لمحة عن تاريخ دول الكومنولث فى الاتحاد السوفيتى سابقا

آحمد صبحي منصور في الأربعاء ٢٦ - أغسطس - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً

أولا : قبائل الاستبس الآسيوى والاسهام فى تشكيل التاريخ العالمى

 1 ـ  منطقة الاستبس فى اواسط آسيا فسيحة واسعة تتكاثر فيها القبائل الرعوية الصحراوية التى تستعمل الخيول وتحترف الاغارات. الطبيعة الجغرافية لهذه السهول الواسعة الفسيحة ( أكبر سهول رعوية فى الكرة الأرضية ) أتاح لها أن تكتظ بالقبائل ، وحرفة الرعى واستعمال الخيل جعل تلك القبائل حربية مسلحة ، والأقوى منها يفرض سيطرته على القبائل الأخرى ، وكأى قبيلة عسكرية فإن شعبها هو جيشها ، وبقوتها لو إتحدت تنحدر غازية نحو مناطق الاستقرار فى وديان الأنهار، فتنشىء دولا وامبراطوريات عاتية ، وقد تنجح بعض القبائل أحيانا فى إقامة دول مؤقتة ومتحركة لا تلبث أن تسقط تحت حوافر قبائل أخرى ، وبهذا عرفت هذه السهول الإستبسية الآسيوية الواسعة  قيام دول متحركة ومؤقتة ، وعرفت نشأة أمبراطوريات ، والانسياح بالغزو والاحتلال زحفا نحو الغرب ( أوربا والشرق الأوسط ) ,كما أن بعض القبائل التى عجزت عن مقاومة القبائل الأقوى هاجرت نحو الغرب ، مثل القبيلة التركية التى وصلت الى آسيا الصغرى وإعتنقت ( الاسلام ظاهريا ، والتصوف السنى فى الحقيقة ) وكونت ولاية صغيرة ما لبث ــ تحت شعار الجهاد ضد البيزنطيين ــ أن إتسعت أملاكها وحملت إسم مؤسسها ( عثمان ) ، وهى الدولة العثمانية التى كونت إمبراطورية عاتية فى اوربا وآسيا والشرق الأوسط .

2 ــ أى أنه بسبب غارات أولئك الرعاة على مناطق الأنهار والاستقرار فقد أسست الصين سورها العظيم لتحمى شعبها وحضارتها . وبسبب الاحتكاك بين هذه القبائل كان بعضها يهاجر غربا فتصل هجراته الى أوربا ( الشرقية ) ومنطقة ( أوراسيا ) أو آسيا الصغرى ، وقد أثرت هذه الهجرات العادية والمسلحة الغازية فى تشكيل تاريخ أوربا العصور الوسطى ، وتاريخ اليهود وتاريخ العرب والمسلمين . يكفى ما فعله جنكيزخان وهولاكو وتيمورلنك والعثمانيون ، وكلهم قبائل من نفس المنطقة .

3 ـ  على أن أغلب تلك القبائل المهاجرة من الشرق الى الغرب كان من جنس الترك ( الأبيض ) المختلف عن التتار والمغول ( الجنس الأصفر ) . ومن الأتراك كان اغلب جُند الخلافة العباسية وقادتها فى العصر العباسى الثانى ، وهم الذين تحكموا فى الخلافة ، ومنهم السلاجقة الذين حكموا الأقطار التابعة للخلافة العباسية فى الشرق وفى آسيا الصغرى ، ومنهم من كوّن دولا مستقلة مثل ابن طولون فى مصر والشام ، وكان منهم المماليك الذين خدموا الأيوبيين ثم إنفردوا بحكم مصر والشام . معظم المماليك كانوا من أواسط آسيا ، وكان يطلق عليهم ( الترك ) و ( الأتراك ). وهكذا فالأتراك الآسيويون هم أكثر العناصر التى حكمت فى منطقة الشرق الأوسط من عصر الخليفة المتوكل العباسى ، الى مذبحة المماليك فى عهد محمد على فى مصر ، مرورا بالحكم المملوكى والدولة العثمانية التركية الأصل .

