كتاب ( مقدمة إبن خلدون: دراسة تحليلية )
القســــــم الأول : عـرض مقدمــــــــــة إبن خلــــــــــــدون :
الباب الأول: في العمران البشري على الجملة ، وفيه مقدمات
المقدمة الأولى:
أسباب ضرورة الإجتماع الإنساني
الإنسان مدني بالطبع ويحتاج إلى الإجتماع بغيره من بني جنسه لأنه يحتاج أصلا إلى الغذاء ولايستطيع الفرد الواحد أن يوفر لنفسه الطعام ، لذا يحتاج إلى غيره للتعاون معه ، وكذلك في الدفاع عن نفسه . وقد امتاز الإنسان على الحيوان بالفكر وباليد وبهما معا سيطر على الحيوانات ، والحيوان أقوى من الإنسان ، ولكن إجتماع الإنسان ببني جنسه أمكنه من التعاون في إختراع السلاح وفي الدفاع ,وبذلك إستحق خلافة الله في الأرض .
حاجة العمران إلى ملك حاكم
وهذا الإجتماع إذا تم به عمران العالم فلابد له من حاكم وازع يحكم بينهم ، وذلك الحاكم قد يوجد في الحيوان بالفطرة أما في الإنسان فيوجد بالفكرة والسياسة ، وتكون له الغلبة فالسلطة على الناس .
بين الحاكم والنبي
ويبرهن الفلاسفة بنفس البرهان على ضرورة النبوة ، أي احتياج البشر إلى وازع ، ثم يؤسسون على ذلك الحكم بشرع الله عن طريق نبي متميز على غيره من البشر. ويرى ابن خلدون ضعف هذا البرهان لأن أهل الكتاب أقلية بالنسبة لباقي البشر ، وكان للأكثرية ممن ليس لهم كتاب حضارة ، كما أن حياة البشر قد تتم بدون النبوة وعن طريق الحاكم ، ذلك فإن اثبات النبوة ليس بالدليل العقلي وإنما بالدليل الشرعي.
المقدمة الثانية
قسط العمران من الأرض
وما منه من الأشجار والأنهار والأقاليم
في هذه المقدمة الثانية جمع إبن خلدون المعارف الجغرافية المتاحة عن العالم المعروف وقتها . ومنها أن الأرض كروية والبحار تحيطها من جميع الجهات ، وأن الأرض المأهولة بالسكان أقل من الجزء غير المأهول ، وتتركز أغلبية البشر في الجزء الشمالي من خط الإستواء الذي يقسم الأرض قسمين من الغرب والشرق . ومساحة الأرض تنقسم إلى 360 درجة، والدرجة 25 فرسخا ،والفرسخ12 ألف ذراع أو 3 أميال. والميل 4 آلاف ذراع ، والذراع 34 إصبعا ، والإصبع 6 حبات شعير ملتصقة مصفوفة . وبين القطبين الشمالي والجنوبي 90 درجة ، والجزء المعمور شمال خط الإستواء 64 درجة والباقي خلاء للبرودة والجليد ، أما جنوب خط الإستواء فهو خلاء كله لشدة الحرارة .
وقسموا المعمور من الأرض إلى سبعة أقسام سموها الأقاليم السبعة وجعلوها متساوية في العرض مختلفة في الطول .
ويتفرع من البحر المحيط البحران المتوسط والأحمر . وتكلم عن البحر الرومي ( البحر المتوسط) ويخرج منه بحران أحدهما البحر الأسود ، ولم يذكر له إبن خلدون إسما واقتصر على ذكر المدن والأمم المحيطة به ، والآخر " بحر البنادقه" أو البحر الاردياتيكى . وتكلم عن البحر الأحمر الذي ينساب من البحر المحيط ، ووصف بدايته من باب المندب إلى السويس ، ثم سار من باب المندب إلى سواحل بحر العرب وشرق أفريقيا وسواحل الهند والصين ، وأشار إلى بحر آخر متقطع في أرض الديلم يسمى بحر جرجان وطبرستان ، ويقصد به بحر قزوين .
وأشار إلى الأنهار في ذلك الجزء المعمور . وبدأ بالنيل وقال إنه ينبع جنوب خط الإستواء بـ 16 درجة من جبل القمر حيث يصب في بحيرتين هناك ، ثم تخرج أنهار من البحيرتين فتصب كلها في بحيرة واحدة عند خط الإستواء ويسير شمالا ويمر ببلاد النوبة ثم بلاد مصر .
وأما الفرات فينبع في أرمينية ويمر جنوبا في أرض الروم ( آسيا الصغرى ) ثم يمر بصفين إلى أن يصب في البحر الحبشي ، أي الخليج .
وينبع دجلة من بلاد خلاط في أرمينية ويمر بالموصل وأذربيجان وبغداد إلى أن يصب في بحر فارس . أما جيحون فيبدأ من بلخ وتصب في أنهار عظام ويصب شمالا .
