في البحث عن الإسلام – مفردات – النّكاح غير الزواج - ملك اليمين في القرءان الكريم - الجزء الثاني عشر
بسم الله الرحمن الرحيم ، والحمد والشكر لله رب العالمين
(أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) الزمر - 36
في كل بحث من هذه الأبحاث التالية، سنورد أدلة اكثر وأكثر، على فهمنا الذي نظنه بكون النكاح غير الزواج، وسنتعرض لآيات تم إساءة فهمها من قبل كثيرين بسبب الترادف، والعاقبة للتقوى، وأكرر ما قاله تعالى – يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
.
______________
مفردة نَكَحَ – نكاح وعلاقتها بمفردة الزواج :
أبتديء هذا البحث بالقول بكل قوة، بحمد الله تعالى، بأن النكاح ليس الجنس كما اعتدنا عليه لغة، وكما حرفه التراث، بل هو إعلان،أي خِطبة،ويليها عقدمبدئي يدخل ضمنه الرجل والمرأة في ارتباط يسمح لهما بكثير من العلاقات بينمها الا الجنس، اي الدخول بها.
ولكي نفقه مفردة النكاح من القرءان الكريم، علينا البحث في كل الآيات التي وردت بها هذه المفردة، بترتيلها، وسنجد بكل بساطة، أن النكاح ليس زواج كامل، بل هو عقد زواج، أي حسب الأبحاث السابقة في مفردة اليمين، عهد بين طرفين أو يمين معقّدة، وله عواقبه!
وبما أننا نتفق أنه لا ترادف، فالنكاح لا يمكن أن يكون زواجا!
والله تعالى حين تحدث في حديثه عن النكاح، حدد له حدودا ومعايير وقواعد، نجدها في القرءان إن أردنا البحث بإخلاص، بعيدا عن التراث والتواتر، فالنكاح والزواج يدخلان في المتواتر من التراث، بحكم طبيعتهما، كما الصلوة بل أشدّ من الصلوة، بحكم دور العامل الاجتماعي فيه، إضافة للدين، ومع ذلك، تم تحريفهما بشتى الطرق!
فما الفرق بين النكاح والزواج ؟
كل المبدأ يكمن في اللاحق من الزواج!، كما بينت في بحث مفردتي الطلاق والإرث وعلاقتهما بالنكاح والزواج، فالزوجة ترث، ولها من زوجها حق معلوم في القرءان، ان توفاه الله، وقبل طلاق الزوجين هنالك خطوات كثيرة للإصلاح بينهما، في محاولة ترميم العائلة وعدم هدمها، إن كانت هذه الخطوات بين بعضهما البعض، او من طرف حكمين اثنين، ولها أجور على الرجل إن كانت حامل أو حديثة الولادة، كل هذا نراه في أحكام ما بعد الزواج، لكن التي ننكحها لا ترث شيئا، ولا حق لها سوى نصف ما فرضنا لها في عقد النكاح فقط، ويسقط عنها بقية أحكام الزواج كاملا! وهذا أكبر دليل على كون النكاح ليس بزواج بل هو مرحلة ابتدائية من الزواج نسميه لغة "بالخطبة" وفي بعض البلدان " كتب الكتاب" .
فالنكاح هو اتفاق وعهد وعقد بين اثنين، ذكر وأنثى، يتفقان به على البقاء معا، وبه، يمكنهما فعل اي شيء الا الإفضاء لبعضهما البعض، أي لغة، الدخول بها، اي النوم مع بعضهما البعض، ومنه، لها الحق كما قال تعالى في حالة عدم الرغبة في البقاء معها، أي الطلاق، نصف ما فرض لها.
اذا من القرءان، نفهم انها مثل الزوجة، ولكنها ليست زوجة بعد، فهي لا ترثه كما قلت اعلاه، بل ولا تسكن معه، ولكن لها حقوق، وهنالك عقد بينهما، كما أنه قد يدخل في العقد طرف ثالث، وهو الذي " بيده عقدة النكاح"!
أي انه قد تُوكّل الأنثى عن نفسها وكيلا يتولى القرار في أمور العقد وبنوده، محاميا كان – كما في عصرنا الحاضر أو والدها أو من ترغب – فلا تحديد لمن بيده عقدة النكاح، وهو من يقيّم الأمورفي عملية النكاح، من قيمة الفرض، وشروط العقد، وموعد أو أجل عزم النكاح، وحين الطلاق، هو من يقرر أيضا، إن كان يقبل لها أن تأخذ نصف ما فُرِضَ لها أم يعفو!
