الصوفية وأكل أموال الناس بالباطل
تشريع الرشوة فى الدولة المملوكية

آحمد صبحي منصور في الخميس ٢١ - مايو - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً

   كتاب (التصوف والحياة الدينية فى مصر المملوكية )

الجزء الثالث : أثر التصوف فى الانحلال الأخلاقى فى مصر المملوكية 

الفصل الخامس: الصوفية وأكل أموال الناس بالباطل

(  تشريع الرشوة ـ القضاة مرتشون ـ الرشوة وسيلة للوصول ).

 تشريع الرشوة .     

      1 ـ وهى من إفرازات التصوف فى العصر المملوكى القائم فى عقيدته الدينية على إتخاذ الأولياء واسطة، وتقديم القرابين والنذور والنقوط لهم ( رشوة دينية ) . وإذا كان المتصوفة قد برعوا فى التسول فإن ارباب الوظائف ـ وهم إما متصوفة او أتباع لهم ـ قد سموا تسولهم رشوة. وكانوا راشين ومرتشين معا..

 2 ـ    يقول باحث فى العصر المملوكى : " ليس هناك أعجب من أن تقرر حكومة البلاد الشرعية الرشوة وتنشىء لها ديوانا خاصا يعرف بديوان البذل أو البرطيل، على عهد السلطان الصالح إسماعيل ابن الناصر محمد عام توليه العرش سنة 743"،وبارك رجال الدين إقرار قانون الرشوة ومارسوه ممارسة شرعية فسعى القاضى الغزى عند القاضى الخيضرى فى نيابة قضاء دمشق مقابل تسعمائة دينار، دفع منها شيئا وكتب حجة بالباقى فهل هناك من فساد أفظع من أن تكون الرشوة مسجلة بحجة وعقد ـ كعقد الزواج أو البيع ـ ويوقع عليها قاضى؟" [1].

وهو بالطبع تساؤل وجيه فى عصرنا، ولكنه كان عاديا فى العصرالمملوكى.

القضاة مرتشون :

        1 ـ والواقع أن القضاة كانوا ـ كالعهد بهم ـ سباقين فى كل مجال للفساد ونقتطف ببعض وقائعهم فى الرشوة من كتابات المؤرخين فى العصر عنهم :

فقيل عن الصوفى شمس الدين الشاذلى المحتسب" كان جاهلا عاميا غاية فى الجهل وكان خردفوشيا فى الإسكندرية ثم صار بلانا فى الحمامات ثم ولى حسبة القاهرة بواسطة الأمير بيبرس الداودار لأنه كان يخدمه ويتقرب إليه بالمال وغيره من الأمور المنكرة"[2].  أى تدرج من أسفل إلى أعلى بالرشوة .

وقيل عن الشيخ السبكى " كثر النكير عليه من أخذ الرشوة[3].

  2 ــ     وكان السفطى صوفيا متسولا ، وحين عين قاضيا للقضاة فاستمر فى تسوله بل وسع من نطاق التسول يقول أبوالمحاسن فى ذلك: ( ومع ذلك " فالبلص ( أى السرقة والاختلاس )عمّال والشحاذة فى كل يوم من الأمير الكبير إلى مقدم الجبلية) " أى زعيم الأعراب"[4] .

3 ــ وقال " خلع على الشيخ على المحتسب خلعة الاستمرار لأن شخصا من الأوباش سعى فى الحسبة بثلاثة آلاف دينار ... فتكلم معه بعض أرباب الدولة باستمرار المذكور على بذل ألفين[5].

4 ــ ويقول السخاوى عن القاضى عز الدين البكرى " تحكى عنه فى أكل الرشوة العجائب".

5 ــ وفى سنة 850 خلع على المحب بن الشحنة بالاستمرار على مابيده من قضاء بلده وكتابة سرها ونظر جيشها بل وأضيف إليه النظر على قلعة " حلب" والجامع النورى بحلب كل ذلك بعد أن حمل من الأموال الجزيلة والهدايا الجليلة مايطول شرحه.. وقال العينى عبارة مؤثرة : ولم يتفق قط مثل هذا فى حلب ولكن بالرشا يصل المرء فى هذه الأزمان إلى مايشاء.

