كتاب ( مقدمة إبن خلدون: دراسة تحليلية )
القســــــم الأول : عـرض مقدمــــــــــة إبن خلــــــــــــدون :
تابع الباب الأول:في العمران البشري على الجملة وفيه مقدمات
تفسـير الرؤيـــا
حقيقة الرؤيا
مطالعة النفس لمحة من صور الحوادث في ذاتها الروحانية ، فالنفس عندما تكون روحانية توجد فيها صور الوقائع بالفعل ، وتصير النفس روحانية عندما تتجرد عن الجسم والحواس البدنية ، ويحدث ذلك في لمحة منامية فتقتبس بعض غيب المستقبل وتعود به إلى مداركها وتتكون بذلك الرؤيا .
متىتحتاج الرؤيا إلى تأويل وتفسير
إن كان الإقتباس ضعيفا مشوشا إحتاجت الرؤيا إلى تفسير وتعبير ، وإذا كان الإقتباس قويا إستغنى عن التفسير والتأويل .
السبب في وقوع الرؤيا باللمحة أن النفس ذات روحانية بالقوة مستكملة بالبدن وحواسه ومدركاته ، وتتحول ذاتها إلى تعقل محض ، ويكمل وجودها بالفعل فتصير ذاتا روحانية مدركة بغير الحواس ، إلا أن نوعها في الروحانيات أقل من نوع الملائكة وأهل السمو للملأ الأعلى والملائكة .
والإستعداد للرؤيا حاصل للنفس ما دامت في البدن ، ومنه خاص للأولياء ومنه عام لجميع البشر ، ومنه رؤيا الأنبياء .
رؤيــا الأنبيــاء
هو الإستعداد للإنسلاخ من البشر إلى عالم الملائكة المحضة . ويتكرر هذا الإستعداد في حالات الوحي ، لذلك قال الحديث عن الرؤيا جزء من 46 جزءا من النبوة ، وفي رواية 43 ، وفي رواية 70 والمراد بالعدد هو الكثرة ،واختلفت التفسيرات في العدد والجزء من هذا العدد .
النوم يرفع مانع الجسد والحواس
والحواس الظاهرة المادية هي أعظم موانع الإستعداد لملامسة العالم العلوي وما فيه ، وهي حجاب مانع ، ويمكن ارتفاع ذلك الحجاب بالنوم ، وعنده يمكن للنفس في لمحة أن تظفر بالمطلوب ، لذا يقول الحديث " لم يبق من النبوة إلا المبشرات "وهي الرؤيا الصالحة . يراها الرجل الصالح ، أو ترى له ".
سبب إرتفاع حجاب الحواس بالنوم
النفس تدرك بالروح الجسماني، وهو بخار لطيف بالتجويف الأيسر من القلب حسبما أشار جالنيوس في كتب التشريح ، وينبعث مع الدم إلى الشريان والعروق فيعطي الحس والحركة وسائر الأفعال البدنية . ويرتفع الجزء اللطيف منه إلى المخ فيعدل من برده . وبهذا تدرك النفس الناطقة بهذا الروح البخاري حيث لا يؤثر اللطيف في الكثيف .. ثم أفاض إبن خلدون في التعليلات الفلسفية .
أنواع الرؤيا
إن الرؤيا – كما جاء الحديث – من الله أو من الملك أو من الشيطان والرؤيا الجلية الواضحة من الله ، والرؤيا التي تحتاج إلى تفسير تكون من الملك أما أضغاث الأحلام فهي من الشيطان وهي باطلة .
عمومية الرؤيا في البشر
والرؤيا خواص للنفس الإنسانية موجودة في كل البشر على العموم . بل كل إنسان رأى في نومه ما صدر له في يقظته مرارا أكثر من مرة ، وتأكد له باليقين ، أن النفس مدركة للغيب في النوم . وإذا جاز ذلك في النوم فلا يمتنع في غيره من الأحوال ، لأن النفس المدركة واحدة وخواصها عامة في كل حال .
