اختصارا..ً لا يعتقد الكثيرون أن بقاء أبو القاسم الشابي حياً، في أيامنا هذه كان سيفرق كثيراً، فبعض الأشخاص يتركون خلفهم كلمات تبقي حية ونابضة أكثر من أصحابها، وأكثر أيضاً من أشخاص يعيشون بيننا وكلماتهم تعاني من "موت إكلينيكي" من سنوات بعيده..
أما كلمات الشابي كانت لها القدرة على أن تعيش وتنتشر وتتوغل ويتمخض عنها مليون كلمة وفعل وثورة.. هذا الشاب النحيل، لعن وسب وهاجم الطغاة والاحتلال، عندما كان فرنسياً ينهش خيرات بلاده، ومات قبل أن يرى بلده تحرر.. ومرت سنوات وسنوات، وعاد الاحتلال مرة أخري، ولكن بنكهة محلية، لتعود بدورها كلماته مجدداً لتلهب حماس ملايين الشباب التونسي، الذي استخدم كلماته كسلاح، وطلقة مدوية، ضد الظلم والاستبداد، في كل مكاناً وأوان، فكانت جائزتهم الحرية.. لان لديهم "إرادة الحياة".
هذا الشاب الأسمر الأبي، أبو القاسم محمد الشابي ، كان الولد البكري لوالده الشيخ القاضي الأزهري محمد الشابي، وكان مولد أبو القاسم -على الأرجح- عام 1909، في بلده "الشايبة"، ومنها استقى اسمه، وهى احد مدن منطقة "توزر" جنوب تونس الجميلة، وقبل أن يكمل الخامسة من عمره التحق أبو القاسم بأحد "كتاتيب" قريته، فأتم حفظ القران الكريم، وهو في التاسعة من عمره، مما كان له عظيم الأثر علي شعريته، وتمكنهم من مفردات العربية، وظهر اثر حفظه للقران في مفردات أشعاره التي ابتعد في أكثرها عن استخدام كلمات ذات صبغة محلية، تحول دون أن يفهم قصائده أي مواطن عربي.
في جامعة الزيتونة العريقة، أتم تعليمه في مدرسة الحقوق، وبدأت موهبة الشعرية من هنا تنضج في سن مبكرة وهو دون العشرين عمره، وقبل أن ينتهي من دراسته بقليل، داهمته أعراض مرضية في قلبه، شعر بسببها بالإجهاد وبآلام استعصي على جسده النحيل أن يتحملها، ولكنه صبر قدر إمكانه، وظل فترة يتعامل مع المرض باعتباره عرضا زائلاً، حتى عام 1929 عندما لم يجد مقر من استشارة طبيب، أمام رغبة والده الملح في تزويجه، خاصة وانه اكبر أولاده.
ورغم أن طيب أبو القاسم الشابي، حذره من خطورة الزواج علي حياته، إلا إنه فضل ألا يغضب والده، فابقي الأمر سراً، وبالفعل تزوج، وحسب ما أقره معاصريه، فانه استمر في نشاطه غير عابئ بآلامه، ويقول عن هذه الفترة:" آه يا قلبي ! أنت مبعث آلامي ومستودع أحزاني وأنت ظلمة الأسى"، وفى عام 1932 اشتد عليه المرض، وبقى فترات طويلة في المستشفي، وخرج منها، ليقوم برحلة ما بين مدن الجزائر وتونس، ليشتد عليه المرض أكثر وأكثر. لتقترب النهاية أكثر فأكثر !!
ورغم مرضه الشديد في أخر أيامه، إلا انه لم يتوقف عن التحرك والتنقل، وعن كتابة الشعر، فراح ينظم قصائده ويطلقها في كل اتجاه، حتى اقتربت النهاية، ولم يعد هناك مفر أو مهرب من الموت، فسلم الروح إلي خالقها، في مستشفى الطليان في العاصمة التونسية، وكان وقتها شاباً لم يبلغ بعد الخامسة والعشرين من عمره، وكانت وفاة يوم التاسع من أكتوبر من عام 1934 فجراً في الساعة الرابعة من صباح يوم الثلاثاء الموافق لليوم الأول من رجب سنة 1353 هـ.
أكثر ما يمكن أن يعبر عن هذا الشاب العربي الأصيل، قصيدته الخالدة "ارادة الحياة"، التي كتبها قبل عام تقريباً من رحيله.
