قال : هناك تناقض بين أسماء الله الحسنى
قلت : لا تناقض على الاطلاق فى أسماء الله الحسنى .
قال : هناك تناقض بين الرحيم والمنتقم الجبار .
قلت : لا تناقض إطلاقا بين كونه جل وعلا الرحيم الغفور وكونه جل وعلا المنتقم الجبار ، فهو جل وعلا : (غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ) (3) غافر ) وهو جل وعلا : ( السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ ) (23) الحشر ). لا تناقض هنا لأنه جل وعلا السلام المؤمن التواب الغفور الرحيم الحليم مع من يستحق ، وهو جل وعلا المنتقم الجبار مع الظالمين المعتدين . هذا هو العدل المطلق ، ورب العزة لا يظلم نفسا شيئا ، يقول جل وعلا : (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)الأنبياء ). ورب العزة لا يظلم أحدا ( وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (49)الكهف ) ، بل لا يريد ظلما لأحد : ( وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (108) آل عمران).
قال : إذا كان لا يظلم أحدا فمامعنى أن يكون هو ( القاهر ) ، والقاهر من القهر أى الظلم الشديد . كيف يكون رحيما لا يظلم أحدا ثم يكون القاهر ، بل هناك الوصف بأنه ( القهار ) أى صيغة مبالغة من القاهر ، أى شديد الظلم .
قلت : أنت تفهم خطأ معنى إسم ( القاهر ) ، وهو من أسماء الله جل وعلا الحسنى .
قال : اليس القاهر من القهر ؟ أليس القهر هو الظلم الشديد ؟
قلت له : هذا ما تعرفه من الشائع ، ولكنه ليس المعنى القرآنى للمصطلح القرآنى ( القاهر ) ( القهار ).
قال : فما هو المعنى القرآنى للقاهر / القهار ؟
قلت : نعرف المعنى بمراجعة السياق القرآنى الخاص للكلمة فى السورة ، وسياقها العام فى القرآن الكريم .
قال : كيف ؟
قلت : جاء وصف الله جل وعلا ذاته بالقاهر فى موضعين فقط فى القرآن الكريم فى سورة وحيدة هى سورة ( الأنعام ) . فى الموضع الأول فى سياق وصفه جل وعلا أنه لا إله إلا هو ، وانه لا ولى غيره ، وانه وحده الذى يملك النفع والضرر ، وليس هذه الأولياء المعبودة ، وانه يجب أن يُسلم الفرد نفسه لرب العزة جل وعلا ، وأن النبى نفسه يعلن أنه يخاف ربه جل وعلا وعذابه العظيم إن عصى ، وأنه جل وعلا يشهد أنه لا إله إلا هو وأنه هو الذى أنزل القرآن ، وهذه هى الشهادة الواجبة ، فمن لم يشهد بهذا الناس فعلى النبى والمؤمنين إعلان البراءة من شركهم وكفرهم ، وليس منهم كأشخاص . هذا فحوى قوله جل وعلا : ( قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلْ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19) الانعام )
قال : أوقعتنى فى متاهة مع كل هذه الآيات . أريد أن أعرف بالتحديد : ماذا تعنى كلمة ( القاهر ) هنا ؟
قلت : تمعّن فى سياق الآيات ، والذى جاء فيه قوله جل وعلا : (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18). قبل الآية (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) فالقاهر فوق عباده يعنى الذى يملك وحده سُلطة التحكم فيهم . وفى نفس الآية : (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) أى قال (ِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18)) ولم يقل ( وهو المنتقم الجبار شديد العقاب ) ، أى فالقاهر بمعنى ( المهيمن ) عن حكمة وخبرة فهو ( الحكيم ) ( الخبير ) وليس المنتقم الجبار شديد العقاب.
قال : اليس فى التحكم ظلم للبشر ؟
قلت : يقول جل وعلا فى معنى التحكم هذا : (مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا ) (56) هود) . رب العزة جل وعلا هو الذى يسيطر على جسدك ، قلبك يعمل بأمره وكذلك كل أجهزتك الحيوية ، وقد أوكل الى نفسك تسيير هذا الجسد ، فهى لها الحرية المطلقة فى أن تسعى بهذا الجسد فى طريق الكفر والعصيان أو طريق الطاعة والايمان . فالنفس لها تمام الحرية فى الايمان أو الكفر وفى الطاعة أو المعصية ، ولكن الله جل وعلا هو أيضا الذى يسجل على كل نفس عملها إن خيرا أو شرا ، ليحاسبها طبقا لهذه الحرية الممنوحة لها فى هذه الحياة الدنيا . هذا معنى ( القاهر فوق عباده ) ومعنى ( المهيمن ).
