عرض مقدمة ابن خلدون:الباب الثالث ( ف1: 9): الدولة والعصبية والدعوة الدينية

آحمد صبحي منصور في الأربعاء ٠٢ - سبتمبر - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً

كتاب مقدمة إبن خلدون: دراسة تحليلية 

القســــــم الأول : عـرض مقدمــــــــــة إبن خلــــــــــــدون

الباب الثالث:( في العمران السياسي ) في الدولة العامة والملك والمراتب السلطانية                                         الفصل الأول

                 الملك والدولة العامة إنما يحصل بالقبيلة والعصبية

       التغلب والقوة تكون بالعصبية ، ويتنافس الناس في الوصول إلى الملك ويتنازعون ، والغالب هو الأكثر قوة وإتباعا وعصبية .

     وهذا ما يتناساه جمهور الناس بسبب طول العهد بعد إقامة الدولة . فلا يعرفون ما فعل الله أول الدولة ، وإنما يدركون تسليم الناس لصاحب السلطة الذي ورثها واستغنى عن العصبية ، وحدث ذلك لأهل الأندلس فتلاشى ملكهم .

                                                  الفصل الثاني

                إذا استقرت الدولة وتمهدت فقد تستغني عن العصبية

      في بداية الدولة لاينقاد لها الناس إلا بالقوة والعصبية ، فإذا توطدت الدولة وتوارثها أصحاب الملك تناسى الناس قيامها على العصبية . وأصبح التسليم للدولة عادة والقتال عنها عقيدة ، ولهذا جرت العادة على وضع الكلام في الإمامة بعد العقائد الإيمانية . كأنه من جملة الإيمان . وتدعم  الدولة سلطانها بالموالى والأتباع الذين نشأوا في ظل سلطانها ، أو تستقدم موالي من الخارج .

       وهذا ما حدث للعباسيين ، إذ استعانوا بالعرب ، فلما فسدت عصبية العرب تحولوا إلى الموالى من الترك والديلم ، ثم تغلب عليهم البويهيون ، ثم السلاجقة , وحدث هذا لصهناجة ـ  بعد فساد عصبيتهم منذ القرن الخامس ـ تقلص سلطانهم في  الثغور حتى انقرض وتأسست دولة الموحدين بقوة القبائل المصامدة .

     وحدث هذا للدولة الأموية بالأندلس ، بعد فساد عصبيتها العربية تقسمت بين ملوك الطوائف الذين تحاربوا فيما بينهم ، ودعم كل منهم سلطانه بالموالي ، وحتى غزاهم المرابطون من شمال أفريقيا بعصبيتهم القبلية من لمتونة فاستولوا على الأندلس .

     ويرد إبن خلدون على الطرطوشي في كتابه " سراج الملوك " حيث يرى الطرطوشي أن الجند أصحاب العطاء هم أصحاب العصبية ، ويرى إبن خلدون أن ذلك في الدولة بعد استقرارها ثم ضعفها ، لذا تلجأ إلى إستئجار الجند والموالي والمرتزقة .

                                            الفصل الثالث

       قد يحدث لبعض أهل النصاب الملكي دولة تستغني عن العصبية

         إذا تغلبت إحدى العصبيات على الأمم والأجيال إنقادوا لها ، فإذا خرج ثائر ينتمي إلى هذه العصبية وارتحل إلى مكان بعيد عن مقر السلطان ، ولكن يموج هذا المكان بالإنتماء إلى هذه العصبية ودعوتها أصبح ممكنا أن تجتمع حوله عصبية جديدة تقوم معه تنشئ له ملكا جديدا إيمانا بأحقيته في السلطان وفي الإمامة .

     وقد وقع هذا للإدارسة في المغرب الأقصى بعد فرار إدريس من العباسيين , وحدث ذلك للفاطميين في شمال أفريقيا ، وفي كل الأحوال وجدوا في القبائل عصبية لهم ، وهذه القبائل البربرية كانوا منقادين للفاطميين يتنافسون في خدمتهم إعتقادا منهم بأحقية العلويين بالإمامة.