إرادة الحياة قصيدة نظمها أبو القاسم الشابي "التونسي"
إذا الشّعْبُ يَوْمَاً أرَادَ الْحَيَـاةَ فَلا بُدَّ أنْ يَسْتَجِيبَ القَـدَر
وَلا بُـدَّ لِلَّيـْلِ أنْ يَنْجَلِــي وَلا بُدَّ للقَيْدِ أَنْ يَـنْكَسِـر
وَمَنْ لَمْ يُعَانِقْهُ شَوْقُ الْحَيَـاةِ تَبَخَّـرَ في جَوِّهَـا وَانْدَثَـر
فَوَيْلٌ لِمَنْ لَمْ تَشُقْـهُ الْحَيَاةُ مِنْ صَفْعَـةِ العَـدَم المُنْتَصِر
كَذلِكَ قَالَـتْ لِـيَ الكَائِنَاتُ وَحَدّثَنـي رُوحُـهَا المُسْتَتِر
وَدَمدَمَتِ الرِّيحُ بَيْنَ الفِجَاجِ وَفَوْقَ الجِبَال وَتَحْتَ الشَّجَر
إذَا مَا طَمَحْـتُ إلِـى غَـايَةٍ رَكِبْتُ الْمُنَى وَنَسِيتُ الحَذَر
وَلَمْ أَتَجَنَّبْ وُعُـورَ الشِّعَـابِ وَلا كُبَّـةَ اللَّهَـبِ المُسْتَعِـر
وَمَنْ لا يُحِبّ صُعُودَ الجِبَـالِ يَعِشْ أَبَدَ الدَّهْرِ بَيْنَ الحُفَـر
فَعَجَّتْ بِقَلْبِي دِمَاءُ الشَّبَـابِ وَضَجَّتْ بِصَدْرِي رِيَاحٌ أُخَر
وَأَطْرَقْتُ ، أُصْغِي لِقَصْفِ الرُّعُودِ وَعَزْفِ الرِّيَاح وَوَقْعِ المَطَـر
وَقَالَتْ لِيَ الأَرْضُ - لَمَّا سَأَلْتُ : " أَيَـا أُمُّ هَلْ تَكْرَهِينَ البَشَر؟"
"أُبَارِكُ في النَّاسِ أَهْلَ الطُّمُوحِ وَمَنْ يَسْتَلِـذُّ رُكُوبَ الخَطَـر
وأَلْعَنُ مَنْ لا يُمَاشِي الزَّمَـانَ وَيَقْنَعُ بِالعَيْـشِ عَيْشِ الحَجَر
هُوَ الكَوْنُ حَيٌّ ، يُحِـبُّ الحَيَاةَ وَيَحْتَقِرُ الْمَيْتَ مَهْمَا كَـبُر
فَلا الأُفْقُ يَحْضُنُ مَيْتَ الطُّيُورِ وَلا النَّحْلُ يَلْثِمُ مَيْتَ الزَّهَــر
وَلَـوْلا أُمُومَةُ قَلْبِي الرَّؤُوم لَمَا ضَمَّتِ المَيْتَ تِلْكَ الحُفَـر
فَوَيْلٌ لِمَنْ لَمْ تَشُقْـهُ الحَيَـاةُ مِنْ لَعْنَةِ العَـدَمِ المُنْتَصِـر!"