قال : بهذا افهم الصلة بين (القاهر فوق عباده ) والدعوة الى أنه ( لا إله إلا الله ) وأنه ( لا ولى معبود ومقدس سوى الله ) .
قلت : وتفهم أيضا أن معنى القاهر فوق عباده أنه هو وحده (فَاطِرِ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ ). هو وحده الذى ( فطر ) أى خلق السماوات والأرض من لاشىء ، وهو وحده الذى يطعم غيره ولا يطعمه غيره .
قال : تقصد أن وصف ( القاهر ) خاص بالله جل وعلا وحده ولا يصح أن يوصف به غيره ؟ قلت : نعم . والدليل أنه يأتى جملة كاملة (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ) ، فهو القاهر فوق مخلوقاته المهيمن عليهم .
قال : بالتالى فهذه المخلوقات المعبودة هى مقهورة بمعنى أنها مثلنا تحت هيمنة القاهر فوق عباده ؟
قلت : صدقت . وأعطيك مثلا : تخيل واحدا من الأشخاص المقدسين ، له عينان يستطيع أن يرى بهما ، و يستطيع أن يغمضهما فلا يرى ما لا يحب . وله سمع يسمع به ما يشاء ، ويمكن ان يضع أصبعه فى إُذنيه فلا يسمع ما يريد . هذه الحرية تملكها كل نفس تتحكم بها فى الحواس والسمع والبصر واليدين والقدمين ، اليس كذلك ؟
قال : نعم
قلت : فهل معنى هذا أنك ــ أى نفسك ـ أو نفس هذا الولى المقدس تملك هذه الحواس ؟ هل تملك النفس سمعها وبصرها ؟
قال : لا أعتقد ، لأنها لو تملك السمع والبصر والقدمين واليدين ما حدث مرض للعين أو الأذن أو اليد أو القدم . هذه الحواس التى نتصور التحكم فيها لا نستطيع حمايتها من الضعف ومن المرض ، بل قد نفقدها .
قلت : صدقت ، لأن القاهر فوق عباده هو الذى يملك وحده سمعنا وأبصارنا . ولا يستطيع كافر مهما بلغ كفره أن يجادل فى هذا . وإقرأ قوله جل وعلا : ( قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (31) يونس ) الله وحده هو الرزاق الذى بيده أن يجعل هذا فقيرا بعد أن كان ثريا وأن يجعل ذاك غنيا بعد أن كان فقيرا ، وهو وحده جل وعلا الذى يملك السمع والأبصار ، وهو وحده الذى يخرج الحى من الميت والميت من الحى ، وهو وحده الذى يدبر الأمر فى السماوات والأرض . بإختصار : هو وحده القاهر فوق عباده .هذا هو الحق ، وما بعده وما سواه ضلال ، لذا يقول جل وعلا فى الآية الكريمة التالية : ( فَذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّا تُصْرَفُونَ (32) يونس ). صدق الله العظيم جل وعلا القاهر فوق عباده .
قال : هذا هو الموضع الأول فى سورة الأنعام الذى جاء فيه ( القاهر فوق عباده ) فماذا عن الموضع الآخر ؟
قلت : إقرأ السياق الذى جاء فيه فى قوله جل وعلا : ( وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (60) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمْ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62) الانعام ).
قال : جملة ( وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ) جاءت هنا مسبوق بآيتين ، وجاءت فى الآية الثالثة وبعدها آية رابعة .
قلت : ما معنى الآيتين قبل ( وهو القاهر فوق عباده )
قال : أنت الآن الذى تسأل وأنا الذى أجيب .!
قلت : أريد أن تتدبر بنفسك الآيات البينات الواضحات .
قال : يقول الله جل وعلا : ( وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)) يعنى أنه جل وعلا وحده الذى يعلم الغيب ، وان علمه بالغيب يصل الى العلم بما فى البر وما فى البحر بحيث لا تسقط ورقة إلا يعلم بها ، ولا تنبت حبة فى ظلمات الأرض إلا يعلم بها ، ولا شىء يغيب عن علمه من رطب ولا يابس ، وان كل شىء مسجل ومكتوب .
