"البلطجة" النسائيّة تدخل على خط الإنتخابات المصرية

في الجمعة ١٩ - نوفمبر - ٢٠١٠ ١٢:٠٠ صباحاً

طغت ظاهرة "البلطجة" النسائيّة على المشهد الانتخابي في مصر، إذ يستغل بعض المرشحين العناصر النسائيّة لكبح جماح منافسيهم في الانتخابات، وذلك مقابل أجر مادي للظاهرة التي احترفتها سُلة من النساء واعتبرنها وسيلة لكسب الرزق، مما حدا بدوائر متخصصة إلى إجراء دراسات حول تلك الظاهرة الاجتماعية للوقوف على أسبابها وتداعياتها.


US calls for free elections in Egypt

عرفت مصر ظاهرة البلطجة النسائية خلال انتخابات العام 2005، حيث لم تكن معروفة قبل هذا التاريخ، وسلط فيلم "خالتي فرنسا" ـ بطولة الفنانتين عبلة كامل ومني زكي ـ الأضواء عليها بطريقة جيدة، ورغم أن الفيلم تعرض للكثير من الإنتقادات حين عرض للمرة الأولي في دور العرض السينمائية، نظراً لتضمنه حزمة من الشتائم والسباب، الا ان ما جسده من مشاهد كان انعكاساً مباشراً لما يجري على ارض الواقع. ورغم محاولات الأجهزة الأمنية السيطرة على تلك الظاهرة، إلا أنها اضحت تمثل انتعاشا دائما، سيما في مواسم الإنتخابات، سواء المجالس النيابية او غيرها، وربما تطول في أحيان أخرى إنتخابات النوادي الرياضية والنقابات.

"بلطجة" نسائية

وفي محاولة من "ايلاف" لرصد ظاهرة "البلطجة" النسائية في مصر، والوقوف على اسبابها، تم الوصول الى عدد ليس بالقليل من الحيثيات التي بموجبها اضطرت سلة من النساء لاحتراف الجريمة، وتحويلها الى مورد لكسب قوتهن اليومي. وتعتبر منطقة الجيزة القديمة، وتحديداً منطقة سوق الخضروات والفاكهة، واحدة من أشهر المناطق في هذا الشأن، وكان لابد من الإستعانة ب"دليل"، أو مرافق للوصول إلى معاقلهن.

منتصف السوق أشار "الدليل" إلى إحدى السيدات، وكانت تجلس أمام "فرشة" أو كومة من الخضروات الورقية منها الخس والجرجير والفجل، وقال إنها واحدة منهن، وهي "نضورجية" أي تراقب الطريق، وتستشعر الخطر.

كانت سيدة في العقد الخامس من عمرها، ولا تبدو عليها أية ملامح للعنف، وجسمها نحيف بشكل واضح. وبمجرد الإقتراب منها قالت بنبرة حادة "أي خدمة يا بيه". فرد المرافق موضحاً أننا نريد الحديث إلى بعض من تعملن في "تنظيم الإنتخابات". لكنها رفضت وقالت "حد الله ما بينا وبين البلطجة يا باشا".

ومع الإلحاح، ومنحها "المعلوم" أي مبلغ من المال، وافقت، مدت يدها أسفل كومة الجرجير والخس، وسحبت سكيناً عبارة عن مطواة "قرن غزال"، وقالت بابتسامة خفيفة "لو مشيت من غيرها أشعر أني عريانة". ثم إنطلقت وسط زحام البائعين والمشترين بخطوات سريعة، ودلفت إلى شوارع وحارات خلفية.

حتى وصلت إلى أحد المقاهي الصغيرة يقال عنها "غرزة"، وألقت التحية على سيدة تجلس أمام ذلك المقهى، وأخبرتها أننا نريد الحديث معها عن "أعمال الخير والجدعنة" التي يقمن بها، بعد أن أكدت لها أننا لسنا من "الحكومة"، وأنه من الممكن أن نكون سبباً في حصولها على "رزق" لو نال عملها اعجابنا. وقدمتها إلينا باسم "المعلمة سكسكة".

وروت "سكسكة" وهي سيدة ممتلئة الجسد، تاريخ واحدة من أشهر البلطجيات، مؤكدة أنها بدأت مع "سكسة الكبيرة" التي توفيت منذ نحو 30 عاماً، و أضافت: "كانت ست مجدع، والناس كلها تعمل لها ألف حساب، وكان مفيش راجل يقدر يصدها، وورثت "سكسكة نمرة 2" الشغلانة عنها، وعندما ماتت مسكت أنا الشغل كله ".

وتتابع: "نحن نعمل لرفع الظلم عن كل من يلجأ إلينا، مثلاً لو هناك واحد مفتري ضرب رجلاً محترماً، وفرّج عليه الناس، وراح حرر ضده محضر أكثر من مرة، ولم تستطع الحكومة أن تثأر له، نقوم نحن بهذه المهمة لوجه الله، ولو أن هناك زوج مفتري تزوج بأخرى على زوجته أم أولاده أو خانها بعد العشرة الطويلة، وأرادت تأديبه، نقوم نحن بهذا الدور، حتى يعود لها مرة أخرى، زوجاً مطيعاً، ويحن عليها هي وأولادها، وكله ثواب عند ربنا. ولو أن هناك تاجرا له ديون لدى آخر، ويماطل في السداد، ولجأ إلينا، نحن نسترد له أمواله من زميله المفتري، ونحصل على نسبة تقدر ب15% من قيمة المبلغ".