الحالوميــــة
قد تقع للبشر رؤيا بدون قصد ولا قدرة في لمحة منام ، بل تتشوق لها النفس . وهناك أسماء يذكرها الشخص عند النوم فيرى المنام الذي يتشوق إليه ، ويسمونها الحالومية ، مثل حالومة الطباع التام ، وهي كلمات أعجمية معينة تقال باخلاص قبل النوم ويذكر حاجته فيرى ما يسأل عنه في النوم ، وهذه الكلمات هي( تماغس بعدان يسواد وغداس نوفنا غادس )
أثر الحالومية في إحداث الرؤيا
ويذكر إبن خلدون أنه رأى بهذه الأسماء مرائي عجيبة وعرف بها أمورا غيبية كان يتشوق إلى معرفتها . ويرى أن هذه الحالومات تخلق في النفس إستعدادا لوقوع الرؤيا ، فإذا قوي الإستعداد رأي ما يتشوق إليه . ويقول القدرة على الإستعداد غير القدرة على الشئ .
أنواع من البشر يتكلمون بالغيب
بعض الناس يتميز بمعرفة الغيب بالفطرة بدون صناعة ولا تنجيم (علم النجوم ) مثل العراف والناظرين في الأجسام الشفافة وقلوب الحيوانات وأكبادها وعظامها ومن يزجر الطير والوحوش ، وضرب الودع والحصى والحبوب والنوى والمجانين والنائم والمحتضر قبيل موته ، وشيوخ التصوف وكراماتهم في علم الغيب ، ويقول إبن خلدون أن هذه كلها موجودة في عالم الإنسان لا يستطيع أحد جحدها ولا إنكارها .
التفسير العادي لإبن خلدونلذلك
ويحاول إبن خلدون تفسير ذلك بشرح إستعداد النفس لإدراك الغيب ، وهو تقريبا نفس الشرح السابق مع تفصيل أكبر إستخدم فيه تعبيرات الفلاسفة ، ثم أخذ في شرح أحوال وأنواع الناس أصحاب المقدرة على علم الغيب .
الناظرون في الأجسام الشفافة وقلوب الحيوانات .. الخ وضرب الودع
جعلهم من قبيل الكهان إلا أنهم أضعف منهم رتبة ، لأن الكاهن لا يحتاج إلى عناء في رفع حجاب الحس ، وهؤلاء يعانون في رفع حجاب الحس لإنحصار المدارك الحسية كلها في نوع واحد وهو البصر فيعكف على المرئي البسيط حتى يبدو له ما يريد إدراكه من الغيب ، ويظل ينظر إلى السطح إلى أن يغيب عن البصر ، ويبدو فيما بينه وبين سطح المرآه حجاب كأنه غمام تتمثل فيه مداركهم تشير بالمقصود فيخبرون بما أدركوه ، وهم لا يدركون الصورة في المرآة وغيرها ، وإنما يتشكل لهم إدراك نفسي . ومنهم من يشعل البخور ويطلق التعزيمات فتتشكل لهم الصور في الدخان تحكي لهم ما يطلبون .
زجر الطيـــر
أما زجر الطير والتطلع إلى إتجاهها عندما تطير ، والإستفادة بذلك في معرفة الغيب ، فذلك ينشأ من قوة في النفس تبعث على الحرص والفكر فيما زجر بسببه الطائر ويؤديه ذلك إلى الإدراك .
المجانين
والمجانين نفوسهم الناطقة ضعيفة التعلق بالجسد وبالحواس ، وقد يصيبه المرض أو الروحانية الشيطانية فيقع في التخبط ، وإذا غاب عن حسه أدرك لمحة من عالم نفسه وربما نطق بما رأى بدون قصد ، وإدراكه يختلط فيه الحق بالباطل .
العرافون
ليس لهم الاتصال الذي للمجانين ، إلا أنهم يسلطون الفكر على الأمر الذي يبحثونه ويتعلقون بالظن والتخمين ، وبذلك يدعون العلم بالغيب .