وهذا كله يمكننا فقهه من قوله تعالى :
( وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّآ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا۟ ٱلَّذِى بِيَدِهِۦ عُقْدَةُ ٱلنِّكَاحِ وَأَن تَعْفُوٓا۟ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَلَا تَنسَوُا۟ ٱلْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) البقرة – 237
فهنا نفهم انه من قبل أن ندخل بهنّ، تمسوهنّ في لسان القرءان، لا نفترق عن بعضنا البعض الا بطلاق !
ولنلاحظ هنا، من خلال هذه الآية الكريمة، ان المرأة ليست مهمّشة كما يدّعي التراث! وكما يحدث من ظلم في مجتمعاتنا، حيث يقول تعالى ( إِلَّآ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا۟ ٱلَّذِى بِيَدِهِۦ عُقْدَةُ ٱلنِّكَاحِ)، وهي خيارات، وليس إجبارا وتسييرا لها كما فعل التراث بمجتمعاتنا! فهي تملك القول فوق قول وكيلها، وهذا واضح في الآية، لمن اتقى .
فإن هي وكلت فلانا بأن يملك عقدة النكاح، فهي أولى أن تأمره أن يعفو إن رغبت، أي هو لا يكون وكيلها إجبارا بل اختيارا لتيسير أمورها، وهي من توكله، وهي من تستطيع أن تملي عليه ما ترغب من شروط أو عفو أو غيره..
ولننبّه من غفل عن قوله تعالى ( وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ )، على أن المرأة يجب أن تُطلّق بسبب العقد ليس أكثر، وكذلك الرجل، عفوا، فكلاهما مطلقان، أي خرجا من إلزام العقد، وهذا هو الطلاق بعينه! فلولا العقد بينهما ما حدث طلاق من الأصل.اي أنها يحق لها أن تطلقه أو هو أن يطلقها، فالطلاق هو قرار وعملية يتم من خلالها فقدان العقد قيمته بينهما، من خلال خطوات تم شرحها في الأبحاث السابقة.
أما الزواج فأهم ميزة فيه هو " السَّكَنْ"! وكم من آيات تصف الزواج، وتصف العلاقات الزوجية بالرحمة والمودة والسكن وعدم الظلم أو الغبن، وحفظ أسرار البيت وعدم نشرها الخ، وهذ كله لم يرد في النكاح أبدا!
والزواج اشترك في صفة مميزة، أقصد فعل الزواج بعد أن يفضي بعضهما الى بعض، وهذه الميزة مشتركة في علاقاتنا مع الله تعالى، أي هي ميزة تتكرر في علاقاتنا مع الله تعالى، وبين الزوج والزوجة، لما لهذه العملية من أهمية كبيرة عند الله، في بناء لَبِنة المجتمع الأولى، أو يمكننا القول، بيت صغير في المجتمع، هو يعتبر كلَبِنةٍ فيه، وهي ما وصفها الله تعالى " بالميثاق الغليظ "، الذي لا يكون الا بيننا وبين الله تعالى، أو بين الزوج والزوجة حين قال سبحانه ( وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُۥ وَقَدْ أَفْضَىٰ بَعْضُكُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَٰقًا غَلِيظًا ) النساء – 21.
وفي قوله تعالى (وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ ٱلطُّورَ بِمِيثَٰقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ٱدْخُلُوا۟ ٱلْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا۟ فِى ٱلسَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَٰقًا غَلِيظًا ) النساء – 154، وقوله (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ ٱلنَّبِيِّۦنَ مِيثَٰقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَٰقًا غَلِيظًا ) الأحزاب – 7 ، ونلاحظ هنا قوله تعالى، المؤكد لحدوث الإفضاء، والتأكيد على الميثاق الغليظ مع الإفضاء، ولم يقل ذلك في النكاح!
ومن هنا يتبين لنا كم هو الزواج مهم في القرءان، وأن الزواج بعيد جدا عن النكاح، فهما مفهومان مختلفان يعبران عن مراحل من هذه العلاقة، ولكل مرحلة منهما حدودها ومحدداتها وشروطها !
