تعددت أشكال الدولة الدينية في التاريخ. ولم تكن سيطرة الكنيسة ورجال الدين في أوروبا العصور الوسطي إلا أحد هذه الأشكال. أما جوهر الدولة الدينية فهو جمع السلطتين الدينية والزمنية( السياسية). أو وضعهما في يد واحدة.وما إن يحدث ذلك حتي تكتسب سلطة الدولة نوعا من العصمة أو القداسة وتتعالي علي المساءلة والمحاسبة. وقد لا تكون هذه العصمة أو القداسة لسلطة الدولة كلها, بل لجهة محددة في هذه السلطة. فالمهم هو أن دمج الدين في الدولة أو الدولة في الدين, بما يؤدي اليه من تديين السياسة وتسييس الدين, يجعل النظام السياسي ضرورة من ضرورات قيام الدين. كما يجعل هذا الدين هو المحدد الرئيسي لدور الدولة.
والمقياس هنا هو مدي العلاقة بين الدين والدولة وليس طابعها إيجابا أو سلبا. والفرق بين الدولة الدينية المسيحية في أوروبا العصور الوسطي والدولة الدينية الإسلامية( دولة الخلافة من الأمويين إلي العثمانيين) هو أن الأولي قبعت في ظلام وجهل وفرضتهما علي الناس وأقامت محاكم تفتيش علي العقل ومارست تمييزا علي أساس الدين, بينما كانت الثانية أكثر انفتاحا واحتراما للعلم في بعض مراحلها.
ولذلك يجوز التمييز بينهما علي هذا الأساس, وليس علي قاعدة أن إحداهما دينية والثانية غير دينية, بخلاف الشائع في الفكر العربي والإسلامي حتي لدي كثير من أصحاب التجليات المنيرة فيه. فعلي سبيل المثال, ذهب الإمام محمد عبده في كتابه( الإسلام والنصرانية) إلي عدم جواز خلط الخلافة عند المسلمين بما يسميه الإفرنج ثيوكراتيك لأن( ذلك عندهم هو الذي ينفرد بتلقي الشريعة عن الله وله حق الأثرة في التشريع) وهذا كلام سجالي قيل في معرض الرد علي كتابات غربية طعنت في الإسلام. وفي السجال قد يجوز ما لا يصح في غيره, وقد يتغاضي المرء فيه عما لا يمكن أن يهمله في سياق آخر.وقد تغاضي محمد عبده عن حقيقة عدم وجود فرق جوهري بين الأساس الذي تقوم عليه سلطة الدولتين الإسلامية والمسيحية, مركزا علي فروق أخري حقيقية ومهمة مثل زعم السلطة الدينية في أوروبا المسيحية أنها ظل الله في الأرض. وهذا فضلا عن أن السلطة الدينية المسيحية ذهبت إلي أقصي مدي في قهر الإنسان باسم الدين طول الوقت.
ولكن القول بأن الإسلام لا يعرف دولة دينية, وأن أهل السنة تحديدا من المسلمين لم يمروا في تاريخهم بحكم ديني, إنما يفتقد الدقة لأنه يقيس علي شكل واحد لهذه الدولة وهو الدولة الثيوقراطية في أوروبا العصور الوسطي.وقد اعتمد كل من أنكر الطابع الديني للدولة في التاريخ الإسلامي علي هذا القياس, بل لدينا حالة بالغة الدلالة علي ذلك في كتابي الأستاذ خالد محمد خالد الذي اعتبر الدولة الإسلامية دينية في أولهما ثم نفي عنها ذلك في الكتاب الثاني.
ففي كتابه الأكثر شهرة الصادر عام0591( من هنا نبدأ) خصص فصلا كاملا لنقد الدولة الدينية صدره بعبارة فولتير المشهورة:( إن الذي يقول لك اعتقد ما أعتقده أنا وإلا لعنك الله.. لا يلبث أن يقول: اعتقد ما أعتقده أنا وإلا قتلتك) وكان هدفه الأساسي في هذا الكتاب هو التحذير من إعادة انتاج الدولة الدينية التي لم تكن عنده إلا دو لة رجال الدين علي النسق المسيحي الأوروبي. فهو لم يرفض الدولة الدينية إلا لخوفه من حكم كهنوتي يقوده رجال دين ويقيم محاكم تفتيش.