                                      الفصل الرابع

                          الدولة العامة القوية أصلها دعوة دينية

     لأن الملك يتم بالغلبة والعصبية ، ولايتم ذلك إلا باتفاق القلوب على الإيمان بدعوة دينية ، والأمل في عون الله على إقامتها .

    والسبب إن الهدف إذا  كان دنيويا حمل في داخله التنافس والخلاف ، أما إذا كان دينيا اتحدوا جميعا في سبيله ، لذلك تقوم الدولة وتتوسع بالتعاون والتعاضد .

                                    الفصل الخامس

                   الدعوة الدينية تزيد قوة الدولة على قوة العصبية

     لأن الصبغة الدينية للدعوة تمنع التنافس الذي يصاحب العصبية ، وتجعلهم متحدين حول هدف واضح في مواجهة الدولة التي يريدون الوثوب عليها .

     وأهل هذه الدولة وإن كانوا كثرة إلا أنهم متخاذلون مختلفون قد أرهقهم الترف لذا ينهارون سريعا أمام أصحاب هذه الدعوة الدينية . وذلك ما حدث في الفتوحات الإسلامية في القادسية واليرموك ،وحدث في حركة الموحدين وقبائل لمتونة حين هزموا قبائل المغرب وشمال أفريقيا .

      فإذا انتهت الصبغة الدينية وبقيت العصبية يعود الخلاف ، ويتغلب الأقوى ، وقد كانت قبائل زناته أشد توحشا وقوة من المصامدة ، ولكن تغلب عليهم المصامدة لأنهم يحملون دعوة دينية . وقامت دولة الموحدين ، وأصبح الزناتيون أتباعا للمصامدة . فلما خمدت الدعوة الدينية في المصامدة تغلبت عليهم زناته وغلبوهم وانتزعوا منهم الأمر .

                                               الفصل السادس

                            الدعوة الدينية لا تتم إلا بالعصبية

    لأن كل أمر يتم فرضه على الناس لابد له من عصبية ، واستشهد بحديث : ما بعث الله نبيا إلا كان في منعة من قومه ، وقال إذا كان هذا في حق الأنبياء وهم أصحاب معجزات إلاهية فهو في غيرهم أولى .

    وقد ثار الشيخ ابن قسي الصوفي في الأندلس وسمى أصحابه بالمرابطين قبيل دعوة المهدي ، فاستتب له الأمر برهة بسبب انشغال لمتونة بأمر الموحدين ، ولم تكن له قبائل تتعصب له ، فلما استولى الموحدون على المغرب دخل في طاعتهم وكان داعيتهم بالأندلس ، ولو كانت له عصبية لما أصبح تابعا لغيره . ومن ذلك ثورات الفقهاء الداعية إلى تغيير المنكر ، ويتبعهم العوام بدون عصبية قوية ، ويقول إبن خلدون " وأكثرهم يهلكون في تلك السبيل مأزورين غير مأجورين ، لأن الله سبحانه لم يكتب ذلك عليهم " فإذا ذهب أحد من الناس هذا المذهب بدون عصبية هلك . واستشهد إبن خلدون بالفتن الأهلية التي وقعت في بغداد بعد خلع المأمون ، وتزعم الفقهاء هذه الفتن تحت شعارات دينية ، وكان منهم خالد الدريوس وأبو حاتم سنة 201 ، ويحدث أن يقتدي بهم بعض الفقهاء في تزعم الفتن دون أن تكون له عصبية وينتهي أمره بالنجاة متهما بالجنون والوسوسة ، أو بالعقاب ، وبعضهم يزعم الإنتساب إلى  المهدي المنتظر كما حدث في أول القرن الثامن الهجري حين زعم  التوبذري الصوفي في سوسه أنه الفاطمي المنتظر ، فتجمع حوله بعض البربر، فأرسل إليه عمر السكسيوي زعيم قبائل المصامدة من اغتاله على فراشه ، وفي نفس العصر ظهر رجل آخر إسمه العباسي في غمارة وادعى أنه المهدي ،واحتل بادس ، ثم قتل بعد أربعين يوما . والسبب هو غفلتهم عن أهمية العصبية أو القوة المؤيدة .

