لمحة عن عصر ليبرالى مضى وانتهى .. فمتى يعود؟
العقاد ...وطه حسين

آحمد صبحي منصور في الخميس ٠٩ - يوليو - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً

مقدمة :

 جاءنى هذا السؤال : ( السلام عليكم; أود معرفة رأي الدكتور أحمد صبحي منصور في المفكر الأسلامي الراحل عباس محمود العقاد حيث من المعروف أن العقاد كان مدافعا عن التراث والتاريخ الأسلامي التقليدي ورموزه من الصحابة الأولين ? والسؤال الثاني كيف غفل العقاد عن تدبر القرآن وهو المعروف بقوة نفاذه في عمق المسائل الفكرية الكبيرة وقوه حاسته النقدية لكل ماهو مناقض للعقل والمنطق وأمتلاكه مفاتيح المعرفة وقوة التحليل العلمي ورغم ذلك لم يوفق في أكتشاف تناقضات التراث الأسلامي وتناقضه مع القرآن الكريم? هل من تعليل لهذه الكبوة من مفكر عملاق بحجم العقاد? ) وأجيب عليه فى هذا المقال :

أولا :

جاءنى سؤال مماثل تقريبا ، ,اجبت عليه فى باب ( فاسألوا أهل الذكر ) فى موقعنا .  كان السؤال : مارأيك فى ( طه حسين ) و ( العقاد ) من حيث الريادة الفكرية ؟ وقلت :

رأيى ــ وقد أكون مخطئا ــ إنهما أخذا أكثر من حقهما . ولكنهما ظهرا فى فترة ليبرالية منفتحة على الغرب وتنهل من الثقافة العالمية ، ولم تكن وقتها السلفية الوهابية متحكمة ، بالاضافة الى ظروف كل منهما التى تميّزه عن الآخرين.

طه حسين كان كفيفا وأزهريا ثائرا وعنيدا وصاحب اسلوب أدبى رائع ، وأول من حصل على الدكتوراه فى جامعة القاهرة ، ودرس فى فرنسا ، وعاد نجما ساطعا يشارك فى الحياة السياسية ويتولى رئاسة جامعة القاهرة ووزارة المعارف . كل هذا أعطاه شهرة ( أدبية).

وتميز العقاد بنفس العناد والكفاح وتحدى الظروف وانهمك فى القراءة وطلب المعرفة وكان أديبا وشاعرا وفاعلا فى الحركة السياسية ، لكن تميزه الأعظم أنه لم يحصل على شهادة دراسية أعلى من الابتدائية . وعوّض هذا بكثرة مؤلفاته وسعة إطلاعه ، ونشاطه الثقافى وتكوين مدرسة أدبية من تلاميذه.

كلاهما ( طه حسين ) و ( عباس محمود العقاد ) تنافسا وتميزا فى مجال ( الأدب ) وكانا معا من أعظم ( الأدباء ) و ( الكُتّاب ) . وكان ( الأدب ) عنوانا واسعا يضم كل من يكتب فى النثر والشعر والحياة الاجتماعية والتاريخ وشتى الفنون . وعلى نفس المنوال كان عبد القادر المازنى وشكرى ومحمد حسين هيكل ومحمد فهمى عبد اللطيف ولويس عوض وكبار الصحفيين من الجيل التالى وأشهرهم أنيس منصور.

هؤلاء الكُتّاب الأدباء كتبوا فى ميادين شتى من الأدب والنقد والتاريخ والاسلاميات ، ولكن لا تنطبق عليهم صفة ( الباحث ) المتخصص فى الأدب والنقد والتاريخ والأصوليات ، فهناك مناهج بحث صارمة فى هذه الميادين العلمية . كما لا تنطبق عليهم صفة ( المفكر ) فالمفكر هو الذى يأتى بأفكار جديدة فى مجال بحثه لم تكن معروفة من قبل.

صفة الباحث المفكر والرائد الحقيقى تنطبق على العلامة ( أحمد أمين ) فى ميدان الفكر الاسلامى ، وبسبب تفرغه للبحث وإخلاصه له لم يحظ بشهرة من هم أقل منه علما وشأنا ، وأقصد بالتحديد طه حسين و عباس العقاد.

