تظن الحكومات المستبدة أنه بمقدورها السيطرة على حركة الفكر أو تقييدها مؤقتاً أو تدجينها لمصالح سياسية..وتظن كذلك أنه وبامتلاكها القوى الموجودة .."المرئية"..يعني امتلاكها حق الإدارة وقوة التوجيه والحشد..ولكن هذه الرؤية تصلح لزمن غير الزمن الذي نعيش فيه، أو بتعبير آخر.."فات المعاد"..لأن هناك واقعاً يفرض نفسه وقوى ناعمة –وغير ناعمة-تتحرك بحرية بعيداً عن أعين السلطة وأذرعها.
مبدئياً فالقوى المرئية هي التي ترصدها الدولة والمجتمع كالحكومة مثلاً أو الاقتصاد أوالقضاء أوالبرلمان..وخارجيا كمجلس الأمن والاتحاد الأوروبي والأفريقي..أو تكتلات اقتصادية أو اجتماعية أو عسكرية أو دينية.. والرصد هنا بمعنى التحكم أو قدرة السيطرة أو التأثير ، وبالتالي هي قوى مرئية يسهل استعمالها لأغراض.
أما القوى الغير مرئية فهي التي لا ترصدها الدولة وبالتالي تعجز عن التحكم في أدواتها أو تحديد آليات عملها..هي في الأخير قوى غير مرئية توجد لها آليات خاصة متفقة مع طبيعتها وقدرة أصحابها..هذه القوى هي أكبر تهديد للدول والحكومات خصوصاً المستبدة..ونتيجة لعدم الانتباة لها سقطت أنظمة سياسية بل سقطت دول وشعوب بالكامل، وقامت حروب دون أن يفطن البعض لوجود هذه القوى وحقيقة تأثيرها.
يمكن تلخيص هذه القوى في ثلاثة :
الأولى: هي الإنترنت..حيث تتربع هذه القوة على عرش جميع القوى الموجودة بعيدة عن أعين وأذرع الحكومة،ومن هذه القوة شاع مفهوم.."الدين قضية شخصية "..بعد ما كان مجرد الإشارة لهذا المفهوم يستوجب التكفير واللعن..كذلك نشر ثقافة الرأي والرأى الآخر بعد تعدد الصراعات الألكترونية وحملات التوجيه والحشد..وهو ما يعني زرع الشك في أي معلومة تأتي دون الحصول على ضمانات أو التعرف على الوجهة الأخرى.
الإنترنت سمح للمبعدين من السلطات والمهددين بالتواصل مع المجتمع، قديماً لم يكن ذلك متوفراً في الصحف الورقية أو في التلفزيون والإذاعة لاعتبارات تتعلق بمحدودية التواصل، ولسهولة السيطرة على ذلك النوع من الإعلام كونه يصدر أساساً من الدولة.
القوة الثانية: هي الفضائيات..حيث نقلت الإعلام التلفزيوني والإذاعي من النطاق المحلي للعالمية، وهنا اطلعت الشعوب على ثقافات أخرى وأديان أخرى لم يكن بخلدها أنها موجودة، وقد ساهمت القوة العليا الأولى-الإنترنت-في تعزيز الإعلام الفضائي وإعطائه دوراً تكميليا مرشداً..وكذلك زيادة معدل الإعلام وإكسابه زخماً في المادة الإعلامية كماً وكيفاً..
بمعنى أن الإعلام الفضائي لم يكن بوسعه الاطلاع على الأحداث بشكل أكثر دقة أو عرضها بشكل صحيح، ثم جاء الإنترنت وساعد الإعلام الفضائي في تنويع مواده علاوة على العرض الجيد المعتمد أكثر على مواقع الإنترنت المرئية كاليوتيوب.
ميزة الإعلام الفضائي أنه يخاطب أكثر الشعوب العربية كون ثقافتها سمعية، قبل ذلك بذل المثقفون جهوداً في التنوير لم تؤتِ أكلها ، وفي تقديري أن الحركة الثقافية العربية فشلت لأنها اعتمدت في حركتها على.."المواطن القارئ"..وهذا النوع من المواطنين قليل أو نادر الوجود، وقد فطن لذلك مثقفون أمثال..."مراد وهبة"..وبنى فلسفته على الاحتكاك برجل الشارع، ورفض بالكلية مبدأ الحوار في الغرف المغلقة كونه أكثر ضرراً على المثقف ويعزله عن العالم ويُعطيه مساحة أيدلوجية مساوية للحركات الأصولية.
الفضائيات عالجت هذه المشكلة وأعطت مراد وهبة ميزة الاحتكاك، ولكن ظلت أجهزة الدولة والحكومات -بحُكم وصايتها على الإعلام-متسلطة على القنوات، فأصبح نشاط التنوير وخموله مرهون برغبة الحكومة ومؤسسات الدولة، وفي مصر تدخل الأزهر في عملية التنوير وحرّض على المثقفين كونه مدعوم من الدولة، فلو لم يكن مدعوماً ما تجرأ على التحريض أو المنع، بمعنى أنه لو ظل مجرد .."مؤسسة تعليمية"..لا دخل له بالسياسة ولا بأديان المواطنين ما امتلك حق التدخل.