نقد للمسعودي
ويتيه إبن خلدون على المسعودي وينقده ، ويتهمه أنه نقل ما سمعه في هذا الموضوع من أهله ومن غير أهله ، وكان بعيدا عن الرسوخ في المعارف .
اعتقاد إبن خلدونفي ذلك
ويرى إبن خلدون أن هذه الإدراكات موجودة في البشر ، واستدل باعتماد العرب على الكهان في معرفة الغيب ، وفي الإحتكام للقضايا ، وأشار إلى بعض مستوى الكهان وقصصهم وأشعارهم.
المقتول والنائم يعرفان الغيب
بعض الناس عندما يدخل في النوم يتحدث ببعض الغيب الذي يتوق لمعرفته ، وفي هذه اللحظة يفقد سيطرته على إختياره في الكلام ، وكذلك المقتول قبيل موته ، وقد حدث أن بعض الملوك قتل بعض المساجين ليتعرف من كلامهم قبيل الموت ما سيحدث له . ونقل إبن خلدون عن مسلمة في كتاب " الغاية تجربة " هي أنه لو مكث شخص أربعين يوما في برميل ملئ بدهن السمسم ، ويتغذى بالتين والجوز حتى يذهب لحمه ولا يبقى منه إلا العروق ، فحين يخرج من ذلك البرميل ويجف الدهن يستطيع الإجابة عن كل شئ ، وهذا من تفانين السحرة .
أصحاب الرياضات
بعضهم يحاول بالمجاهدة بالرياضات الروحية أن يميت غرائزه وتغذية نفسه بالذكروالجوع، وإذا أشرف الجسد على الموت تكشفت له الحقائق الغيبية ، وهذا ما يحاولون الوصول إليه . ومنهم الحوكية في الهند أصحاب الرياضات السحرية ، وبذلك يتصرفون في العالم ، ولهم في ذلك كتب وأخبار عجيبة .
المتصوفة وعلمهم بالغيب (الكشف) وتصرفهم في الكون ( الكرامة )
وهم أصحاب الرياضات الدينية ، ومقاصدهم محمودة ، ويقصدون الإقبال على الله ليحصل لهم الذوق ومعرفة الغيب ، ويجمعون بين الجوع والتغذية بالذكر الإلهي حتى يجتنبوا الشيطان. ويكون التصرف بالمعجزات بدون قصد في أول الأمر ، لأنه إذا قصد ذلك كانت رياضته بغرض آخر غير الله فأصبحت شركا لأنهم يقصدون المعبود ولا شئ سواه .
وقد يحدث لهم كشف الغيب والكرامات ، وكثير منهم يفر من ذلك ولايهتم به . ويسمون ما يحدث لهم كشفا وفراسة فيما يخص علم الغيب ، ويسمون التصريف كرامات . وهذا من حقهم.
إبن خلدونيعتقد في كرامات الأولياء
وهناك من ينكر كرامات الأولياء وكشفهم مثل أبي إسحق الإسفراييني وأبي محمد بن أبي يزيد المالكي حتى لا تلتبس المعجزة النبوية بالكرامة ، ويرى إبن خلدون أن هناك فارقا بينهما. وهذا يكفي لإثبات الكرامة . واستشهد إبن خلدون على ثبوت الكرامة بحديث :" إن فيكم محدثين وأن منهم عمر " وقول عمر " يا سارية الجبل " حين نادى عمر في المدينة لأحد الصحابة في الفتوحات ، وهو سارية بأن يلزم الجبل ، وقال أن أبا بكر تنبأ لعائشة بأن لها اختا لها ستلدها زوجته بنت خارجه بعد موته .