ومن أسف أن إنحسر العصر الليبرالى وحلّ محله الجهل السلفى ، وظهرت أعلامه عارا فى الاعلام والثقافة والفن والأدب والبحث العلمى والأدبى.

ثانيا :

وأقول المزيد :

1 ــ  فى أواخر العصر المملوكى أوصل التصوف الحياة العقلية الى الجمود والتأخر ، وسنعرض لهذا فى كتابنا القادم ( أثر التصوف فى العمارة والثقافة والحياة الاجتماعية فى مصر المملوكية ) جاء العصر العثمانى فوصلت الحياة العقلية الى القاع ، أو إنتهت بالكامل ، إذ خيّم التصوف بخرافاته على العقول ، وإنعكس هذا على الكتابة الأدبية ، فوصلت الى الحضيض ، يظهر هذا فى مؤلفات مثل ( هز القحوف فى شرح قصيدة أبى شادوف )، طغت العامية على الكتابة : أما الكتابات التى تمسكت بالفصحى فقد كانت محملة بأثقال من المحسنات البديعية اللفظية من السجع والتورية والطباق ..الخ ، والتى تستر فقر الفكر وضحالته.

صحا المصريون على مدافع نابليون ولولاها لاستمروا فى سُباتهم الى مجىء إحتلال غربى آخر . زلزال الحملة الفرنسية فى إحتلالها مصر ثم جلائها عن مصر ثم حكم الوالى محمد على والنهضة المصرية فى عهده ــ زلزل الحياة العقلية فى مصر ، ووصلت أصداء هذا الزلزال وتوابعه بعد قرن من الزمان الى ( مستنقع ) الأزهر الذى كان يسميه الامام محمد عبده رائد التنوير الدينى ( 1849 : 1905 ) بالاسطبل والمخروب والمارستان  . وبدأ محمد عبده فى أواخر حياته إصلاحا فى الأزهر والتفكير الدينى ، بعد أن سارت عجلة الاصلاح فى مصر فى التعليم وفى الفكر لمدة قرن من الزمان.

 بدأ هذا الاصلاج بحركة الترجمة التى قادها رفاعة رافع الطهطاوى ( 1801 ـ 1873 ) وهو مؤسس مدرسة الألسن وكتابه ( تخليص الابريز فى تلخيص باريز ).  ( لاحظ السجع فى العنوان ). وواكب هذا الانفتاح على الغرب وظهور وانتشار الطباعة ، واتساع إنشاء المدارس لتؤسس تعليما مدنيا بعيدا عن مستنقع الأزهر ، وظهور وانتشار الصحف ، وتكوين طبقة وسطى متعلمة.

وكان هذا فى القرن التاسع عشر الذى شهد عصر الخديوى اسماعيل والذى أصبحت فيه القاهرة مدينة تنافس مدن أورربا بعد أن كانت فى أواخر العصر العثمانى قرية ة كبيرة متخلفة .  وفى هذا الوقت تم إفتتاح قناة السويس ، وتكون فى مصر أول برلمان ، وكان فيها ثانى خط للقطارات فى العالم ، قبل الدولة العثمانية وقتها، ووصلت عساكر مصر الى أواسط أفريقيا والصومال .

خافت إنجلترة من مغبة هذا التقدم فأغرقت اسماعيل بالديون وعزلته وجاء ابنه توفيق خادما لها، وسرعان ما إستغلت انجلترة الثورة العرابية على استبداد الخديوى توفيق لتحتل مصر . ولكنه كان إحتلالا لم يؤثر على الحياة الثقافية بل ربما جلب المزيد من الازدهار، وصبغه بالانجليزية أكثر من الفرنسية . ويكفى أنه ظهرت فى مصر فى الاحتلال الانجليزى صناعة السينما فى مطلع القرن العشرين رائدة فى بلاد الشرق كلها ( فى هذا الوقت لم يكن قد ظهر أو شاع مصطلح البلاد العربية أو القومية العربية ، بل الشرق والبلاد الشرقية .! ).