6 ــ  وقال السخاوى عن القاضى جمال الدين الدمامينى: طالت مدته فى القضاء إلى أكثر من ثلاثن عاما وصار وجها ضخم الرياسة مع نقص بضاعته فى العلم والدين، لكن لكثرة بذله ومزيد سخائه، وقد أفنى مالا كثيرا فى قيام صورته فى المنصب ودفع من يعارضه حتى أنه كان يستدين ثم يحصل له إرث أو أمر من الأمور التى تحصل تحت يده بها مال من أى جهة ساغت أم لم تسغ ، فلا يلبث أن يستدين أيضا، وكان يخدم الناس كثيرا خصوصا الظلمة"[6].

ويقدم النص السابق صورة القاضى المملوكى ( من نقص فى علمه ودينه ورشوته للظلمة وطاعته لهم و أخذه الرشوة من المتقاضين وأكل الحرام ) فهو راش للظلمة مرتش من المظلومين قليل فى العلم والدين.

المماليك مرتشون :

        1 ـ ومن الطبيعى أن يبتهج المماليك بهذا الصنف من البشر، فجعلوا من الرشوة عملا قانونيا رسميا كإحدى مظاهر الظلم التى أرسى المتصوفة قواعدها مع المماليك. وشاعت الرشوة وانتشرت آثارها السيئة فى العصر متفاعلة ومتأثرة بالمظاهر الأخرى للتصوف . ويذكر المؤرخ ابن ايبك الصفدى فى موسوعته التاريخية ( الوافى بالوفيات : 30 جزءا ) فى ترجمة الملك القلاوونى الكامل ــ الذى حكم سنة و 17 يوما ــ أنه كان مُحبّا للمال ، ويعطى ( الاقطاعات والوظائف بالبذل ، وأنه عمل لذك ديوانا قائم الذات ، وكان يعين فى المناشير البذل وهم مبلغ ثلثمائة درهم فما فوقها ، فما إستحسن الناس ذلك ) ( الوافى 16 / 153 : 154 )

2 ــ ويصف أبو المحاسن الأمير وبردبك الداودار بأنه كانت له محبة واعتقاد فى الفقراء وأرباب الصلاح، وكان يحب جمع المال وله فى الأخذ والبلص والبرطيل فنون مشهورة[7].

3 ــ وقيل عن الأميرين بركة وبرقوق أنهما " يأخذان البراطيل والرشوة على ولاية الوظائف التى تسعى فيها الأنذال والأرذال من أوباش الناس الذين هم غير أهلها، فمن يومئذ تلاشى أحوال الديار المصرية والشامية حتى قيل: برقوق وبركة ضربا على الدنيا شبكة"[8] .

وكان ذلك بعد إنشاء ديوان البذل وبظهور ثقل الصوفية السياسى فى بداية ظهور الدولة الجركسية..

4 ــ ويقول مستشرق عن السلطان خشقدم وعصره واصفا الرشوة فى الدولة الجركسية حين عم التصوف: تفوق خشقدم فى انتزاع الرشوات الفادحة ممن كانوا يتطلعون إلى شراء الوظائف العامة ، قد كلفت ولاية دمشق الطامع فيها خمسة وأربعين ألف دينار، على حين بيعت وظيفة أخرى لشخص بعشرة آلاف ، أما وزراء الدولة فكانوا يعزلون كلما تمكن من يريدون عزله من إشباع مطامع الأمير، أما زيارات هذا السلطان الداهية لرعاياه فكانت تكلف من يتشرفون بها كثيرا من المال، وقد ساد الفساد جميع البلاد فى حكم الشراكسة ، ولم يكن للعدل وزن فى سير الأمور حتى أن شيخ الإسلام كان يختلس أموال الودائع"[9]. والمؤسف أن كلام ذلك المستشرق واقعى.

الرشوة وسيلة للوصول:

        1 ـ وجعل التصوف من الرشوة وسيلة للوصول .

فقيل عن الأمير علاء الدين الطبلاوى كان عمه تاجرا فورثه وسعى بالمال حتى تولى شد المرستان وتقلب فى الوظائف[10]. حتى صار أميرا.

2 ــ  وبالرشوة تولى غير الصالح مصالح المسلمين ، فقيل عن القاضى جمال الدين بن الكركى " كان من النصارى فتظاهر بالإسلام واستقر بالمال فى كتابة السر فكانت ولايته أقبح حادثة[11] .

