عند جميع الناس أن الإنسان مخلوق عاقل. إلى أي حد الإنسان مخلوق عاقل؟
إن كان العقل يقود الإنسان، فما الذي يقود العقل؟

محمد صادق في الإثنين ٢٠ - أبريل - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً

 

 

 

عند جميع الناس أن الإنسان مخلوق عاقل. إلى أي حد الإنسان مخلوق عاقل؟

هل الإنسان عقل خالص صرف؟ أم أنه يخضع لمؤثرات كثيرة، تجعله أحيانًا لا يتصرف بعقله كما ينبغي؟

بعض المؤثرات الخارجية...

1- نوع العقل...

 أهو عقل ذكي؟ أم متوسط الذكاء؟ أم ضعيف الذكاء؟ أم غير ذكي على الإطلاق؟

ذلك لآن عقليات الناس تتفاوت في نوعيتها ودرجاتها. وحسب التفاوت يختلف الفهم والتفكير والاستنتاج.

وتختلف أيضا نوعية الذاكرة: هل هي مجرد ذاكرة جامعة وحافظة؟ أم حافظة ومرتبة؟ وهل تسعفه في أي وقت، أم تخونه أحيانًا؟

كذلك ما نوع تفكيره؟ هل هو تفكير شامل؟ أم يتركز في زاوية واحدة ويهمل الباقي؟ وهل هو تفكير سطحي أو عميق؟ وما درجة عمقه؟ وعلى هذا القياس، إلى أي حد نقول عن كل إنسان أنه عاقل؟

ليس الناس على حد سواء، حتى في فهمهم ما هو حادث، أو فهم ما ينبغي أن يحدث.. هناك شخص بالكاد يقود نفسه، وآخر يمكنه أن يقود غيره أيضًا. وثالث يحتاج إلى من يقوده.

2- وهناك من طريقة تفكيرهم تتعِبَهم . وقد تتعب غيرهم معهم أيضًا...

 

إنسان قد يفكر في مشكلة، ويساعده عقله على حلها. وإنسان آخر تستقطبه المشكلة، وتستولي على عقله وكل تفكيره، في صحوه وفى نومه، وربما في أحلامه أيضًا. ولا تترك له فرصة ليفكر في غيرها. وبهذا تفكيره فيها يتعبه، ويقينًا يؤثر على أعصابه ونفسيته.

3- وقد يوجد إنسان يسيطر على عقله الشك...

يشك في الأحداث وما تحوى. ويشك في الناس وتصرفاتهم ونواياهم.. يشك فيما يُقال وما يسمع. ويشك في قدرته على التصرف. ويشك في المستقبل. والشك يتعبه ويؤلمه، وقد يجلب له الخوف والاضطراب ومع ذلك فعقله غير قادر أن يخرج من دائرة هذا الشك! ومهما قيل له من تبرير يزيل هذا الشك، فإنه يشك في هذا التبرير أيضًا، ومدى صدقه، وما هو هدفه. وقد ينمو الشك عنده فيشمل كل شيء، وكل إنسان حتى أعز الناس... ويصبح فريسة للإشاعات وللظنون والأكاذيب.

ومن أصعب الشكوك التي تصيب بعض العقول، الشكوك الإيمانية، مثل الشك في الله عند الملحدين وأمثالهم، والشك في الحياة الأخرى وفى يوم القيامة، والشك في الكتب السماوية، أو في بعض الحقائق الإيمانية والعقائدية والمسلمات. وإذا وصل العقل إلى هذا الحد من الشك، ما أسهل أن يستحوذ عليه الشيطان ويلعب به.

ويزوده عدو الخير بأفكار وأفكار، ويرشده إلى قراءات تزيد شكه، وإلى زملاء من نفس النوع، يعمقون الأفكار التي تحاربه ويضيفون إليها. هل تظنون مثل هذا العقل عقلًا خالصًا، بينما هو في قيادة غيره؟

4- العقل أيضًا يتأثر بالجهل...

سواء كان جهله نتيجة عدم معرفة، أو نتيجة معرفة مضللة وصلت إليه، ونتيجة لوقوعه في الجهل، يتصرف تصرفات خاطئة. وإذا يجهل حقائق أي موضوع أو أي حدث، تسيطر عليه بعض الظنون والأفكار التي ما أسهل أن ترهقه. يحتاج مثل هذا العقل إلى المعرفة الصادقة المقنعة، وإلى التوعية السليمة، وأحيانًا إلى العتاب المشبع بالحب والنية السليمة،لكشف الحقائق. وأصعب أنواع الجهل الذي يحارب العقل، الجهل الذي يرفض المعرفة.