2 ـ انعكس هذا إيجابا على الثقافة المصرية فى القرن العشرين .فارتقت الثقافة المصرية وتأسّست الليبرالية المصرية بقيام ثورة 19 ، والاعتراف باستقلال مصر مع بعض تحفظات ، ووضع دستور مصر الليبرالى عام 1923 ( والذى أسقطه العسكر عام 1953 ولم تحصل مصر على دستور مثله حتى الآن  )، وظهور الصحافة وانتشارها مع الفرق  المسرحية وانتشار دور السينما أو ( الخيالة ) وتطور وسائل المواصلات والاتصالات ، وكثرة السفر للغرب وارسال عشرات البعثات لأوربا ، وهجرة رواد فى الثقافة والفن من الشام الى مصر بسبب المذابح التى تعرض لها مسيحيو الشام ، خصوصا مذبحة عام 1860 .  

فى هذا العصر  ظهر  أدب مختلف ، وبرز الكاتب ( الأديب ) وهو كاتب صاحب اسلوب جذّاب رائع فى النثر ، وقد يكون أيضا شاعرا وروائيا وقصاصا . ظهر أدباء وكُتّاب صحفيون ، بعضهم يعمل بالسياسة ، منهم المويلحى و المنفلوطى واحمد لطفى السيد والمازنى  ومصطفى صادق الرافعى ومحمد حسين هيكل وجورجى زيدان وزكى مبارك والشيخ على عبد الرازق والشيخ مصطفى عبد الرازق وسلامة موسى وامين الخولى ومحمد ابو زهرة ولويس عوض . 

وبرز بينهم ـ لأسباب خاصة ، محمود عباس العقاد وطه حسين . جمع بينهما العناد والأصرار والقدرة على التصادم مع الواقع ، العقاد تفوق وهو الذى لا يحمل شهادة سوى الابتدائية ، وطه حسين تفوق على عاهته ..وعلى ( الأزهر ) . وتفرّد كل منهما بميزته.

كان المناخ الثقافى ليبراليا قبل وصول العسكر للحكم عام 1952 . ولكن هؤلاء الأساتذة العظام من الأدباء كان لهم جيل من التلاميذ ظلوا منارة فى عهد عبد الناصر وأدرك بعضهم عصر السادات ومبارك ، منهم خالد محمد خالد واحمد زكى ومحمد زكى عبد القادر و محمد فهمى عبد اللطيف ومحمد التابعى ومصطفى أمين وعلى أمين ومحمد حسنين هيكل و أنيس منصور ومحمود أمين العالم و أحمد عبد المعطى حجازى ويوسف ادريس ونجيب محفوظ و إحسان عبد القدوس وعبد الرحمن الشرقاوى والصاوى ومحمود السعدنى .

3 ـ  هذا الكاتب الأديب هو مثقف على درجة عالية من الثقافة ، قد تكزن لديه لمحات تجديد واجتهادات متفرقة ولكن لا تؤهله لأن يكون مفكرا يخرج عن مألوف عصره وما وجدوا عليه آباءهم من ثقافة دينية واجتماعية .

المفكر ينتمى الى نوعية أخرى محتلفة تماما عن نوعية الأدباء والكُتاب العاديين. يحتل المفكر قائمة مختلفة من المثقفين ، هى قائمة الباحثين . الباحث الحقيقى  فى العلوم الانسانية والدينية يبدأ بالقراءة العامة فى كل المعارف الانسانية ليكون مثقفا متميزا ، ثم يتخصص فى فرع ليكن مثلا: الجغرافيا ، يدرس كل أنواعها من الجغرافيا الطبيعية والبشرية والسياسية والاقتصادية ، ثم يتخصص فى فرع ، ويكتب فيه بحثا بمنهجية البحث الجغرافى ، ولو تفرّد فى مجاله وأتى بما لم يسبقه اليه أحد كان مفكرا ، مثل المفكر المصرى جمال حمدان . فى مجال التاريخ يتعمق الباحث  فى قراءاته التاريخية ، ثم يتخصص فى تاريخ عصر من العصور ، أو فى تاريخ بلد من البلاد . ويبدأ بعد التأهل فى بحث موضوع معين محدد بالمكان والزمان ، يجمع له المصادر المختلفة من وثائق ومخطوطات ومصادر أصلية وأبحاث سابقة قريبة من موضوعه ، ثم يجمع كل المعلومات ثم يصنفها ، ثم يبدأ فى فحص هذه المعلومات ، ويبدأ فى صياغة بحثه . هذا هو الباحث .. إذا كانت له إتجاهات فكرية جديدة وأتى بآراء جديدة لم تكن معروفة من قبل وعززها بالأدلة البخثية كان مفكرا . إذا تفوق الباحث وأتى بمشروع فكرى جديد لم يسبقه اليه أحد كان مفكرا متميزا.

