كتاب : أثر التصوف الثقافى والمعمارى والاجتماعى فى مصر المملوكية
الفصل الرابع :أثر التصوف فى التركيب الاجتماعي فى مصر المملوكية
طبقة الأشراف فى مصر المملوكية
أساس الانتحال فى الانتساب الى النبى عليه السلام
1ــ لا ينفع أحدا أن يكون قريبا بالنسب الى نبى أو من ذريته ، فهناك ابن نوح ووالد ابراهيم ، وهناك أبو لهب عم خاتم النبيين ، وهناك زوجتا نوح ولوط . أولئكم جاء نصُّ القرآن الكريم عنهم بالضلال . وبعضهم مذكور بالاسم مثل آزر وأبى لهب .
إنّ كل الأنبياء بشر ، وسيفرّ كل منهم من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه فى يوم لا أنساب فيه ولا يتساءلون ، ولا يجزى فيه والد عن ولده ولا مولود عن والده ، ولا تملك نفس لنفس شيئا ، والأمر يومئذ لله مالك يوم الدين ، فلا شفاعة لبشر فى بشر ، ومن حقّت عليه كلمة العذاب لا يستطيع خاتم المرسلين إنقاذه من النار ، فهو لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعا ولا ضرا ــ شأن كل فرد من البشر ــ إلا بمشيئة الرحمن، بل سيكون شاهدا شهادة خصومة على الكافرين من أهله وقومه وأصحابه الذين صحبوه فى الزمان والمكان ، وسيأتى عليهم شهيدا يؤكد أن قومه إتخذوا القرآن مهجورا . هذا ما يؤكده رب العزة فى مئات الآيات القرآنية التى تنفى شفاعة البشر ، وتجعل الشفاعة شهادة تحملها ملائكة حفظ العمل لمن كان عمله صالحا وكان إيمانه بالله جل وعلا مخلصا خالصا ، ثم تكون هذه الشفاعة أو تقديم العمل يوم الحساب لمن أذن له الرحمن وارتضى .
2 ـ ولكن يتأسس الدين الأرضى عموما على الشفاعات والوساطات ، وبالتالى تتاسس على الشفاعة والوساطة جماعات كهنوتية ، يتوسل بها الناس ، يقترفون الجرائم وياكلون المال السُّحت ثم يطمعون فى دخول الجنة بتقديم بعض هذا المال يشترون به صكوك الغفران وقصورا فى الجنة . وبالتالى يكون من أهم المؤهلات لهذا الكهنوت هو الزعم بالانتساب للنبى محمد عند المحمديين ، ولهذا أصبح الانتساب للنبي عليه السلام هو العقدة الخالدة عند الشيعة ثم الصوفية بالذات .
3 ـ وأصبح هذا ( نسبا شريفا ) بمعنى أن غيره من النسب العادى هو (غير شريف ).!! بمعنى أنه لا بد أن تكذب حتى تكون ( شريفا ) ، ولو تمسكت بنسبك العادى لأهلك الحقيقيين من المصريين والايرانيين والسوريين والعراقيين ..الخ ... فأنت نسبك ( غير شريف ) حتى لو كنت ( عمر الشريف) أو ( نور الشريف) أو ( على الشريف) أو ( محمود الشريف ) أو ( كريمة الشريف ).! وبالمناسبة فإن صفوت الشريف ينتمى الى الأشراف ، هو ينتسب الى ( الأشراف ) بينما هو ( مسجل خطر ).!
الانتحال للنسب ( الشريف ) بين الشيعة والصوفية
1 ـ وانتحال النسب الشريف باب طرقه آخرون قبل صوفية العصر المملوكي ، والزعم بالمهدية ( اى أن يكون المهدى المنتظر ) لهدف سياسى ـ يقترن بزعم الأنتساب للنبى محمد عليه السلام . وهى فرية مضحكة وعادة سيئة تكررت وتتكرر فى تاريخ المحمديين تحمل معها سفك الدماء فى أغلب الأحيان .
2 ــ واشهر مدعى الانتساب للنبى هم الفاطميون الذين أقاموا الدولة والخلافة الفاطمية فى شمال أفريقيا ومصر، وأسّسوا القاهرة والأزهر(الشريف ) نسبة للسيدة (فاطمة الزهراء ) . وخصوم الفاطميين يطلقون عليهم ( بنوعبيد ) ، ومنهم الفقيه ابن تيمية المشهور بعدائه للشيعة والصوفية ، وهو يرى أن الفاطميين : (زنادقة ملاحدة قرامطة باطنية واسماعيلية ونصيرية ) [1] . وعلى خُطاه سار السيوطى فى كتابه ( تاريخ الخلفاء ) وقد تعصب فيه للخلفاء العباسيين يدافع عنهم بالباطل ، بل ويسجل تاريخ الخلفاء العباسيين فى القاهرة المملوكية ولم يكونوا سوى خدما للسلطة المملوكية ، وفى نفس الكتاب يهاجم بقسوة الخلفاء الفاطميين .