4 ــ وقد وفد الترك إلى منطقة ما وراء النهر في القرن السادس الميلادي أي قبل الفتوحات العربية ، لذا سميت المنطقة تركستان ، وكانت تشمل قبل الفتح العربى  عدة ولايات وممالك منها مملكة طخارستان على نهر جيحون وعاصمتها بلخ ، ومملكة صغانيان على شمال نهر جيحون وعاصمتها شومان ومملكة الصغد وهي تقع بين نهري سيحون وجيحون وعاصمتها سمرقند وأهم مدنها بخاري ، ومملكة فرغانة الجرجانية، ومملكة أشروسنة شرق فرغانة على جانبي نهر سيحون وعاصمتها جخندة أوكاشان ،ومملكة خوارزم بالقرب من بحر الخوارزم وعاصمتها بجنكث ، ومملكة الشاش في شمال نهر سيحون وعاصمتها الطارنبذ أو بنكث.ـ وفي ذلك الوقت لم تكن هناك حدود ثابتة بين تلك الممالك إذ كانت الحروب بينها سجالا ، كما كانت تتعرض لعدوان من الصين ..

ثانيا : الفتوحات العربية فى أواسط آسيا فى القرن الأول الهجرى   

1 ــ  ثم دخلت تلك الممالك في تاريخ جديد بظهور العرب فاتحين ، وقد انحدروا إليها من إيران بعد أن أسقطت الفتوحات العربية الإمبراطورية الفارسية التي كانت حاجزا بين العرب والترك . وقد وصلت الفتوحات العربية في عهد الخليفة عثمان ابن عفان إلى جنوبي بحر قزوين ثم تخطت نهر جيحون ودخلت بلاد ما وراء النهر واستولى العرب على بلخ وهراة وكابول وغزنة. وأحكم العرب  سيطرتهم على بلخ وبادغيس وهراة ، ووصلت غاراتهم إلى بخاري وسمرقند، وتوقفت الفتوحات العربية بسبب الحروب الأهلية أو ما يسمى بالفتنة الكبرى ثم عاد العرب للفتوحات تحت قيادة المهلب بن أبي صفرة وابنه يزيد وأخيه المفضل ، ثم دخلت الفتوحات العربية   في دور جديد تحت قيادة قتيبة بن مسلم الذي بدأ الفتوحات المنظمة المستقرة واستطاع بذلك أن يوطد الفتوحات في بلاد ما وراء النهر ، بل واقترب من الصين نفسها . ونزح كثير من العرب للإقامة هناك فى أواسط آسيا ، إذ تدفق إليها خمسون ألف أسرة من الكوفة والبصرة.

2 ــ واعتنى العباسيون بتلك المناطق خصوصا وقد قام ملك بني العباس على أكتاف أبي مسلم الخرساني وشيعته من الخراسانيين والفرس ، وكانت إيران تشمل بلاد تركستان قبل الفتوجات العربية ، فلما أحس الفرس الإيرانيون بقوتهم في الدولة العباسية أقام بعضهم دولا مستقلة في تركستان في الخلافة العباسية مثل الطاهريين والسامانيين ، بل إن بعض الأتراك كالسلاجقة أقاموا لهم ملكا في تركستان ثم سيطروا على بغداد والخلافة العباسية . وتوالى قيام الدول فى المنطقة إلى أن ظهرت الدولة الخوارزمية ، ثم جاء الزحف المغولي وقضي على الخلافة العباسية ، وسيطر المغول على أواسط آسيا وإيران والعراق خلال إمبراطورية هولاكو ثم تيمورلنك وذريتهما فيما بين القرن الثالث عشر والخامس عشر . وسيطروا أيضا على الهند . وبدأ التلاشى فى حكم المغول ( المسلمين )، فاحتلت بريطانيا الهند ، واستولى الأوزبك على أملاك المغول فى أواسط آسيا ، ثم انقسمت اواسط آسيا الى عدة إمارات ، وفكان سهلا أن استولت عليها روسيا في القرن التاسع عشر ، ثم الثورة البلشفية في القرن العشرين ، ثم إستقلت عدة دول بعد سقوط الاتحاد السوفيتى .