4 ـ  للتوضيح  فى الفارق بين الكاتب الأديب وبين الباحث ( العادى وليس المفكر ) نقارن بين العقاد الأديب وما يجب أن يكون عليه العقاد لو كان مفكر ا .

العقاد تفرغ للقراءة والكتابة ، قرأ فى كل النواحى الثقافية من دينية وتاريخية وأدبية وشعرية وسياسية ، وأخرج عصير قراءاته كتبا ومقالات بالمئات فى مجالات  مطروقة ومكتوب فيها بالعربية والانجليزية التى يجيدهما العقاد ؛ على سبيل المثال كتب عن رب العزة جل وعلا كتابه ( الله ) ، وكتب بعض دراسات قرآنية رشيقة عن الانسان فى القرآن ، وعن تأثير العرب فى الحضارة الأوربية ، وكتب فى تاريخ أشخاص  كثيرين مختلفين : ( الأنبياء : محمد ، المسيح ، ابراهيم . عليهم السلام . كتب فى مشاهير  الصحابة: ابوبكر وعمر وعثمان وعلى وخالد بن الوليد وبلال وعائشة ومعاوية و عمرو بن العاص .كتب فى مشاهير الشخصيات التراثية : عمر بن أبى ربيعة و جميل وبثينة وابن الرومى وابو العلاء المعرى والحسين بن على وابو نواس وابن سينا ، بل كتب عن ( جحا ) . فى الشحصيات العالمية والمعاصرة كتب عن غاندى وهتلر وعبد العزيز آل سعود وفرنسيس بيكون ومحمد عبده وصن يات صن وبرنارد شو ومحمد على جناح وبنامين فرانكلين وشكسبير .  لم يعرف التخصص ، كان يقرأ المُتاح عن كل شخصية ، ويكتب عنها كتابة سطحية ، تعطى للقارىء العادى فكرة عنه .

مثلا فى كتابه عن الحسين ومصرعه ردد الروايات الخرافية عن خوارق رأس الحسين بعد قطعها . قراءاته المتعددة بالعربية والانجليزية أتاحت له مصادر سطحية من المعلومات فكتب بنفس السطحية ، ولكنه أحسن فى عرض ما لديه ، مثل التاجر الذى يشترى الروبابكيا القديمة ويحسن عرضها بصورة جذابة لعوام المشترين ، فتروج بضاعته ، لكنه لم يقدم لهم جديدا يصدمهم ، بل قدم لهم ما يناسب عقليتهم وبصوة أخّاذة ، ثم إن بضاعته كانت متنوعة من الغرب الى الشرق ترضى كل الأذواق ومختلف الزبائن ، ممّن  يحب محمد عليه السلام والصحابة الى من يعشق هتلر ومن شكسبير الى عبد العزيز آل سعود ..الخ ..

لو كان العقاد باحثا فى كتاباته التاريخية عن الصحابة مثلا لرجع الى المصادر التاريخية الأصلية مثل طبقات ابن سعد  و تاريخ الطبرى وتاريخ المسعودى وتاريخ ابن الأثير ، مع دراسة متعمقة سابقة لمناهج المؤرخين، ونوعيات المادة التاريخية ، ومعرفة بالمصطلحات التاريخية للعصر الذى يكتب فيه ، ودراسة متعمقة لنواحى العصر ، ثم المعرفة التامة بكيفية التعامل مع الروايات التاريخية المتعلقة بالموضوع الواحد ، ما بينها من تعارض كلى او جزئى ، وما بينها من تداخل . ثم يكتب دون وجل أو خوف ، دون تقديس لتلك الشخصيات لأنها شخصيات بشرية . العقاد لم يفعل ذلك . هو قرأ المكتوب من أدباء آخرين فى موضوع الصحابة ، وسلّم بكل الروايات المشهورة المتداولة واعتبرها كلها صحيحة ، وقام بالبناء على هذا فيما كتبه فى ( العبقريات ) ، لذا لم يصطدم بالفكر السائد ، ولم يعارضه ، بل قام بتنسيقه وتقديمه فى صورة رائعة للناس ، فحاز على إعجاب الناس ، وأعتبروه ( مفكرا ) مع أنه لم يأت بفكر جديد . ولم يكن باحثا تاريخيا من الأساس  .  

