تقديس البخارى فى العصر المملوكى : نقد حديث ( من عادى لى وليا .. )

آحمد صبحي منصور في الخميس ٣٠ - يوليو - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً

كتاب : أثر التصوف  المعمارى والثقافى والاجتماعى فى مصر المملوكية

الفصل الثانى  :( أثر التصوف الثقافى فى مصر المملوكية )

 اثر التصوف فى العلوم : فى تزييف الحديث  

تقديس البخارى فى العصر المملوكى

1 ــ كان لميعاد البخاري أهمية قصوى فى العصر المملوكى ، حتى ان الحوليات التاريخية كانت تذكره كل سنة في موعده وحضور السلطان له. ومثلا ، في تاريخ ابن حجر ( إنباء الغمر بأبناء العمر ) والذى أرّخ فيه ابن حجر لسنوات عمره ، يقول :  ( في قراءة البخاري بالقلعة ــ  على العادة ــ حضر الهروي القاضي وقد اختلق  لنفسه اسنادا ليقرأ عليه به صحيح البخاري،  وأرسل إلى القمازى ... فتناوله منه،  وهو من اهل الفنّ ، فعرف فساده ، فاقتضى رأيه ان جامله ) [1] . أى إن قاضى القضاة الهروى إختلق لنفسه إسنادا ، أى شهادة بأنه سمع الحديث وتعلمه من فلان عن فلان ، وأنه روى من فلان عن فلان ، كى يكون أحد الأعلام فى ميعاد البخارى الذى كان يتم عقدة كل عام فى شهر رمضان ، حيث يُتلى ( صحيح البخارى ) بحضور السلطان والأمراء والأعيان . وقدّم الهروى ( مؤهلاته ) الى القمازى أحد (علماء ) الحديث ، ولم يكن القمازى من منافسى الهروى ، فجامله ، واعترف بصحة مؤهلاته . وقيل في سبب عزل الشيخ القرمي عن مشيخة الخانقاة عند بيبرس وعن درس الحديث (لأنه افتضح بين الناس لجهله بالحديث ) 2 ــ وبسبب الجهل بالحديث والوضع فيه ، فلا نثصور وجود (علماء ) فى الحديث بنتقدون البخارى ، خصوصا وان من يتفوق فى (علم ) الحديث كان يتعرض للمحن إذا لم تكن له صلة بالسلطان . وكان هناك من تفوق فى (علم ) الحديث ، فحورب وتعرض للمحن ، ومنهم ابن الصقلى الذي وصف بأنه (تفوق على كثير من مشايخه ، وازدحم عليه أصحاب الحديث) [2] ولذلك (جرت عليه محن شارك فيها الفقهاء والأولياء ) (6)[3] على حد قول الصوفي صاحب تحفة الأحباب . وهذا مفهوم فى عصر التقليد والجهل والجمود .

3 ــ وكان الشيخ "أحمد صارو" ناردة عصره . وقد وصفه المقريزي بأنه ( حسن الاعتقاد كثير الأنكار على المبتدعين، مُحبّا في السنة وأهلها ) [4] .

وذكر ابن حجر عن "صارو " هذا قوله للسلطان  برقوق : ( لا يُلتفت لما فى البخارى ومسلم ، إذ أكثر ما فيهما كذب ). فقال له السلطان برقوق : ( يا شيخ . إنهما كانا فى زمن لو كذب فيه أحد على النبي صلى الله عليه وسلم قتلوه ) [5]...نحن هنا أمام (عالم) جرىء مُنكر للبخارى ومسلم ، يسبق عصرنا الراهن البائس الذى لا يزال يعيش محنة تقديس البخارى ، ولكن هذا ( العالم )  نجا من الاضطهاد بسبب صلته بالسلطان برقوق ، وهذا الدفاع من برقوق عن البخارى ومسلم فيه اتهام واضح لعصره و( علماء ) وصوفية عصره .

4 ـ ولكن صحيح البخارى إكتسب قدسية هائلة فى العصر المملوكى برغم أنف الشيخ أحمد صارو ، ولا تزال هذه القداسة للبخارى وكتابه سارية حتى الآن .

