الفصل الرابع : أثر التصوف في الذِكر فى مصر المملوكية
ج2 / ف 4 : تشريع الوجد دينا للتصوف

آحمد صبحي منصور في السبت ١٤ - مارس - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً

 كتاب (التصوف والحياة الدينية فى مصر المملوكية )

الجزء الثانى :  العبادات فى مصر المملوكية  بين الإسلام والتصوف 

الفصل الرابع : أثر التصوف في الذِكر فى مصر المملوكية

تشريع الوجد دينا للتصوف

  بين السماع والوجد :

1 ــ  نعرف معنى الوجد من وصف ابن الجوزى للصوفية حين ( وجدهم ).  يقول : ( هذه الطائفة إذا سمعت الغناء تواجدت وصفقت وصاحت ومزقت الثياب . ) (.. وقد مات خلق كثير في سماع الموعظة وغشى عليهم، وهذا التواجد الذي يتضمن حركات المتواجدين وقوة صياحهم وتخبطهم فظاهره أنه متفعل،والشيطان معين عليه... فإذا تمكن الطرب من الصوفية في حال رقصهم جذب أحدهم بعض الجلوس ليقوم معه ، ولا يجوز على مذهبهم أن يقعد ، فإذا قام قام الباقون تبعاً له، فإذا كشف أحدهم رأسه كشف الباقون رؤوسهم موافقة له ... فإذا اشتد طربهم رموا بثيابهم على المغني فمنهم من يرمي بها صحاحاً،ومنهم من يخرقها ثم يرمي بها )[1].  والفقرات السابقة عناوين لفصول في كتاب " تلبيس إبليس " وكان ابن الجوزي يورد حجج الصوفية في مشروعية هذه الأفعال ويرد عليها، ومعناه أنهم حاولوا أن يجدوا للوجد الصوفى أصلاً تشريعياً يربطه بالإسلام . وواضح أن الوجد هو الانفعال الصوفي بالصوت والحركة تأثراً بالغناء الديني، وهو أعم من الرقص الصوفي المتناسق .

2 ـ وعن الصلة بين السماع والوجد يقول الغزالي عن الوجد:( عبارة عن حالة يثمرها السماع ، وهو وارد حق جديد عقيب السماع يجده المستمع من نفسه)" [2]، . ويقول عن ارتباط السماع بالوجد: ( وعدم ظهور أثره يكون تارة لضعف الوارد من الوجد ،فهو نقصان ، وتارة يكون مع قوة الوجد في الباطن ولكن لا يظهر لكمال القوة على ضبط الجوارح فهو كمال ، وتارة يكون لكل حال الوجد ملازماً ومصاحباً في الأحوال كلها فلا يتبين للسماع مزيد تأثير وهو غاية الكمال ،فإن صاحب الوجد في غالب الأحوال لا يدوم وجده ، فمن هو في وجد دائم؟ فهو المربط للحق والملازم لعين الشهود...فلا تظن أن الذي يضطرب بنفسه على الأرض أتم وجداً من الساكن باضطرابه، بل رب ساكن أتم وجداً من المضطرب، فقد كان الجنيد يتحرك في السماع في بدايته ثم صار لا يتحرك، قيل له في ذلك فقال " وترى الجبال تحسبها جامدة وهى تمر مر السحاب" إشارة إلى أن القلب مضطرب جائل في الملكوت والجوارح متأدبة في الظاهر ساكنة" [3].

أنواع الوجد عند الغزالي :

   وبعد أن ربط بين السماع وحركات الوجد الظاهرة والباطنة يقسم الغزالي الوجد إلى قسمين : ( وتلك الحالة التى لا تخلو عن قسمين ، فإما أنها ترجع إلى مكاشفات ومشاهدات هى من قبيل العلوم والتنبيهات. وأما أن ترجع إلى تغييرات وأحوال ليست من العلوم، بل هى كالشوق والحزن والقلق والسرور والأسف والندم والبسط والقبض، وهذه الأحوال يهيجها السماع ويقومها "[4]،. وفصَل القول في الناحيتين . ثم عاد يقسم الوجد إلى: ( هاجم ومتكلف،ويسمى التواجد، وهذا التواجد المتكلف فمنه مذموم وهو الذي يقصد به الرياء وإظهار الأحوال الشريفة مع الإفلاس منها ، ومنه ما هو محمود وهو التوصل إلى استدعاء الأحوال الشريفة واكتسابها واجتلابها بالحيلة . ) .وبعد أن جعل الرقص والصراخ من الأحوال الشريفة في دين التصوف حاول ربطها بالخشوع في قراءة القرآن وحب الله والشوق للقائه [5]، .