من ناحية أخرى كان المؤرخ المقريزي يفرط في تعظيم شيخه العلامة عبد الرحمن بن خلدون لكونه يجزم بصحة نسب بني عبيد (الفاطميين) إلى (على بن أبى طالب ) ويدفع ما نقل عن الأئمة في الطعن في نسبهم [2] ، وقيل إن دافع المقريزي لذلك أنه نفسه كان يدعي الانتساب للفاطميين ، وهذا ما يذكره المؤرخ ابو المحاسن تلميذ المقريزى، ونقله عنه ابن اياس [3] .
3 ــ وقد تابع الصوفية اساتذتهم الشيعة في ادعاء النسب العلوي، وكان هذا سهلا ، فالصوفى يتمتع بالتقديس والتصديق لكل ما يقول ، خصوصا لو زعم مناما أو رؤية أو وحيا . ولقد زعم عمر ابن الفارض لنفسه ذلك النسب عن طريق رؤية منامية نسبها للرسول عليه السلام [4].....
تكوين طبقة الأشراف بناءا على هذا الانتحال
1 ــ وانتشر الزعم بالانتساب للنبى ، فتكونت طبقة إجتماعية من ( الأشراف ) بناءا على هذا الزعم . وصار مُباحا لكل من هبّ ودبّ أن يصبح من ( الأشراف ) بهذا الانتحال ، ودخل فى الميدان دجالون كثيرون ، يطمع كل منهم أن يتمتع بمزايا ( الأشراف ). وأزعج هذا السيل من الأكاذيب بعض المؤرخين فانتقدوا من يعرفون من منتحلى النسب ( الشريف ).
2 ـ فابن حجر يقول عن أبن زقاعة الصوفي المحتال : (كان يدعي أنه من بني نوفل بن عبد مناف [5] . ويقول المقريزي عن محتال آخر: ( قدم رجل يدعي انه شريف اسمه هاشم ) [6] وذكر المقريزى أن الأمير يخشى بك غضب على محتال زعم انه شريف النسب فسبّه وشتمه فعوقب الأمير لأنه ( سبّ بعض من يدعى انه شريف ) [7] . وقال المؤرخ السورى ابن طولون أن الفقيه ابن الحنبلية ( جعل نفسه شريفا وهو ليس شريفا ) [8] . وقال المؤرخ ابن حجر أنّ الجروانى انتسب وصار شريفا، و ( كان يُطعن في نسبه ) [9] .ويذكر المقريزى فى ( الخطط ) زعم بعضهم أن النبي عليه السلام قال في منام لأحدهم : (يكون فرجك على رجل من أهل بيتي صحيح النسب )[10] . وهذا المنام المزعوم فى حد ذاته دليل على وجود من هم ليسوا بصحيحى النسب .! .
3 ــ لذا كان الشّكّ فى الانتساب للنبى هو السائد ، ولحق هذا الشك بمشاهير ( الأشراف ) ومنهم الشريف المكرانى ، وقد تشكّك بعضهم فى نسبة طبقا لما يقوله المؤرخ السخاوى . [11] بل وصل الشكُّ الى ابى الحسن الشاذلى نفسه ، يقول عنه المؤرخ الجزرى : (وأصحابه يذكرون له نسبا على الحسن بن على ) [12] ، وهى إشارة لطيفة فى التشكيك فى نسبه ( الشريف ) ، وكان مؤرخون آخرون أكثر صراحة ، منهم الصفدى القائل عن أبى الحسن الشاذلى : ( إنّ الشاذلي انتسب في بعض مصنفاته إلى على ابن أبي طالب . وقال شمس الدين الذهبي : هذا نسب مجهول لا يصح ،ولا يثبت ، وكان الأولى به تركه ) [13] . والطريف أنه حين اتهموا المؤرخ ابن خلكان بالكذب في انتسابه للبرامكة قال (... اذا كان لابد منه كنت انتسب إلى العباس أو إلى على ان ابي طالب أو إلى احد من الصحابة. [14] .
4 ـ وإنفتح الباب على مصراعيه للإنتساب للنبى حتى لقد أراد يهودي يقال له أبو السعود أن يعمل له ( محضر) بانه شريف [15] ما يدل على كثرة مدعى النسب وسهولة الخصول على مستند بالانتساب الى الأشراف ، فقد كانت تجارة إحترفها بعض نقباء الأشراف ، يأخذون الرشوة لإدخال من يريد في جملة الأشراف ويعطونهم شجرة النسب [16] . وأراد بعضهم الشهرة فتخصّص فى الطعن فى نسب المشاهير من ( الأشراف ) فذكره ابن حجر والسخاوى ، وقد قالا عن الشريف حسن بن محمد إنه كان ( عارفا بأنساب الأشراف كثير الطعن في كثير ممن يدعي الشرف ) [17] .
