الدولة.
والعرب حتى دولة بني أمية كانوا يسكنون خيام الوبر والصوف ، وكانت عدتهم في الترحال ، واستمرت عادة الترحال في الجيوش حيث تباعدت المنازل والأحياء ، ولذلك احتاج عبدالملك بن مروان إلى فرقة خاصة تقوم بحشد هذه التجمعات المتفرقة لتجتمع معا عند التحرك الحربي .
ودخل العرب في الترف وسكنت القبائل في المدن وعاش الأمراء في القصور فتحولت الخيام البسيطة عند السفر إلى فساطيط مختلفة الأشكال والألوان والزينة والأحجام ، وكل أمير يحيط فساطيطه بسياج من الكتان . وفي المغرب يسمي ذلك السياج الكتان " أفراج " ، ويختص به السلطان . وأما في المشرق فكل أمير من حقه أن يتخذ سياجا .
وفي البداية كانوا يحملون معهم نساءهم وأولادهم في الخيام ، وفي عصر الترف إستراحت النساء والأولاد في القصور ، وأصبحت الفساطيط قصرا على الرجال لذلك تقاصرت المسافات بينها بحيث أصبحت في معسكر واحد ، وهكذا كان الحال في دولة الموحدين وزناته التي أدرك إبن خلدون عصرها ، وقد كانوا يعيشون في الخيام ثم تطوروا وسكنوا القصور والفساطيط حين يجتمع العسكر معا.
المقصورة للصلاة والدعاء في الخطبة
وهي تختص بالخلافة والملك الإسلامي . والمقصورة أول من إتخذها معاوية بعد تعرضه لمحاولة إغتيال ، وبها أصبح يصلي في المسجد خلف سياج ، وبعدها أصبحت عادة يتميز بها السلطان عن غيره كإحدى مظاهر الترف التي لازمت الدول والملوك في الإسلام .
الدعاء على المنابر
وعمرو بن العاص أول من اتخذ المنبر ، وقد إحتج عليه عمر بن الخطاب حين بلغه ذلك . أما الدعاء للسلطان فأول من بدأ به عبدالله بن عباس حين كان واليا لعلي على البصرة فدعا لعلي قائلا: اللهم أنصر عليا على الحق ، يقولإبن خلدون " واتصل العمل على ذلك ".
وكان الخليفة هو الذي يؤم الصلاة ، ويخطب بنفسه ، ثم إحتجب الخليفة أو الملك من الناس ، وأصبح يستنيب في الصلاة والخطبة ، فكان الخطباء يمدح أحدهم الخليفة على المنبر ويدعو له ، أو على حد تعبير إبن خلدون " ودعاء له بما جعل الله مصلحة العالم فيه " واستشهد بقول السلف " ومن كانت له دعوة صالحة فليضعها في السلطان ".
فلما تغلب الموالي على الخلفاء أصبحوا يشاركون الخليفة في الدعاء على المنبر بعد إسمه ، وبعد إنفراد السلطان بالحكم إستأثر أيضا بالدعوة له على المنبر . وكان يحدث في بداية قيام الدولة وعدم وضوح الرؤية أن يقنع الخطيب بالدعاء بالإبهام وبالإجمال دون تحديد ، وتسمي هذه الخطبة " عباسية " .
وكان ذكر السلطان على المنبر في خطبة الجمعة دليل الإعتراف بشرعيته وتبعية الدولة له. وقد ذكر إبن خلدون بعض الأحداث التاريخية التي تؤكد ذلك.