______________
مفهوم النكاح بعمومه :
هنالك الكثير من الايات التي تتحدث عن النكاح، وسنعرضها هنا بإذن الله:
1- ما نكح آباؤنا :
في قوله تعالى ( وَلَا تَنكِحُوا۟ مَا نَكَحَ ءَابَآؤُكُم مِّنَ ٱلنِّسَآءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُۥ كَانَ فَٰحِشَةً وَمَقْتًا وَسَآءَ سَبِيلًا ) النساء – 22، وهنا نرى قيمة أخلاقية راقية جدا، عالية القيمة، بأن لا نتداخل مع آبائنا، فيما اشتهوا من حب النساء، من قبلنا،اي، من المقت والسوء، أن يطلب أحد ما، يد امرأة، نكحها ابوه، من قبله، ومن الواضح هنا أن الحديث ليس عن زوجات الأب، ممن طلقهن، بل الحديث عمن نكحهن، ولم يفضي اليهن، أي لم يحدث بينهما نوم وفراش، وهذا من رقيّ الأخلاق، بأنه إن حدث ان نكحها وطلقها، فلا يحقّ، وليس من الأخلاق، أن ينكحها ابنه من بعده، فهو أمر مقيت سيء، وكان هذا الأمر فاحشة في السابق، اي منتشرا بين العرب كما يبدو من الاية، فالسلف دوما مذموم بعمومه في القرءان !
ومن السخافة أن يتقوّل احد ما، بأن لا نتزوج ما تزوج ابائنا، فهو أمر مرفوض اجتماعيا في العالم كله! ولا يحتاج لحكم في القرءان! لكي نعلم انه امر غير مقبول عند الله ولا عند البشر، وهذا في الردّ على من يبحثون في امور لم يذكرها الله تعالى في القرءان، بحكم كونها معروفة، من المعروف، بين البشر، ولكن تم ذكر عدم نكاح ما نكح آبائنا، لكي نرقى خلقيا أكثر، برغم كونهم، لم يفضوا بعضهم الى بعض!
2- عقدة النكاح :
العَقْدُ في النكاح له أجل، وهذا الأجل يُحدِّدُ يوم الافضاء، فهو مُسجل في كتاب بين الاثنين، ولا يجب أن يتجاوزا هذا الحدّ ابدا، حتى يبلغ الكتاب أجله، لما لتجاوز هذا الأمر من معقّبات كثيرة، فمن بعد الافضاء، تتغير الحقوق والواجبات والأحكام جميعها بين الاثنين، حيث يصبحا زوجين، مؤسسين للخليّة األصغرى في المجتمع، وهي العائلة، وهذا الأجل، او التاريخ المحدد مسبقا في العقد، فمفردة الأجل تدلّ على موعد وتاريخ محدد مسبقا، اسمه في القرءان، عقدة النكاح، أي يتم فيه تحقيق الميثاق الغليظ، باليمين الذي عقّدناه بين بعضنا البعض، أي العهد، كما كتبت في بحثي عن مفردة اليمين سابقا، من هذه السلسلة، ومن قوله تعالى في مورد البقرة – 237 أعلاه وكما في قوله تعالى ( وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِۦ مِنْ خِطْبَةِ ٱلنِّسَآءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِىٓ أَنفُسِكُمْ عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَٰكِن لَّا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّآ أَن تَقُولُوا۟ قَوْلًا مَّعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا۟ عُقْدَةَ ٱلنِّكَاحِ حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْكِتَٰبُ أَجَلَهُۥ وَٱعْلَمُوٓا۟ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِىٓ أَنفُسِكُمْ فَٱحْذَرُوهُ وَٱعْلَمُوٓا۟ أَنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ) البقرة – 235، فعزم الأمر هو تنفيذه، وحين يتم تنفيذه تصبح زوجته، ويحق لها الميراث كما في كتاب الله، وما فرضه لها كاملا غير منقوص إضافة لأمور كثيرة تتعلق بالزوجين كما قال تعالى في تفصيل مفردة عزم الأمر ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلْقَلْبِ لَٱنفَضُّوا۟ مِنْ حَوْلِكَ فَٱعْفُ عَنْهُمْ وَٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى ٱلْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُتَوَكِّلِينَ ) العمران – 159 ، حيث نرى أنه بعد أن يشاورهم "في الأمر" يتم العزم على تنفيذ ما نتج عن المشورة، فعزم الأمر هو تنفيذه.