5 ــ وبالانتشار الهائل للتصوف فى نهاية العصر المملوكى تضخمت طبقة الأشراف ، وتكاثر النزاع بين أولئك المنتحلين ، ووصل النزاع الى السلطان الغورى فعقد الغوري مجلسا بالقضاة الأربعة بسبب الطعن في انساب جماعة من الأشراف [18] ، هذا مع وجود ديوان قديم للأشراف يختص بالفحص عن أنسابهم وحقوقهم، وقد ذكره القلقشندى فى موسوعته ( صبح الأعشى ) [19]..
إمتيازات طبقة الأشراف
1 ــ ولأولئك الأدعياء بعض العذر، فقد كان لطبقات الأشراف امتيازات، حيث مُيّزُوا بالعلامات الخضر في ملابسهم [20] وكان من يسُبُّ شريفا يُقتل حدّا بالشرع [21] . وقُتل احد منتخلى النسب ( الشريف ) فنسب ابن اياس ظهور طاعون والغلاء إلى هذا الحادث . [22] . والمقريزى تخلى عن عقله وموضوعيته فكتب رسالة في حق آل البيت الاشراف على من عداهم وجعل لهم حصانة ، وحذر من الوقوع في احد منهم مهما ارتكب من محرمات [23] وشاع حديث مصنوع منسوب للنبى يقول : ( إنّ لكل قوم فراسة ، وإنما يعرفها الأشراف )[24] وزعموا أن صاحب صقلية النصرانى المتعصب اطلق الأسرى من المسلمين لأنّ بينهم شريفا إكراما لهذا الشريف .[25] ، ولم يذكروا إسم ذلك الحاكم ولا إسم ذلك ( الشريف ) ولا زمان الحادثة ولا ظروفها ، أى هى رسالة مصنوعة موجهة للسلطات لمزيد نت التقديس والتبجيل ( للسادة الأشراف ) .
2 ـ لذا كان من الطبيعي أن تشعر نساء الأشراف بالاستعلاء والعنصرية نحو ( غير الشرفاء ) ممّن لا يحملون ( النسب الشريف ) ، وتجلّت هذه النزعة العنصرية فى نظرتهن للرجال ( غير الأشراف ) . وقد شاع هذا مبكرا منذ القرن الثامن الهجرى ، مرتبطا بالانحلال الخلقى الذى كان يسير مصاحبا للنقال ( السنى ) و الدين الصوفى . والتجديد الذى جاء به إستعلاء النساء من ( الأشراف ) غو إستخدام هذا الاستعلاء للإختلاط بالرجال من غير ( الأشراف ) بلا نقاب . وإحتجّ علي ذلك الفقيه الصوفى ابن الحاج ، يقول عنهن : (فلا يستحين إلا من شريف واما غيره فلا ، وبعض النسوة من الأشراف في بعض البلاد لا يحتجبن من الغريب أصلا ويتحدثن معه ... ويزعمن ان الغريب ليس من الرجال الذين يُستحي منهم ) [26]... نزعة استعلاء إختلطت بالانحلال ، لأن الاختلاط بالرجال وقتها كان يعنى الانحلال الخلقى .
هذا ، ومن الأمثال السائدة في العصر المملوكي : ( لا أصل شريف ولا وجه ظريف..) [27].
[1]ــ تكسير الأحجار 147 : 148
[2]ــ رفع الأصر لابن حجر 347 : 348
[3]ــ النجوم الزاهرة 15 / 490 ، تاريخ ابن اياس 2 / 232 تحقيق محمد مصطفى
[4]ــ الكواكب السيارة 299 ، 300
[5]ــ عقد الجمان وفيات 816 لوحة 386
[6]ــ السلوك 4 / 2 / 833
[7]ــ السلوك 4 / 3 / 1139
[8]ــ تاريخ ابن طولون 2 / 27
[9]ــ انباء الغمر 6 / 475
[10]ــ خطط المقريزي 4 / 209
[11]ــ التبر المسبوك 370
[12]ــ تاريخ الجزرى 1 / 54
[13]ــ الصفدى : نكت الهميان 213
[14]ــ فوات الوفيات 1 / 102
[15]ــ تاريخ البقاعي حوادث سنة 879 : 151
[16]ــ السلوك 3 / 1 / 206 حوادث 774 ، تاريخ ابن اياس 1 / 2 / 113 ، 114
[17]ــ الضوء اللامع 3 / 124 ، انباء الغمر 2 / 367
[18]ــ تاريخ ابن اياس 4 / 260 حوادث 918
[19]ــ صبح الأعشى 4 37 : 38 ، زبدة كشف المماليك 109
[20]ــ النجوم 11 / 120 ، تاريخ الخلفاء لابن حجر الهيئي 130 ت السلوك 3 / 1 / 199
[21]ــ انباء الغمر مخطوط ورقة 1052 ، 1053 ، نزهة النفوس مخطوط ورقة 184
[22]ــ تاريخ ابن اياس 2 / 271 : تحقيق محمد مصطفى
[23]ــ السلوك 4 / 2 / 815
[24]ــ مذكور في حياة الحيوان للدميري 2 / 18
[25]ــ تاريخ ابن اياس 1 / 2 / 455
[26]ــ المدخل 3 / 86
[27]ــ المستظرف 37