أخطر ما يعوق التغيير الإيجابي في مصر، أن الناس يسندون بؤس حياتهم، لا إلى فشلهم وفسادهم الشخصي سلوكياً وفكرياُ وقيمياً، ولكن إلى فساد الحكام وعدم عدالتهم، أو أي أسباب غيبية خرافية، على رأسها بالطبع نظرية المؤامرة ووسوسة الشيطان والحظ العاثر، أو حتى القدر وإرادة الإله.
في بلاد الجهل والتخلف تتكاثر الأصنام المقدسة، المحرم الاقتراب منها ونقدها. ولعل أخطر وأسوأ هذه الأصنام هو "صنم الشعب"، الذي نكيل له صفات البطولة والعبقرية والمظلومية، دون أن نجرؤ على مواجهته بالحقائق، التي بدون مواجهتها سنظل إلى الأبد نبكي ونولول على بؤس حياتنا وحظنا العاثر!!
من منكم بلا خطية فليرمها أولاً بحجر. . من منكم غير فاسد فليندد بالفاسدين. . من منكم كفء في عمله فليندد بعديمي الكفاءة. . من منكم يحترم نفسه فليندد بمن لا يحترمون أنفسهم. . من منكم صادق فليندد بالكذابين. . من منكم عادل فليندد بالظالمين. . من منكم ديموقراطي فليندد بالمستبدين.
سوف تستمر هذه الشعوب في السقوط والتردي، طالما نعيب الزمن والمسؤولين والكل كليلة، فيما أس البلاء ومنبعه فينا نحن.
العلاقة بين الحاكم والمحكوم علاقة جدلية تبادلية، يؤثر كل طرف فيها على الآخر، ويوجه سلوكه بطريقة مباشرة وغير مباشرة. يحدث هذا باختلاف أنظمة الحكم، بين ديكتاتورية وديموقراطية وما بينهما. في غير الأنظمة النموذجية في ديموقراطيها، لا يكون تأثير الشعب على الحاكم كاملاً مطلقاً. لكن حتى في الأنظمة النموذجية في ديكتاتوريتها، لا يمكن أن تكون سيطرة الحاكم على مجريات حياة الشعب كاملة. هذا يجعل نوعية الشعب وطبيعته، هي القاعدة الأكثر ثباتاً نسبياً. نعم يتأثر الشعب سلبياً وإيجابياً بأداء الحاكم ونظامه، لكن تبقى للشعب إرادته في نوعية الحياة التي يحياها، وفي سلوكياته العامة والخاصة، التي لا يمكن أن تطال يد الحاكم سائر مناحيها. هذا الهامش الذي يحتفظ به الشعب لنفسه حتى في أقسى الظروف، هو الذي يؤهل الشعوب للثورة على الحاكم وتغيير نظم الحكم التي لا تتوافق معه. وهذا الهامش ذاته هو الذي يجعل بعض الشعوب عصية على الإصلاح والتنوير الذي قد يتبناه الحاكم. يعني هذا أن الشعب وليس الحاكم مهما بلغ استبداده، هو المسؤول الأول وإن لم يكن الأوحد، عن نوعية الحياة التي يحياها.
لو نزلنا في جولة بالشارع المصري، لن نحتاج لذكاء أو عبقرية، لنكتشف الطرف المستبد من الطرف الذليل المقهور. سنكتشف للوهلة الأولى عبقرية الإنسان المصري في التحايل على القوانين، وجرأته في تحديها، وتذليل كافة ما يعترض طريقه هذا من عقبات، تارة بالرشوة إفساداً لموظفي الدولة المؤهلين ابتداء للفساد، وتارة بالاستجرام وفرض الأمر الواقع. سنجد من يحلو لنا تلقيبه بالمواطن "البسيط" يفترش الأرصفة، بل ومتن الشوارع بمختلف أنواع البضاعة. وأصحاب المقاهي والمتاجر يضمون الأرصفة والشوارع إلى ممتلكاتهم. ونجد السيارات تسير في كل الاتجاهات الصحيحة والمعاكسة. وآلاف العمارات الشاهقة تعلو مخالفة للقوانين، أو بدون ترخيص من الأساس. نجد "البسطاء الأبرياء" كما نسميهم يرمون بقاذوراتهم في أي مكان وكل مكان، لكي يندد المتاجرين المزايدين بعدها بعجز المسؤولين وإهمالهم في جمع القمامة. نسير في الشوارع لنسمع أقذر الألفاظ يطلقها "البسطاء" بكرم حاتمي وتلقائية، ونشهد التحرش الذي يباركه سراً وعلانية مجتمع ذكوري مكبوت الشهوات بدائي همجي الفكر والثقافة. . على وجه العموم سنجد المسيطر المستبد هو "صنم الشعب"، فيما الحاكم مهيض الجناح، بلا حول ولا قوة أمام الطوفان الشعبي الكاسح.
يتبدد نهر العلم والنور في وادي النيل، ويستحيل إلى مستنقعات تتكاثر فيها الطفيليات والديدان. مع تكاثر الجامعات المصرية، وتقيؤها لخريجين بالملايين، مازلنا نجد جحافل من هؤلاء يثقون في الاستشفاء بالرقى والتعاويذ، وفي فاعلية بول البعير والزيوت المقدسة، وعلى أحسن الفروض يتعاطون متى مرضوا الأدوية المصرية منخفضة الفاعلية، في حين يهرع أصحاب الفضيلة والقداسة الذين يباركون ويقدمون لهم هذه الوصفات المقدسة إلى عالم العلم والعلماء لأقل نزلة برد، ليتلقوا علاجاً حقيقياً. . الأمر فيما يبدو ليس أمر علم وجهل، إنما هي سيكولوجية استمراء الاستنطاع والبلادة. . وفقاً لما يقول الفيلسوف الألماني "كانط"، فإن عقل الإنسان مؤهل فقط لتناول الماديات، ولا قبل له بالتعامل مع الماورائيات (الميتافيزيقا)، وبالتالي فالعقل غير قادر على إثبات أو نفي أي من القضايا الميتافيزيقية.
هذا القول ذو حدين، فهو يحمي الميتافيزيقا من نقد العقل، لكنه أيضاً يضع صاحب العقل في حرج، حيث لا ينبغي عليه قبول قضايا، تفتقد تماماً لأي إثبات منطقي عقلاني.
يرى البعض أن ما يروج له ويبثه خطاب الكنيسة القبطية، إن كان بالفعل محض خرافات، فهو غير ضار بأحد، خاصة إذا تم مقارنته بالخطاب التكفيري الإرهابي الذي يهدد العالم الآن. هذا صحيح إلى حد ما، خاصة أنه على المستوى العملي (وليس الكلامي) لا تأخذ الناس ما يلوكونه ليل نهار من خرافات دينية مأخذ الجد. لكن الإشكالية أكبر وأعمق من هذا. فلن نستطيع تقسيم "الخرافات" إلى نوعين، نوع "طيب" وآخر "شرير"، وعليه "نحترم الطيب" منها، و"نقاوم الشرير". الحل الذي بدونه سيظل الشعب المصري يزحف على بطنه في أوحال التخلف، هو أن نعتمد جميعاً على العقل والعقلانية، في رؤيتنا لأنفسنا وللعالم والوجود، وأن نكف عن السير مغمضي العيون مسلوبي الإرادة، خلف من يدعون أنهم نواباً لإله على الأرض.
لا تنوير ولا توعية يمكن أن تجدي، ما لم يتململ الناس، ويفقدون ثقتهم فيما يعتقدون فيه ويمارسونه منذ عصور.