وهذا المنهج في النظر إلي الدولة الدينية هو الذي أملي عليه مراجعة موقفه بعد ثلاثة عقود في كتابه( الدولة في الإسلام) الصادر عام1891 علي أساس أن الدولة الإسلامية لم تكن مثل الدولة الدينية المسيحية. ولذلك قال في مقدمة هذا الكتاب إن( أول خطأ في منهجي الذي عالجت به قضية الحكومة الدينية كان تأثري الشديد بما قرأته عن الحكومات الدينية التي قامت في أوروبا واتخذت من الدين المسيحي دثارا تغطي به عريها وعارها). أما وقد عرف في ذلك الوقت أن الدولة الإسلامية أخذت شكلا مختلفا, فقد بات يعتقد أن الإسلام دين ودولة. و لكن ما عرفه حينئذ عن الدولة الإسلامية في التاريخ ظل أقل مما عرفه عن الدولة المسيحية الأوروبية التي أقام كتابه الأول علي هجائها وإظهار أهوالها تحذيرا منها وتخويفا. ولذلك فعندما قرر أن الإسلام حتي في فترات استغلاله من بعض الخلفاء والحكام لم يمنح أيا منهم سلطة بابوية كهنوتية, كان مصيبا لا شك في ذلك. ولكنه لم يثبت بذلك أن الدولة الإسلامية لم تكن دينية فكل, ما أكده هو أن هذه الدولة كانت مختلفة في شكلها عن الدولة الدينية المسيحية.
ولأنه أغفل إمكان تعدد أشكال الدولة الدينية, فقد ذهب باحثا عن أصول الدولة في الإسلام متصورا أنها دولة دستورية تقوم علي عقد اجتماعي يضمن وفاءها بالتزاماتها والحكم بالشوري, غير أن ما لم يفطن اليه ـ مثله في ذلك مثل أصحاب هذا الموقف, هو أن العبرة ليست بما إذا كانت الدولة دستورية من عدمه. فليست هناك دولة شمولية أو تسلطية أو مستبدة بأي شكل في هذا العصر بلا دستور وبرلمان وانتخابات, ولكن العبرة ليست بوجود دستور, بل بديمقراطية هذا الدستور بدءا من طريقة إعداد ه وإصداره وصولا إلي امكانات تعديله وتغييره, ومرورا بمحتواه والحق أن الدولة الدينية الإسلامية في التاريخ لم تشبه قرينتها المسيحية في أوروبا, ولا كانت مثلها دائما في الانغلاق والجهل والتجهيل. فقد مرت عليها عصور كانت فيها أكثر انفتاحا واحتراما للعلم والفن, بل شهد بعض مراحلها ازدهارا علي المستوي الفكري.
غير أنه علي امتداد تاريخ الدولة الإسلامية اجتمعت السلطتان الزمنية والدينية, فالخليفة هو حاكم البلاد, وهو أمير المؤمنين أيضا. إنه حارس الدين الذي هو أساس الدولة, وليس المفوض ديمقراطيا بحراسة مصالح الدولة وحقوق مواطنيها وحرياتهم بما في ذلك حريتهم الدينية.
والفرق كبير, بل جوهري فالنظام السياسي الذي يستمد شرعيته من الشريعة الإسلامية بالأساس يصبح ضرورة من ضرورات قيام الدين وبقائه, فتصير السياسة متغيرا تابعا للدين, أما النظام السياسي الذي يستمد شرعيته من تفويض ديمقراطي في انتخابات حرة فهو ضرورة من ضرورات مصلحة الدولة وشعبها في الحرية والعدالة والازدهار والتقدم, ومصلحة الدين أيضا من حيث أنه يكون أكثر عزة في دولة قوية يحترمها العالم ولا يستهين بها وبشعبها.
*نقلا عن "الأهرام" المصرية