3- علاقات فترة النكاح :
كنت قلت أعلاه، أنه في النكاح يفعل الشخصين ما يحبان الا أن يُفيضا الى بعضهما البعض، وربما كان التعبير فيه افتراء، لكن الله تعالى حدد ما يقوما به بالمعروف، كما نرى في الآية اعلاه ( أَنفُسِكُمْ عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَٰكِن لَّا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّآ أَن تَقُولُوا۟ قَوْلًا مَّعْرُوفًا )، فالله أعلم بما في أنفس البشر، وأن الحبّ والودّ موجود بينهم، فربط الأمر بالمعروف بين الناس، بقوله، قولا معروفا، ولم يتدخّل في التفاصيل البشرية، فهنا نرى أنه لا ينهى عن مواعدتهنّ سرّا، وليس كما اعتدنا في التراث، بل ينهى عن عزمنا عقدة النكاح قبل أجلها ليس اكثر، ونحن لن نتعرض للتفاصيل، ولن نسال قرءاننا، كما سُئِلَ موسى من قبل، من بعد النبيّ، ولن نسأل عن أشياء، إن تبد لنا تسؤنا!
4- المطلقات ونكاح أزواجهن :
وقد قمت بتحليلها ونقاشها في البحث السابق من آايات البقرة – 229:232 .
5- القدرة وحالة النكاح :
ومن الطبيعي أن يفصل الله تعالى كل ما يتعلق بالنكاح، لما سنتعرض له في هذا البحث واللاحق من الأبحاث، تفصيلا وتبيينا لما اخفوه وكتموه من علم فصله الله تعالى في الكتاب، ومنه قوله تعالى في الحديث الذي دار بين موسى والرجل الصالح في مَديَن ( قَالَ إِنِّىٓ أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ٱبْنَتَىَّ هَٰتَيْنِ عَلَىٰٓ أَن تَأْجُرَنِى ثَمَٰنِىَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِىٓ إِن شَآءَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّٰلِحِينَ * قَالَ ذَٰلِكَ بَيْنِى وَبَيْنَكَ أَيَّمَا ٱلْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَٰنَ عَلَىَّ وَٱللَّهُ عَلَىٰ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ) القصص – 27:28 ، حيث نرى هنا بكل وضوح عملية النكاح وعقدة النكاح والعقد وشروطه!
فمن هذه الآيات، نستخلص تجربة حيّة لعملية النكاح، حين نرى كيف عرض ابو الفتاة على موسى شروطه، وأشهد الله على العقد بينهما، وخيره بين شرطين اختيارا، وجعل احد الشرطين أيهما كان الزاما لموسى حسب رغبة موسى، ونلاحظ بأهميّة بالغة أسلوب بداية الآية الخطابي: ( قَالَ إِنِّىٓ أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ٱبْنَتَىَّ هَٰتَيْنِ )، حيث نفهم بكل وضوح، أنها عملية تستبق الزواج، فلو كان النكاح زواجا في الأصل ما استخدم الله تعالى الحق مفردتين للدلالة عليه!، ونرى من الآيات التي سبقت هذه كيف أن الفتاة هي من اختارت موسى إعجابا به، حين سقى لها ولأختها، وهي من قالت لأبوها عنه، ومدحته في اشارات لإعجابها به وهي لم تره غير مرة واحدة، فهي من أتته على استحياء، أي هي من أنكحته نفسها بوكالة أبيها، خجلا منها ان تعترف لموسى برغبتها حسب ظني.
وهذا الأمر ورد في النبي أيضا، أي أن الله تعالى لم يحدد من ينكح الآخر، فالمرأة لها الحق أن تنكح رجلا، كما العكس صحيح.
فالنكاح دائما مرتبط بوقت وحالة وشروط، بعد تنفيذها يكون الزواج، مثل قوله تعالى في معرض الحديث عن زينة النساء ( وَٱلْقَوَٰعِدُ مِنَ ٱلنِّسَآءِ ٱلَّٰتِى لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَٰتٍۭ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ )النور – 60 ، وهنا آية جميلة غاية في الدقة للتعبير عن النكاح من كونه قبل الزواج، فالنساء كبيرات السنّ مثلا، لن يطلبهنّ أحد ما، إن رءآهنّ بزينتهن وثياب خفيفة عليهنّ!
ويجب ان لا نغفل أن الآية هنا تتحدث عن الزينة والثياب التي تجعل الرجل يرغب في المرأة جنسيا، وليس ما درج عليه التراث! فهي وضعت ليس من زينهتا بل من ثيابها!