5 ــ كتب طه حسين  فى الفتنة الكبرى عن (عثمان )وعن ( على وبنوه ) بنفس الطريقة السطحية، فمرّ كتابة بلا ضجيج . بالنسبة للسيرة كتب طه حسين ( على هامش السيرة ) يردد خرافات ابن سعد فى السيرة ،.  محمد حسين هيكل كتب عن ( محمد ) متأثرا بالمستشرقين المعتدلين. كل منهما ( طه حسين وهيكل ) لم يأت بجديد فى كتاباته عن ( محمد ) عليه السلام .، كل منهما تعامل مع كل روايات السيرة بالتسليم والموافقة . لم يناقش أحدهما خرافات الروايات التى كتبها ابن إسحاق فى سيرته ثم نقلها عنه ابن هشام فى سيرته ، ولم يناقش أحدهما تلك الشخصية الزائفة المرسومة للنبى محمد عليه السلام والتى تتناقض مع القرآن ، ولم يتوقف أحدهما مع التطورات فى كتابة السيرة المحمدية و التى كانت تترى وتتم إضافتها عبر القرون فى تزييف صورة النبى محمد  ، فكل من كتب فى السيرة النبوية بعد ابن اسحاق وابن هشام أضاف المزيد والمزيد من الروايات المصنوعة ، بحيث أصبحت شخصة النبى إلاهية تطغى بالوهيتها على رب العزة جل وعلا ، وهى مع إفتراءاتها وكذبها فقد كانت صادقة فى التعبير عن عقائد الناس فى تأليههم للنبى محمد  عبر القرون، وهو برىء مما كتبوه عنه وما إعتقدوه فيه .

5 ــ لم يدخل العقاد وطه حسين فى موضوع الأحاديث ، مع ان الامام محمد عبده كان قد مهّد لهما الطريق ، وكان كلاهما ( العقاد وطه حسين ) من المعجبين بالامام محمد عبده . هذا ، مع التداخل الشديد بين كتاباتهما الدينية والتاريخية وموضوعات تلك الأحاديث التى نقدها الامام محمد عبده ووصفها بأنها آحاد تفيد الظن لا اليقين ، أى لا دخل لها باليقين الايمانى  . بالعكس تعامل كل منهما والجميع مع الأحاديث بمنطق الايمان والتسليم . ولو ناقش أحدهم البخارى ـ فى سيرته عن النبى ـ وهى مذكورة فيما يسمى ( صحيح البخارى ) لأخذته عاصف النقد والتكفير والويل والثبور وعظائم الأمور , كانت علاقة الأزهر ــ وهو مستنقع الجمود ـ بهم طيبة على ما يرام . ولو جاءوا بما يخالف الفكر المألوف للأزهر لأشعل الأزهر عليهم حربا شعواء، تلك الحرب التى طالت الامام محمد عبده نفسه مع قيمته وقامته  . طه حسين لم يصطدم بالأزهر بعد كتابه عن الشعر الجاهلى عام 1926 . إنصاع للهجوم عليه والتحقيق الذى جرى معه فقام بتغيير كتابه الى ( فى الأدب الجاهلى ) وعاش آمنا من سطوة المقلدين الجامدين .  محمد حسين هيكل عندما نشر كتابه عن ( محمد ) كان كل إعتراض الشيوخ عليه أنه لم يكتب العنوان ( محمد صلى الله عليه وسلم ) . الشيوخ كالعادةـ كانوا ولا يزالون  لا يقرأون ، وإذا قرأوا فهو العنوان فقط  . وقرأوا العنوان ، أو قيل لهم إن العنوان هو ( محمد ) فقط فثاروا ، ثم سكتوا . حتى لا يدخلوا فى جدال يكشف جهلهم .

