القرآن الكريم لغة الحياة ، وما يقوله القرآن عن البشر يتجسد واقعا في حياة الناس ولا تملك إلا أن تقول ، صدق الله العظيم ":( أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ؟ )( القلم 35 / 36 ).
أولا :
1 ـ الاسلام فى التعامل بين الناس هو السلام والمسالمة ، فالسلام أصل فى كلمة الاسلام. والايمان فى التعامل بين الناس هو ان يكون الشخص مأمون الجانب ،فالايمان من (الأمن ).
وكل انسان مسالم مأمون هو مسلم مؤمن بغض النظر عن Úuml; عقيدته وعبادته .
أما الاسلام القلبى فهو التسليم والاستسلام والطاعة والانقياد لله جل وعلا وحده ، والايمان الذى ينجو به صاحبه من العذاب يوم القيامة هو الايمان بالله جل وعلا لا له سواه ، وعدم تقديس غيره وعدم الايمان بأنه له ابنا أو زوجة أو ذرية أو مثيلا أو شريكا فى ملكه .
وهذا الايمان القلبى والاسلام القلبى مرجع الحكم فيه لله جل وعلا وحده ، ومن يتدخل فى علاقة الانسان بربه بالارغام والاضطهاد والاكراه فقد جعل نفسه ندّا لله جل وعلا ، وإدعى لنفسه الالوهية دون أن يدرى ،أو وهو يدرى.
2 ـ هذا الذى يشّرع الاكراه فى الدين وينفّذه هو المجرم الحقيقى ، ولا يمكن أن يكون مسلما بالظاهر ( حيث يتناقض مع السلام والأمن والأمان إذ يستعمل العنف والقوة فى الاكراه وفى الظلم للناس ) ولا يمكن أن يكون مسلما مؤمنا بقلبه حيث يتدخل فى مجال لا يتدخل فيه رب العزة ، وهو حرية الانسان المطلقة فى الدين ،وأنه من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ، وان هناك مسئولية مترتبة على تلك الحرية ، وعلى اساسها سيقام للدين يوما هو (يوم الدين ) أو يوم الحساب ، وفيه يحكم الله جل وعلا بيننا كل البشر .
ونحن كلنا خصوم مختلفون فى العقائد ، ولكل منا عقيدته وفكرته عن الله ويعتقد فى نفسه الصواب ، ولا يصح للخصم أن يكون حكما على خصمه ، ولكن القاضى الذى يحكم بيننا فيما نحن فيه مختلفون هو رب العزة وحده ، والموعد هو يوم القيامة ( الحج 19 ). أى لله جل وعلا وحده الحكم فى العقائد المختلف فيها بين البشر ، فهو وحده فاطر السماوات والأرض وعالم الغيب والشهادة ( قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) ( الزمر 46 ). وبالتالى يكون مجرما وظالما للناس ورب الناس ذلك الذى يتدخل بالاكراه فى الدين وفى اضطهاد المخالفين له فى الدين والمذهب .
3 ـ وهذا المجرم ـ الذى لا يمكن أن يكون مسلما مسالما أو مسلما بعقيدته وقلبه حسبما يظهر من ظلمه وعدوانه ـ تراه بطل الأحداث المؤلمة فى مسيرة الاضطهاد الدينى والاكراه فى الدين ، بدءا من تاريخ وقصص الأنبياء السابقين الى خاتم النبيين فى حياته ـ بل فى تاريخ المسلمين من العصر العباسى وحتى الآن . ولدى أوربا كانت أفظع وأفجع .
4 ـ ولا يمكن أن يستوى فى ميزان رب العزة ذلك المسلم المسالم الساعى فى الخير وارضاء الله عزو جلّ مع ذلك المجرم الأثيم ، لذا يقول تعالى (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ؟ ).
ولكن فى الحياة الواقعية للبشر حيث ينتشر الظلم وحيث يحكم المجرمون ـ تجد العكس ، وهو أن يتعرض للظلم والاضطهاد الصالحون بأعمالهم المسالمون الدعاة للحق والخير والسلام والعدل ، ويتحكم فيهم المجرمون الذين يقلبون الحق باطلا والباطل حقا .