أعني العقل الذي يتمسك بجهله في إصرار، مقتنعًا بما عنده من أفكار، ويشك في كل توعية وكل شرح.. مثل هذا، ربما التجارب تصقله، أو النعمة تفتقده، بتجديد ذهنه. وعلى كل كلما ينمو الإنسان في المعرفة، تتغير طريقة تفكيره، على حسب نوع المعرفة التي تأتيه.

5- هناك عقل يقوده مبدأ معين يؤمن به...

فهو يعيش داخل هذا المبدأ، سواء كان سليمًا أو خاطئًا، ولا يحب أن يتزحزح عنه، بل يستمر حبيسًا فيه. ويشكل هذا المبدأ هيكلًا أساسيًا لحياته، حتى بالنسبة إلى كثير من الفلاسفة، الذين يحكمهم العقل فرضًا، ينطبق عليهم المثل القائل بأن نقطة البدء في الفلسفة أحيانًا تكون غير فلسفية، أي ربما يبدأون بعامل نفساني معين، يبنون عليه كل فلسفتهم.

6- نوع أخر من العقل يسيره أب أو معلم...

فهو منقاد إلى عقل آخر يسيره كيفما يشاء، سواء كان عقل أب بالجسد، أو أب روحاني، أو معلم أو مرشد. وليست لديه فرصة أن يتصرف أو حتى يفكر. إلا داخل دائرة هذا المعلم وتفكيره وإرشاده. وتكاد شخصيته أن تكون مفقودة تمامًا. وبخاصة لو كان هذا الأب أو المرشد شديدًا في سلطته، يتطلب لونًا من الطاعة العمياء.

ويزيد هذا الانقياد العقلي الكامل، إن كان عقل من يطيع مدفوعًا بثقة كاملة فيمن يُطيعه. أو اعتقاده أنه سيهلك إن هو خرج عن حدود الطاعة، أو إن اقتنع بأن مجرد المناقشة أو الحوار مع من يرشده، لون من الكبرياء. هنا عقله لا يعمل، إنما يطيع عقلًا آخر.

7- العقل قد تقوده أيضًا الأخبار أو الشائعات...

أو يقوده أي كتاب يقرؤه، أو تأثير فيلم يراه في السينما أو في التلفزيون أو في الفيديو.. لأن عقله قد تعود الاستسلام والخضوع لقيادة أخرى تؤثر عليه.. حتى لو كانت الصحافة، أو الأخبار التي يسمعها من الناس أو أي شخص أقوى منه فكرًا ومنطقًا.. وقد يثبت بعد فترة كذب الشائعات، أو عدم صحة الأخبار.. ولكن بعد أن تكون قد تركت في نفسه أثرًا، ليس من السهولة أن يزول. أما العقل السليم القوي، فهو يفحص ويدقق كل ما يسمعه، يفحصه ويحلله. ويقبل منه ما يقتنع به، ويرفض الباقي. أو يترك بعض الأخبار الأخرى لمزيد من الدراسة والاستقصاء. ويمكنه أن ينتفع ببعض ما يقوله الناس. ولكنه لا يسلم ذاته لهم تسليمًا كاملًا ولا يكون مثل ببغاء.

8- والعقل قد تقوده الأعصاب أحيانًا.

إن كان سريع التأثر، وسريع الانفعال. ويفكر مدفوعًا بانفعالاته. شمشون أطاع دليله، لأن كثرة إلحاحها عليه، كان ضاغطًا على أعصابه، التي دفعت عقله بلون من الضيق واليأس كشف فيه سره. 

9- وكثيرًا ما يخضع العقل لمؤثرات عائلية أو اجتماعية...

فكثيرًا ما تستطيع زوجة أب أن تؤثر على عقله وفكره، حتى يسئ معاملة أبنه من زوجته الأولى، مصدقًا ما تصبه في أذنه من مؤثرات. كذلك المجتمع كثيرًا ما يترك تأثيره على عقول الناس. فيكون الإنسان في وسط الجماعة متأثرًا بفكر الجماعة وانفعالها. مثل تلميذ في مظاهرة، يردد كل ما يقوله زعماء المظاهرة. فإذا قبض عليه وألقى في سجن، وجلس وحده، حينئذ يفكر عقله بطريقة أخرى، وقد يلوم نفسه على اندفاعه وراء المظاهرة.

10- يوجد عامل آخر يسميه البعض (غسيل المخ)...

وفيه يقع عقل تحت تأثيرات متوالية، وشكوك متعددة، وضغوط فكرية، بحيث تقتلع منه كل ما كان فيه، وتحشوه بفكر آخر جديد عليه.. ويخرج من هذه الدائرة التي حبسوا عقله فيها، وإذا به يفكر بطريقة أخرى، عكس ما كان قبلًا. بل قد يتحمس للفكر الجديد تمامًا، الذي عاش فيه دون إتاحة فرصة للفكر الآخر أن يقيم توازنًا مع ما يقع عليه من ضغوط فكرية.

