حين يقول التاريخ: ( فتح العثمانيون القسطنطينية بقيادة السلطان محمد الثاني الفاتح سنة 1453 م ) فإننا نستطيع من خلال ذلك الخبر التاريخي أن نتعرف على أركان الحدث التاريخي، فالحدث التاريخي له زمان ومكان وأبطال، أي له ثلاث أضلاع، وتكتمل بالضلع الرابع وهو الهدف من رواية الحادثة التاريخية، العظة والاعتبار. وفي الخبر التاريخي السابق نجد ( الزمان ) سنة 1453 م و ( المكان ) هو القسطنطينية و ( الأبطال ) وهم العثمانيون والبيزنطيون. و ( العبرة ) حسبما يتراءى للقارئ أو الكاتب.
ويقول ابن واصل في تاريخه " مفرج القروب في أخبار بني أيوب " و ( في هذه السنة ( 601 ) هـ أغار الملك المجاهد أسد الدين صاحب حمص على الفرنج حتى وصلت غاراته إلى حصن الأكراد وأخذ من الغنم والمواشي ما لا يحصى كثره ) في تلك الرواية التاريخية نجد ( الزمان ) سنة 601 هـ، والمكان ما بين حمص إلى حصن الأكراد في الشام حيث كان الصراع قائما بين الأيوبيين والصليبيين، و ( الأبطال ) في هذا الحدث هم الملك أسد الدين وجنوده وأعداؤه الصليبيون. و ( العبرة ) تبدو لمن أراد بين السطور الحدث وثناياه.. تلك هي إذن أركان الحدث التاريخي في أي رواية تاريخية..
فهل نجد تلك الأركان في القصص القرآني.؟؟
">ويقول تعالى عن تاريخ ماض " واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون، إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث " ( يس: 13 ) ولا نجد هنا أيضا تحديدا لأسماء الأبطال ( القرية ، المرسلون ، الثلاثة ) ولا نجد تحديدا ( لموقع ) القرية ولا ( للزمن ) الذي حدثت فيه الواقعة .
غابت فى القصص القرآنى الأركان الواقعية للحدث التاريخي من الزمان والمكان والإنسان، ولكن برزت في القصة القرآنية وتكثفت أهمية العبرة والعظة.
وذلك هو:
منهج القصص القرآني.
إن التاريخ هو تسجيل حركة الإنسان على الأرض بالتعمير أو بالتدمير، وذلك تسجيل يتحدد فيه الزمان والمكان وأسماء الأشخاص المؤثرين في الحدث والقائمين عليه، ثم يأتي العنصر الرابع وهو العبرة ليكون اختياريا، مع ضروريته القصوى لكي يستفيد الإنسان من ماضيه ويتقدم في حاضره ومستقبله. والقرآن الكريم ليس كتابا في التاريخ، بل إن مادة " أرخ " لم تأت في القرآن مطلقا.
إن القرآن هو كتاب في الهداية، وقد أستعمل شتى الأساليب للهداية من ضرب الأمثلة وحكاية القصص للعبرة والعظة والإتيان بالحقائق العلمية، ولم يكن القرآن موجها للعرب في القرن السابع وحدهم، وإنما هو لهداية البشرية منذ نزل إلى قيام الساعة، ولذلك نرى القصص القرآني حين يتحدث عن وقائع تاريخية معاصرة لنزول الوحي – نراه يجرد الواقعة من أثار الزمان والمكان وأسماء الأشخاص ويرتفع بها إلى مستوى الإنسانية لتكون عظة للبشر جميعا في كل زمان ومكان ولتنطبق على كل إنسان أينما كان..
