كتاب (التصوف والحياة الدينية فى مصر المملوكية )
الجزء الثالث : أثر التصوف فى الانحلال الأخلاقى فى مصر المملوكية
الفصل الأول: جذور الإنحلال الخلقى الجسدى وتشريعه فى دين التصوف.
ـالتصوف ينشر الانحلال بين العوام المصريين
الصوفية والعوام :
1 ــ أكثرية البشر على هذا الكوكب الأرضى ضالون مضلون وقد حذر الله جل وعلا تعالى النبى عليه السلام منهم فقال له( وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (116) الأنعام ) . والأقلية من البشر هى التى تؤمن الإيمان الحقيقى وتتحكم فى غرائز الجسد وتتقى الله تعالى ، ومن معانى التقوى عدم الإصرار على المعصية : (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) آل عمران ) ، فالتقوى لاتعنى عدم الوقوع مطلقا فى الذنب وإنما تعنى أيضا التوبة منه وعدم الرجوع إليه والانهماك فى الطاعة حتى لايبقى وقت للمعصية . والتقوى الإسلامية على هذا تتطلب إرادة حديدية وحربا مستمرة مع مكائد الشيطان ، وفى النهاية فلن ينجح فى هذا الإختبار إلا الأقلية من البشر التى تقرن الإيمان بالعمل الصالح (إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ (24) ص ). هذه الأقلية هى أهل الجنة من السابقين المقربين وأهل اليمين : (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنْ الأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنْ الآخِرِينَ (14) ، (وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً (36) عُرُباً أَتْرَاباً (37) لأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنْ الأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنْ الآخِرِينَ (40) ) الواقعة )
2 ــ وإذا كانت الأكثرية من البشر ضالة مضلة فلأنها تسىء استخدام الحرية التى منحها الله لهم وترسب فى اختبار الحياة الدنيا وتستسهل الوقوع فى الذنوب خصوصا إذا وجدت دعاة للعصيان ،خصوصا إذا إرتدت زى الدين . فما أسهل سريان دعوات الانحلال إذا صبغت بالدين وصار رواد الانحلال الخلقى أشياخا ذوى صبغة دينية يدعون للانحلال علنا ويجعلونه أساسا من أسس الدين على نحو ماسبق من صلة الانحلال الخلقى بعقيدة التصوف .
ودين الله يهدف لتزكية هذه الأكثرية الضالة من البشر والسمو بأخلاقها، أما أديان البشر الأرضية فهى تحمل هوى أربابها ، إذا كانت تسلطا وطغيانا كالدين السّنى صار الدين عنفا وإرهابا وإكراها فى الدين ذا لون أحمر كلون الدم . وإذا كان الهوى فى الكسل والتواكل والمجون واللهو واللعب مثل دين التصوف تحول الى نشر التحرر من كل القيم العليا الأخلاقية ، وكان العوام الأسرع إنقيادا له لأنهم يجدون المُسوّغ الدينى والتشريع الأرضى الذين به يفسقون ويضمنون دخول الجنة بشفاعة الأولياء طبقا لأساطير هذا الدين الأرضى .
3 ــ ـوالتصوف ــ بالذات ــ هو الأقرب للعوام ، فلا تروج مزاعمه بالكرامات والخوارق إلا بين العوام التى لا عقل لها ولا علم لديها . ونحن هنا نتحدث عن العوام تيارا عقليا ، وليس كطبقة إجتماعية . فعقلية العوام لها شيوخها وقادتها حتى الآن ، وتراهم من الأثرياء وعلية القوم ويحملون أرفع الشهادات العلمية ، وهم أجهل البشر وأغباهم؛ أجسام البغال وأحلام العصافير. ينطبق عليهم قول رب العزة جل وعلا : () وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ ) (4) المنافقون )
التصوف يتطلع للانتشار بين هذه الأكثرية الضالة ومغازلة غرائزها وإرضاء نزواتها ، فتعطيهم المشروعية الدينية لما هم منهمكون فيه من انحلال خلقى ، وخطورة ذلك فى أن العاص العادى إذا وقع فى الذنب فإمكانية توبته قائمة طالما يعرف أنه اقترف معصية ، أما إذا وجد من يبرر له معصيته بل يصبغها بالدين ويجعلها وسائل للتقرب لله ــ على نحو ماسيأتى ــ فإنه لن يستمر فى انحلاله فقط ، بل سينشر ذلك الانحلال باعتباره دينا .