فهنا الحديث وصل الى درجة أن سمح الله لهن بوضع ثيابهن، لعلمه بأنهن لا يرجون أن هنالك من قد يرغب بهنّ جسدا، أو بطلبهن حين يراهن!
فلو رايت امراة كبيرة في السن، بثياب خفيفة عليها، فلن ارغب في أن اطلب يدها لغة، اي أن الأمر سابق لما هو لاحق، والسابق هنا هو ( لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا )، أي هنّ يعلمن أنه لن يرغب بهنّ أحد، ومن الطبيعي أن لا يكون الحديث في هذه الآية عن الزواج، فالعين تأكل قبل الفم، وكذلك النكاح قبل الزواج، ولو كان الأمر فيه خوف من زواج، أو جنس لغة، لكان من باب أولى أن لا يتم السماح لهن بفعل ذلك، وهذا تحليل دقيق للغاية في موقف وحالة تلك النساء القواعد!
ومن هنا رأينا دور العقد والحالة في عملية النكاح، والتي لا يمكننا ان نتجاوزها، بأن نحولها الى قول عن الدخول أو الإفضاء بالمرأة عفّة، ولهذا كان مصطلح النكاح في الاية مرتبطا بالعفّة، بينما الزواج في القرءان كله، مرتبط بالحرية التامة بين الزوجين، هن لباس لكم وأنتم لباس لهن، وكأننا الإثنين في ثوب واحد، أحدنا يمثّل هذا الثوب والآخر يلبسه، جسد واحد، وليس اثنين !
ولهذا انتهت الآية بذكر العفّة هنا، ( وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ )، لأن القضية ليست مرتبطة ابدا بما بعد النكاح من زواج وجنس، لانعدام فكرة النكاح ذاتها فكيف بالجنس ؟!!
ومن هنا ننتقل الى القدرة والعفة، أي الصبر بالترفع عن الأمر أخلاقا ( وَلْيَسْتَعْفِفِ ٱلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّىٰ يُغْنِيَهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِۦ وَٱلَّذِينَ يَبْتَغُونَ ٱلْكِتَٰبَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَءَاتُوهُم مِّن مَّالِ ٱللَّهِ ٱلَّذِىٓ ءَاتَىٰكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا۟ فَتَيَٰتِكُمْ عَلَى ٱلْبِغَآءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُوا۟ عَرَضَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ ٱللَّهَ مِنۢ بَعْدِ إِكْرَٰهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) النور – 33، فكيف لا يجدون نكاحا؟
هنا آية أخرى تدعم فهمنا بكون النكاح غير الزواج ابدا، فكيف لا يجدون نكاحا؟ وذلك لأسباب اقتصادية بحته، فهم لم يجدوا من يقبلن بهم بسبب فقرهم أو عدم قدرتهم المادية، وإن غابت هذه الشروط، فسيجدون نكاحا!
فكل القضية في أن يجدوا وليس يستطيعوا! فلو كان الأمر في الاستطاعة كما فهم التراث لقالها تعالى بصريح العبارة،كما ذكر الاستطاعة في عديد من الآيات، ولكن أن يجدوا من أن لا يجدوا هو نتيجة البحث عن شيء !
اي ان أجد الشيء بعد أن أبحث عنه، فعلى سبيل المثال لا الحصر، يقول تعالى عما سينبيء به البشر يوم الحساب ( وَوُضِعَ ٱلْكِتَٰبُ فَتَرَى ٱلْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَٰوَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا ٱلْكِتَٰبِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّآ أَحْصَىٰهَا وَوَجَدُوا۟ مَا عَمِلُوا۟ حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ) ، فكم خلطنا بترادف المفردات في فهم آيات الله تعالى البينات، بسبب تراث لغى في القرءان! فمن أنكر يوم الحساب، وأنكر ان يتم تسجيل ما عمل، ونسيه، سيجده بعد البعث أمامه وكأنه يراه.
فالذين لا يجدون، لا تعني فهم التراث، لا يستطيعون، فنحن "وجدنا" آبائنا على أمّة للاسف، وعلى آثارهم اقتدينا في فهم مفردات القرءان!
ومنه،أرى بكل قوة، أن نعيد تدبر كامل الآيات بدقة متناهية، ومراعاة كل مفردة صغيرة كانت أو كبيرة في تلك الايات، في الموضوع الذي نبحث فيه، كما فعلت في موضوع الصلوة، حيث غَيَّرَتْ مفردة صغيرة جدا مفهومي التام عن طبيعة الصلوة، من الذين ينكرون وجود حركة فيها، وسيهدينا الله بإذنه، فالحق لا ترادف فيه.