وللتدليل على ذلك النهج القرآني في القصص نقرأ معا قوله تعالى:
( إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما ، وأستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما ، ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما ، يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذا يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا ، ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا ، ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ، ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما . ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرمي به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا، ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك، وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما ) ( النساء: 105 – 113 )
والمفهوم من الآيات الكريمة أن أحدهم سرق شيئا وحين افتضح أمره خاف أهله العار فتآمروا على أن يضعوا الشيء المسروق في بيت شخص بريء ، وذهبوا للنبي يدافعون عن أبنهم الذي ادعوا أنه متهم بالسرقة ظلما ، وصدقهم النبي فدافع عن ذلك الجاني دون أن يعرف ، ونزل القرآن يوضح الحق وينهي النبي أن يدافع عن الخائنين " ولا تكن للخائنين خصيما " ويصف تآمر أهل الجاني " يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون مالا يرضى من القول " وينهي عن الدفاع عنهم واصفا اياهم بالخيانة " ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم " " ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا " . أى لا يستطيع النبى أن يدافع عنهم يوم القيامة أو بتعبير أديان المسلمين الأرضية لن يستطيع الشفاعة فيهم.
ولم يحدد القرآن أسماء الجاني والبريء وأهل الجاني ومن دافع عنهم، ولم يحدد الزمن الذي حدثت فيه الواقعة، وبذلك تحولت الحادثة المحددة بالأشخاص والزمان والمكان إلى قضية عامة تسير مع كل زمان ومكان، قضية البريء الذي يؤخذ ظلما والمجرم الذي يفلت من العقوبة بسبب سطوة أهله، وتلك فلسفة القصص القرآني أن يتحدث عن حالات إنسانية تجدها في كل زمان ومكان.
ولذلك فإن القرآن حين تحدث عن مشركي مكة أو منافقي المدينة لم يقل: يا أهل مكة المشركين أو يا منافقي المدينة أو يا فلان، وإنما كان التعبير الدائم " الذين كفروا " " الكافرون " " المشركون " سواء كان الحديث عن معاصري نزول الوحي أو عن المشركين السابقين. وبذلك يتحول الوصف إلى وصف عام ينطبق على الماضي والحاضر والمستقبل ، وصف لا يتحدث عن الشخص وانما عن الفعل الذى يقوم به الشخص سواء كان فعلا ايمانيا ( الذين آمنوا ) او فعلا كافرا ( الذين كفروا ).
وكل ذلك من واقع أرضية حقيقية هي أن الشرك في كل زمان ومكان ينطق نفس المعاني ويقترف نفس الأفعال وبذلك تتحقق معجزة القصص القرآني في كل عصر، وينطبق على كل مشرك في كل زمان ومكان، ثم يضاف إلى ذلك توخي العبرة والتكثيف على الهداية.
وإذا عدنا إلى القصة السابقة عن الجاني والبريء المتهم وجدنا احتفالا بالعبرة وتوضيحا للعقائد الأساسية في الإسلام، فيما يخص النبي وإمكاناته البشرية، وفيما يخص عدالة الإسلام والثواب والعقاب.. وذلك ما جاء في التعليق القرآني على تلك القصة التي تظهر رقي الإسلام الحضاري الذي ينبغي أن يفخر به المسلمون وأن يقدروه حق قدره خصوصا وأنه نزل في عصور التخلف والقهر والاستبداد.
ونترك للقارئ أن يتدبر مكانة النبي البشرية وأن عصمته بالوحى الذى يؤنبه و يهذبه ويؤدبه ، إقرأ قوله تعالى للنبي " ولا تكن للخائنين خصيما، واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم ". ، " هاأنتم جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا "، " ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما ".
وليتدبر القارئ عدالة الإسلام دون أدنى محاباة في الثواب والعقاب في الدنيا والآخرة، من خلال قوله تعالى " ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما " وهذه هي الحالة الأولى: حالة المذنب التائب " ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما " وهذه هي المسئولية الفردية على الذنب، " ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا " وتلك هي عقوبة المذنب الذي يلفق تهمته لشخص بريء.. وهي أفظع لأنها بهتان وأثم مبين.
ذلكم هو القصص القرآني ومنهجه في تكثيف العبرة وتحويل الحادثة المحلية إلى قضية إنسانية تسير مع الزمان والمكان في كل زمان ومكان، لذلك استعمل القرآن كلمة " قص " بمعنى التبليغ للوحي " ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي " ( الأنعام: 130 ). ويجعل هدف القصص هو العبرة والفكرة " فاقصص القصص لعلهم يتفكرون " ( الأعراف 176 ).