وقد اعتمد إبن خلدون في النقل على كتاب بطليموس " الجغرافيا " وكتاب الشريف الإدريسي الحمودي " نزهة المشتاق " الذي ألفه لملك صقلية روجار بن روجار ، وقد إستولى روجار على صقلية وكانت تابعة لإمارة مالطه الأندلسية ، ثم رحل إليه الشريف الإدريسي وجمع له كتب الجغرافيا والتاريخ العربية ، ومنها كتب المسعودي وإبن حوقل وإبن خرذدابه والقدري وإبن إسحق المنجم وبطليموس وغيرهم ، وكتب له نزهة المشتاق .
والواضح أن إبن خلدون نقل عن الإدريسي والمسعودي وبطليموس ، وأسهب في وصف الأقاليم السبعة المأهولة في الأرض ، فلم يكن العالم الجديد في الأمريكتين واستراليا قد تم إكتشافه بعد . كما أنه تجاهل الحديث عن أهل الصين واليابان وجغرافيتهما ضمن العالم المأهول ، وتوافرت لديه معلومات عن السود في النصف الجنوبي من أفريقيا ، وسماهم السودان .
المقدمة الثالثة
في المعتدل من الأقاليم والمنحرف
وتأثير الهواء في ألوان البشر والكثير من أحوالهم
المعتدل هو المسكون أكثر في الأرض وهو أعدلها في المناخ وفي البشر
المعمور في الأرض هو في وسطها ، وتتدرج الحرارة من الشمال والجنوب . وهما متضادان في الحرارة والبرودة ، ويكون الوسط معتدلا ، وعليه فالإقليم الرابع أعدل العمران ، وما يليه أقرب إلي الإعتدال .
الحضارة في المناطق المعتدلة
ولهذا كانت العلوم والصنائع والملابس والمباني والأقوات والحيوانات في الأقاليم المعتدلة. وسكانها من البشر أعدل أجساما وألوانا وأخلاقا وأديانا حتى توجد فيها النبوات ، وتوجد لديهم المعادن الطبيعية ويتعاملون بالذهب والفضة . وهؤلاء هم أهل المغرب والشام والحجاز واليمن والعراق والهند والسند والصين والأندلس والفرنجة والجلالقة والروم واليونان .
البدائية في المناطق غير المعتدلة في السود ( جنوبا ) والصقالبة ( شمالا)
أما الأقاليم البعيدة عن الإعتدال مثل الأقاليم الأول والثاني والسادس والسابع فمبانيهم من الطين والقصب وأقواتهم من الذرة والعشب وملابسهم من الجلود وأوراق الشجر ، وأكثرهم عرايا . وفواكههم غريبة . ومعاملاتهم بغير الذهب والفضة ، وأخلاقهم أقرب للحيوان ، وبعضهم يسكن الكهوف والغابات ويأكل العشب وربما يأكل البشر ، ولا يعرفون ديانة إلا إذا كان قريبا من أهل البلاد في الأقاليم المتحضرة مثل أهل الحبشة ومالي وكوكو والتكرور في أفريقيا ، والنصارى في شمال أوربا من الصقالبة والترك .
والعرب في الجزيرة العربية في الإقليم الأول والثاني – حسب هذا التقسيم – ولكن أحاط بها البحر فترطب هواؤها وأصبحت معتدلة نسبيا بسبب البحر .
المناخ الحار أو البارد هو تعليل السواد في الزنوج والبياض في أهل الشمال
وليس ذلك السّواد في السّود بسبب دعوة نوح على إبنه حام الذي ينتسب له السود ، ولكن بسبب حرارة الشمس طوال العام ، وهو نفس السبب في بياض أهل الشمال ، حين تضعف الحرارة ويشتد البرد طوال العام فتبيض ألوان أهلها وتنتهي إلى الزعورة ، ويتبع ذلك زرقة العيون وبرش الجلود ، ويتوسط أهل الإعتدال في اللون الذي يتبع الهواء أو المناخ ، ويرى إبن خلدون أن السود إذا عاشوا في المناطق الشمالية لا يلبث أن يبيض أحفادهم ، وكذلك أهل الشمال إذا عاشوا في المناطق الحارة لا يلبث أن يسود أبناؤهم . ويستشهد بقول إبن سينا :
بالزنج حر غيّر الأجسادا حتى كسا جلودها سوادا
والصقلب اكتسبت البياضا حتى غدت جلودها بضاضا
رد على النسابين الذين رأوا أن الأنساب هي الأصل في التمييز بين ألوان البشر
قسم النسابون البشر بحسب اللون إلى ولد حام وهم السود والزنوج ، وولد يافث وهم أبناء الشمال أو الجنس الأبيض ، وولد سام وهم الجنس المعتدل في الأقاليم الوسطى المعتدلة .
