الفصل السادس : التصوف ونشر المساوىءالاجتماعية.
ج3 / ف 6 : الصوفية وتشريع ونشر الكذب

آحمد صبحي منصور في الجمعة ٢٢ - مايو - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً

   كتاب (التصوف والحياة الدينية فى مصر المملوكية )

الجزء الثالث : أثر التصوف فى الانحلال الأخلاقى فى مصر المملوكية 

الفصل السادس : التصوف ونشر المساوىءالاجتماعية.

الصوفية  وتشريع ونشر الكذب 

تشريع فرض الايمان بأكاذيب الصوفية

1ــ  وفي عصر الشعرانى خفت صوت العقل وعلا صوت الخرافة ومع ذلك فإن الشعرانى يحاول أن يجتث العقل من جذوره فيقول داعياً إلى تصديق أكاذيبه: ( ومما أنعم الله تبارك وتعالى به على تصديقى للصالحين في كل ما يخبرون به من الأمور التى تحيلها ( أى تُنكرها ) العقول عادة، ولم أزل أصدقهم في ذلك من حين كنت صغيراً، وكل شيئ لم أتعقله جعلته من جملة العلم الذى لم أعرفه، ولا أكذّب إلا ما خالف النصوص الصريحة أو خرق إجماع المسلمين .) ( وأجمع أهل الكشف – أى الصوفية- على أنه إذا أنكر شيئاً أخبره به أهل الكشف حرم ذلك الأمر الذى أنكره، ولو بلغ الغاية في السلوك فلا يعطى ذلك الأمر عقوبة له على إنكاره وتكذيبه أولياء الله تعالى، الذين هم آياته في الأرض ، وبهم يُرزق الناس وبهم يُمطرون وبهم يدفع الله البلاء عن عباده.) . هنا يقع الشعرانى فى أحطّ دركات الكفر حين يجعل الله جل وعلا واسطة ، أى ان الله جل وعلا يستعين بهؤلاء الصوفية فى رزق البشر و انزال المطر و دفع البلاء عن العباد . ويقع الشعرانى فى هذا الحضيض من الكفر العقيدى لكى يوجب الايمان بأكاذيب الصوفية بالغا ما بلغت .

2 ــ ويستمر الشعرانى فيحكى هذه الأكاذيب التى يوجب التصديق بها ، يقول : ( وقد جلس عندى مرة الأخ الصالح الشيخ أبو العباس الحريثى بين المغرب والعشاء في رمضان ، فقرأ بعد المغرب إلى مغيب الشفق الأحمر القرآن خمس مرات وأنا أسمعه . فلما دخلت أنا وإياه على سيدى على المرصفى حكيت له ذلك فقال : " قد وقع لى أنى قرأت القرآن في يوم وليلة ثلثمائة وستين ألف درجة كل درجة ألف ختمة " ، هذا بلفظه انتهى. ومما وقع لى أننى أحرمت بصلاة الصبح خلف الشيخ عمر الإمام بالزاوية فافتتح سورة المزمل فسبق لسانى فقرأت القرآن من أول سورة البقرة ولحقته في قراءة الركعة الأولى قبل أن يركع فأنصتُ له حتى ركع، هذا أمر شهدته من نفسى وآمنت بأنه كرامة لى من الله تعالى. ) ويصل الشعرانى الى الهدف ، فيقول : ( فإن الإيمان بكرامات الأولياء واجب حق ويجب على الولى أن يؤمن بكرامات نفسه كما يؤمن بكرامات غيره . ) [1].

أكاذيب المنامات والكرامات :

1 ــ وبالتصوف انتشرت أكاذيب المنامات تحظى بتصديق الناس ، وأصبح من العادات الإجتماعية الدينية أن من قتل مظلوماً رؤيت له منامات صالحة [2]. ومن اشتهر بالصلاح أو التصوف قيلت له منامات عن وقت مولده. وتكاثر الأمر حتى أصبح مثار السخرية، يقول السخاوى معلقًأ على حادثة من هذا النوع : (  ولم يعدم متهكماً عليه في هذا المنام حسداً وافتراءاً على عادة البطالين" [3].