ملاحظة

ينطبق هذا فى عصرنا على الدولة السعودية ، إذ إستعانت بالدعوة الدينية لابن عبد الوهاب ( الوهابية ) وأقامت دولتها الأولى . وقد دمرها الوالى ( محمد على ) عم 1818 ، دمّر محمد على الدولة ولكن ترك الدعوة فاشية ، فاستطاعت الدعوة بأنصارها ( أو عصبيتها بتعبير ابن خلدون ) إعادة إقامة الدولة السعودية الثانية ، وسرعان ما سقطت الدولة فأعاد عبد العزيز آل سعود إقامة الدولة السعودية الثالثة الراهنة عن طريق ( عصبية ) أسسها ، هم شباب الأعراب الذين علمهم الوهابية فى معسكرات منعزلة أسماها ( الهُجر ) . وأسماهم ( الاخوان ). وثار  ( الاخوان ) على سيدهم عبد العزيز فهومهم وأسس فى مصر جمعيات وهابية كان أخطرها ( الاخوان المسلمون ) الذيم نشروا وباء الوهابية دعوة سياسية  دينية ، تسير فى ركابها المذابح وحمامات الدم ..حتى الآن .

                                   الفصل السابع

           إن كل دولة لها حصة من الممالك والأوطان لا تزيد عليها

     لأن عصبية الدولة من أمراء وجند لابد من توزيعهم على أرجاء الدولة من المدن وعلى الحدود ، لإدارة الدولة وحمايتها ، فإذا توزعوا على الحواضر والثغور فلابد من نفاذ عددهم ، فإذا اتسعت الدولة فوق امكانية عصبيتها حدث خلل يمكن أن ينتهزه العدو المجاور لغزو الدولة.     

    وإذا بقيت قوة من عصبية الدولة بعد توزيع الجنود والأمراء للحماية والإدارة ، فإن هذه البقية من القوة تعين الدولة على بلوغ مرادها . والدولة في مركزها أشد قوة عنها في الأطراف . ثم إذا أدركها الهرم فإن الضعف يبدأ من الأطراف إلى أن ينتهي في المركز ، فإذا جاء الضعف في المركز نفسه فلا ينفعها بقاء الأطراف بل تضمحل لوقتها . فالمركز هو القلب ، وحين سقطت عاصمة الفرس في المدائن لم ينفع يزدجر الثالث ما بقي بيده من الأطراف ، وعلى العكس من ذلك دولة الروم ، حين لم تسقط القسطنطينية  إستمر ملكهم بدون الأطراف التي استولى عليها العرب .

    والعرب في الفتوحات توسعوا فيما بين الهند والأندلس . فلما تفرقت قوتهم وعصبيتهم في تلك المساحة ، لم يستطيعوا تجاوز تلك الحدود ، ثم بدأ تراجعهم من الأطراف .وهكذا فإن اتساع الدولة على قدر نسبة عصبيتها وقوتها .

                                    الفصل الثامن

                 عظم الدولة واتساعها وبقاؤها بقدر نسبة القائمين بها

    لأن الملك يقوم على القوة والعصبية ، وهي تتوزع على الدولة ، وكلما ازدادت قوة الدولة إتسعت مساحتها ، وبلغ عدد الجيش الأخير للنبي في تبوك 110 ألف ، فلما جاءت الفتوحات أسقطوا فارس وتوسعوا في ممتلكات الروم ، ووصلوا ما بين الهند والأندلس ، ومن اليمن إلى الترك شمالا .

