مقدمة : عندما يقال ( الغرام ) ينصرف الذهن الى الحب والهيام ، وعندما يقال ( غرامة ) أو ( غرم ) بضم الغين ـ فالمراد هو الخسارة أو العقوبة . فى القرآن الكريم مصطلح الغرام يعنى فقط الخسارة ، أو العقوبة . ونعطى التفاصيل
أولا : الغرام فى الدنيا : غُرم وغرامة وخسارة :
1ـ هناك ( غارم ) يعنى شخص ضمن شخصا فى ديون ، وعجز المدين عن السداد ، فيتوجب على الضامن أن يسدد الديون بدلا عن المدين العاجز . هذا الضامن يسمى ( غارم ) لأنه ( تغرّم ) ودفع ( غرامة ) عبارة عن دين لا ذنب له فيه ولم يقترضه . ويدخل فيه ضمنا ذلك الذى إستدان وتراكمت عليه الديون وعجز عن السداد . هذا ( الغارم ) الخسران له حق فى الصدقات الرسمية التى تجمعها الدولة الاسلامية ، يقول جل وعلا : ( إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60) التوبة )
2 ـ هناك صنف منافق يضطر الى دفع صدقات ليستر حاله ، ويعتبر دفعه للصدقة ( غرامة ) أى خسارة ، ينفق وهو كاره . وهناك مؤمن يدفع الصدقة تقربا لرب العزة جل وعلا طمعا فى جنته وأملا فى غفرانه جل وعلا . عن النوعين يقول جل وعلا عن الأعراب حول المدينة : ( وَمِنْ الأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمْ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنْ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمْ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99) التوبة ).
والمنافقون كانوا ينفقون أو يتصدقون ويتبرعون للمجهود الحربى أو الجهاد فى سبيل الله جل وعلا ، ولكنهم كانوا كارهين ، فمنع الله جل وعلا قبولها منهم . يصف رب العزة أولئك المنافقين فيقول : ( قُلْ أَنفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ (53) وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ (54) التوبة )
3 ــ الرسول لا يسأل الناس أجرا ، وهذا ما أمر الله جل وعلا رسوله أن يعلنه : ( قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) سبأ ) . وعن عناد الكافرين يقول جل وعلا لخاتم المرسلين :( أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) الطور ، القلم 46 ) يعنى هل تسألهم أجرا يكون غُرما عليهم يُثقل كاهلهم ؟
4 ـ أولئك الكافرون يتقلبون فى النعم التى لا يستطيعون حصرها وعدّها ، يقول جل وعلا عن بعضها : ( أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلَلْتُمْ تَتَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) الواقعة ). الذى يُنبت الزرع هو الله جل وعلا ، ولوشاء لجعله حُطاما ، وعندها سيصرخون بأنهم خسروا و( غرموا ) وحُرموا من محصول ينتظرونه .
ثانيا : الغرام فى الآخرة : خلود فى النار
1 ـ المتقون عباد الرحمن من صفاتهم أنهم يدعون رب العزة بهذا الدعاء : ( وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً (66) الفرقان ). هنا وصف عذاب جهنم بأنه ( كان غراما ) . ( كان ) هنا تفيد المستقبل وليس الماضى شأن الخطاب القرآنى عن أحوال الآخرة التى لم تأت بعد . وهذا ضمن الفوارق بين اللسان العربى القرآنى وقواعد النحو التى وضعها علماء العصر العباسى ، ونرجو أن نكتب فى هذا بالتفصيل فيما بعد . المهم أن عذاب جهنم كان اى سيكون غراما ، أى خسارة ، لأن جهنم ساءت ( أيضا التعبير بالماضى ومقصود به المستقبل ) ـ ساءت مستقرا ومقاما ، أى ساءت الاقامة فيها وساء الاستقرار فيها . هذا هو الموضع الوحيد الذى جاءت فيه كلمة ( غرام ) . ما قبله كان إشتقاقات ( غرم ) . وإذا كان ( الغرام ) هنا هو عذاب جهنم الخالد الذى لا خروج منه ولا تخفيف فيه ، فإن الفارق شاسع بين المعنى الشائع لدينا عن ( الغرام ) بمعنى الحب والهيام ، و( الغرام ) بمعنى الخلود فى النار .