ولكن ماذا عن الإنتخابات؟ سؤال منا، وجاءت الإجابة على لسانها، قائلة: "الإنتخابات موضوع كبير، ونحن لا نمارس البلطجة، بل نقوم بحماية المرشح الذي يلجأ إلينا وأنصاره أثناء الإدلاء بأصواتهم من بلطجية المرشحين المنافسين، و ننظم له المؤتمرات الجماهيرية، ونعلق له اللافتات الدعائية. ونخصص له "ست جدعة" من عندنا تحمي زوجته وبناته حتى إنتهاء الإنتخابات. وتحصل الواحدة منا على مبلغ يترواح ما بين 200 و500 جنيه في اليوم. وإذا كان المرشح المنافس له، "شايف نفسه" ويحاول التعرض له، ويريد تأديبه هو وأنصاره وزوجته وأولاده، نحن نتولى هذه المهمة، وممكن نرمي عليه واحدة منا تقف في طريقه، وتضربه علقة ساخنة، أو تذهب إليه في مقر عمله، وترمي "بلاها" عليه، وممكن تحرر ضده محضر تحرش أو تعرض لأنثي في الطريق العام، ويرتبك في التحقيقات بالنيابة، ولو خرج منها براءة نعمل له مشكلة مع أحد أشقائه أو المقربين له، وهذا العمل مكلف جداً، ويصل سعر إفتعال مشكلة كبيرة مع الخصم شخصياً بحيث تربكه تماما إلى خمسة آلاف جنيه، وتصل إلى 50 ألف جنيه في حال إذا كان صاحب نفوذ وقوي، ويريد المرشح الخاص بنا إسقاطه في الإنتخابات. وهذه المبالغ تذهب إلى كل العاملين معنا، ونحن نعيش عليها طوال العام.

امتصاص الضربات

Egyptian university students and members of anti-government ...

"حنان سفنجة" هو إسم سيدة أخرى، تقول: أطلقوا لقب "سفنجة" عليَ، لأني قادرة على إمتصاص أي ضربات بدون إصابات، وبدأت حكايتي مع العنف عندما تزوجت من رجل مفتري، ومدمن على المخدرات، وكنت أعمل خادمة في البيوت من أجل توفير لقمة العيش، بينما يجلس هو في المنزل، لكنه في يوم ما طلب مني أن "أمشي المشي البطال" ـ أي تعمل في سوق الدعارة ـ وفجأة وجدت نفسي أنهال عليه بالضرب بقطعة خشب حتى فقد البصر، وأجبرته على تطليقي، وكان ذلك قبل تسع سنوات، ومنذ ذلك الحين وأنا أكره جنس الرجال، وقررت الانتقام منهم. ولذلك لا أعمل إلا مع النساء من أجل استرداد حقوقهن من أزواجهن  الظالمين، وأساند المرشحات فقط، إنه مبدأ أعمل على أساسه. ولأني أعرف أن الستات مهما علا شأنهن "منكسرات الجناح"، قررت الوقوف إلى جوار مرشحات كوتة المرأة، وأعمل مع إحداهن "بودي جارد حريمي" لحمايتها هي وأبنائها من أية محاولة عنف قد يتعرضون لها.

وتدخلت سيدة شابة في الأربعينيات من عمرها في الحديث، وقالت: "وأنا دعوة الأم التي لم يستجب لها الله". وأوضحت قائلة: عادة ما تدعو أي أم لإبنها قبل الخروج من المنزل صباحا "ربنا يكفيك شر طريقك"، وأنا عندما أدخل في أي معركة، أضرب بقوة وأقول للخصم: أنا شر طريق الذي دعت لك أمك ربنا يكفيك إياه، ولكنه لم يستجب لها. إنها "شيرين شر الطريق"، إمرأة لديها مسحة من الجمال، لكن عينها يبدو فيها الشر لامعاً. وعندما لمحتنا ونحن نخرج الكاميرا الفوتوغرافية من الحقيبة، نظرت إليها وقالت بلهجة: ما هذه؟ كاميرا. يبدو أنك ناوي على نهايتنا ونهايتك أنت أيضاً. وهنا إضطررنا إلى إعادتها للحقيبة مرة أخرى، ولم نستطع إلتقاط صوراً لهن.

تتشابه حكايات كل من البلطجيات ـ أو "فاعلات الخير" كما يفضلن أن يطلقن على أنفسهن ـ في غالبية المناطق التي تشتهر بأنها مأوى لهن، مثل الجيارة في مصر القديمة، الدويقة، منشية ناصر، البساتين.