4 ــ ويفسر ذلك سرعة انتشار التصوف بين العامة وتحوله إلى طرق صوفية تتغلغل بين طوائف الشعب وطبقاته الشعبية والدنيا ، فكان منهم شيوخ عوام أعلنوا مقالات الأشياخ بما سبب الحرج الكبير لأئمة التصوف ، فهب القشيرى والغزالى فى القرن الخامس يهاجمان أولئك العامةمن المتصوفة (العمليين) ويحاولون دون جدوى تبرئة التصوف النظرى من صراحة أولئك الرعاع .
5 ــ يقول الغزالى عنهم (طائفة ادعت علم المعرفة ومشاهدة الحق ومجاوزة المقامات والأحوال الملازمة فى عين الشهود والوصول إلى القرب ، ولايعرف هذه الأمور إلا بالأسامى والألفاظ ، لأنهم تلقفوا من ألفاظ الطامات كلمات فهو يرددها، ويظن أن ذلك من علم الأولين والآخرين .. حتى أن الفلاح ليترك فلاحته والحائك يترك حياكته فيلازمهم أياما معدودة ، ويتلقف منهم تلك الكلمات المزيفة فيرددها كأنه يتكلم عن الوحى ويخبر عن الأسرار ، ويستحقر بذلك جميع العُبَاد والعلماء ، فيقول فى العُبَاد أنهم أُجراء متعبون ،ويقول فى العلماء أنهم بالحديث عن الله محجو بون )[1]. فأولئك الفلاحون والحائكون ( الخياطون ) تركوا الحرفة والتحقوا بجماعات التصوف يرددون عباراتهم عن الإتحاد بالله والحلول ، ولايعرفون منها إلا مجرد التعبيرات ثم يحتقرون القائمين بالعبادة والمنهمكين بالعلم ، فاعتبروا العباد قد أتعبوا أنفسهم بالعبادة وأن العلماء قد حجبهم العلم عن معرفة الله .
6 ــ وأولئك الفلاحون والحائكون وغيرهم من جموع العامة وإن أعوزهم فهم ألفاظ التصوف الفلسفى ومصطلحاته ورموزه ، فهم أقدر على تطبيقها عملا حين وقعوا ــ حسب كلام الغزالى ــ فى إباحة المحرمات : فقال عنهم : ( طائفة وقعت فى الإباحة ، وطووا بساط الشرع ، ورفضوا الأحكام ، وسووا بين الحلال والحرام)[2] .
7 ــ وقبل الغزالى فى نفس القرن الخامس كان القشيرى يتهم معاصريه بالكفر والفسق وسبق بيان ذلك ، ولكن يهمنا أن القشيرى أشار لانتشار هذا الفسق بين جموع العوام قبيل عصر الغزالى مما اضطر القشيرى لكتابة رسالته إليهم ليحمى التصوف من إنكار الفقهاء يقول( ولما طال الابتلاء فيما نحن فيه من الزمان بما لوحت بعضه من هذه القصة ..) أى أن القشيرى لم يقصص علينا تفصيلات انحلالهم الخلقى إلا مضطرا ، ثم يقول : ( ولما أبى الوقت إلا استصعابا وأكثر أهل العصر بهذه الديار إلا تماديا فيما اعتادوه واغترارا بما فعلوه أشفقت على القلوب أن تحسب أن هذا الأمر على هذه الجملة بنى قواعده وعلى هذا النحو سار سلفه فعلقت هذه الرسالة إليكم ) أى أن كل جهده فى النصح ضاع، فاضطر لكتابة رسالته ليدافع عن دينه الصوفى .