2 ـ واذا كان الغرام فى الدنيا يعنى الخسارة المالية فإن الغرام بمعنى الخلود فى النار يكون أفظع خسارة ، فالخسارة فى الدنيا مؤقتة ويمكن تعويضها ، أما الخسارة بمعنى العذاب الأبدى فلا مثيل لها ، لهذا فإن الخاسر الحقيقى ليس ذلك الذى يفقد ماله أو ولده لأن الموت هو نهاية كل حىّ ، وصاحب المال لا بد أن يترك المال بالموت أو يتركه المال بالافلاس ، أما خسارة الآخرة فهى الخسارة الحقيقية . أصحاب النار قبيل دخولها ، يتم عرضهم عليها وعرضها عليهم حيث ينظرون اليها بطرف عيونهم خاشعين من الذل مرعوبين يتمنون فرصة أخرى للعودة الى الدنيا ليعملوا عملا صالحا، عندها يقول المؤمنون الفائزون إن الخاسرين هم اولئك الظالمون الذين خسورا أنفسهم وأهليهم وأمامهم عذاب مقيم، يقول جل وعلا :( وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوْا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنْ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45) الشورى ). بعد إلقائهم فى جهنم يتكرر نفس الوصف بالخسارة ، فيقول رب العزة جل وعلا : ( قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنْ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16) ) الزمر ). الخسارة هنا تعنى خسارة ابدية للنفس والأهل ، خسارة الأهل لأنه لو كان أهلك معك فى النار فأنتم فيها خصوم يلعن بعضكم بعضا الى الأبد ، وتصحبكم النار تحوطم وتظللكم بلهيبها. إما إن كان أهلك فى الجنة وأنت فى النار فهم لا يملكون لك شيئا ، وخسرتهم الى الأبد .
3 ـ وطالما أننا نتحدث عن الغرام بمعنى الخسارة فإن فى الأمر رائحة تجارة وبيع وشراء، فالخاسر هو الذى يبيع الآخرة ويشترى الدنيا ، يقول جل وعلا : ( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ (86) البقرة )، وهو الذى يبيع الهدى ويشترى الضلال ( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16) البقرة )، وهو الذى يبيع الايمان ويشترى الكفر ، يقول جل وعلا : ( إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177) آل عمران ).
وأسوأهم أرباب الأديان الأرضية الذين يبيعون ما أنزل الله جل وعلا ويشترون به متاعا دنيويا ضئيلا ، يقول جل وعلا عن عقابهم :( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) البقرة ). تأمل الشيخ فلان والامام فلان و الولى فلان والبابا فلان والرهب فلان والرباى فلان ـ وهو يبيع وهم الجنة للمخدوعين ، ويتقرب للمستبدين الظالمين ، ثم يموت وقد حمل أوزارا من ضلاله وإضلال غيره ، ويتحول المال السُّحت الذى أكله فى بطنه فى الدنيا الى نيران متقدة فى جوفه وهو فى جهنم خالدا فيها . ولو حدث وعرفنا الحسابات السرية لأئمة الأديان الأرضية للمحمديين لأصابتنا الدهشة ، ولكن مهما بلغت من ملايين وبلايين فهى ثمن قليل ، ومهما بلغت من بلايين فستكون عذابا لهم أبد الآبدين .
4 ـ وفى المقابل فهناك الذى يشرى ( أى يبيع ) نفسه إبتغاء مرضاة الله جل وعلا : (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207) البقرة ). والله جل وعلا إشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم مقابل الجنة . الله جل وعلا يبشرهم بالجنة وعدا عليه حقا . ومن أوفى بوعده وعهده من الله جل الذى لا يُخلف الوعد والميعاد ؟ يقول جل وعلا :( إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التوبة )
ودائما : صدق الله العظيم