نقد حديث ( من عادى لى وليا .. )

1 ـ بسبب هذا الحديث :  ( من عادى لى وليا .. ) الذى إختلقه البخارى حظى (صحيح البخارى ) بقدسية فى العصر المملوكى ، ليس فقط فى تخصيص ( ميعاد البخارى ) طوال شهر رمضان ، بل أيضا لأنه  صار فى العصر المملوكى محور (علم ) الحديث ، قام بشرحه الفقيه الزركشى (  745 : 794 ) فى ( التنقيح بشرح الجامع الصحيح )، وقاضى القضاة شهاب الدين ابن حجر ( 773 : 852 ) فى ( فتح البارى فى شرح صحيح البخارى  ) وقاضى القضاة بدر الدين العينى ت 855 ، فى ( عمدة القارى  شرح صحيح البخارى ) وشهاب الدين القسطلانى ( 851 : 923 ) فى ( إرشاد السارى فى شرح صحيح البخارى  ).     

2 ـ حديث البخارى : ( من عادى لى وليا فقد آذنته بالحرب ..) يدافع عن الأولياء الصوفية ويُشرّع عقيدتهم فى الاتحاد ، وهى العقيدة المناقضة للاسلام ، كما  سبق شرحه فى الجزء الأول من كتاب ( الحياة الدينية فى مصر المملوكية ) . ونتوقف مع هذا الحديث بالتحليل والنقد ؛ نناقشه من حيث السند وفق منهج ( علم المصطلح ) لدى (علماء ) الحديث ، ثم نناقش متن الحديث وتعارضه مع القرآن الكريم .

  من حيث السند : 

رُوى هذا الحديث على سبع روايات ، كلها ضعيفة .

1 ـ رواية أبى هريرة عن طريق خالد بن مخلد عن سليمان بن بلال عن شريك عن عطاء بن يسار عن ابى هريرة . قال الذهبى فى ( ميزان الاعتدال ) وقد أسنده عن طريق خالد : ( هذا حديث غريب جدا ، ولولا هيبة الجامع الصحيح ( اى صحيح البخارى ) لعددته فى منكرات خالد . ، وذلك لغرابة لفظه . ولأنه مما ينفرد به ( شريك ) وليس بالحافظ . ولم يرد هذا المتن إلا بهذا الاسناد ، ولا أخرجه من عدا البخارى ، ولا أظنه فى مسند أحمد ). أى أن المسوغ الوحيد فى قبول هذا الحديث ــ  طبقا لما قاله الامام الذهبى ــ هو أنه مذكور فى (صحيح البخارى ). والحديث ليس مذكورا يقينا بهذه الرواية فى مسند أحمد ابن حنبل .

2 ـ رواية عائشة ، ولها طرق متعددة ، فيروى عن أحمد فى الزهد ، وابن أبى الدنيا وأبى نعيم فى الحلية ( حلية الأولياء ) ، والبيهقى فى الزهد ، والقشيرى فى الرسالة القشيرية عن طريق عبد الواحد بن ميمون عن عروة عن عائشة . وعبد الواحد بن ميمون موصوف بأنه ضعيف فى الرواية ، والرواة الذين زعموا النقل عنه صوفية . وقد رواه الطبرانى عن هارون بن كامل ، ووصف بأنه مجهول .

3 ــ رواية أبى أُمامة ، رواه الطبرانى والبيهقى فى الزهد باسناد عثمان بن أبى عاتكة وعلى بن يزيد ، وهما ضعيفان . وفى رواية على بن أبى طالب ، رواه الاسماعيلى فى سند على باسناد ضعيف .

4ـ رواية ابن عباس ، رواه الطبرانى باسنادين ضعيفين ،

وفى رواية ( أنس ) رواه الطبرانى والقشيرى فى الرسالة القشيرية ، وهذا السند ضعيف أيضا .

5ـ وفى رواية معاذ بن أبى جبل ، رواه ابن ماجه وابو نعيم مختصرا باسناد ضعيف . ( راجع تحقيق الحقيقة العلية  الشاذلية 4 هامش 2 ).

وهكذا كانت روايات هذا الحديث تتراوح فى وصفه بين الغريب والمجهول والضعيف ، وقد تفوق الامام الذهبى فى نقده حين اشار الى أن متن الحديث غريب .

