: جذور الإنحلال الخلقى الجسدى وتشريعه فى دين التصوف
ج3 / ف 1 : إعتراف صوفى بالمسئولية عن الانحلال مع الدعوة اليه

آحمد صبحي منصور في الخميس ٢٦ - مارس - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً

كتاب (التصوف والحياة الدينية فى مصر المملوكية )

الجزء الثالث : أثر التصوف فى الانحلال الأخلاقى فى مصر المملوكية 

الفصل  الأول: جذور الإنحلال الخلقى الجسدى وتشريعه فى دين التصوف.

ثانيا: الصوفية ونشر الانحلال الخلقى وتشريعه:  2

 : إعتراف بالمسئولية عن الانحلال مع الدعوة اليه

 اعتراف بمسئولية التصوف عن الانحلال :

   1 ــ إن مسئولية التصوف عن نشر انحلاله الخلقى فى المجتمعات التى سيطر عليها أمر مقرر يتفق مع طبائع الأشياء ، فالشأن فى العقائد الدينية المنحرفة أن يتكاثر أتباعها من العامة والحكام الظلمة والجهلة الفسقة من أدعياء العلم . وهم فى نهاية الأمر يمثلون أغلبية البشر. ومع وضوح الأمر فإن مصادر الصوفية نفسها تعترف بمسئولية التصوف فى نشر الانحلال ،فالغزالى فى القرن الخامس يقول عن طوائف الصوفية  فى عصره ( إنهم لايجتنبون المعاصى الظاهرة ،  فضلا عن الباطنة) أى يعلنون المعصية، ويقول عنهم : ( وهم بذلك يظنون بأنفسهم الخير) وذلك طبيعى طالما صبغوا انحلالهم بالدين ، فلم يعد العصيان عيبا.  ثم يقول ( وشر هؤلاء مما يتعدى إلى الخلق ، فيهلك من يقتدى بهم) أى يعترف هنا بأن الصوفية قدوة فى الانحلال للباقين  ، ثم يقول ( ومن لايقتدى به تفسد عقيدته فى أهل التصوف كافة)[1]. ولأجل ذلك هاجم الغزالى صوفية عصره أملا فى أن يؤمن الناس به باعتباره وليا صوفيا وحتى لاتفسد عقيدتهم فى أهل التصوف كافة .

       وبعد الغزالى بخمسة قرون يرى الخواص فى القرن العاشر نفس الرأى يقول حسبما يذكر عنه الشعرانى : ( ينبغى الإبتداء بتحذير الفقهاء والفقراء ، لأن هاتين الطائفتين هم القدوة للناس فى كل زمان ومكان، فإن انعوجوا انعوج أتباعهم وراهم)[2]. ولقد كان الفقراء والفقهاء عامة أهل التصوف فى ذلك الوقت . وقد ( انعوجوا) حسبما يأتى ذكره( فانعوج) الناس خلفهم.

الدعوة للعصيان :

     1 ـ  ومع ذلك فقد شارك أئمة التصوف فى الدعوة الى للعصيان، طبقا لعقائد التصوف التى لاتفرق بين الحسنة والسيئة وطبقا لمقولة وحدة الفاعل والتى أوضحناها.

           2  ــ فالجنيد رائد الاعتدال يقول فى التوبة ( هى نسيان ذنبك)[3]. . وإذا نسى الإنسان ذنبه فلابد أن يقع فيه مرارا وكل مرة يتوب ثم ينسى وهكذا حتى إذا  جاء يوم الحساب أخبرهم الله بالسيئات التى نسوها طبقا للتعليمات التى وضعها الجنيد، يقول جل وعلا عن ذنوب العُصاة : (وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمْ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) المجادلة ).   وقد حاول الطوسى صاحب كتاب ( اللمع )الذى أورد مقالة الجنيد السابقة أن يؤول معناها فقال معلقا( بأنه أجاب عن توبة المتحققين فهم لايذكرون ذنوبهم لما غلب على قلوبهم من عظمة الله تعالى ودوام ذكره)[4] .  وبقدر ماحاول الطوسى أن يبتعد بالجنيد عن الدعوة للمعصية بنسيان الذنب، فإنه اقترب من تقرير عقيدة الصوفية فى الاتحاد بالله وحلول الحق فى قلب العارف بحيث ينسى ماعداه ولو كان ذنبا.