ثالثا : روسيا ترث العرب فى أواسط آسيا

1 ــ ظل الروس وثنيين حتى نهاية القرن العاشر الميلادي حين اعتنق الإمبراطور فلاديمير الأرثوذكسية سنة 988 وجعلها الدين الرسمي للروس ، وأعلن تبعيته لكنيسة القسطنطينية ، وارتبط الروس برباط المصاهرة مع البيزنطيين في القسطنطينية . وأسقطت الدولة العثمانية ــ التركية الأصل ــ الإمبراطورية البيزنطية واستولت على القسطنطينية عام 1453 ، وامتدت فتوحات الأتراك العثمانيين في البلقان والقرم والقوقاز مهددين روسيا ، وخضعت لها قبائل السلاف ( الصقالبة ) فى شرق وجنوب أوربا ، وهم ينتمون بالقرابة الى الروس ، فاحتد النزاع بين الروس والعثمانيين، لأسباب دينية وعنصرية وسياسية .

2 ــ وقد بدأ الروس في التوسع على حساب جيرانهم ( المسلمين ) فى أواسط آسيا ، منتهزين ضعف السلطة الإيرانية وتشرذم الولايات التركية فيما وراء النهر ، ففي عهد القاجاريين ضمت روسيا منطقة جورجيا سنة 1801 واضطرت إيران للاعتراف بذلك في معاهدة كلستان سنة 1813 ، وقامت الحرب بين روسيا وإيران سنة 1826 ، وانتصرت روسيا فضمت إليها مناطق تركستان الباقية ، كما ضمت إليها سنة 1864 منطقة الشركس والقوقاز التي تمتد من البحر الأسود إلى بحر قزوين ، بل وضمت كل المناطق الواقعة بين منغوليا وقزوين وكانت كلها مناطق ( إسلامية).

3 ـ قلنا أن العداء بين روسيا والعثمانيين كان عنصريا دينيا سياسيا ، زاده أن العثمانيين كانوا الممثلين للقوة (الإسلامية ) في ذلك الوقت بينما كانت روسيا تحقد على العثمانيين استيلاءهم على القسطنطينية مركز الكنيسة الأرثوذكسية التى يؤمن بها الروس واستيلاءهم على البلقان والشعوب السلافية التي تشترك مع الروس في روابط الدم والثقافة . وبذلك كان القضاء على الدولة العثمانية هو الطموح الأساسي لقياصرة روسيا في عصر ضعف السلطة العثمانية ، ليس فقط لتحرير الشعوب السلافية فى شرق أوربا الخاضعة للعثمانيين وتحرير القسطنطينية ، ولكن أيضا لتستولى على ممتلكات العثمانيين وتصل الى البحار الدافئة .

4 ــ ووقفت انجلترة ــ التى كانت لا تغيب عن مستعمراتها الشمس ـــ ضد هذا الطموح الروسى ، وحالت دون روسيا وإلتهام الدولة العثمانية فى وقت ضعفها حين كان يُطلق عليها ( الرجل المريض ) . أبقت انجلترة ( الرجل المريض ) فى غرفة الانعاش ومنعت الدب الروسى من التهامه ، وأبقت فيه الرمق ، لتستأثر بأملاكه فى الوقت المناسب ، ولكى لا يتحول مركز القوة من انجلترة الى منافستها روسيا وحتى لا يصل النفوذ الروسى جنوبا يهدد مصالح انجلترة فى الهند التى كانت ( دُرّة التاج البريطانى ) . وجود الدولة العثمانية كان حائلا يحول بين روسيا ومناطق النفوذ والاحتلال البريطانى . لذا دخلت انجلترة حرب القرم ضد روسيا دفاعا عن الدولة العثمانية ، وقد استمرت هذه الحرب من عام 1853 : 1856 ، وانضم لانجلترة فرنسا ، لمنع روسيا من الاستيلاء على منطقة القرم وتتحكم فى البحر الأسود .وانتهت حرب القرم بهزيمة روسيا وتوقيع معاهدة باريس . لذا نفهم تصميم روسيا الآن على التمسك بالقرم لأنه بوابتها على البحر الأسود .