وفي موضع آخر من ( إحياء علوم الدين ) أسند الغزالي الوجد إلى داود وسليمان، والسند الذي يحتج به قوله" بلغني " أو " بلغنا " ثم يذكر قصصاً خرافية عن موت الحيوانات والهوام التى انتحرت تواجداً بسبب داود، ثم افترى أن جارية قصت مناماً على عمر بن عبد العزيز" فصاح عمر صيحة وخر مغشياً عليه، فقامت إليه فجعلت تنادي في أذنه وهو يصيح ويفحص برجليه" وقال مثل ذلك عن سلمان الفارسي[6].

حكايات عن الوجد:

   وكما ألف الغزالي تلك الروايات عن السابقين من أنبياء وخلفاء، فإنه حكى قصصاً أخرى لأشياخ التصوف السابقين تتخللها الشهقات والصراخ والدموع والإغماءات، وقد ملأ بها الجزء الرابع من الإحياء .. ومنها أن عتبة الغلام كان : ( يقطع الليل بثلاث صيحات . ) وفصَل القول في هذه العبادة الصوفية المزعجة، وقال أن أصحاب الحديث اجتمعوا على باب الفضيل بن عياض : (  فاطلع عليهم من كوة وهو يبكي ولحيته ترجف،فقال : عليكم بالقرآن عليكم بالصلاة ويحكم ليس هذا زمان حديث إنما هذا الزمان بكاء وتضرع .! ).  ولم ير الغزالي فيما فعله الفضيل رياء ولا تصنعاً .  ويروي الغزالى : (  قال صالح المرسي قدم علينا ابن السماك مرة ، فقال أرني شيئاً من بعض عجائب عُبّادكم ، فذهبت به إلى رجل في خصٍ له فاستأذنا عليه، فإذا رجل يعمل خوصاً فقرأت عليه " إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون" فشهق الرجل شهقة وخر مغشياً عليه، فخرجنا من عنده وتركناه على حاله وذهبنا إلى آخر، فدخلنا عليه، فقرأت عليه هذه الآية فشهق شهقة وخر مغشياً عليه ، فخرجنا من عنده وتركناه على حاله ، وذهبنا إلى آخر فقرأت عليه هذه الآية فشهق شهقة وخر مغشياً عليه، وتركناه على حاله وذهبنا إلى آخر فقرأت عليه هذه الآية شهق شهقة وخرجنا من عنده.. إلخ .." إلى أن يقول ثم أتيت به إلى السابع فاستأذنا فإذا إمرأة من داخل الخوص تقول ادخلوا، فدخلنا فإذا شيخ فانٍ جالس في مصلاة ، فسلمنا عليه فلم يشعر بسلامنا ، فقلت بصوت عال : ألا إن للخلق غداً مقاماً، فقال الشيخ : بين يدي من ويحك؟، ثم بقى مبهوتاً فاتحاً فاه شاخصاً بصره يصيح بصوت له ضعيف : أواه. أواه.. حتى انقطع ذلك الصوت، فقالت إمرأته اخرجوا فإنكم لا تنفعون به الساعة.. إلخ ..) . وذلك السيرك الذي حكاه الغزالي انتهى بموت بعض المتواجدين  في الأسطورة، ذلك أن الصياغة سترت المبالغات والتصنع بهذا الثوب العاطفي . ولكى تزيد جرعة العاطفة كانت بعض الروايات  تنتهى بموت البطل لتستدر المزيد من التآثروالدموع ، فالنورى سمع منشداً يقول :

          لا زلت أنزل من ودادك منزلاً          تتحير الألبـاب عند  نزوله

    يقول الغزالي: ( فلم يزل يعدو ( يجرى ) على أجمة قصب بقى أصلها حتى تشققت قدماه وتورمتا ومات من ذلك. )" وحكى أن صوفياً كان يتعشق جارية مغنية فغنت في مجلس طرب فقال لها:( أحسنت والله يا سيدتي أفتأذنين لي أن أموت؟  فقالت : مت رشداً . فوضع رأسه على الوسادة وأطبق فمه وغمض عينيه فحركناه فإذا هو ميت.!!. وقال صالح المري:  قرىء" على رجل متعبد: يوم تقلب وجوهم في النار..الآية " فصعق ثم أفاق،فقال زدني فقرأت " كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها " فخر ميتاً. وآخر قرأ في صلاته " فإذا نقر في الناقور" فخر مغشياً عليه ومات. )