    3 ــ   والقشيرى تخلص من المأزق الذى وقع فيه الطوسى ، فحاول أن يقرر نفس الفكرة فى الدعوة للمعصية عن طريق المنامات ، فيروى أن القاضى يحيى بن أكثم وكان قاضي القضاة  فى عهد المأمون ، ومشهورا بالشذوذ الجنسى : ( رؤى فى المنام فقيل له مافعل الله بك؟ قال غفر لى إلا أنه وبخنى ، ثم قال لى يحيى خلطت علىَ فى دار الدنيا ، فقلت أى رب اتكلت على حديث: إنك قلت أنى لأستحى أن أعذب ذا  شيبة بالنار فقال قد عفوت عنك)[5].  فالقشيرى اختار قاضيا مشهورا بالشذوذ ليتناسب حاله مع الأشياخ الصوفية ، وأصدر قرارا بالعفو الإلهى عنه فى هذا المنام الذى صيغ بعد موت يحيى بن أكثم بأكثر من قرنين،  والهدف واضح هو تشجيع الأشياخ الصوفية على الشذوذ الجنسى طالما قد شابت رءوسهم ، فالعفو جاهز أمامهم .

    4 ــ  وكما تطوع القشيرى بطمأنة رجال الشذوذ الكبار فإنه تفضل أيضا بطمأنة المخنثين حتى تستمر مسيرة الشذوذ، فيروى أسطورة أخرى يقول صاحبها: ( رأيت جنازة يحملها ثلاثة من الرجال وامرأة ، فأخذت مكان المرأة وذهبنا إلى المقبرة فصلينا عليها ودفناها، وقلت للمرأة: من كان هذا منك؟ فقالت ابنى ، فقلت أولم يكن لكم جيران ؟ قالت نعم ولكنهم صغروا أمره، فقلت وأين كان هذا؟ قالت: كان مخنثا، فنمت فى تلك الليلة ، وكأنه أتانى آت كأنه القمر ليلة البدر وعليه ثياب فجعل يتشكر لى فقلت من أنت ..؟ فقال أنا المخنث الذى دفنتموه اليوم رحمنى الله عز وجل باحتقار الناس إياى)[6]. فذلك المنام المزعوم لايكتفى بتوفير الجنة للمخنثين فى الآخرة، ولكنه يحذر من الاعتراض عليهم أو احتقارهم حتى تستمر مسيرة الشذوذ.

    5 ــ ثم يضفى القشيرى بركاته على الزناة فيفترى أسطورة ينسبها لنبى الله عيسى، يقول( قيل خرج عيسى ومعه رجل صالح من صالحى بنى اسرائيل، فتبعهما رجل خاطىء مشهور بالفسق ، فقعد منتبذا عنهما منكسرا، فدعا الله وقال: اللهم اغفر لى ودعا الرجل الصالح وقال اللهم لاتجمع غدا بينى وبين ذلك العاصى ، فأوحى الله إلى عيسى: أنى قد استجبت دعاءهما جميعا رددت ذلك الصالح ، وغفرت لذلك المجرم )[7] . وهكذا أضاع القشيرى فى اسطورته تلك مستقبل رجل صالح بسبب كلمة، وأعطى الجنة لفاسق بسبب كلمة، ووصف الله تعالى بالظلم وافترى على الله وعلى رسوله عيسى.. وكل ذلك ليطمئن العصاة من الصوفية ، ويغيظ الطائعين من العُبَاد، الذين ينكرون على الصوفية انحلالهم .

   6 ــ والشاذلى فى العصر المملوكى كان يقول( ماطلبت من الله حاجة إلا قدمت إساءتى أمامى)[8] .  وهى كلمة قد تحتمل معنيين، إما أنه يعترف بالذنب أمام الله حين يطلب الحاجة وذلك يعنى أنه يخالف شيخه الجنيد فى نسيان الذنب ، وإما أنه يقدم إساءته أمام الله بمعنى أنه يقع فى المعصية قبل ذلك، وذلك المعنى الذى يتفق مع دعوة الشاذلى للمعصية، حين يخاطب الناس فيقول( من أحب ألا يعصى الله تعالى فى مملكته فقد أحب ألا تظهر مغفرته ورحمته ولايكون لنبيه شفاعة)[9]. فهو هنا يهدد من لايعصى بإغضاب الله والرسول.