وأبو المحاسن احتج بدوره على أصحاب المنامات الكاذبة [4].

وقال ابن حجر في ترجمة الشهاب الباعونى ت 816 " كان لا يعاب إلا بالإعجاب والمزيد من الكلام  والمنامات [5]. ومما يدل على أكاذيب المنامات انتشرت من الصوفية إلى غيرهم وأثارت نوعاً من الإحتجاج والسخرية لعدم تمتع أصحابها بإحترام كافٍ .

2 ــ  أما الكرامات فقد كانت خصوصية يدعيها الأولياء الصوفية وأتباعهم والمرتزقة حولهم وسدنة المقابر المقدسة . وأسهم العصر المملوكى في روايتها سرداً وتزايداً واعتقاداً.

بل لقد أصبحت رواية أكاذيب الكرامات نوعا من الشعائر الدينية، وذلك ما نفهمه من الربط بين وصف أحدهم بالصلاح والتدين مع وصفه أيضاً بسرد " حكايات الصالحين".

يقول السخاوى في ترجمة عباس السندبسطى ت 888 " كان كثير العبادة تالياً للقرآن ذاكراً لنبذة من حكايات الصالحين ونحوها معتقداً بين كثير من العامة والخاصة" [6].  فصاحبنا كان تالياً للقرآن ذاكراً الأكاذيب والكرامات متمتعاً باعتقاد الناس فيه بسبب ذلك .

 وقيل في ترجمة الشيخ محمد المغربى الشاذلى ت 911 أن الغالب عليه كان " الإطراق " " وعدم الإطالة في الكلام" أما إذا تعلق الأمر بحكايات الصالحين عندئذ يكون " بارعا في استحضار حكايات الصالحين ونقلها مسارعاً" [7].

 والمريدون على وجه الخصوص كانوا أسرع الناس في نشر أساطير أشياخهم ، فالبدر القطى ت 878 " كان يكثر من حكايات كرامات شيخه يوسف الصفى " [8]. ويقول الدسوقى " مطالعة حكايات الأولياء جند من جنود الله " [9] ، أى شعيرة دينية.

والصوفى إذا وجد مريدين اتسع أمامه المجال للأكاذيب طالما بقى فيه رمق حتى لو كان على فراش الموت، كما قيل عن تاج الدين الذاكر أنه أخبر أصحابه ليلة وفاته أن له سبعاً وعشرين سنة ما وضع جنبه إلى الأرض [10]. أى ظل واقفاً أو جالساً إلى أن حضره الموت.

     أما إذا لم يتمتع الصوفي بالشهرة اللازمة فلا حظَ له في أكاذيبه وكراماته إلا السخرية فيقول الأدفوى عن الصوفي ابن سليمان " وكانت له ادعاءات مضحكة : مثل حصر دخان المعصرة كم يجئ من قنطار، والأردب السمسم يعرفه كم حبة ، وأنه تبول في النيل فزاد ، وأنه طلع إلى بربارة ادفو وكسر التتار " [11].

التفنن فى تأليف الأكاذيب :

1 ــ على أن دين التصوف ألهب خيال الشيوخ في اختراع شتى الحكايات والنوادر، وكان يمكن أن تظل في إطار الأقاصيص العادية التى تُقال للتسلية مثل قصص ( ألف ليلة ) لولا أن الشيخ القاص كان يرويها كشعيرة دينية ثم يدعى حدوثها لنفسه ويجعل من نفسه البطل أو الراوى الذى شهد وقوع الحادثة بحذافيرها، ثم يحظى بالتصديق مهما بلغت أكاذيبه، ومهما كان مفهوما أنه مخترع لهذه الأكاذيب ، بل ربما يُمدح على إختراعه الكذب ، وتُعدُّ موهبة له . فالشيخ النصيبى القوصى ت 707 " كانت له قدرة على ارتجال الحكاية المطولة" [12]. وكان ابن المبارك الأثارى ت 806 " كثير النوادر والحكايات العجيبة أعجوبة في وضعها " [13]. وكان بدر الدين العجمى ت 873 " حلو النادرة حسن المحاضرة والمفاكهة والمذاكرة .. وكان يروى لمن يحضر عنده ويذاكره عن أعاجيب، ما اطلَع عليه في البر والبحر والأسفار بالجملة والتفصيل " [14]. أما الشيخ الفنارى ت 903 فقد كان يغلب عليه الصمت " إلا إذا ذكر صحبة مع السلطان فعند ذلك يورد الحكايات العجيبة  واللطائف الغريبة " [15].