 6 ـ فى نظرة أُفُقية لعصر العقاد نقول :

6 / 1 : كان هناك إاتجاهان متعارضان :

6 / 1 / 1 : المتأثرون بالغرب بدرجات متفاوتة : المنفلوطى ( 1876 ـ 1924  )  كان متأثرا بالفرنسية مع قلة علمه بها ، وبمساعدة مترجمين نقل باسلوبه الرائع بعض الأدب الفرنسى . طه حسين ( 1889 ـ 1973 ) تأثر بالفكر الأوربى الفرنسى والمنهج الديكارتى ،وانعكس هذا فى كتاباته الأولى خصوصا عن الشعر الجاهلى  وانحياز مصر الى ثقافة البحر المتوسط . وجورجى زيدان ( 1861 ــ 1914 ) الذى أجاد عدة لغات مع إجادته المعرفية بتاريخ المسلمين ، وهو رائد الرواية التاريحية ، ولم يأت بعده من يبلغ مقامه فيها . و سلامة موسى ( 1887 ـ 1958 )  القبطى ( الشرقاوى من محافظة الشرقية ) والذى أجاد الانجليزية والفرنسية ، وكان اشتراكيا داعيا للتحديث والعلمانية والفرعونية . ثم العقاد ( 1889 ـ 1964 ).

5 / 1 / 2 : المقلدون المتجمدون مثل مصطفى صادق الرافعى و شاكر . ساعد على سطوة هؤلاء أن مدرسة الامام محمد عبد فى الاصلاح الدينى أوقفها تلميذه الخائن رشيد رضا الذى صار عميلا لعبد العزيز آل سعود ،وقد قام ومعه محب الدين الخطيب بنشر الوهابية تحت مسمى السنة والسلف . ورشيد رضا هو مهندس تأسيس الجمعيات السلفية الوهابية من الشبان المسلمين الى الاخوان المسلمين .

تهاوى المستوى العلمى لأعيان مدرسة الامام محمد عبده ، طه حسين تراجع وكتب فى الاسلاميات يقدم خرافات باسلوب رائع ، العقاد يكتب فى الاسلاميات كتابة سطحية صحفية لا يصدم القارىء . العقاد بالذات كان يعيش على ما يكتب ، وكان حريصا على بيع كتبه مصدرا للرزق . ثم فى ناحية المتخصصين فى الاسلاميات نشهد تراجعا فى المستوى من الشيخ أمين الخولى ( 1895 ـ 1966 ) والشخ محمد ابوزهرة ( 1898 ـ 1974 ) الى الشيخ شلتوت شيخ الأزهر (  1893 ــ 1963) وخالد محمد خالد (  1920 ـ 1996  ) الى أن نصل الى إنطفاء التنوير الدينى وسيطرة الفكر الوهابى السلفى منذ عصر السادات ومبارك لنجد شخصية نادرة تمثل الفكر السلفى المعتدل (  محمد عبد الله السمان : 1917 : 2007 ) رفيق حسن البنا . كان معتدلا بالمقارنة لسيد قطب ومدرسته . فى وسط هذه العتمة وسيطرة الوهابية ونفوذ السعودية ظهر (أهل القرآن ) يجددون مدرسة الامام محمد عبده ويواصلون البناء عليها ، ويعانون الاضطهاد ، ولا يزالون فى معركة البناء والهدم ، هدم الموروث المخالف للقرآن الكريم ، وبناء منظومة فكرية قرآنية تؤكد أن القرآن الكريم وحده هو منهاج خياة مؤسسة على الحرية الدينية والفكرية والسياسية والعدل واسلام والتسامح والاحسان والرحمة و التيسير وحقوق الانسان وكرامته .

6 ـ بالنظر الى عصر العقاد وطه حسين وتلامذتهما وهل يوجد وقتها مفكر حقيقى : أعتبر من وجهة نظر شخصية بأن صفة المفكر تنطبق على الاستاذ أحمد أمين ، دون طه حسين أو العقاد .

هذه لمحة عن عصر ليبرالى مضى وانتهى .. فمتى يعود؟

ألا ترون أننا بسبب الوهابية والأسرة السعودية نتقدم ..الى الخلف ؟

أخيرا

المفكر الحقيقى الذى يسبق عصره ويقيم مدرسة فكرية علمية : لو عاش فى مجتمع حُرّ  أقام له حفلات تكريم  . ولكن الويل له لو عاش فى مجتمع يسيطر عليه دين أرضى يلعب بالدين فى سبيل السياسة . والويل كل الويل له لو كان هذا الدين الأرضى هو الوهابية .

والله جل وعلا خير خافظا وهو أرحم الراحمين . 

اجمالي القراءات 18024