إبن خلدونيعتقد في كرامات المجاذيب
هم أشباه المجانين ، ومع ذلك صحت لهم مقامات الأولياء والصديقين ، وذلك معلوم من أحوالهم . ويفهمها عنهم أهل الذوق، مع أنهم غير مكلفين ، ولهم عجائب في الأخبار عن الغيب ، ولا يوافق إبن خلدون على إنكار الفقهاء على أولئك المجاذيب بحجة سقوط التكاليف عنهم ، وأن الولاية لا تحصل إلا بالعبادة . ويري إبن خلدون أن ذلك خطأ لأن الولاية لا تتوقف على العبادة ولا غيرها ، لأنها فضل الله يؤتيه من يشاء . ولأن النفس البشرية يخصها الله بما شاء من مواهبه ، وأولئك المجاذيب فقدوا العقل وهو مدار التكليف وتدبير المعاش ، ومن يفقد هذه الصفة لا يفقد نفسه فيكون موجود الحقيقة معدوم العقل التكليفى الذي هو معرفة المعاش . ولا يتوقف إصطفاء الله عباده للمعرفة على شئ من التكاليف .
بين المجذوب والمجنون
ويفرق إبن خلدون بين المجاذيب والمجانين في أن المجاذيب لا يخلو أحدهم من ذكر وعبادة ولكن على غير الشروط الشرعية ، ولهم وجهة ما . أما المجانين فليس لهم وجهة ، والمجاذيب يخلقون على البلاهة من نشأتهم، أما المجانيين فيصبحون مجانين بعد مدة من العمر لعوارض بدنية طبيعية ، والمجاذيب لهم كرامات في الناس بالخير والشر لأنهم غير مكلفين بالخير واجتناب الشر . أما المجانين فليس لهم تصريف بالكرامات .
مدارك للغيب تأتي يقظة : عن طريق التنجيم
المنجمون يقولون بالدلالات النجمية وأوضاعها في الفلك وآثارها في العناصر والهواء . ويقول : هؤلاء المنجمون ليسوا من الغيب في شئ ، إنما هي ظنون حدسية وتخمينات .
أصحاب الرمل
وهم يضعون من النقط أشكالا ذات أربع مراتب تختلف باختلاف مراتبها في الزوجية والفردية ، وفصل إبن خلدون القول في تلك الأشكال الرملية وطريقة إستعمالها ، ثم قال إن هذه الصناعة كثرت في العمران ووضعت فيها المؤلفات واشتهر فيها الأعلام . ويرى إبن خلدون أنها تحكم وهوى ، وليست من الغيب في شئ لأن الغيوب لا تدرك بصناعة أبدا ، وإنما تأتي من النخبة التي فطرها الله على الرجوع عن عالم الحس إلى عالم الروح ، ويستثني من ذلك إذا كان صاحب الرمل من أولئك الخواص وقصد أن ترجع النفس إلى عالم الروحانيات عن هذا الطريق . فشأنه شأن من يطرق الحصى ويضرب الودع وينظر في المرآة . وقال إن علامة هؤلاء الخواص أنه يعتريهم خروج على طبيعتهم كالتثاؤب والإغماء عندما يعرفون الغيب .
أصحاب حساب النيم : الحساب العددي للكلمات والحروف
وهي قوانين حسابية مذكورة في آخر كتاب السياسة لأرسطو يعرف بها الغالب من المغلوب من المتحاربين من الملوك ، وذلك عن طريق حساب الجمل حيث يكون لكل حرف قيمة عددية بالآحاد والعشرات والمئات والألوف ، وذكر إبن خلدون طريقة الإستعمال لحساب النيم .وقال أيضا أنها مدارك للغيب غير مستندة إلى برهان وتحقيق .
الزايرجة
وهي قوانين صناعية لاستخراج الغيوب ، وضعها أحمد السبتي الصوفي المغربي في أواخر المائة السادسة بمراكش . ووصفها إبن خلدون بالغرابة وأنها لغز ، ووصف طريقة العمل بها . وقال إنه رأي كثيرا من الخواص يتهافتون على استخراج الغيب منها ، ويقول أن ذلك لا يصح لأن الغيب لا يمكن إدراكه بأمر صناعي أبدا . ويقول أن بعض الأذكياء قد يفهم منها بعض المجهول إذا عرف التناسب بين بعض الأشياء ، وإذا عرف التناسب تيسر عليه إستخراج الجواب بتلك القوانين .