وسائل أنتشار الانحلال الخلقى بين العوام :
1 ــ حفلات السماع الصوفية:
1 ـ وفى القرن السادس فى عصر ابن الجوزى ( ت 597 ) ألف كتابه ( تلبيس إبليس) فى الإنكار على انحراف الطوائف فى عصره ، وخص الصوفية بالقسم الأكبر منه ، يقول فيه عنهم ( إتخذوا مناخ البطالة ، وهى الأربطة ، فانقطعوا إليها عن الجماعات فى المساجد ، فلا هى مساجد ولاهى خانات ، وصمدوا فيها للبطالة عن أعمال المعاش ، وبدّنوا أنفسهم بدن البهائم للأكل والشرب والرقص والغناء). 2 ــ وكان القشيرى ( 376 : 465 ) قد إتهم معاصريه الصوفية بالتسول فى الأسواق ومن أصحاب السلطان ومن النساء : ( وقلة المبالاة بتعاطى المحظورات والإرتفاق بما يأخذونه من السوقة والنسوان وأصحاب السلطان) مما يعنى وجود التفاعل بين الصوفية وطوائف المجتمع من تجار ونساء وحكام فى الأسواق والقصور، ثم جاء ابن الجوزى فى القرن السادس يتحدث عن بناء الأربطة للصوفية حيث يقيمون فيها بدون عمل إلا الأكل والشرب والغناء والرقص والكسل عن صلاة الجماعة ، إلا أن معيشتهم فى الأربطة واحتجابهم عن الصلاة لم يكن مانعا من اختلاطهم بطوائف المجتمع ونشرهم الانحلال الخلقى بين طبقاته بالطريقة الصوفية المبتكرة ، وهى إقامة السماع الصوفى أو حفلات الذكر ثم اختراع الأزياء المزركشة وصباغة الوجوه أو(المكياج) ، وقصدوا بذلك كله التأثير على النساء لاجتذابهن للطريق الصوفى 3 ــ يقول ابن الجوزى ( وعولوا على الترقيع المعتمد به التحسين تلميعا ، والمشاوذ بألوان مخصوصة ، أوقع فى نفوس العوام والنسوة من تلميع السلاقطون بألوان الحرير ، واستمالوا النسوة والمردان ( الشباب) بتصنيع الصور والملابس، فما دخلوا بيتا فيه نسوة فخرجوا إلا على فساد قلوب النسوة على أزواجهن ، ثم يقبلون الطعام والنفقات من الظلمة والفجار وغاصبى الأموال .. ويستصحبون المردان فى السماعات يجمّلونهم فى الجموع مع ضوء الشموع ، ويخالطون النسوة الأجانب ينصبون لذلك حجة الباسهن الخرقة) أى إدخالهن دين التصوف . ( والناس يقولون : إذا أحب الله خراب بيت تاجر عاشر الصوفية ، لأن الصوفية أجازوا لبس النساء الخرقة من الرجال الأجانب ، فإذا حضروا السماع والطرب فربما جرى فى خلال ذلك مغازلات واستخلاء بعض الأشخاص ببعض ، فصارت الدعوة عرسا للشخصين فلا يخرج إلا وقد تعلق قلب شخص بشخص ، وتتغير المرأة على زوجها، فإن طابت نفس الزوج سمى بالديوث ، وإن حبسها طلبت الفرقة إلى من تلبس منه المرقعة والاختلاط بمن لايضيق الخناق ولايحجر على الطباع، ويقال : "تابت فلانة وألبسها الشيخ الخرقة " ، وصارت من بناته)[3].
إذن تسلط الصوفية فى عصر ابن الجوزى على الحرائر فى بيوتهن ، فأغروا الزوجة على هجر زوجها إن لم يرض بوجودها منحرفة فى داخل بيته، والإغراء فى الخارج أشد، ففى رحاب الصوفية تتنقل بين الرجال كيف تشاء دون تحجير بل ويقال أنها تابت وتصوفت وأصبحت بنتا للشيخ الصوفى.، وتلك المظاهر التى أشار إليها ابن الجوزى فى القرن السادس لم تلبث أن انتشرت بانتشار التصوف وانحلاله منذ القرن السابع الهجرى وما تلاه فى العصر المملوكى، وسيأتى تفصيل ذلك فى أوانه .
2 ــ تعبيرات جديدة لتسهيل لانحلال الخلقى
1 ــ ولكننا نذكَر بأن الصوفية على عادة كل اتباع دين جديد يخترعون الأسماء الجديدة لطقوس دينهم فيسمون عقيدتهم فى وحدة الوجود( بالتوحيد) وإدعاء الألوهية بأنه ( التحقق بالحق) وإضفاء الألوهية على الكائنات بأنه( مشاهدة الحق فى الخلق) إلى غير ذلك. أى استحدثوا مسميات ومصطلحات لكل مايشتهونه من رذائل.