قلت : رائع . فكيف يمكن أن تختصر هذا العلم الالهى الكامل الشامل فى وصف واحد ؟
قال : هذا يعنى أنه القاهر . ولكن ؟
قلت : ولكن ماذا ؟
قال : هنا فى هذه الاية تمام العلم الالهى بالبر والبحر والانسان ضمن الأحياء فى هذه الأرض ، ولكن الاية تقول أنه القاهر فوق عباده ، يعنى نحتاج الى تخصيص بالانسان .
قلت : هذا ما جاء فى الاية التالية : ( وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (60)).
قال : أحتاج الى التوضيح
قلت : الله جل وعلا هو الذى يتوفانا بالليل . والوفاة تعنى هنا النوم ، والوفاة فى هذه الدنيا تعنى النوم والموت ، يقول جل وعلا : ( اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) الزمر). فالله جل وعلا يتوفانا كل يوم بالنوم ليلا ، بينما يسجل عملنا بالنهار ، أى يعلم ما جرحنا اى ما عملت جوارحنا فى يقظة النهار . ثم يبعثنا بالاستيقاظ نهارا ، وهنا التعبير من ( وفاة النوم ) الى ( البعث باليقظة ) ونظل هكذا بين نوم ويقظة الى ان يأتى الأجل المسمى بالموت أو وفاة الموت لكل نفس . وبعد أن تدخل كل نفس إختبار هذه الحياة الدنيا تاتى الساعة ونرجع الى الرحمن جل وعلا فيخبرنا بما كنا نعمل فى هذه الدنيا ، ويحاسبنا على عملنا ، ولا نستطيع منه فرارا ، وهذا معنى (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ) الى جاءت فى مطلع الآية التالية .
قال : ارى انها توسطت بين آية سابقة وآيتين لاحقتين فما صلة هذا بكون الله جل وعلا القاهر فوق عباده ؟
قلت : نسترجع الآيات ، يقول جل وعلا : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (60) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمْ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62) الانعام ). قبلها تحكم الله جل وعلا فينا بالنوم . لا يستطيع البشر الحياة بدون نوم . لا بد أن تنام ، ولا مهرب من النوم الذى فرضه عليك القاهر فوق عباده . كما لا تستطيع الافلات من تسجيل أعمالك الذى تقوم به الحفظة من الملائكة ، ثم تأتى ملاكة الموت ، ثم يوم البعث تأتى كل نفس مقبوضا عليها بإثنين من الملائكة : سائق وشهيد . وفى هذا يقول جل وعلا : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنْ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) ق ). هذه الايات الكريمة تشرح معنى كونه جل وعلا هو وحده القاهر فوق عباده . وهى تؤكد ايضا قوله جل وعلا عن تسجيل أعمالنا وعن موتنا ورجوعنا الى الله جل وعلا ليحاسبنا (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمْ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62) الانعام ). أنت الآن لا تستطيع الافلات من النوم ، ولا تستطيع الافلات من تسجيل أعمالك ، ولن تستطيع الافلات من الموت ، ولن تستطيع الافلات من البعث والحشر و لقاء الله جل وعلا يوم الحساب . لا يستطيع أحد الغياب فى هذا اليوم . يقول جل وعلا عن تسجيل أعمالنا فى هذه الحياة الدنيا ومصيرنا الى الله جل وعلا : (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَاماً كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) الانفطار ). ما من أحد سيغيب عن هذا اليوم الذى لا ريب فيه . وهذا معنى القاهر فوق عباده . يقول القاهر فوق عباده عن هذا اليوم : ( ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) هود ).
قال : هذا عن السياق الخاص بالقاهر فو ق عباده فى سورة الانعام وحدها . فماذا عن السياق العام فى القرآن الكريم كله ؟
قلت : هذا يستلزم كتابا كاملا فى التدبر القرآنى ، ولكن جئت ببعضه على سبيل الاختصار فى الآيات الكريمة التى تشرح معنى كونه جل وعلا القاهر فوق عباده .