وحتى فى مجالات العمل المحايدة تجد أولئك الفجّار الظالمون المستبدون لا يقرّبون منهم إلا (أهل الثقة ) أى الذين يثقون فى ولائهم والذين يشاركونهم فى فسادهم وظلمهم ، يفتحون لهم أبواب التوظف والترقى التى يوصدونها أمام ذوى الخبرة الذين لا يجدون وقتا للرقص فى موكب المستبد .
5 ـ وما أروع قوله جل وعلا : (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّار) ( ص 28 )، ولكن ماذا تقول حين يتحكم الفجار المستبدون المجرمون فى شعب بأكمله يذيقونه الظلم والقهر والتعذيب ، ثم لا يكتفون بالتحكم فى الدنيا بل يتحكمون فى الدين يضطهدون من يخالفهم فى المذهب أو فى الدين ، ويقيمون جنة ونارا فى الدنيا ، فمن ينافقهم ويوافقهم يحيطونه بالوظائف والمخصصات والمكافئات والعلاوات والأراضى والقصور و الشاليهات ، ومن يخالفهم فمصيره التعذيب والسجن والتشريد .
6 ـ ساد هذا تاريخ المسلمين والأوربيين ، ثم تحررت منه أوربا بالعلمانية التى هى أقرب شريعة بشرية لجوهر الاسلام ، وكاد المسلمون أن يلحقوا بالركب الأوربى فى التحرر لولا أن جاء الوباء الوهابى السعودى ثم الجراد العسكرى اليولوى (نسبة ليولية 1952 ).
ومن وقتها عدنا للخلف ، نجترّ كتب السلف ونعيد سنتهم ونسلك مسلكهم و نقترف نفس جرائمهم . وكما عانى وقاسى الصالحون وذوو الخبرة فى العصور الوسطى بسبب سيطرة المجرمين الفجار يعانى اليوم المصلحون المدافعون عن حقوق الانسان والحرية الدينية والعدل والديمقراطية . ويلحق بهم فى المعاناة المحايدون من أصحاب الخبرة الذين لا وقت لديهم للوقوف أمام باب السلطان واستمطار عطفه و التغنى بحكمته و توجيهاته .
7 ـ ونعود الى صفحة تاريخية فى مصر المملوكية لنقارن بين إثنين من علماء الدين اختلفا فى الاتجاه والمسار و المقدرة العلمية ، ولكن المناخ السىء كان فى صالح الشيخ السىء وضد الشيخ الصالح ، وهو ما يحدث الآن بالضبط .
ثانيا :
1 ـ ليس فى الإسلام رجل دين أو كهنوت ولكن فى الإسلام علماء دين ، وباب العلم بالدين مفتوح أمام كل ذي عقل وفهم ، وكان لعلماء الدين فى العصر المملوكي مكانة سامية فقد كانوا جزءا من السلطة السياسية وكانوا الممثلين للشرع والقائمين على تطبيق الشريعة بمفهوم ذلك العصر .
وعلماء الدين فى نهاية الأمر بشر منهم المخطىء والمصيب . ونعرض لتاريخ موجز لاثنين من علماء الدين فى القرن التاسع الهجرى ، هما ابن الشروانى وابن حريز.
2 ـ يعود أصل الشيخ ابن الشروانى الشافعي إلى مدينة " شروان " على بحر قزوين . دخل مصر بعد عام 830 هـ انهال عليه الطلبة للانتفاع بعلمه وانتهت إليه الرئاسة فى العلوم العقلية والتفسير . وصفوه بأنه كان " العالم العلامة فريدة دهره ووحيد عمره وأعجوبة زمانه " مع " جلالة قدره وكثرة وقاره وعفته الزائدة "، وقيل عنه إنه اشتهر بأنه لا يتردد إلى أحد مطلقا لا من أعيان الدولة ولا من غيرهم ، وقد طلبه الملك الظاهر جقمق مرات وهو يمتنع من ذلك، وكذلك كان أعيان الدولة الذين يزورونه يودون ألا يفارقوه لما يرونه فيه من الخير والصلاح والدين المتين فى الأقوال والأفعال ، وصار هو كلما زادوا فيه حبا يزيد عنهم بعدا . وكان من محاسنه أنه لم يدخل دار أحد من الرؤساء أو الأغنياء .
