لم أنكر يوماً افتتاني بالشيوخ ..ولكن هذا الحب لم يصل أبداً لدرجة العشق والتقديس حتى أدافع عنهم بالحق والباطل، كانوا لدي مجرد.."مثقفين"..يملكون المعلومات، حتى وإن اختلفنا حول معنى الثقافة، إلا أن فترة المراهقة الفكرية قد تقبل أي وضع تحت معنى الثقافة، إَضافة إلى اهتمامهم-عندي-بالوعظ والإرشاد الذي يعكس صفاء النفس وسمو الروح.
هذه إحدى الخلفيات لقبول المشايخ في وسطنا العربي والإسلامي، ليس هكذا فقط..بل هم كذلك في كل الأديان، لأن الدين في طبيعته يخاطب الروح والعقل معاً في عملية ذهنية وقلبية مزدوجة تجعل من المتلقي مجرد ألعوبة يحركها المشايخ كيفما يريدون، بل أحيانا يُلقي الرجل نفسه في التهلكة –طاعةً للشيخ-وهو يظن أنه بذلك سيفوز بالخلود الأبدي في الجنة التي فيها ما لا عينُ رأت ولا أذنُ سمعت ولا خطر على قلب بشر..
هذه العلاقة ..علاقة.."الشيخ بالجمهور".. قائمة على أصلين اثنين الأول: هو الحب، فالشيخ يحب جمهوره كونه من يقوم على الدين في المجتمع، والعكس صحيح كون الشيخ هو الرمز المقدس والمعنى الأخلاقي والثقافي لدى العامة..الثاني :هو المنفعة ، فالشيخ ينتفع من جمهوره كونه يُعطيه مكانته الدينية والاجتماعية التي يحلم بها أي بشر، والعكس صحيح كون الشيخ لدى جمهوره من يحقق له رغباته في التملك وإقناعه بامتلاكه حقائق الدنيا والآخرة دون أدنى اعتقاد بشراكة غيره في تلك الحقائق.
وهذا يعني أن جمهور المشايخ لديه رغبة في التفرد والتملّك أساساً، ولولا أن الشيخ يحقق له تلك الرغبة ما سمعه ولجادله فيما يدعي.
وقد تنتج من هذه العلاقة جرائم دموية نتيجة لهذا التفرد ، وهي نتائج طبيعية لأي علاقة محرمة بين قائد وجمهور يؤمنان بامتلاكهما الحق المطلق وجهادهما لذلك الغرض، لذا يستوي في ذلك مشايخ الدين وقادة السياسة العنصرية الذين أشعلوا حروباً دموية هلكت فيها الملايين..وإذا كان السياسيون أجرموا بدافع الاستعمار والتوسع فالدافع الديني عند المشايخ أقوى كون استعمارهم للشعوب عن توقف مصيرهم الأخروي على نجاح ذلك الاستعمار ..أو على الأقل إخلاصهم للقائد والمعنى من وراء هذا الشحن العسكري ضد الآخرين.
رغم أن المشايخ قد لا يملكون النص الديني المُحفّز لهم على الاستعمار وقهر الشعوب، ولوفرة النصوص الدينية في الإسلام الداعية إلى التسامح ونبذ العنف..والإقرار بحقوق الآخرين انطلاقاً من بدهية الاختلاف..قال تعالى.." ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين" [هود : 118]..وهذا يعني أن السؤال الديني لا يقوم أساساً على من يملك الحقيقة..بل يقوم على سؤال حاسم وهو كيف نحكم هذا الخلاف، أو بعبارة أخرى كيف ننظم شئون حياتنا تحت مظلة الاختلاف..
ولأن علاقة المشايخ بالجمهور قائمة على الحب والمنفعة معاً فيستحيل لهم إقرار هذا السؤال والاعتراف بشرعيته لأنه ينزع عنهم ما يملكونه أو فازوا به من خلال تلك العلاقة (المحرمة).
بمعنى أن أي علاقة قائمة على الحب فأطرافها يمرضون بخطايا الحب الطبيعية وهي.."الأنانية وحب التملّك"..فالشيخ أناني لن يقبل بشريك له ينازعه حبه عند الجمهور، وكذلك لديه من حب التملك والسيطرة ما يكفيه لإشاعة أهليته لقيادة الأمة، وهي صفات موجودة عند كل زعيم، بمعني أن الشيخ هنا في حقيقته زعيم ديني أراد أن يمتلك الدنيا بما فيها..ولن يفلت من هذه المشاعر سوى من رضي بالقليل وزهد عن متاع الدنيا، بمعنى أنه قَبِل أخيراً له شريكاً في الملك والهيمنة على الناس.
في تقديري أن دور المشايخ هو محفز طبيعي للصراعات وخصوصاً المذهبية، وفي أوقات الفتن أعلم أن كل المشايخ الفاعلين فيها لا يملكون طاقة زهد -ولو قليلة –تمنعهم من التفرد والأنانية..وتمنعهم كذلك من ادعاء امتلاك الحق المطلق، فهم –حينها-كالعوام ..مجرد جَهَلَة قصيري النظر وانتهازيون أفّاقون.. أفكارهم مشوّشة..صعب عليهم الاعتراف بذلك لمعاناتهم من حُب التملك الذي يسيطر عليهم كونه عنصر أساسي في علاقتهم بالجمهور.