11- وقد تؤثر على العقل طوائف ومذاهب أخرى...

كإنسان يختلط فترة بمجموعة من الشيوعيين، تحول عقله إلى فكر شيوعي. أو يختلط بمجموعة من المتشددين فترة، فيصبح وأحدًا منهم وداعية لهم. وكذلك نقرأ عمن اختلطوا بالوجوديين، وبطوائف أخرى متعددة. تركت تأثيرها على عقولهم، فأصبحوا يفكرون بطريقة أخرى. إنسان يخالط متشددين، فيتحول إلى متشدد. أو يختلط بمستهترين، فيتحول إلى مستهتر. يضيق فكره أو يتساهل، حسب تأثير الواقع عليه.

12- وقد تؤثر على العقل نوعية نفسيته...

فالإنسان صاحب النفسية الرقيقة الحساسة، ما أسهل أن يتأثر تفكيره بأية كلمة تقال له، ويصور له فكره أنها خطيرة وصعبة. والإنسان صاحب النفسية البسيطة، كثيرًا ما يتقبل عقله أمورًا لا يمكن أن يصدقها متعمق باحث عن الحقيقة.

13- وقد يتأثر العقل بعادات وطباع...

تسَّيره العادة أو الطبع، في أمور لا يقبلها العقل المتزن، بل ربما أكثر من هذا، يبدأ العقل في تبرير تلك العادات وتلك الطباع، وما يصدر عنها من سلوك. وقد يثق العقل بأن هذه العادة تضره، ومع ذلك تنتصر العادة. لأن القيادة لا تكون وقتذاك في يد العقل، وعلى رأي المثل "الطبع يغلب".

14- هناك عقل آخر يقوده الخوف...

الخوف يشل عقله عن التفكير، ويقوده بنفسه. وقد يقود الخوف هذا العقل ليشتغل لحسابه. كأن يخطئ إنسان، ويخاف من نتائج أخطائه، فيدفع العقل إلى تغطيتها بحيل أو أكاذيب أو اتهام غيره ظلمًا. كل ذلك ليستره. الإنسان الخائف لا تطمئن إلى سلامة تفكيره.

15- عقل آخر تقوده الشهوة...

شهوة جسد، أو شهوة انتقام، أو شهوة مناصب أو ألقاب، أو شهوة مال، أو شهوة عظمة، أو شهرة.. وقد يضيع عقله في سبيل تحقيق هذه الشهوة. فالذي تسيره شهوة الانتقام، ترى كل عقله يفكر في كيف ينتقم، ولا يفكر مطلقًا في عواقب ذلك، ولا في وصايا الله.. أنه محصور داخل هذه الشهوة، تسيطر على كل تفكيره، وحدها.. وينفذ ويضيع.. لآن عقله لم يستطع أن يمنعه عن الجريمة.

16- والعقل قد تقوده العاطفة.

هناك عاطفة تقود العقل، وعاصفة بلا عقل. وهناك عقل بلا عاطفة، وعقل متزن له عاطفة ولكنه يحكمها. أنواع أربعة، وكل نوع يختلف عن الآخر. فالعقل الذي تقوده العاطفة، مثل الأم التي تمنع أبنها من السفر لفائدته، لأنها تريده إلى جوارها، أو الأم التي تتدخل في كل شئون أبنتها الزوجة، بحكم عاطفتها، ولكن بلا عقل فتتلف حياتها، وزواجها. أو مثل تلميذ بسبب العاطفة، يغشش زميلًا له في الامتحان، فيقع الإنسان في مسئولية وتحقيق، وقد يلغي امتحانهما.

17- وهناك عقل يقوده الإيمان...

حقًا إن العقل له قدرة على التفكير، ولكن إذا ما استنار بالهدى والإيمان، الذي يعرفه بكل الحق.. حينئذ تكون أفكاره سليمة تمامًا وموافقة لمشيئة الله. أصعب نوع من العقل، هو الذي يعلن استقلاله عن الله. ويسلك حسب فهمه البشري، أما الذي يقوده هدى الله، فهو الذي يقول لله "لتكن مشيئتك".

هل بعد كل هذا نقول إن الإنسان مخلوق عاقل، بمعنى أن العقل هو الذي يقوده؟  كلا.

عقل تقوده وصايا الله...

" وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19) " (سورة لقمان 13 - 19)

اللهم إجعلنا ممن تقوده وصايا الله السميع العليم...

وصدق الله العظيم.

اجمالي القراءات 31315