أما الآية الأخرى فهي تتحدث عن القدرة المالية نعم، وهي التي تحدثت في الطَّوْل، وهي حالة أخرى، يتحدث فيها تعالى عن قدرات الشخص، وسنتعرض لها لاحقا، بإذنه.
4- الوقت ونكاح القاصرات :
أما متى تُنكَح الفتاة او المرأة، فهنا الحق هدم تراثا من زواج القاصرات الذي ما زال منتشرا حتى يومنا هذا !
وهذا من فعل التراث المقيت، الذي استحلّ فرج القاصرات، بسبب أمراض في عقولهم وأنفسهم، فالله تعالى في صريح العبارة يقول ( وَٱبْتَلُوا۟ ٱلْيَتَٰمَىٰ حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغُوا۟ ٱلنِّكَاحَ فَإِنْ ءَانَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَٱدْفَعُوٓا۟ إِلَيْهِمْ أَمْوَٰلَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُوا۟ وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِٱلْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَٰلَهُمْ فَأَشْهِدُوا۟ عَلَيْهِمْ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيبًا ) النساء – 25 ، حيث لا جدال في هذه الايات، بل وهي من الأخلاق أنه لا يحق لنا أن ننكح فتاة لم تصل الى سن الرشد، اي لايحق لنا حتى التفكير بها، فكيف بالزواج بها وبالجنس والإفضاء؟ !! بل ولم يقل تعالى بلغت من القوة كما يدّعي كثيرون !
فبالله عليكم، هل من الطبيعيّ نفسيا أن يفكر رجل بفتاة لم تبلغ سن الرشد بكونها مهيئة لطلب يدها والارتباط بها ؟ فكيف بالزواج بها ؟ بل إنهم قوم لا يفقهون حديثا!
فكثير من الأعراب، يدّعون انه اذا بلغ جسدها، وتكوّن وكان قادرا على الحمل فلا باس في ان يتم تزويجها، والله على ما يقولون شهيد، وهو افتراء عليه ظاهر، فالله تعالى لم يربط النكاح بقوة الجسد بل بالرشد في العمر، والرشد عادة يلحق الجسد علميا، اي أن الجسد يتكون أولا، ثم الرشد يأتي، حيث يقول تعالى بأن نأنس منهن رشدا، أي علما وقدرة على التحليل والقرار والفهم كما فتية الكهف، وكما ابراهيم حين بلغ الرشد، وكما نادى لوط في قوم يبحث عن رجل رشيد، فلم يجد من حوله غير رجال مغيبين ذهنيا وفكريا، ضائعين في اللذات والشهوات المادية البحتة، لا يختلفون عن الأنعام قيد أنملة، كما كثيرون من الأعراب في يومنا هذا!
وبقية الآيات لا يتسع البحث لها هنا، وسافرد لكل منها بحثا حسب موضوعها مثل قوله تعالى ( ٱلزَّانِى لَا يَنكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَٱلزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَآ إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَٰلِكَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ )النور – 3 ، وغيرها.
______________
خلاصة البحث:
- مفردة نكاح غير مفردة زواج
- النكاح هو اتفاق وعهد وعقد بين اثنين، ذكر وأنثى، يتفقان به على البقاء معا، وبه، يمكنهما فعل اي شيء الا الإفضاء لبعضهما البعض، أي لغة، الدخول بها، اي النوم مع بعضهما البعض
- النكاح هو إعلان وعقد مبدئي يدخل ضمنه الرجل والمرأة في ارتباط يسمح لهما بكثير من العلاقات بينمها الا الجنس، اي الدخول بها.
- نكاح الفتاة غير مرتبط بقدراتها الجسدية فقط بل بالرشد وهو ان تكون قادرة ذهنيا وفكريا على الارتباط بآخر.
إنتهى.
والله المستعان
ملاحظة: لا حقوق في الطبع والنشر لهذه الدراسة، وإن كنت لم أصل إلى مراد الله تعالى الذي نطمح كلنا إليه –فهو سبب تدبرنا – فعسى أن تصححوا خطاي وأكون لكم من الشاكرين.
مراجع :
* المرجع الرئيسي الأساسي الحق – كتاب الله تعالى – القرءان الكريم