على أن الملفت للنظر هو إختلافات متن الحديث  :

1 ــ فهو فى رواية ابى هريرة فى البخارى ( من عادى لى وليا فقد آذنته بالحرب ، وما تقرب الىّ عبدى بشىء أحبّ الىّ مما إفترضته عليه . ولا يزال عبدى ..الخ ) وذكر ابن تيمية صيغة أخرى : ( من عادى لى وليا فقد بارزنى بالمحاربة ) الى أن يقول ( فبى يسمع وبى يبصر وبى يبطش ..) ( رسالة الصوفية لابن تيمية ) . وذكر ابن عطاء السكندرى صيغة أخرى : ( من آذى لى وليا فقد آذنته بالحرب ) ( لطائف المنن 16 ). وفى صحيح البخارى من طريق عائشة زيادة ، هى : ( وفؤاده الذى يعقل به ، ولسانه الذى يتكلم به ). هذا عدا الاختلافات الأخرى فى رواياته السبع فى كتب الحديث الأخرى .

 2 ـ فقرات متن الحديث تتناقض مع بعضها . ففى هذا الحديث : ( وما تقرب الى عبدى بشىء أحب الى مما إفترضته عليه ) ومعناه ان الله لا يحب من عبده أكثر من أدائه الفرائض ، ولا عبرة بغيرها لأن كلمة ( أحبّ ) أفعل تفضيل . ثم يتناقض هذا مع الفقرة التالية : ( ولا يزال عبدى يتقرب الىّ بالنوافل حتى أحبه ) .

وابتدأ الحديث بقول ( من عادى لى وليا فقد آذنته بالحرب ) ومعنى ذلك أن هذا الولى ضعيف مقهور الى درجة ان الله فى زعمهم من يعاديه أو يؤذيه باعلان الحرب. ويتنافى ذلك مع صف الولى الضعيف بأن له يدا يبطش بها ، فالضعيف لا يد له يبطش بها ، فكيف يبطش المقهور الضعيف  ؟ بل كيف تكون يد هذا الولى الضعيف المقهور متحدة بالله جل وعلا ويبطش بها ويحتاج الأمر الى أن يستعدى الله جل وعلا على من يؤذيه ؟ وهل يستطيع بشر أن يؤذيه ؟ ومن يستطيع إيذاءه حينئذ ؟ .!

ثم هناك نوع من عدم الترابط والانسجام بين الفقرة الأولى والثانية . فالآولى تتحدث عن الحرب والعداء ، والثانية تتحدث عن العبادات والقُربات .

3 ـ يتعارض الحديث جملة وتفصيلا مع القرآن الكريم ، تؤكد أن الله جل وعلا يبادر بإعلان الحرب على من يتجرأ على مجرد عداء الولى أو إيذائه . وهذه الصيغة الرهيبة لم ترد فى القرآن الكريم . فالله جل وعلا قال فى موضع مماثل ــ مع فارق ــ بلهجة هادئة ( من كان .. البقرة 98 ) مفارقة كبيرة يُحسّها القارىء لللآية الكريمة ولبداية ذلك الحديث . ففى الآية نرى أن الله سبحانه وتعالى يكتفى بردّ العداء بمثله على من يبدأ بالعداء لله جل وعلا وملائكته ورسله، واستمر على هذا العداء . أما الصوفية فقد جعلوا الله جل وعلا فى هذا الحديث يبادر بالاعلان بالحرب على من عادى وليا ، وفى ذلك تفضيل للولى الصوفى على الله جل وعلا ورسله وملائكته . هذا لو وُجد أولياء لله جل وعلا دائمون ، وقد سبق أن ولى الله جل وعلا هى صفات عامة مطروحة للبشر جميعا وهى الايمان والتقوى ، وتتعرض للزيادة والنقصان تبعا للظروف التى يتقلب فيها كل فرد . أى لا يوجد على الأرض ( ولى ) حىُّ يسعى . وعند الاحتضار سيعرف كل فرد هل هو من اولياء الله أو من أولياء الشيطان ــ طبقا لعمله وإيمانه . أما هذا الولى الصوفى فينطبق عليه تماما حديث رب العزة عن المشركين وإتخاذهم ( أولياء ) من البشر، يقدسونهم ويقدمون لهم القرابين والنذور ، وهو بالضبط ما كان الصوفية يفعلون فى العصر المملوكى ، ولا يزالون .