2 ــ ومنذ بدء التصوف كان هناك من لايهوى انحلال الصوفية مع الصبيان مثل الواسطى ت320 القائل عن شذوذهم الجنسى (إذا أراد الله بعبد هو أن ألقاه إلى هؤلاء الأنتان والجيف) يقول القشيرى معلقا ( يريد به صحبة الأحداث ) . ولم يرض الواسطى عن قيام رفاقه المنحرفين خلقيا باختراع مسميات جديدة لرذائلهم التى اعتادوها قبل التصوف ثم أجازوها فى إطار التصوف تحت شعارات جديدة ، فيقول الواسطى عنهم: ( جعلوا سوء أدبهم "إخلاصا" وشره نفوسهم " انبساطا" ودناوة الهمم"جلادة")[4]. هذا بينما نجده فى عقيدته صوفيا اتحاديا يؤمن بأن( الخوف والرجاء من سوء الأدب مع الله)[5] شأن المقالات الصوفية الأخرى التى عرضنا لها .
3 ــ ونظيره ماقاله ابوالعباس الدينورى فى عقيدته الصوفية الاتحادية: ( أدنى الذكر أن تنسى مادونه ، ونهاية الذكر أن يغيب الذاكر فى الذكر عن الذكر)[6]. ومع هذه العقيدة الصوفية الصريحة فإن أبا العباس الدينورى لم يرض عن انحلال رفاقه الخلقى وإدخال إنحلالهم ضمن اصطلاحات جديدة للتصوف ، فقال فيهم ( نقضوا أركان التصوف وهدموا سبيلها، وغيروا معانيها بأسامى أحدثوها ، سمٌوا الطمع(زيادة) وسوء الأدب (إخلاصا) والخروج عن الحق (شطحا) والتلذذ بالذموم (طيبة) وإتباع الهوى (إبتلاء) والرجوع إلى الدنيا(وصلا) وسوء الخلق(صوله) والبخل(جلادة) والسؤال ــ أى التسول (عملا) وبذاءة اللسان (ملامة) ــ أى ملامتية ــ وماكان هذا طريق القوم)[7]. أى ماكان هذا إبتداء التصوف .
4 ــ لقد بدأ التصوف عقيدة مخالفة للإسلام فاخترع اصطلاحات جديدة تستر وراءها، وكان من رواده ممن إهتم بالعقيدة ولم يجرفه تيار الرذيلة ، فاستنكر أن يقوم المنحرفون خلقيا الذين إنضموا للتصوف باستحداث مصطلحات جديدة توافق غرائزهم ، وأولئك تناسوا فى غمرة إنكارهم على صوفية العامة ومشرعيهم أن دين البشر يستمد تشريعاته واصطلاحاته من هوى البشر ، وأن كل الصوفية سواء فى اختراع مظاهر التصوف ورسومه ومصطلحاته، لذا كان دين البشر دائما مسرحا للاختلاف ، ولكل شيخ صوفى مثلا اجتهاداته ونزواته والهاماته ومريدوه ومصطلحاته .
5 ــ ثم بدخول التصوف دور الانتشار بين أوساط العامة وغرائزهم كان لابد أن يتوالى اختراع الاصطلاحات الجديدة لتفى بحاجة الغرائز للصوفية الجدد، فكان تعبير(صحبة الأحداث) عن الشذوذ الجنسى ، وتعبير (الشاهد) عن الصبى الجميل المفعول فيه ، ويقال عن المرأة التى تهجر زوجها إلى صحبة الصوفية: ( تابت فلانة ، وألبسها الشيخ الخرقة، وصارت من بناته) على حد قول ابن الجوزى فيما سبق . وأخفت هذه المصطلحات الجديدة عورة الرذائل الصوفية وصبغتها بدين التصوف وطقوسه مهما أنكر بعض المتزمتين .