اسطورة الشفاعة النبوية

   1 ـ    ويتمسح الصوفية بنسبة الشفاعة للنبى ،  ويشجعون الناس على الانحلال الخلقى اعتمادا عليها، ثم ينسبون الشفاعة لأنفسهم ضمن كراماتهم المزعومة فى الدنيا والآخرة ويشجعون الناس على العصيان طبقا لذلك أيضا ، وقد مر بنا ماكان يفعله الشيخ على وحيش المقيم فى بيت الدعارة ، والذى كان يصمم على عدم خروج أحد من الزناة إلا بعد أن يشفع فيه ، ويعلن انه قد قبلت شفاعته عند الله ، وربما يحبس بعضهم اليوم والإثنين حتى تقبل شفاعته على حد مايزعمون فى الأسطورة .

      2 ـ  والقشيرى يشارك فى ذلك عن طريق المنامات ،فيدعى ان صوفيا شفع فى شاب خليع أراد الناس طرده من البلد لفسقه ثم يموت الشاب فى الأسطورة ، وقد أوصى أمه أن تتشفع فيه ، فوقفت على قبره تتشفع فيه فسمعت الشاب من القبر يقول( انصرفى ياأماه فقد أقبلت على ربى الكريم )[10].

     3 ــ   وفى العصر المملوكى كان مولد البدوى أكبر تجمع بشرى فى مصر ــ ولايزال ــ ويعتمد ذلك التجمع البشرى على أسطورة تأليه البدوى فى عقيدة المصريين . ويمثل هذا المولد مناسبة هامة للانحلال الخلقى منذ العصر المملوكى وحتى الآن . ويرتكز هذا الانحلال الخلقى على أساس عقيدى ، هو شفاعة البدوى فيمن يعصى فى مولده وينسبون للبدوى قوله( وعزة الربوبية ماعصى أحد فى مولدى إلا وتاب وحسنت توبته، وإذا كنت ارعى الوحوش والسمك فى البحار أفيعجزنى الله عن حماية من يحضر مولدى ؟ ) [11] وفى ذلك يقول أحدهم عن رواد المولد الأحمدى فى طنطا:

          وأعجب شىء أن من كان عاصيا        بمولده يُعنى به ويُرفق [12].

         وطالما كان العاصى فى مولد البدوى محوطا بعناية البدوى وشفاعته فلا عليه مهما فعل .

    4 ــ وإذا تركنا الطريقة الأحمدية وذهبنا الى الطريقة الشاذلية، رأينا ابن عياد الشاذلى يفترى مناما يزعم أنه : ( رؤيت امرأة من بنات الخطا) فى الأسكندرية فى حالة حسنة بعد موتها فسئلت عن ذلك فقالت ( مات أبوالحسن الشاذلى ودفن فى حميثرة  فغفر الله لكل من دفن من المسلمين فى مشارق الأرض ومغاربها من أجله ، فكنت أنا ممن غفر الله له بحرمةالشيخ  إكراما له)[13] .

 وعليه فلابد أن البرقيات توالت فى المنامات من جميع الأموات من الهند والصين والمغرب تشكر أبا الحسن الشاذلى للمغفرة التى تمتعوا بها لمجرد أنهم (دُفعة) الشاذلى فى الموت . وبقى على الدفعات التالية من الموتى أن تنتظر موت ولى آخر من الشاذلية ، ولهم أن يستمروا فى الانحلال الخلقى فيما بقى لهم من عمر ويظفروا فى النهاية بشفاعة ذلك الولى الشاذلى طبقا لمقولة على وفا الشاذلى: ( وعزة الرب المعبود قيل لى : ياعلى وحقك على ــ وهو القسم العظيم ــ ما أحبك أحد إلا أحببته ، ولو عمل ماعمل ، ولا أبغضك أحد إلا أبغضته ، ولو عمل ماعمل)[14].  وفى ذلك النص تجديد الإفتراء الصوفى على الله ، فهم يجعلون الله تعالى يقسم لعلى وفا بحقه عند الله ،  وهو ( القسم) الذى لو تعلمون( عظيم) بأن الذى يحب ( الأخ )( على وفا ) يحظى بحب الله له ولو كان أعتى الفجار، وأن الذى يبغض ( الأخ ) ( على وفا ) يبغضه الله ولو كان أتقى الأبرار ، إذن لاعبرة بالمعصية أو الطاعة وإنما العبرة هى حب ( الأخ ) ( على وفا) ، ولاشىء فى الإسلام سوى ذلك ( الأخ ) ( العلى وفا ) ولا تثريب على العصاة طالما رضى عنهم ( الأخ ) ( على وفا ).