4 ـ والملفت للنظر تلك الصيغة الصوفية العقيدية التى لم ترد بالتفصيل لدى مشركى الجاهلية العربية الذين أتخذوا الأولياء أربابا يعبدونهم لتقربهم الى الله جل وعلا ولفى . ونقصد تلك الصيغة الاتحادة الصوفية التى يؤمن بها الصوفية ، فى عقائدهم من الحلول والاتحاد . وقدجاءت صريحة فى هذا الحديث الذى يقول ( كنت سمعه الذى يسمع به وبصره الذى يبصر به ، ويده التى يبطش بها ورجله التى يمشى عليها ) . هذا كفر شنيع نستنكره ، ونتعجب من قائليه وواضعيه والمؤمنين به .

5 ــ وبدلا من استنكار هذه الصياغة الكافرة فى الحديث نجد محاولات التبرير . والسيوطى الذى عهدناه يجمع وينتحل بلا تفكير ، نراه يخرج عن مألوف عادته وعقليته ، ويفرد فصلا كاملا من كتابه ( تأييد الحقيقة العلية ) لتبرير عبارات الكفر فى هذا الحديث . والشوكانى ــ وهو من تلاميذ ابن تيمية فى العصر العثمانى ــ أرهق نفسه فى تبرير وتاويل عبارات الكفر الصوفية فى هذا الحديث ، وفى كتاب خاص لذلك هو ( قطر الولى فى حديث الولى ) ( راجع صفحات 410 : 428 . تحقيق د ابراهيم هلال ) . هى عبارات صريحة فى كفرها شنيعة فى سبّ رب العزة ، ولكن لأنه حديث كتبه البخارى فإن حق البخارى أعظم عندهم من حق الله جل وعلا . والانحياز للبخارى والتصديق بما جاء به فريضة عندهم ، وعلى أساسها يدافعون عن البخارى ضد رب العزة جل وعلا .

6 ــ جدير بالذكر أن الصوفية فى العصر المملوكى إبتهجوا بهذا الحديث ، ونسجوا على منواله أكاذيب أخرى ، فيروون ان ابا الحجاج الأقصرى روى بزعمه حديثا نبويا يقول : ( من آذى وليا من أولياء الله تعالى فكأنما هدم الكعبة سبعين مرة ) . وقد استعظم بعضهم هذا الحديث فردّ عليه الفقيه ابن دقيق العيد بقياسه على حديث الولى فى البخارى ، وأن محاربة الله لمن يعادى الولى هى أشدُّ من هدم الكعبة . ( النويرى الاسكندرى : الاعلام . مخطوط : 1 : 3 ) . وليس هناك أشنع من حديث الولى فى البخارى إلا قول أبى العباس المرسى يُشبّه رب العزة باللبؤة  ـ دفاعا عن الولى الصوفى ، يقول لعنه الله : ( مثل ولىُّ الله مع الله كمثل اللبؤة مع ولدها . أتراها تاركة ولدها لمن يؤذيه ) .  وهذا القول الكافر الشنيع رددته كتب الصوفية : رواه ابن عطاء عن قائله شيخه ابى العباس المرسى فى كتاب ( لطائف المنن ) الذى يتحدث فيه عن مناقب المرسى والشاذلى ، وذكره الشعرانى فى الطبقات الكبرى : 2 / 12 ، وعبد الصمد الأحمدى فى مناقب السيد احمد البدوى : (الجواهر 66 ).

7 ــ أخيرا : وقد حقق حديث ( من عادى لى وليا ) اغراضا هامة للمتصوفة أرهبوا به المنكرين عليهم وأظهروا به عقيدتهم فى الاتحاد بالله ورفعوا من شأن الولى وقدسوه كجزء من الله ــ تعالى عن ذلك علوا كبيرا ــ لذا أدخل مجد الدين الفيروزبادي في شرحه لصحيح البخاري كثيرا من كلام ابن عربي في الفتوحات [6] .



[1]
ــ أنباء الغمر 3 ــ 165

[2]ــ السلوك 3 ــ 1 ــ 871

[3]ــ تحفة الأحباب 184

[4]ــ أورد السخاوى في الضوء اللامع 2 ــ 263 نقلا عن عقود المقريزى وهو كتاب مجهول

[5]ــ انباء الغمر 3 ــ 49

[6]ــ انباء الغمر 3 / 49 

اجمالي القراءات 11753