ويقول عن العبرة من القصص " لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب " ( يوسف: 111 ). ويقول عن سمو الحقيقة في القصص القرآني " نحن نقص عليك نبأهم بالحق " الكهف 13. ، " إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله " آل عمران 62، و " نحن نقص عليك أحسن القصص " يوسف 3.
والقرآن هو أحسن القصص يصحح لنا الروايات التاريخية التي حاولت أن تلحق به – ليس في الإعجاز – وإنما في التاريخ البشري لبعض القصص القرآني الذي تعرض للسيرة النبوية.
وفي البداية نقول أن الرواية التاريخية ينبغي أن تحول القصة القرآنية التي تعلوا عن الزمان والمكان إلى حادثة تاريخية محددة بالزمان والمكان، فإذا قال القرآن " وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين " ( الأنفال: 30 ) فإن الرواية تقول لنا اجتمع فلان وفلان وفلان.. الخ في دار الندوة بمكة بتاريخ كذا وقالوا كذا، واتفقوا على كذا وكانت النتيجة كذا.. هنا يؤدي التاريخ مهمته.. ويكون قد لحق بالقصص القرآني في عملية التأريخ للمسلمين.
ولكن إذا كان القصص القرآني حقا يقينيا لأنه من عند الله ولأنه قرآن لا ريب فيه فإن الروايات التاريخية في السيرة النبوية جهد بشري يأتي بالحقائق النسبية.
إن القارئ للقصص القرآني يعيش مع العبرة وهو يتلوا قوله تعالى " لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا ، ملعونين أينما ثقفوا اخذوا وقتلوا تقتيلا " ( الأحزاب : 60 ) ولكنه يريد أن يعرف أيضا بالتحديد من هم الأشخاص المنافقون ومن هم الذين في قلوبهم مرض ومن هم المرجفون .. وتلك مهمة الروايات التاريخية أن توضح الطابور الخامس للمشركين في المدينة، وحين يقرأ قوله تعالى " الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين " النساء 141. يريد أن يتعرف على هؤلاء الذين كانوا يلعبون على الحبال فى المعارك بين المسلمين و الكفار المعتدين .
والله تعالى يقول عن غزوة بدر: " كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون، وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين " ( الأنفال 5: 7 ) فالآيات صريحة في أن فريقا من المسلمين قبل الالتحام في معركة بدر كان كارها في الحرب وطامعا في القافلة فحسب، وأنهم حين فوجئوا بحتمية الحرب كرهوا اللقاء وأعلنوا رأيهم في صراحة وجادلوا النبي في الحق بعد ما تبين ثم حين أذعنوا للقرار الحتمي، كانوا كأنهم يساقون للموت وهم ينظرون. والروايات التاريخية سكتت عن التعقيب عن ذلك القصص القرآني فأعطت الانطباع بتناقضه مع الروايات الأخرى البشرية عن بدر.. هذا مع أن البدريين كانوا معروفين بالاسم وقد ذكرهم ابن الجوزي مثلا في كتاب " تلقيح فهوم أهل الأثر في عيون التاريخ والسير ". وغيره، ومع كثرة ما ذكر عن أهل بدر فإننا لا نعرف من هم الذين خافوا المواجهة وجادلوا النبي في الحق بعد ما تبين. والله تعالى أكد على ذلك الذي حدث قبيل غزوة بدر حين قص علينا خبرها في سورة آل عمران ( 121 – 126 )، بقوله تعالى " وإذ غدوت من أهلك تبوىء المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم، إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون، ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة ".. وبالطبع لا نعرف ا لطائفتين المذكورتين في الآية.
إن القصص القرآني حق مطلق بنسبة مليون في المائة، ولكن الحق في الروايات التاريخية نسبي لأنه كلام بشري، ولذلك فالقصص القرآني يصحح لنا أخطاء بعض الروايات التاريخية.
والقرآن الكريم أيضا نزل يوضح لبني إسرائيل الحق فيما اختلقوه من روايات وما اختلفوا بشأنه من قضايا وأحداث، يقول تعالى " إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون " النمل 76.
ولكن تفصيل ذلك يحتاج إلى وقفة أخرى.
والله تعالى المستعان .