       وهكذا تعلم العصاة الاستمرار فى المعصية تحوطهم بركات الأشياخ وشفاعتهم ولسان حالهم يقول كما يورد الشعرانى نفسه: ( فيقولون مادام شيخنا يعيش لا نحمل هما. وفى الآخرة يأخذ بيدنا، وقد يكون شيخهم قد سبق فى علم الله أنه فحمة من فحم جهنم، فوقع استنادهم على عدم)[15].

أخيرا

   1 ـ   وبعد لقد شرع الصوفية الفساد الخلقى وصبغوه بالصبغة الدينية بحيث لم يعد مستوجبا للإنكار،  وصدّقهم المجتمع المملوكى ، مما جعل ابن القيم الجوزية يقول متعجبا : ( ومن أبلغ كيد الشيطان وسخريته بالمفتونين بالصور أنه يُمنّى أحدهم إنه إنما يححب ذلك الأمرد أو تلك المرأة الأجنبية لله تعالى لا للفاحشة ، ويأمره بمؤاخاته ) . ويتحدث عن تشريع التعاون على الفاحشة ( وقد يبلغ الجهل بكثير من هؤلاء إلى أن يعتقد أن التعاون على الفاحشة تعاون على الخير والبر، وأن الجالب محسن إلى العاشق جدير بالثواب ، وأنه ساع فى دوائه وشفائه وتفريج كرب العشق عنه، وإنه من نفس عن مؤمن كُربة من كُرُب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة[16]

وتلك جناية التصوف على العامة التى هدف الإسلام للرقى بهم ، فجاء التصوف يشرع لهم الانحلال ويجعله دينا..

    2 ــ يقول رب العزة جل وعلا : ( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (19)  النور ). هنا تأكيد من رب العزة بأن الذين ( يحبون ) أن تشيع الفاحشة فى الذين آمنوا لهم عذاب أليم فى الدنيا وفى الآخرة ، وهو جل وعلا يعلم غيب القلوب ، ونحن لا نعلمه .

المستفاد من الآية الكريمة أن هناك عذاب مزدوجا فى الدنيا ثم فى الآخرة لمن ( يُحبُّ  مجرد شعور بالحب ) أن تشيع الفاحشة فى مجتمع مؤمن مسالم . فكيف بالذى لا يحبُ فقط بل يعمل فى نشر الفاحشة بين المؤمنين ؟ ثم كيف بالذى لا يعمل فقط فى نشر الفاحشة بالطرق الدنيوية العلمانية بل يستغل الدين نفسه فى الترويج ونشر الفاحشة ؟ ثم كيف بالذى يعتبر الفواحش عقيدة دينية تجعله متحدا بالله جل وعلا ؟

هل هناك كفر عقيدى قلبى أفظع من هذا .؟ .!!

لا أظن ..!!



[1]
. الاحياء جـ 3 / 334

[2] .الشعرانى إرشاد المغفلين 133 .

[3] الطوسى : اللمع 68 .

[4]الطوسى : اللمع 68.

[5]. الرسالة القشيرية 110 ، 109 ، 104

[6]  . الرسالة القشيرية 110 ، 109 ، 104

[7] الرسالة القشيرية 110 ، 109 ، 104 .

[8] ابن عطاء لطائف المنن 113 .

[9] الطبقات الكبرى للشعرانى 2 /5

[10] الرسالة القشيرية 109 .

[11] عبدالصمد الأحمدى : الجواهر السنية 69 ، 120 ، 71  .

[12] عبدالصمد الأحمدى : الجواهر السنية 69 ، 120 ، 71  

[13] المفاخر العلية 38 .

[14] المناقب الوفائية 5 . مخطوط

[15] البحر المورود 175

[16]إغاثة اللهفان تحقيق حامد الفقى جــ 2 / 141 ، 142 . 

اجمالي القراءات 7625