قال : لماذا يأتى التعبير بالقهار ، وهو صيغة مبالغة من ( القاهر فوق عباده ) ؟
قلت : نعرف ذلك من السياق القرآنى الذى ورد فيه ( القهار ). فكما ارتبط وصف القاهر بكلمتى ( فوق عباده ) فإن وصف ( القهار ) ارتبط بوصف ( الواحد ) ، أى ( الواحد القهار ).
قال : لا أفهم .
قلت : ما معنى وصف الرحمن بأنه الواحد ؟
قال : يعنى الرد على من يجعل آلهة مع الله ، فالله جل وعلا واحد لا شريك له ولا شريك معه ، ولا إله ثان معه .
قلت : وبالتالى فإن الرد على من يؤمن بتعدد الالهة مع الله أن يأتى وصف (القهار ) مقرونا بوصف ( الواحد ) ، أى ( الواحد القهار ).
قال : اين الدليل من القرآن الكريم ؟
قلت : المحمديون ـ مثلا ــ صنعوا الاها أسموه محمدا جعلوا له التحكم فى يوم الدين والحياة الأبدية فى قبره حيث تُعرض عليه الأعمال البشرية ، وقصدوه بالحج والتوسل بالقبر المقدس المنسوب اليه ، وجعلوه شريكا لله جل وعلا فى الشهادة بالاسلام وفى الأذان والصلاة والتشريع . ثم بعد أتفاقهم على هذا تخصصوا باضافات ، منهم من يقدس ( آل البيت ) ومنهم من يقدس الصحابة والأئمة ، ومنهم من يقدس الأولياء الصوفية . الله جل وعلا يأمر بأن نحاورهم ونسألهم : ( قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ قُلْ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لا يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرّاً قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ ) ثم نقول نحن الاجابة :( قُلْ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16) الرعد ). أى مقابل زعمهم هذا وتطرفهم فى الكفر يأتى الرد بالتأكيد على أن المستحق وحده للتقديس والعبادة والألوهية هو خالق كل شىء الواحد القهار .
قال : سبحانه وتعالى الواحد القهار .
قلت : وقد أمر رب العزة رسوله أن يقول ردا عليهم : ( قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65) ص ) وقال جل وعلا فيمن يتخذ البشر واسطة : ( أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4) الزمر ). وقد قال يوسف عليه السلام يدعو رفيقيه فى السجن : ( يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمْ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39)يوسف )
قال : المشركون يظنون أنفسهم على الحق ، ولكن يوم لقاء الله الواحد القهار سيعلمون الحق .
قلت : صدقت . يقول جل وعلا عن يوم القيامة : ( يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48) ابراهيم ). ويقول جل وعلا ايضا : ( يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) غافر ).
قال : سبحان الواحد القهار .. أفهم من هذا أنه طالما أن القاهر القهار صفة لرب العزة جل وعلا وحده فلا يصح أن يوصف بها مخلوق .
قلت : من غرائب تاريخنا العربى أن من تلقب بالقاهر من الحكام كان مقهورا ، فصاحب حمص الأيوبي وأسمه محمد بن شيركوه تلقب بالملك القاهر فأصابه المرض ومات مسموما يوم وقفة عرفات سنة 581 هجرية . أما أسوأ الحكام حظا وعقلا فكان الخليفة العباسي الشاب محمد بن المعتضد الذي تولى الخلافة بعد أخيه المقتدر وسمّى نفسه القاهر ، وقد تولى الخلافة سنة 320 هجرية وعمره حوالي 23 عاما وسملوا عينيه بالحديد المحمى بالنار ، وعزلوه بعد أقلّ من عامين ، وتعرض للقهر بالمفهوم الشائع ، وظل ( القاهر ) مقهورا محبوسا مكفوف البصر حتى سنة 333 هـ ثم أخرجوه إلى دار ابن طاهر ، ثم كانوا تارة يحبسونه وتارة يفرجون عنه ، وكان يتسول على ابواب المساجد إلى أن مات سنة 339 هـ عن ثلاث وخمسين سنة ..!!
وجوهر الصقلى أنشأ ( القاهرة ) يظن أنها ستقهر الأعداء ، فكان أن اصبحت أكثر مدينة يغزوها الأعداء ، إحتلها الأيوبيون والمماليك والعثمانيون ونابليون والانجليز ..ومن الأفضل أن يقال عنها ( كايرو ) وخلاص ..!!