 وقال العيني عن ابن زقاعة الصوفي " كان أعجوبة في استحضار الحكايات والمجريات " [16]. أى ما جرى من أمور وحكايات.

ويقول الصيرفى في حوادث سنة 875 " وحدث في هذه الأيام أمور تؤذن باقتراب الساعة ، منها أن السيد الشريف الوفائى – نائب قاضى الحنفية – أخبرنى بحضوره أن الأمير تمر المحمودى حاجب الحجاب شاهد عنده بغلة ولدت وعاش الولد أياماً ومات بعد ذلك " [17].

أى أن مؤرخاً قاضياً مثل الصيرفى صدق هذه الأسطورة واعتبرها إيذاناً بقيام الساعة .

ويذكر ابن العراقى أن الشيخ ابن القارئ ت 776 كان يعلل صممه بأنه سمع عذاب القبر وهو صغير. ويبدو من أسلوب ابن العراقى أنه كان يصدق هذه الأكذوبة [18].

2 ــ كان التصديق بالأكاذيب متوقفا على مكانة الشيخ بين الناس ، فإذا حظى بالاعتقاد فيه فكل أكاذيبه مقبولة وهى جزء من دينهم الصوفى . ولهذا فالويل لمن لا يحظى باعتقاد عصره وأحترام الناس له ، عندها إذا بالغ فى الكذب لم تحظ أكاذيبه بالتصديق ، بل يوصف بما يستحق. يقول أبو المحاسن عن سودون القرمانى 863 " كان مهملاً مسرفاً على نفسه وعنده فشار كبير ومجازفات في كلامه " [19]. بل وصف بعضهم بالكذاب واشتهر به مثل الخالدى [20].

3 ــ  وبانتشار التصوف قدم كثيرون إلى مصر من صوفية المشرق والمغرب ، وكانت لبعضهم حصيلته الوافرة من الحكايات الخرافية التى لا ضابط عليه في روايتها ، خصوصاً وأن المبالغة محمودة في عرف الصوفية الباحثين عن الشهرة والقادمين من أجلها.

يقول ابن حجر في ترجمة الشيخ ابن سيرين الحنفى ت 809 نزيل القاهرة " حدث وخطب بالظاهرية البرقوقية وكان يحدث عن الهند بعجائب والله أعلم بصحتها " [21]

ويذكر ابن حجر الهيثمى أنه قدم إلى مصر رجل هندى "يزعم أن عمره مائتا سنة وخمسون سنة على ما يدعيه ، بل شواهد الحال تقطع بكذبه"[22].

 ربط التصوف بالكذب

ونورد نصوصا ثلاثة تربط بين التصوف والكذب .

أولها: من فقيه صوفى مشهور هو السيوطى القائل أن من ادعى التجريد ثم أخذ يذكر الأسباب فهو مدع كذاب [23] . وبداية الطريق الصوفى لكل شيخ هو التجرد ، وكلهم ذكر الأسباب وعاش بها ، فكلهم كذابون عند السيوطى .

وثانيها:  ما كانت تنص عليه وثائق الوقف على المؤسسات الصوفية " ألا يكون معروفاً بكثرة الكذب والإفتراء على الناس "[24]. أى كانت تشترط ألا يزيد حظه كثيراً من الكذب والإفتراء ..