3 ــ وبالرشوة تولى الوزارة البباوى لسعة ماله وكان جزارا عاميا أميا جاهلا وضيعا وهو بالتعبير العصرى" معلم" بكسر الميم ، ويصفه ابوالمحاسن وهو مؤرخ ارستقراطى بعدم ( الدراية فى الكلام العرفى والاصطلاح، حتى أنه إذا اراد أن يقول لأحد الكتبة أكتب قال: أضرب بالقلم. ) ، وقال عن ولايته الوزارة: وهى(الوزارة) إلى الآن أرفع الوظائف قدرا فى سائر بلاد الله.. إلا الديار المصرية فإنه انحط بها قدرها ووليها من الأوباش وصغار الكتبة جماعة من أوائل القرن التاسع إلى يومنا هذا، فالذى وليها فى عصرنا هذا ممن لايصلح لولايتها ابن النجار وعلى بن الأهناس البردار وأبوه الحاج محمد ويونس بن جربغا.. وغيرهم من هذه المقولة ، ومع هذا كله بلاء أعظم من بلاء، وأعظم الكل ولاية البباوى هذه ، فإن كل واحد ممن ذكرنا من الذين ولوا كان لكل واحد ميزة فى نفسه .. إلا البباوى هذا فإنه لم يتقدم له نوع من أنواع الرئاسة ، ومع هذه المساوىء باشر بظلم وعسف وعدم حشمة وقلة أدب مع الأكابر والأعيان وساءت سيرته وكثر الدعاء عليه .." [12]

4 ــ وبعد البباوى تولى الوزارة قاسم صيرفى اللحم " وقلع لبس العوام والسوقة"واعتبر أبوالمحاسن ذلك عارا كبيرا على مصر[13].

5 ــ  وعن الصلة بين التصوف والرشوة يقول المثل الشعبى: ارشوا تشفوا، البرطيل شيخ كبير[14].

وطالما أصبحت الرشوة شيخا فقد اكتسبت مشروعية فى الضمير الشعبى.  ويقول مؤرخ يحدث عن إشارة الرشوة: ولعل هذا كان أصل المثل الدارج القائل : إطعم الفم تختشى العين"[15].

أخيرا :

 1 ــ  ولابد أن يتاثر الجمهور بهذا السيل من الانحرافات الأخلاقية المتنوعة التى اكتسبت مشروعية اجتماعية . يقول السخاوى فى حوادث 847 " كثر التطفيف فى الموازين والغش فى البضائع وفشى ذلك فى الناس فشوا منكرا وتزايد ، وطمع السوقة كثيرهم لما جعلوا عليهم من الرواتب الشهرية والجُمعية، والفساد فى ازدياد ولا قوة إلا بالله[16]..

2 ــ  فقد انتقل فساد الأئمة والملوك إلى الناس فى الشوارع والأسواق وأصبح عرفا اجتماعيا يحظى بمشروعية الصمت والاعتياد، سوى بعض استنكار بين السطور .هذا الاستنكار هو الاستثناء الذى يؤكد القاعدة ولا يلغيها. .!.

 

 

 



[1]
ـ نظير سعداوى :27، 30. صور ومظالم من عصر المماليك.

[2]ـ العينى . عقد الجمان. مخطوط مصور وفيات 810 لوحة 276.

[3]ـ المقريزى. المقفى. مخطوط ج4/25.

[4]ـأو المحاسن: النجوم ج15/375.

[5]ـ أبو المحاسن : حوادث الدهور ج2/196.

[6]ـ السخاوى : التبر المسبوك 55، 145، 27.

[7]ـ أبوالمحاسن . حوادث الدهور ج3/579.

[8]ـ تاريخ ابن اياس ج1/2/220 تحقيق محمد مصطفى.

[9]ـ لين بول .سيرة القاهرة205.

[10]ـ تاريخ قاضى شهبة مخطوط ج2/167.

[11]ـ السخاوى: التبر المسبوك 422.

[12]ـ أبوالمحاسن:  النجوم الزاهرة جـ16/292، 341، حوادث الدهور جـ3/580

[13]ـ أبوالمحاسن: النجوم الزاهرة جـ16/292 ، 341، حوادث الدهور جـ3/580

[14]ـ الأمثال الشعبية لتيمور :20،139. شعلان: الشعب المصرى فى أمثاله العامية 62.

[15]ـ نظير سعداوى : صور ومظالم :30.

[16]ـ السخاوى  :التبر المسبوك77.

اجمالي القراءات 7583