يقول عنه المؤرخ ابن الصيرفي " كنت حاضرا عند الشيخ فاني كنت ملازما لخدمته تارة أقرأ وتارة أحدثه فى أحوال التاريخ .. حتى لما يريد يتنزه لا يفارقني .. وكان يودنى ويعظمني .."
والملاحظ أن ذلك العالم الفذ لم يدخل سلك القضاة وكان أحق بأن يكون قاضى القضاة الشافعي فى زمانه .
ولكن انشغاله الزائد بالعلم وعزوفه عن التردد للسلطان وأعيان الدولة حرم مجال القضاء من علمه ونزاهته ليظل الوسط القضائي فى عصره مرتعا للقضاة المرتشين آكلي المال الحرام وأبرزهم الشيخ ابن حريز قاضى القضاة المالكي المعاصر للشيخ ابن الشروانى .
.
2 ـ ابن حريز حسام الدين المالكي كان أيضا وثيق الصلة بالمؤرخ ابن الصيرفي الذي ننقل عنه هذه المعلومات التاريخية ، يقول عنه ابن الصيرفي " ذاكرنى رحمه الله فى التاريخ .. وأجرى على فضلا جزيلا من الضحايا كل سنة وكان يودنى كثيرا وبيني وبينه صحبة أكيدة ..".
ونتتبع سيرته من خلال ما كتبه عنه ابن الصيرفي .
كان فى بدايته قاضيا فى منفلوط واشتغل بالزراعة واستئجار ديوان الدولة حتى ازدادت أمواله ومع ذلك زادت ديونه بسبب إسرافه لأنه كان يرشى السلطان وأمراءه بالأموال الجمة والخيول العظيمة حسبما يقول المؤرخ ابن الصيرفى.
وآتت السياسة أكلها فانتقل من منفلوط للقاهرة قاضيا للقضاة المالكية ، وازداد نفوذه فى الدولة ، فأصبح المسئول عن أملاك السلطان الزراعية والعقارية بالوجه القبلي ويحمل مالها فى كل سنة للخزانة ، "وكانت له كلمة نافذة فى الوجه القبلي بل وفى القاهرة ، فأنه كان هو القائم فى عزل على بن الأهناسى لما تخاصم معه ، وأخر الأمر تم عزله وقبض عليه وأخذ السلطان أمواله " وكله بسبب نفوذ القاضي ابن حريز .
وكان يسير فى موكب " يركب الخيول الجياد التى ثمن كل فرس منها ما يزيد على المائتى دينار ويركب البغلة والكنبوش ، واشترى الجواري الحسان البيض والأحباش الملاح، وهم عنده بكثرة ، ويبتاع العبد منهم بمائة دينار ويكسوه بمثلها .."
وشكاه الناس إلى أولى الأمر واتهموه بأنه وضع يده على عدة بلاد وجزائر واستولى عليها ، وعندما زاد فساده عزله السلطان ،وولى أخاه سراج الدين محله .
أخيرا
هذا يستدعى تذكر قوله جل وعلا : ( أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ؟ )( القلم 35 / 36 ) وقوله عز وجل (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّار ) ( ص 28 )، فهذا أنصع دليل على صدق الواقع القرآنى فى الحياة الاجتماعية للبشر حتى من بين الذين يزعمون الانتماء ـ ظلما وزورا ـ الى الاسلام ، وهم من الظالمين الفجار .