القوة الثالثة: هي الصراعات وخصوصاً المذهبية..حيث تعيش المنطقة العربية أجواء صراع مذهبي في أكثر من دولة كالعراق وسوريا واليمن ولبنان..إضافة إلى صراع أصولي آخر في مصر وليبيا..جميع هذه الصراعات هي نتاج .."للثورة السلفية"..في العقود الخمسة الأخيرة، وهي التي اشتهرت عند المتدينيين .."بالصحوة الإسلامية"..وهي في الحقيقة كانت ثورة سلفية صنعت داعش والقاعدة والإخوان وكل الحركات الأصولية.
سبب إيماني أنها أحد القوى الغير مرئية أنها جاءت بالتوافق مع ثورة الاتصالات وعصر الصورة، فشاعت مشاهد العنف حتى خلقت ردود أفعال سلبية جراء ما يحدث، وأخذت موقفاً من أصحاب هذه المشاهد وكل من يدعو لها، وهو التعبير المشهور عند اليسار بقاعدة.."الصدام يأتي بالتنوير"..بمعنى أنه لا ثقافة إلا بصدام أياً كان نوعه آمن أم عنيف..
معنى هذا أن الصراع سيؤدي في النهاية إلى ثورة مضادة على مفردات وأجواء هذا الصراع، فإذا كان الصراع مذهبياً فيعني الثورة على كل ما يمت للمذهبية بصلة، وقد لمسنا بوادر ذلك في المملكة السعودية خصوصاً بعد تفجيرات الدالوة والعنود والقديح..وهي التفجيرات التي طالت مساجد الشيعة في المنطقة الشرقية، فبدأت الحكومة هناك باتخاذ قرارات رادعة ضد أي تحريض مذهبي يطال النسيج الاجتماعي في الداخل..بعدما كان مجرد الحديث عن الشيعة يستوجب اللعن والتكفير والطرد من رحمة الله عند كل مشايخ المملكة من أول المفتى إلى أصغرعامل في الأوقاف.
قبل هذا العصر كان يوجد تصور ثقافي أن متطلبات التنوير عند العرب ليست بالضرورة أن تتشابه مع متطلباتها في الغرب، بمعنى أن عصر النهضة الأوروبي ثار فيه الشعب على الكنيسة برفقة حكماء وقادة سياسيون رأوا أن الحياة لن تستمر إلا بعد إزاحة الكنائس عن التدخل في حياة الناس، كان التصور السابق يعي هذا الحدث في أوروبا..ولكن رأى أن الإسلام ليس فيه كنائس بمعنى.."الرهبنة"..الذي يعطي حق التدخل في حياة الناس للمساجد.
والسبب أنهم اعتمدوا في قياسهم على.."الرمز"..وهو المسجد في الإسلام والكنيسة في المسيحية، واعتبروا أنه طالما لا أحد يقوم على المساجد في الإسلام فلا وجود للكهنوت فيه، وهذا يختلف عن الديانة المسيحية التي تعطي حق الإدارة للكنائس لرهبان بعينهم منتخبون دينياً ..وهذا –في تقديري- من ثمرات مجمع.."نيقية"..حيث توهم المسلمون أن رهبان المسيحية يتفردون بحق الإدارة..وهذا تصور ناقص نجم عن ما آلت إليه الأوضاع بعد نيقية.
بمعنى أن الدين الإسلامي به من الكهنوت ما يساوي كهنوت المسيحية إذا آمن منتسبوه.."بالقهر والتسلط"..وهذا لا يشترط وجود مؤسسة دينية كالكنيسة أو المسجد، بدليل أن بلاد قد لا توجد بها كنائس-أومساجد- ولكن يوجد بها قهر وتسلط ديني يساوي ما عند الكنائس.
الصحيح هو وجوب اعتمادهم على.."القيمة"..وهي المعنى من وراء الكنيسة والمسجد..فمكان العبادة في الأخير هو مركز روحاني مقدس تجتمع إليه الناس، والسؤال ماذا بعد اجتماعهم؟..سيكون بالطبع احتكاك وانتشار (لقيم المسجد والكنيسة) في المجتمع..وهذا ما حدث مع المسلمين، حيث انتشر ما يُتلى في المساجد من حديث مذهبي وتحريضي..انتقل آلياً إلى المجتمع، وهذه أكبر حجة للرد على هؤلاء وإثبات قاعدة أصيلة في العنف وهي.."متى وجدت الكراهية والتفرد بالحق الإلهي والتحريض الطائفي"..سيكون الكهنوت بغض النظر عن وجود الرمز من عدمه.
أؤمن في النهاية أن هذه القوى الغير مرئية ستظل كذلك معبرة عن روح الثقافة والتنوير شاء من شاء وأبى من أبى..فهي جميعها تمثل (كتلة واحدة) ضد كل محاولات التفرد بالحق الإلهي الذي تمتاز به الجماعات والطوائف..ربما تتطور بعد ذلك إلى أشكال أكثر عمقاً وقدرة على الإبداع ..وربما تهبط لمستوى تستطيع معه الدولة التعامل معها أو تحديد بعض آلياتها..وإن كنت أظن ذلك لن يحدث على الأقل في المستوى القريب..