رحــيــل ســوّاق الأتــوبــيــس!
لو تجسَّدت السينما المصرية رجلاً لكانته، ولو كان للفن السابع ثامن لكانه! (سواق الأتوبيس) رسَم الانفتاحَ بكلِّ جَدَارة، واليدُ التي كانت تحرّكه اكتفتْ بالإشارة، فعاطفُ الطيب كان مخرجاً للنفس قبل الجسد، وانفجر الغضب في نهاية الفيلم كأنه الحلُّ رغم أنه ســَـبَّ ولعَنَ، فانطلقتْ الحنجرةُ مُذبذبة في قاهرة الألف مأذنة ضدّ الانفتاحيين الأوغاد: يا ولاد الكلب!
وفي (الصعاليك) لداود عبد السيد جسَّد نور الشريف ومحمود عبد العزيز مشهداً غير متكرر في السينما المصرية، فلصوص الميناء كادوا يمتلكونه، وعرضوا نصف أحلامهم بعدما تحولوا من الثلاث ورقات والهروب من ثمن وجبة في مطعم والبلطجة الفاشلة في البارات إلى أنصاف البارونات الذين يعرفون أنَّ المكان الأعلى محجوز مسبقا لكبار الكبار.
وفي (أهل القمة) كان زعتر النشــَّــال يعرف أنه لن يصل إلىَ الكبار، فلما وصل إليهم اكتشف أنه، أي النشــّـال، أكثر احتراما منهم، فالدولة كانت قد بدأت سباق النهب، وأضيف إليه التدين المالي، ولم يفهم ضابط الشرطة ( عزت العلايلي ) أن للنشالين قلوباً تنبض، وأن الحب يمكن أن يخترق بياضُه سوادَ الانفتاح، فأحب الفتاةَ الرقيقة ( سعاد حسني ) التي تعيش في بيت ضابط تكتشف عيناه النشال الصغير ولا ترى النهـَّـاب الكبير، فالأول يتحمل الشتائم والثاني يبدأ بالبسملة وتشهد علىَ تقواه زبيبة عهد السادات: من لم يغتنِ في عهدي، فلن يصبح غنياً أبداً.
كل مخرج كان يجد فيه شيئاً ليفضح نفاق المجتمع فعرف علي عبد الخالق( العار ) كيف يوظف ابن تاجر المخدرات في كشف المجتمع المهلهل كله، من وكيل النيابة والطبيب النفسي والأب المثالي الذي يتاجر في المخدرات ويرفض معاقرة الخمر، ويده سخية مع الفقراء لكنه يسمم بها أبناء الوطن، فالبودرة كما تعلــَّـم ابنه، نور الشريف، منه نباتات خلقها الله ولم يحرّمها.
و عثر عليه السيناريست بشير الديك مخرج ( الطوفان ) و( سكة سفر ) فجعله في الأخير صورة طبق الأصل من المصري العائد من الخليج وبجعبته مبلغ يرفع قدْرَه في المجتمع، ولكن هناك ترانزستور على كتفه يجعل أبناء الحيّ يلتفون حول صاحبه، فالحلم يبدأ بالوجاهة المذياعية!
ويجذبه علي عبد الخالق مرة أخرى إلى واحد من أهم الأفلام المصرية ( الحقونا ) الذي وضع إصبعه على الحل، رغم أنه حل ديكتاتوري، أي اللجوء إلى ( الرئيس ) وهو يتوسل إليه في صورته المعلقة على الحائط فبيع الأعضاء في المستشفيات يمرّ بمئة فاسد، وليس هناك غير صاحب السلطة التنفيذية الوحيد، ولم تصل الرسالة طبعا، فمبارك لم يكن يعرف الشعب المصري، ولم يحس بآلامه ولم يشعر بأوجاعه.
أما (البحث عن سيد مرزوق) فهو تحدٍ للسلطة الأمنية وكشف غرورها وغطرستها، وظل الفيلم ممنوعا من العرض لمدة ست سنوات، وكان المواطن المجهول نور الشريف يعيش على هامش المجتمع، من العمل إلى البيت، ربما لا يعرف جيرانه أو زملاءه ولم يدخل قسم شرطة من قبل، فلما نسيَ يوم عمله واضطر لقضائه في الهواء الطلق، وعرف الناس، استفاق من أوهام المواطن المبني للمجهول.
و (ضربة معلم) فهو في قناعاتي أحد أفضل الأفلام المصرية في القرن الفائت، وتفوق فيه عاطف الطيب على نور الشريف مرة في مشهد والآخر في مشهد تالٍ، وتبادلا عبقرية الفيلم الذي جمع المال والسياسة والجبن واخلاص الضابط الصغير( نور الشريف ) والضغط عليه من التيارات الدينية المالية، وفيه أيضا السلاح والرشوة والمحامي المتلاعب بكل القوانين والمستشار الذي يُبرّيء الفساد باشتراكه خفية مع قواه الظاهرة.
وفي (بئر الخيانة) قال الشاب العاطل والنصــّـاب ورب الأسرة الذي يرفض التطهر من عالم القذارة بعدما وقف مصادفة في طابور أمام السفارة الإسرائيلية في روما، وسُئــِـلَ عما يريد فردّ قائلا: أريد أن أعمل جاسوساً! وكأنه اطلق رصاصة الرحمة على المجتمع ورغب في كشف تمنياتهم المخبوئة داخل النفس الرخيصة: فالانفتاحيون كلهم يحترمون العدو، ولم تتح لهم الفرصة ليقفوا أمام سفارة تل أبيب في أي مكان للبحث عن عمل لدىَ الموساد.
أما في (آخر الرجال المحترمين) فقد صفعنا جميعاً عندما اختفت تلميذة في رحلة مدرسية وكان هو المدرس ذا الضمير اليقظ، والذي ينفق مرتبه الصغير في شراء كتب تثري العقل والروح معاً. ولم يفهم المدرسون ومن معه في الرحلة المدرسية قوله عن رد فعل نظيره الدانمركي لو حدث مثل هذا في كوبنهاجن، فالتحضر قيمة، والتبجيل للمعلم الذي نريد أن نقف له غير موجود بالمرة.
نور الشريف كان هو السينما المصرية، وكان يقرأ أفكار المخرجين الكبار قبل أن يقتربوا منه، ووصف في ( الغيرة القاتلة ) لعاطف الطيب المشاعر الشريرة وهي تتطاير من العيون وتكاد تخرج من الشاشة الفضية،
وفي (حدوتة مصرية) اختصر المواطنة كلها في كلمات لا يكررها شاعر مرتين.
نور الشريف، رحمه الله، فنان في كل بيت، وصديق لكل عاشق للفن السابع، ونصف قرن من البلاتوه المصري، وعربي حتى النخاع، ولو لم تحمله مصر في قلوبها لحمله العرب في عيونهم.
متواضع ودمث الخُلق، ووحدة عربية في رجل، وثالث ثلاثة فقدها الفن بعد عُمر الشريف وأحمد زكي! رحمه الله، وأسكنه فسيح جناته، وجعل أعماله السينمائية فخراً لكل مصري وعربي ودرساً لكل من أراد أن يستخرج من السينما ما لم تعطه ثقافات أخرىَ.
نور الشريف، أنت في قلوبنا جميعاً. وداعاً!
محمد عبد المجيد
طائر الشمال
أوسلو في 11 أغسطس 2015