التعليقات (8) |
[54735] تعليق بواسطة خالد مدينة - 2011-01-05 |
المجرمين فوق المسسلمين
|
أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) نعم أستاذنا جعلوا المجرمين فوق المسليمن جعلوا المتسلقين عديمي الخبرة والعلم فوق الخبراء وأصحاب العلم المحترمين ، جعلوا الهتافين والهباشين والذين يأكلون على كل الموائد فوق من يقولون كلمة الحق حتى ولو كانت في وجه ولي النعم والدهب والمحمول والأراضي والشاليهات ، جعلوا الراقصين والراقصات وأنصاف من يسمون أنفسهم مطربين ومطربات ولاعبي الكرة فوق أهل العلماء والباحثين ، جعلوا المجرمين من المتشددين وغلاة التطرف فوف العقلاء من يدعون إلى التسامح والتعاقد القلبي والوحدة الوجدانية لوطن واحد وشعب واحد ،هذا حكمهم الظالم وننتظر مصيرهم العادل من رب العالمين
|
[54736] تعليق بواسطة احمد المندني - 2011-01-05 |
طول الله عمرك يادكتور احمد وزادك علما بهذا العلم الغزير ,,,,, ولي اضافة متواضعة
|
ان اجمل نكهة نشمها اول الصباح هي القهوة المطحونة الطازجة ..... وعلمك شيخنا هو من نكهة القرآن التي نريد دوما ان نشد بها قلوبنا ورئتنا عندما ندخل الى ابحاثك ومقالاتك .... زادك الله بركة ونرجو ان يكون لنا نصيب ان اراك يوما شخصيا لنقبل رأسك ....
|
[54744] تعليق بواسطة عبدالمجيد سالم - 2011-01-05 |
ما لكم كيف تحكمون ..؟
|
هناك مثل مصري يعبر عن واقع اجتماعي وهو ( سعيد الدنيا سعيد الاخرة ) وقديما قال صاحب الجنتين ( وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنقَلَباً (36) الكهف ) ..
|
[54754] تعليق بواسطة عائشة حسين - 2011-01-06 |
من المجرم الحقيقي
|
المجرم الحقيقي هو من يشرع ما ليس من القرآن ولم تات به آياته ، فالإكراه لم يأت به رب العزة في كتابه العزيز ،ولكن العكس تماما قد شرع الله تعالى الحرية لكل مكلف في اختيار الإيمان أو الكفر ، وهناك مسؤلية مترتبة على حريته في الاختيار و منع الإكراه في الدين في أكثر من موضع ،وهو رب العزة خالق البشر وموجدهم لم يكرههم !! بل شدد سبحانه على حرية العقيدة ومنع الإكراه ، لكن نجد من يشرع مالم يأت به القرآن وسواء أكان هو المنفذ هو أم غيره تحت رعايته وبكلماته وبخطبه يستوي فهو المسئول أمام رب العالمين يوم يأتيه فردا ، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من اتى الله بقلب سليم .
|
[54764] تعليق بواسطة محمد سامي - 2011-01-06 |
الأكراه في الدين ..!!
|
الأكراه على شيئ معناه عدم صحته ..
|
[54773] تعليق بواسطة رضا عبد الرحمن على - 2011-01-07 |
ولا يصح للخصم أن يكون حكما على خصمه ((كلمات رائعة))
|
ما لفت نظرى في هذا المقال هذه العبارة المختصرة الرائعة ((ولا يصح للخصم أن يكون حكما على خصمه )) ومن يفكر فيها بامعان يجدها تفتح أبوابا عديدة للفهم لمن يريد الفهم ونقطة الانطلاق في الفهم هنا هي كلمة الخصومة ونقف معها ومع ذكرها ومشتقاتها فى القرآن الكريم
|
[54774] تعليق بواسطة محمود مرسى - 2011-01-07 |
وغرهم في دينهم ما كانوا يفعلون ..
|
|
[54783] تعليق بواسطة ميرفت عبدالله - 2011-01-07 |
نحن بحاجة لنشر هذه المقولة بين عامة المسلمين
|
الدكتور أحمد صبحي منصور ومقلاته المشجعة دائما للتسابق على فعل الخير وتجنب أذى البشر فكما قال
|