5 ـ موقف أوربا ضد أطماع روسيا فى الدولة العثمانية زاد من حقد قياصرة روسيا على العثمانيين . وتلك الكراهية الروسية للعثمانيين وجدت مجالها في علاقة الروس بالدويلات والجماعات ( الإسلامية ) في آسيا الوسطي، وهم ينتمون ــ في أغلبهم  ــ إلى العنصر التركي الذي ينحدر منه الأتراك العثمانيون ، وقد أصبحوا خاضعين للدولة الروسية . وقد استطاع الروس الثأر من العثمانيين وما فعلوه في البيزنطيين والبلقان والسلاف بأن انتقموا من الأتراك المسلمين في أواسط آسيا. وكان وضعا عجيبا ؛ الروس يسيطرون على الأتراك فى أواسط آسيا ، بينما يسيطر الأتراك العثمانيون على ( السلاف ) فى شرق وجنوب أوربا ، وهم العنصر الذى ينتمى اليه الروس .

 6 ــ وورث الإتحاد السوفيتي تلك المناطق .

 كانت روسيا القيصرية شديدة الاضطهاد للمسلمين ، فلما جاء الشيوعيون 1917 أعلنوا مباديء الحرية والمساواة لجميع الشعوب ،وأعطوا للمسلمين الحق في تكوين هيئة تشريعية إسلامية ، وبعد أن اطمأن البلاشفة إلى سلطانهم شن الجيش الأحمر حربا قاسية ضد المسلمين الثائرين فى عهد ستالين الذى قتل ملايين ( المسلمين ) فى أواسط آسيا ليحكم قبضته على الاستبس الآسيوى .

7 ــ  وبعد سبعين عاما من التطبيق الشيوعي القائم على الاضطهاد والطغيان انهارت الشيوعية من الداخل ، ولأنها الرباط الوحيد الذي كان يجمع دويلات ماكان يسمى بالاتحاد السوفيتي فقد انفرط عقد هذا الاتحاد ، وظهرت ما يسمي بدول الكومنولث وهو صيغة مؤقتة لتوفيق الأوضاع الى ان تنهض روسيا من جديد  وتعيد سلطانها على الاستبس الآسيوى .

8 ــ ولكن التحدى الذى يواجه روسيا ليس فقط من أمريكا والغرب ، ولكن من الارهاب السلفى الوهابى الذى نبت فى جزيرة العرب وشبّ وهبّ ليعيد الفتوحات العربية فى العالم متمسحا ـ كصحابة  الفتوحات ـ بالاسلام . الفارق أن أولئك الصحابة ظهروا فى وقت مناسب لهم ، فالقوتان العظميان ( الفرس والروم ) فى حالة ترف ووهن ، والقبائل العربية المتشاكسة كانت فى طور إزدياد هائل فى التكاثر السكانى ، وضاقت عليهم صحراؤهم بما رحبت ، وبدلا من إستنزاف قوتهم وحيويتهم فى حروب محلية رأت قريش ـ القبيلة التى سيطرت على المسلمين بعد موت النبى محمد عليه السلام ــ أن توجّه تلك القبائل المسلحة الجائعة نحو الامبراطوريتين العجوزتين المتحاربتين ( الفارسية والبيزنطية ) ، وفى عدة عقود وصلت أمبراطورية الأمويين القرشيين من حدود الصين شرقا الى حدود فرنسا  غربا .

إختلف الوضع الآن .نجحت الوهابية بالكاد فى تأسيس الدولة السعودية التى قامت ثلاث مرات وسقطت مرتين ، وتتأهب للسقوط الأخير الآن . والمنظمات الارهابية التى أنشأتها السعودية الوهابية لتعيد مجد العرب الأمويين لم يعد بوسعها سوى التخريب والقتل العشوائى . وهى فى النهاية لُعبة فى يد اللاعبين الكبار من موسكو الى واشنطن .    

أخيرا

غزوات وغارات وإحتلالات ودول تسقط وأخرى تقوم ، وملايين من المستضعفين يموتون . غزوات وغارات وإحتلالات ،  منها ما جاء من أواسط آسيا الى الغرب،   ومنها ما جاء من جزيرة العرب غازيا الشرق والغرب، ومنها ما إنحدر من الشمال البارد نحو الجنوب شرقا وغربا .منها ما يرفع راية الدين ومنها ما يرفع راية العدل وحقوق المستضعفين ،  تعددت الأشكال ، والهدف هو المال .

دخلوا جميعا متحف التاريخ ، ولكن لا يزال التاريخ يعيد إنتاج نفسه ، بدليل ما يحدث الآن ، دون أن يتعظ الانسان .!!

اجمالي القراءات 13542