ومع تسليمه في صحة النسب إلا أن إبن خلدون يرى أن التمييز بين البشر لا يقع بالنسب فقط ، لأن ذلك قد يصح في جيل أو أمة بعينها كما للعرب وبني إسرائيل والفرس . ويكون أيضا بالجهة والسمة كالزنج والحبشة والصقالبة والسودان . ويكون بغير ذلك من أحوال الأمم وخواصهم ومميزاتهم . ويرى أنه من الغلط تعميم النسب في أهل جهة معينة من الجنوب أو الشمال .
المقدمة الرابعة
أثرالهواء في أخلاق البشر
تعليل الطيش والخفة والطرب لدى ( السودان ) وأهل السواحل
عنده يشتهر ( السودان ) بالخفة والطيش والطرب وحب الرقص والحمق ، ويرى إبن خلدون السبب في إنتشار الروح الحيواني لأن الحرارة تنتشر في الهواء ، ويزيد البخار فيحدث في البشر إنتشاء وفرح وسرور كما يحدث في المخمور ، وكما يحدث في المتنعمين في الحمامات . ولذلك فالزنوج أميل للطيش والفرح والرقص ، ومثلهم إلى حد ما أهل السواحل .
وأهل السواحل أكثر خفة من أهل البلاد الداخلية وأهل التلال والجبال حيث يسود بين الآخرين الحزن والحرص وخوف العواقب والتحسب للأزمات عكس أهل السواحل الذين لا يفكرون في العواقب ، ويجعل أهل مصر مثل أهل السواحل . ويجعل أهل فاس مثلا لأهل البلاد الداخلية..وانتقد إبن خلدون رأي المسعودي الذي يرى ضعف عقول ( السودان ) هو الأساس في طيشهم .
المقدمة الخامسة
إختلاف أحوال العمران في الخصب
والجوع وماينشأ عن ذلك من الآثار في أبدان البشر وأخلاقهم
أنواع الأقاليم المعتدلة من حيث الخصب والفقر
منها ماهو خصب يتوفر فيه الحبوب والفواكه ، ومنها الجرداء في الصحراء حيث يتغذى سكانها على الألبان واللحوم ويعانون من شظف العيش .
أهل الصحراء أفضل من أهل المدن والريف
وأهل الصحراء أحسن صحة وأصفى ذهنا وأخلاقا وأكثر قبولا للمعارف من أهل التلال ، لأن كثرة الأغذية ورطوباتها تولد في الجسم فضلات رديئة ينشأ عنها أخلاط فاسدة عفنة ، ويتبع ذلك إنكساف الألوان وقبح الأشكال من كثرة أكل اللحم ، وتغطي الرطوبة على الأذهان بأبخرتها الرديئة . والدليل أن الحيوان الوحشي أجمل من حيوان الزراعة ، وكذلك أهل الحضر والريف تجدهم فيهم بلادة وخشونة في أبدانهم مثل البربر المتنعمين في مقابل المتقشفين من قبائل المصامدة والسوس في الصحراء ، وهم أحسن حالا في الجسم والعقل ، والمتعود على التقشف والجوع تجده أفضل من المتنعم بالطيبات .
المتعبدون في أهل التقشف أفضل من أهل الترف
وفي حالة التدين تجد المتعود على التقشف أحسن دينا وأكثر إقبالا على العبادة من أهل الترف ، بل نجد أهل الترف قليلين في المدن .
المترفون أسرع للموت في المجاعات
وفي حالة المجاعة يسرع الهلاك إلى المتنعمين في الحضر بينما لا تنال من أهل التقشف ، لأن المتنعمين ما تعودوا الجوع فيتساقطون سريعا ، أما من تعود على التقشف في العيش فيستطيع تحمل المجاعة ، وهكذا فالذي يقتل المترفين في المجاعات ليس المجاعة وإنما قتلهم تعودهم على الشبع السابق لا الجوع اللاحق .
التدرج ضروري لتقبل النفس للجوع
النفس إذا تعودت على شئ صار من طبيعتها ، فإذا تعودت الجوع بالتدريج والرياضة أصبح عادة طبيعية لها . وهذا التدرج ضروري حتى إذا شاء أن يعود إلى الشبع والإمتلاء فلابد أن يعود إليه بالتدريج .
أمثلة لمن يستطيع الجوع مدة أطول
ويقول إبن خلدون أنه " شاهدنا من يصبر على الجوع أربعين يوما وصالا وأكثر " ورأينا كثيرا من أصحابنا أيضا من يقتصر على حليب شاة من المعز يلتقم ثديها في بعض الأنهار أو عند الأفطار ويكون ذلك غذاءه ، واستدام على ذلك خمس عشرة سنة وغيرهم كثير ، ولا يستنكر ذلك ".
الجوع أفضل للبدن وللعقل
لأن له أثرا في صلاح الأجسام وصفاء العقول ، أما المترفون فليس لديهم القدرة على الصبر والإحتمال . أما البدو المتقشفون فتنشأ أمعاؤهم كأمعاء الإبل في تحملها على الطعام الغليظ الذي لو تناوله المترفون ما تحملوه .