     وكانت كتامة أكبر من صهناجة والمصامدة فاستطاعت بالدعوة الفاطمية أن تمتد فيما بين المغرب إلى مصر والشام والحجاز . ولأن زناته كانت أقل في العدد من المصامدة فقد قصر ملكهم على ملك الموحدين ، وهكذا تتسع الدولة بقدر تعداد وقوة عصبيتها .

     ويتوقف على ذلك أيضا طول بقائها ،لأن عمر الدولة يتوقف على مدى قوة عصبيتها في النفوس ، والنقص في الدولة يبدأ في الأطراف ،  فإذا تباعدت الأطراف لاتساع الدولة ، فإن النقص في الأطراف يأخذ وقتا حتى يتغلغل ويصل إلى القلب والمركز . مما يجعل أمد الدولة طويلا .

واستشهد بطول مدة الدولة العباسية بالمقارنة بغيرها من الدول اللاحقة .

                                      الفصل التاسع

            الأوطان الكثيرة القبائل والعصائب قل أن تستحكم فيها دولة

     لأن اختلاف الأراء والأهواء ينتج عنه اختلاف العصبيات وكثرة الفتن والثورات ، لأن كل قبيلة أو عصبية تطمع  في أن تصل بقوتها إلى الإستقلال ، والدليل على ذلك ما وقع في شمال أفريقيا بعد الفتح الإسلامي ، إذ قاوموا الفتح ، وبعد أن أسلموا إستمروا في الثورات على مذهب الخوارج ، ويقال أن البربر إرتدوا إثنتي عشرة مرة حتى إستقر الإسلام فيهم في ولاية موسى بن نصير وذلك بسبب كثرة قبائلها وعصبياتها . واختلف الشام والعراق عن شمال أفريقيا إذ سرعان ما تمهدت أمور المسلمين فيها على عكس البربر وقبائلهم . وقبل ذلك كان صعبا على بني إسرائيل إقامة ملك لهم في الشام الذي تكاثرت فيه القبائل من كل صنف ، وامتد ذلك الخلاف إلى بني إسرائيل أنفسهم فتفرقوا إلى أن غلبهم الفرس ثم الروم .

     وعلى العكس من ذلك ، فالأوطان الخالية من  العصبيات يسهل إقامة وتوطيد الدولة فيها كما في مصر والشام بعد الإسلام وفي عصر إبن خلدون .

مصر مطية راكب

ويقول ابن خلدون إن مصر بالذات في غاية الدعة والرسوخ لقلة أهل العصبيات  ، وإنما هو سلطان ورعية ، ودولتها قائمة بالمماليك يتوارثها الأقوى فيهم ، والخلافة الاسمية لبني العباس ، وكذلك شأن الأندلس في ذلك الوقت .

ملاحظة : ابن خلدون أتم كتابة المقدمة والتاريخ  قبل قدومه لمصر .  ويبدو انه أضاف الحالة المصرية بعد مجيئه الى مصر ، وشعب مصر ليس قبائل مسلحة كما هو الحال فى الصحراء العربية والأفريقية ، بحيث ينطبق عليها وصف العصبية ، لذا هى خارجة عن تأطيره للعصبية .

مصر هى كما قال عمرو بن العاص ( مطية راكب ) أو كما يقول المصريون ( بلد اللى يركب ) ، ومن يركب مصر بعسكره هو الذى يحكم ، حتى لو كان أجنبيا ، أو رقيقا مملوكا ( المماليك ) . و العسكر حتى لو كان مصريا فهو يحكم مصر بنفس الحكم المملوكى العسكرى والأجنبى، يحتكر السلطة والسلاح والثروة ، ومنطق العسكر فى كل عصر أنهم ( السادة ) ، وأن الشعب المصرى مملوك لهم لأن الشعب منزوع السلاح عاجز عن تحرير نفسه من الاستبداد .

اجمالي القراءات 15401