ومنهن "سماح مشاكل"، التي حصلت على هذا اللقب منذ أن كانت طفلة، حيث كانت غاوية مشاكل، وكانت تضرب زملاءها وجيرانها باستمرار، و"نادرة سهوكة"، التي تحاول حل المشاكل بالود، و لا تفضل البدء بالعنف، ولكنها في النهاية تضطر لاستخدامه، و"رجاء أم قلب حنين"، وهو لقب يحمل الضد، حيث إنها مشهورة بقسوة القلب والشدة، لدرجة أنها لا ترحم الأطفال أو العجائز، و"مني الموس" وهي فتاة شابة كانت تدرس في المدرسة الثانوية الفنية، وتعرضت للتحرش من قبل بعض الشباب، وكادت تتعرض للإغتصاب، لولا أنها أخرجت من جيبها "موس" أو شفرة حلاقة كانت تستخدمها في "تشذيب القلم الرصاص"، وضربت به أحدهم في وجهه، وأصيب بجرح غائر، واستطاعت إنقاذ نفسها، وكان ذلك منذ 11 عاماً، ولذلك لا يفرقها "الموس" أينما توجهت، حيث تضعه أسفل لسانها، ولا تخرجه من فمها إلا عند تناول الطعام.

قائمة الاسعار

في هذا الاطار، قدم اللواء السابق في وزارة الداخلية رفعت عبد الحميد دراسة حديثة تقدم قائمة يقول إنها أسعار عمليات البلطجة الحريمي في إنتخابات مجلس الشعب المقبلة، الأمر الذي يعد إعترافا شبه رسمي بإنتشار هذا النوع من العنف في مصر. ووفقاً للدارسة فإن هناك 25 نوعاً من العنف تقدمه البلطجيات للمرشحين، وهي كالتالي: "ردح سادة 800 جنيه. ردح و قلة أدب 1600 جنيه. فضيحة بجلاجل داخل نطاق عمل الخصم 3 آلاف جنيه. فضيحة بدون جلاجل 250 جنيهاً. هتك عرض 5 آلاف جنيه. ضرب بالروسية 400 جنيه. شنكل حرامية 200 جنيه. ضرب يفضي إلى موت 15 ألف جنيه. ضرب بدون عاهة 500 جنيه. تحرش جنسي 700 جنيه. ضرب بعاهة 6500 جنيه. استعمال آلة حادة 4 آلاف  جنيه. تشويه بمواد كيماوية "مياة النار" 12ألف جنيه. مهاجمة مجموعات من أنصار الخصم 25 ألف جنيه. مهاجمة بلطجيات المرشح المنافس 25 ألف جنيه. مقاومة السلطات 6 آلاف جنيه. الترويع والتخويف من خلال اتصال تليفوني ورسائل تهديد ألف جنيه. إسقاط مرشح منافس 47 ألف جنيه. تخويف أنصار مرشح منافس، حتى ينفضوا من حوله 3 آلاف جنيه. هتيفة وتصفيق وكومبارس 50 جنيهاً للفرد. تقطيع لافتات الخصم 30 جنيهاً لكل حالة. منع مؤتمر الخصم 10 آلاف جنيه. إهانة الخصم بالطبل البلدي مع أغنية "بودعك آخر وداع" 500 جنيه في الساعة. توفير بودي جاردات  لزوم الوجاهة 270 جنيهاً للفرد. تنظيم زفة الفوز للمرشح 4 ألاف جنيه.

بدوره يقول المعارض البارز الدكتور أيمن نور  وهو واحد ممن عانوا من البلطجة: إن البلطجة سلوك عنيف يرفضه المجتمع ككل، ونشأ في ظل إحتكار الحزب الوطني للسلطة، الذي تعود على إستخدام المسجلين خطر والخارجين عن القانون، لإرهاب المعارضين السياسيين، بدون أي تكون له مسؤولية ظاهرية عما يرتكب في حقهم من أفعال إجرامية. مشيراً إلى أنه تعرض للبلطجة بكافة أنواعها كما تعرضت السيدة جميلة إسماعيل لما يعرف بالبلطجة النسائية. مشدداً على ضرورة أن تفضح منظمات المجتمع المدني تلك الظاهرة الخطيرة التي ترتبط بالإنتخابات، حتى يتم إجبار السلطات المصرية على تحجيمها والقضاء عليها تماماً.

"البلطجة صناعة المرشحين"، إنه رأي الدكتور محمد شريف أستاذ علم النفس الجنائي، الذي يضيف أن البلطجة سواء حريمي أو رجالي هي صناعة المرشحين، الذين ليست لهم أرضية حقيقية في دوائرهم، ويحاولون فرض سطوتهم على المنافسين، وإرهاب المواطنين، و إجبارهم على عدم التوجه لصناديق الإقتراع، مشيراً إلى أن ظاهرة البلطجة النسائية إزدهرت نتيجة لإنتشار الفقر وزيادة عدد المناطق العشوائية التي تضم ما يزيد على 12 مليون مواطن، وتتوافر فيها مآوي للخارجين عن القانون، ومحترفي الجريمة. ويحذر أن تلك الظاهرة سوف تستفحل أكثر، ما لم يشعر المواطن بوجود إهتمام حقيقي به، وأن يتم القضاء على البطالة، وتوفير حياة كريمة له. 

اجمالي القراءات 5225