6 ــ وقد تناقص وجود المتزمتين فيما بعد حتى إذا جاء القرن السادس وجدنا ابن الجوزى يقول عن صوفية عصره( ويسلمون أنفسهم إلى شيوخهم فإن قبّل أمرد قيل: "رحمة "، وإن خلا بأجنبية قيل : " بنته وقد لبست الخرقة" .! ) ثم يعلق على اصطلاحاتهم التشريعية فيقول : ( وإنما هم زنادقة جمعوا بين مرادع العمال ( أى الولاة الظالمين ) مرقعات صوف ، وبين أعمال الخلعاء الملاحدة من أكل وشرب ورقص وسماع وإهمال لأحكام الشرع ، ولم تتجاسر الزنادقة أن ترفض الشريعة حتى جاءت المتصوفة، فجاءوا بوضع أهل الخلاعة ، فأول ماوضعوا أسماء وقالوا حقيقة وشريعة .. وأهلكوا بهذه الخرافات قلوب الأغمار ، وأنفقت عليهم لأجلها الأموال )[8].
وفى النص السابق مظاهرلبعض أسباب انتشار الإنحلال الصوفى من استهواء العامة والحكام الظلمة بالغرائز وتسويغها باصطلاحات جديدة ، ويلاحظ أن الفقيه غير الصوفى ابن الجوزى هو الذى احتل مكان القشيرى والغزالى فى الإنكار على الصوفية ووصل إلى الهجوم على التصوف نفسه أحيانا ، أى أن الساحة الصوفية خلت من وجود فقيه صوفى فى القرن السادس، وأن الصوفية وقتها أسلموا أنفسهم لأشياخهم المنحلين خلقيا، أو بتعبير ابن الجوزى ( ويسلمون أنفسهم إلى شيوخهم) وقاموا هم بتاويل عصيان الأشياخ ، فإن وقع فى الشذوذ قالوا رحمة، وإن (زنا) قالوا(بنته) ، ثم اشتد الأمر بكثرة انخراط العامة وتأييد الحكام الظلمة الذين أقاموا للصوفية الرباطات وأعطوهم الأموال.
7 ــ لقد ارتبطت بداية التصوف بتشريع الفساد الخلقى ، وحتى من أنكر من الصوفية على إخوانه ذلك الفساد استعمل اصطلاحات صوفية مخففة، كقول يوسف بن الحسين ( رأيت آفات الصوفية فى صحبة الأحداث( أى الشذوذ الجنسى ) ومعاشرة الأضداد ( أى الزنا بالنساء )، ورفق النسوان( أى التسول من النساء ).[9]
8 ــ وبعد انتشار التصوف وقلة المؤولين والمدافعين كالقشيرى والغزالى اتسع المجال لبعض الصرحاء كاليعمرى فى القرن التاسع، قد نقل المقريزى رأيه فى صوفية عصره ونسجل هذا الرأى كما هو مع الاعتذار عن ألفاظه . يقول المقريزى : ( صارت الصوفية كما قال الشيخ فتح الدين اليعمرى :
ماشروط الصوفى فى عصـرنا سوى سـتة بــغير زيادة
وهى نيك العلوق والسكر والسـطلة والغنا والقــيادة
وإذا ماهـذى وابــدى اتــحادا وحلـولا من جـهله وأعـاده
واتى المنكرات عقلا وشرعا فهو شيخ الشيوخ والسجادة.
ويعلق المقريزى قائلا : ( ثم تلاشى الآن حال الصوفية ومشايخها حتى صاروا يعدون من سقط المتاع ، لاينسبون إلى علم ولا ديانة . وإلى الله المشتكى..)[10]. وأولئك الصوفية فى عصر المقريزى هم أغلبية المشاهير فى القرن التاسع الهجرى من العصر المملوكى . والشعر الذى استشهد به المقريزى مع ركاكته وبذاءته يلخص معالم الفساد الخلقى فى العصر المملوكى . وقد أصبحت تلك لوازم الشخصية الصوفية بعد انتشار التصوف فى المجتمع الذى اصطبغ بتلك الصبغة الصوفية كما سيظهر فيما بعد.
[1] ـ الإحياء جـ3/ 345.
[2] ـ الأحياء جـ 3 / 345 .
[3] ـ. تلبيس إبليس 360، 363.
[4] ـالرسالة القشيرية 41 ، 50 .
[5] ـالرسالة القشيرية 41 ، 50 .
[6] ـالرسالة القشيرية 41 ، 50 .
[7]. ـالرسالة القشيرية 41 ، 50 .
[8] تلبيس ابليس 360 ، 361 ، 37
[9] تلبيس ابليس 360 ، 361 ، 37
[10] خطط المقريزى جـ 3 / 401 ط التحرير .