وفي لَيْلَةٍ مِنْ لَيَالِي الخَرِيفِ مُثَقَّلَـةٍ بِالأََسَـى وَالضَّجَـر
سَكِرْتُ بِهَا مِنْ ضِياءِ النُّجُومِ وَغَنَّيْتُ لِلْحُزْنِ حَتَّى سَكِـر
سَأَلْتُ الدُّجَى: هَلْ تُعِيدُ الْحَيَاةُ لِمَا أَذْبَلَتْـهُ رَبِيعَ العُمُـر؟
فَلَمْ تَتَكَلَّمْ شِفَـاهُ الظَّلامِ وَلَمْ تَتَرَنَّـمْ عَذَارَى السَّحَر
وَقَالَ لِيَ الْغَـابُ في رِقَّـةٍ مُحَبَّبـَةٍ مِثْلَ خَفْـقِ الْوَتَـر
يَجِيءُ الشِّتَاءُ ، شِتَاءُ الضَّبَابِ شِتَاءُ الثُّلُوجِ ، شِتَاءُ الْمَطَـر
فَيَنْطَفِىء السِّحْرُ ، سِحْرُ الغُصُونِ وَسِحْرُ الزُّهُورِ وَسِحْرُ الثَّمَر
وَسِحْرُ الْمَسَاءِ الشَّجِيِّ الوَدِيعِ وَسِحْرُ الْمُرُوجِ الشَّهِيّ العَطِر
وَتَهْوِي الْغُصُونُ وَأَوْرَاقُـهَا وَأَزْهَـارُ عَهْدٍ حَبِيبٍ نَضِـر
وَتَلْهُو بِهَا الرِّيحُ في كُلِّ وَادٍ وَيَدْفنُـهَا السَّيْـلُ أنَّى عَـبَر
وَيَفْنَى الجَمِيعُ كَحُلْمٍ بَدِيـعٍ تَأَلَّـقَ في مُهْجَـةٍ وَانْدَثَـر
وَتَبْقَى البُـذُورُ التي حُمِّلَـتْ ذَخِيـرَةَ عُمْرٍ جَمِـيلٍ غَـبَر
وَذِكْرَى فُصُول ٍ ، وَرُؤْيَا حَيَاةٍ وَأَشْبَاح دُنْيَا تَلاشَتْ زُمَـر
مُعَانِقَـةً وَهْيَ تَحْـتَ الضَّبَابِ وَتَحْتَ الثُّلُوجِ وَتَحْـتَ الْمَدَر
لَطِيفَ الحَيَـاةِ الذي لا يُمَـلُّ وَقَلْبَ الرَّبِيعِ الشَّذِيِّ الخَضِر
وَحَالِمَـةً بِأَغَـانِـي الطُّيُـورِ وَعِطْرِ الزُّهُورِ وَطَعْمِ الثَّمَـر
وَمَا هُـوَ إِلاَّ كَخَفْـقِ الجَنَاحِ حَتَّـى نَمَا شَوْقُـهَا وَانْتَصَـر
فصدّعت الأرض من فوقـها وأبصرت الكون عذب الصور
وجـاءَ الربيـعُ بأنغامـه وأحلامـهِ وصِبـاهُ العطِـر
وقبلّـها قبـلاً في الشفـاه تعيد الشباب الذي قد غبـر
وقالَ لَهَا : قد مُنحـتِ الحياةَ وخُلّدتِ في نسلكِ الْمُدّخـر
وباركـكِ النـورُ فاستقبـلي شبابَ الحياةِ وخصبَ العُمر
ومن تعبـدُ النـورَ أحلامـهُ يباركهُ النـورُ أنّـى ظَهر
إليك الفضاء ، إليك الضيـاء إليك الثرى الحالِمِ الْمُزْدَهِر
إليك الجمال الذي لا يبيـد إليك الوجود الرحيب النضر
فميدي كما شئتِ فوق الحقول بِحلو الثمار وغـض الزهـر
وناجي النسيم وناجي الغيـوم وناجي النجوم وناجي القمـر
وناجـي الحيـاة وأشواقـها وفتنـة هذا الوجـود الأغـر
وشف الدجى عن جمال عميقٍ يشب الخيـال ويذكي الفكر
ومُدَّ عَلَى الْكَوْنِ سِحْرٌ غَرِيبٌ يُصَـرِّفُهُ سَـاحِـرٌ مُقْـتَدِر
وَضَاءَتْ شُمُوعُ النُّجُومِ الوِضَاء وَضَاعَ البَخُورُ ، بَخُورُ الزَّهَر
وَرَفْرَفَ رُوحٌ غَرِيبُ الجَمَالِ بِأَجْنِحَـةٍ مِنْ ضِيَاءِ الْقَمَـر
وَرَنَّ نَشِيدُ الْحَيَاةِ الْمُقَـدَّسِ في هَيْكَـلٍ حَالِمٍ قَدْ سُـحِر
وَأَعْلَنَ في الْكَوْنِ أَنَّ الطُّمُوحَ لَهِيبُ الْحَيَـاةِ وَرُوحُ الظَّفَـر
إِذَا طَمَحَتْ لِلْحَيَاةِ النُّفُوسُ فَلا بُدَّ أَنْ يَسْتَجِيبَ الْقَـدَرْ