وثالثها: ما ذكره السخاوى فى ترجمة ابن المغيربى ت 846 "كان لا يتوقى منه يمين يحلفها فيما لا قيمة له ، مع إظهار تحرى الصدق والديانة البالغة ، ويتوسع فى المأكل والملابس من غير مادة ، ويشكو الضيق"[25].

أى يبالغ فى القسم والحلف والأيمان على التوافه ، يحلف على أى شىء تافه مع التظاهر بالتدين والصدق ، وانعكس ذلك التناقض فكان مسرفاً فى المأكل والمظهر متبرماً من ضيق الأحوال ، والمعنى الواضح فى النص أنه تعود الكذب فى لسانه وسلوكه ودينه .وتلك جناية التصوف على العصر ..أن جعل الكذب شعيرة دينية .

شيوع شهادة الزور

1 ــ ومن الطبيعى وقد أصبح الكذب فضيلة أن ينتشر شهود الزور . وشهادة الزور أساس دين التصوف .

2 ــ وقرآنيا ؛ فإن شهادة الزور تعنى أساسا  قول الزور والأكاذيب فى الدين وحضور وزيارة الأوثان والأنصاب والقبور المقدسة . يقول جل وعلا فى إجتنابها: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) الحج ).ويقول جل وعلا : (و الَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً (72) الفرقان ) ـ

3 ــ ولقد عكف العصر المملوكى على الأولياء الصوفية أحياءا وأمواتا ، يشهدون الزور . ونطق العصر المملوكى بأقاويل الزور كذبا يردد كرامات ومنامات وحكايات الزور . لذا لا بد أن تتأثر المحاكم بشهادات الزور ، خصوصا مع فساد النظام القضائى وفساد أعمدته من قضاة وفقهاء وفساد السُّلطة المملوكية نفسها .

4 ــ يقول أبو المحاسن فى حوادث سنة 870 أنه كان من الممكن شراء الشهادات الزور علناً وتحت سمع وبصر القضاة[26] .

وفى حوادث سنة 872 " كثر الاطلاع على شهود الزور فضرب منهم جماعة وجرس أحدهم على ثور [27] .

وفى فتنة البقاعى انبث الصوفية فى البلد وهم كثير ومعهم الجاه وهم أهل مكر وكيد وكذب لا يتوقفون فى شئ ويقولون ما لا يقبله عقل [28]  . ومع أنها مقالة البقاعى عدو الصوفية ، إلا أن شواهد الأحوال تقطع بصدق رأيه فيهم .   



[1]
- لطائف المنن 173 ، 351 ط عالم الفكر .  

[2] - أبو المحاسن : حوادث الدهور ج3 / 591 .

[3] - التبر المسبوك 203 ، 204 .

[4] - حوادث الدهور ج3 / 594 .

[5] - إنباء الغمر ج3 / 21 .

[6] - الضوء اللامع ج4 / 19 .

[7] - العيدروس : أخبار القرن العاشر 74 .

[8] - الضوء اللامع ج3 / 135 .

[9] - المناوى . الطيقات الكبرى 255 ، مخطوط .

[10] - الشعرانى . تنبيه المغترين 108 .

[11] - الطالع السعيد 428 .

[12] - الوافي يالوفيات جـ1 / 164 .

[13] - إنباء الغمر جـ2 / 285 .

[14] - إنباء الهصر 82 .

[15] - أخبار القرن العاشر 29 .

[16] - عقد الجمان 387 .

[17] - إنباء الهصر 248 .

[18] - ذيل ابن العراقى 158 .

[19] - النجوم الزاهرة جـ 16 / 207 .

[20] -  التبر المسبوك 287 .

[21] - إنباء الغمر ج2 / 368 .

[22] - تاريخ الخلفاء 135 .

[23] - تأييد الحقيقة العلية47 .

[24] - وثيقة وقف جمال الدين الاستادار .

[25] - التبر المسبوك 48 .

[26] - حوادث الدهور جـ 3 / 519

[27] تاريخ البقاعى 53 ، 59 .

[28] ـ تاريخ البقاعى 53 ، 59 

اجمالي القراءات 7989