العالم اليوم يتشكل في اتجاه وحدة المعرفة الإنسانية، في اتجاه الإنسان الكامل، حيث الفردانية تعصف بسلطة الجموع والعقل الجمعي، فالاستقلال الفردي يطيح بسيطرة الدولة، والمعلوماتية، شبكات التواصل المعلوماتي والإجتماعي،عدم قدرة أي سلطة على احتكار المعرفة وعدم قدرة الدين التقليدي على مجاراة العصر رفقة نصوصه القادمة من عصر آخر، كلها تقاوم التاريخ ليبتلعه، كل هذه الأسباب تجعل الإنسانية تقف على أعتاب عصر آخر، عصر ليس ككل العصور، عصر الديانة الطبيعيّة وموت التقليدي، وكل من يرفض ذلك سيبقى خارج الحاضر والتاريخ نفسه.
لقد انفصل الدين عن الجغرافيا، بعد أن انفصلت الجغرافيا نفسها عن التقسيمات العرقية والإثنية ذات المنشأ السياسي قبل خمسين عاما، وأصبح انتشار الدين أو الخروج منه غير مرتبط بتقسيم ديموغرافي ثابت، لا يمكن رسم خارطة للعالم تحوي مساحات تحوي بالتأكيد جماعات تدين بهذا الدين بالكامل أو حتى المذهب والطائفة، الرسومات البيانية للإحصاء السكاني بناء على تعداد المنتمين للجماعات الدينية هي إحصاءات مخادعة وزائفة، إلا في حال كان من يسكن هذه الجغرافيا ليس سوى شخص واحد، فليست شمال إفريقيا سنّية، وليست كل الولايات الامريكية الغربية كاثوليكية، وليست اسكندنافيا بروتستانتية، بل واسرائيل نفسها ليست يهودية، فالأقليات المرئية أصبح حجمها لا يحدده العدد بقدر ما يحدده قوة الخطاب الذي تمثله، حيث أصبح الديني النمطي عاجزاً أمام الديني التنويري أو اللاديني أيضاً إلا عبر العودة الى حالة بدائية كجزيرة نائية معزولة عن العالم نفسه، وها هو حال الإسلام في طالبان، داعش أو حتى السعودية وإيران نفسيهما، وهذه مشكلةٌ تضر بالمجتمع، الدولة بل والدين نفسه، حيث من المستحيل تحقيق معادلة التطابق بين شروط المواطنة وشروط الإيمان إلا عبر إرغام المواطنين على الإيمان وهي مهمة مستحيلة لا يستطيع البوليس فعلها ولا رجال الدين أيضاً .
ما يحدث اليوم في اوروبا هو هجرة الدين البيولوجي كاستمرار لسيناريو الهجرة الموافق لطبيعة البقاء الإنسانية منذ عصر القرد منتصب القامة، حيث الأرض كانتولازالت سابقة للإنسان لكي يكون القول بأنها ملك لأحد ما نوع من السخافة، الهجرة تحدث في اتجاه مزاحمة دين بيولوجي آخر، الإسلام يزاحم المسيحية في بيئة علمانية ستساعد على حدوث أمر لا بد منه، ألا وهو علمنة الدين نفسه لا تدين العلمانية كما يريد البعض، وهو ما مرت به المسيحيّة مع مارتن لوثر الذي اعتبر أن العمل الصالح طمعا في كسب أحر من الله خطيئة، ليتجه نحو فهم جديد لمسيحيّة القيم، وسيمر به الإسلام أيضاً خارج بيئتة ظاهريّاً لكن فكرة العولمة وانعدام الحواجز والحدود أمام انتشار الأفكار لتصبح ظاهرة سائدة يرجع صداها وبقوة في اتجاه بلدان المنشأ، ليكون هنالك حتما خطابٌ يتجه أيضا نحو القيم لا الطقوس، خصوصا بعد أن اكتشف المسلمين اليوم أن مشكلتهم تكمن في الداخل، إنها النصوص المؤسسة للإنغلاق الطائفي والدين الكاذب، وهذه مشكلة ليست طارئة في اوروبا فقط، المجتمعات المتجرثمة داخل المجتمع، هنالك مهاجرون ينطوون على أنفسهم بسبب الهوية التقليدية ( مسلمون مقابل كفار )، حالهم حال انطواء الأصوليين في البلدان ذات الأغلبية المسلمة على نفسها داخل ذات الهوية التقليديّة ( مسلمون مقابل كفار )، على اعتبار بقية المجتمع مهرطق بلغة الإنجيل، مبتدع أو خارج عن الملة بلغة الفقه الإسلامي، وهذه هي مشكلة الإندماج التي تعيق التواصل المجتمعي بين المسلمين والمجتمع المضيف في أوروبا وأمريكا بدرجة أقل، حيث يقرر هؤلاء التحول الى جاليةٍ رغم حيازتهم على الجنسية وحق التصويت، وتمكنهم من لغة البلد المضيف، فالفرنسيون ذوي الأصول المغاربية لم يندمجوا في فرنسا بسبب عدم قدرتهم كمسلمين تجاوز فكرة طائفية الدين البيولوجي، لتتحقق فكرة أن الجغرافيا انعزلت عن الثقافة والدين فلم يعد المجتمع الحقيقي هو المجتمع الجغرافي، بل مجتمع القيم والأفكار العابرة للقارات والحدود في عصر العولمة وموت المجتمع التقليدي المغلق.
الجيل الثاني من المهاجرين المسلمين كما هو حال الجيل الأول وبنسبة أقل سيجدون أنفسهم في محك تاريخي ووجودي أيضاً، خصوصا حول سؤال الهويّة، فمع انهيار الدين البيولوجي نفسه في دول المنبع، وانتشار حالات التحول الى الدين القيمي المفارق للتراث، اللاأدرية أو حتى الإلحاد في دول شمال إفريقيا ذات الإغلبية المسلمة ( إحصائيا )، إذ هنالك دائما متحولون صامتون، ومع وصول الإسلام قبلهم الى أوروبا بفضل العولمة التي انتشر بواسطتها الإسلام نفسه في العالم القديم أول ما انتشر، سيكون على هؤلاء الدخول في صراع لن يكون مسلحاً طبعاً في أوروبا بين إسلام ضد إسلام ، الإسلام البيولوجي ضد الإسلام القيمي، وستكون اوروبا للمرة الثانية مسرحا لانهيار أحدهما، كما كانت الحالة مع قدوم المسيحية من القدس الى أوروبا وتحول مارتن لوثر الى رسولٍ آخر للمسيحيّة نفسها، فالتبشير الإسلامي في أوروبا معتمد على مبدأ من يأتي أولا، الطائفة الأحمدية يسمح لها أن تنشر جمعياتها عبر مساحة مساوية لبقية الطوائف في ألمانيا مثلا رغم أن هذه الطائفة نفسها منبوذة في بلدان الإسلام البيولوجي، بل تعتبرها المدارس الكبرى عدديا أو احصائيّاً ( السنة والشيعة ) خارج دائرة الإسلام نفسه.
إنها الوحدة بين الجغرافيا والإنسان عن طريق الإنفصال عن الدين البيولوجي والإثنية المفجعة، بل والإنفصال عن الدولة نفسها، وهذا هو الفارق الوحيد بين شمال المتوسط وجنوبه، هذا الفارق الذي سيتم اجتيازه بسرعة بفضل العولمة نفسها، الدولة احتاجت 300 عام كي تتأسس في اوروبا، وهي الآن تختفي في اتجاه دولة الإنسان أو الإنسان الدولة في أوروبا نفسها بعد أن فرض شكل العالم الجديد خلق الإتحاد الأوروبي، وفي جنوب المتوسط سيحدث الأمران دفعة واحدة، عبر الإتجاه نحو الأرض فقط لا الدين أو العرق، كعنصر وحيد يمكن الثقة به لضمان بقاء الدولة في اتجاه بقاء الإنسان ونجاته عبر عصر العولمة والإنسان الكامل القادم.
الدين قبل العولمة لم يكن سوى هوية ثقافيّةٍ محصورةٍ بواقعها الجغرافي، رفقة معضل الآخر الوثني، والآخر كان جغرافيا في البداية قبل أن تتراكم المعرفة ويزداد التواصل، ليكون الأخر الداخلي، فكان الصراع الأزلي بين طائفتي السنة والشيعة ينتقل الى شوارع لندن اليوم، وكان دور الدولة العلمانية في اوروبا حماية الطائفتين والسماح بخروج تيار جديد يفصل بينهما ويضعهما في موقف محرج بالإضافة الى الوضع المزري الذي هم فيه منذ ألف عام أصلا، وهو التيار التنويري، فكان عدنان إبراهيم في النمسا، وقبله أحمد صبحي منصور في الولايات المتحدة، ومحمد أركون في فرنسا، وهي فرصة لم تتح لتنويريين آخرين كانوا محاصرين داخل الجغرافيا نفسها، حيث كانت الدولة هي المسيطر على حدود المعرفة، فكان نصر أبو زيد أو محمد الجابري وحتى النيهوم يصرخون في وادي لا يسمعهم فيه أحد وهم يحاولون نقد التراث الديني وفصله عن القيم الدينية، بينما كانت الآذان كلها في وادي تسمع فقط لسيد قطب، حسن البنا ومحمد عبد الوهاب أعمدة الفكر الأصولي في عصر ما قبل العولمة حيث كان الدولة فقط تحدد الديني من اللا ديني، لتقوم السعودية بجلد رائف البدوي فقط لأنه امتلك تصورا آخر عن الله في دولةٍ لا تعترف بإلاه آخر خارج الجغرافيا الخاصة بها.
إنها أسئلة جديدة يتم سؤالها، والعالم يصبح أصغر، فمشكلة النص الديني وعائق اللغة من أكبر المشاكل التي تقف عائقا امام الدين نفسه، فاللغة في حد ذاتها ليست محايدة، اللغة لها سياقها التاريخي والثقافي الخاص، خلاف النص الديني الذي يُعلن أنه محايد، فكلام الله لم يعد مقبولاً بلغة دون أخرى، وترجمة النص المقدس توصل الى انتاج نص آخرٍ لا علاقة له بالأول، بمقدار علاقته بالمترجم نفسه لكنّه يشاركه قداسة زائفةً تجعل الدين نفسه زائفاً، أيضاً صورة الله نفسها غير مقنعة عبر تصور ثقافةٍ دون أخرى، وهذا يجعل المسلمين أنفسهم مرفوضون من قبل المسلمين، فها هم المتحولون الى الإسلام يشكلون أكبر نسبة من المنضمين الى داعش بسبب وحيد هو محاولتهم إثبات أنهم أكثر إسلاماً من المسلمين البيولوجيين أنفسهم.
إن إسلام ملاكم ألماني كبيير فوجل أو مغني راب فرنسي مثل أخناتون أو المغني الأمريكي كات ستيفنز أو المفكر الفرنسي روجيه جارودي مثله مثل تنصر شيخ من شيوخ الأزهر كمحمد الفحام أو الكاتبة الباكستانية النمساوية ساباتينا حيمز، أو رمزي يوسف عضو تنظيم القاعدة الإرهابي والقائمة تطول في الإتجاهين، لا علاقة لها بصحة ذلك الدين أو قوة الحجة بمقدار علاقتها بسيرة هؤلاء الأشخاص الذاتية، فالدين هوية فرديّة عبر رحلة الإنسان الدائمة في البحث الدائم عن ضمير آخر والتي لن تنتهي إلا عند الوصول الى الديانة الطبيعية، المشكلة هي تحول هؤلاء الى مبشرين للدين الجديد بسبب مشكلة محاولة إثبات أنهم أكثر إيمانا ممن سبقهم الى ذات الدين، ومحاولة استخدامهم لإثبات أن دينهم هو الصحيح بسبب الزيادة في حجم الأسماء المبهرة داخله، لكن الوضع المقبول للدين من قبل الجميع هو أن يكون حالةً فرديّةً لا سلطة توجّهها نحو التطرف في دائرة مفرغة لا توصل الى الإيمان أبداً، ولا قيود تمنعها من النمو، حسب اعتقادي الشخصي لنتوقف عن الصراع لأجل السماء قبل أن نخسر الأرض كلها.