الوجد دين التصوف:

   ولا يكتفي الغزالي بهذه الأمثلة بل يفتري حديثاً يتلخص فى أن حبشياً تاب على يد الرسول من الفواحش ثم سأل الرسول : أكان ربي يراني وأنا أعمل الفواحش فقال له نعم " فصاح الحبشي صيحة خرجت فيها روحه " ويقول العراقي الذي يُخرّج أحاديث الأحياء عن ذلك الحديث لم أجد له أصلاً[7]. أى أن الغزالي هو الذي اخترعه.  وواضح أن عناية الغزالي بالوجد إلى هذا الحد تجعل  منه ذروة السلوك الصوفي وشديد الإلتصاق بدين التصوف ، ويؤيد ذلك ما يرويه الطوسي " إن أصل المعرفة – أى الاتحاد الصوفي – موهبة، والمعرفة نار،والإيمان نور والمعرفة وجد ، والإيمان عطاء[8].

   والغزالي يعلق على أسطورة موت النوري حين تواجد جرياً على جذور القصب فيقول: ( فقد رؤى من غلب عليه الوجد فعدا على النار وعلى أصول القصب الجارحة للقدم وهو لا يحس به لفرط غلبة ما قلبه" [9].

   وتواجد الصوفية يظهر أثناء حديثهم العادي الذي يرتفع صياحاً بلا مبرر عقلي ، إلا إنهم أضفوا عليه  طابع الوجد ليكتسب قدسية عند المريدين ، من ذلك ما يرويه أحدهم " قلت لأبي يزيد البسطامي حدثناً عن مشاهدتك من الله تعالى ، فصاح ، ثم قال : ويلكم لا يصلح لكم أن تعلموا ذلك")أى لا بد أن يصيح ويزعق و ( يتواجد ) ليزداد الايمان بما يقول .  وحكى أبو يزيد عن تلك المشاهدات يقول الراوي : ( فهالتني ذلك وامتلأت به وعجبت منه فقلت يا سيدي لم لا سألته المعرفة به .. فصاح بي صيحة وقال : اسكت ويلك غرت عليه مني، حتى لا أحب أن يعرفه سواى " [10]. فالبسطامي يصيح ويتواجد ويصطنع الجذب والجنون كلما سئُل ليؤكد اسطورته.

 ويروي الغزالي أن أبا تراب النخشبي ( كان يخدم مريداً يقوم بمصالحه فقال له أبو تراب مرة : لو رأيت أبا يزيد فقال إني عنه مشغول " فلما أكثر عليه أبو تراب من قوله : لورأيت أبا يزيد،  هاج وجد المريد،فقال ويحك ما أصنع بأبي يزيد قد رأيت الله فأغناني عن أبي يزيد ،قال أبو تراب فهاج طبعي ولم أملك نفسي، فقلت ويلك تغتر بالله عزرجل لو رأيت أبا يزيد مرة واحدة كان أنفع لك من أن ترى الله سبعين مرة [11]والشاهد في النص هو هيجان المريد وهيجان شيخه وشطح كل منهما حين هاج.. والهياج هو الوجد، وهو دين التصوف.

ولأن الوجد دين عندهم فكانوا يزعمون أنهم لا يقبلون فيه رياء ولا تصنعاً مع أنه قائم عندهم على الرياء والتصنع. يروي الغزالي أن رجلاً صاح في مجلس الشبلي – وهو أحد رواد الوجد – ورمى الرجل بنفسه في دجلة فقال الشبلي عنه " إن كان صادقاً فالله تعالى ينجيه كما نجى موسى، وإن كان كاذباً فالله يغرقه كما أغرق فرعون"[12].

تواجد العوام

   والغزالي استنكف من انتشار الوجد بين العوام، وقيام بعض المنشدين بإثارة عواطفهم،فذكر أن بعضهم كان يتكسب: ( بالأشعار الغريبة " والكلام المنثور المسجع مع حسن الصوت ، والشعر الموزون أشد تأثيراً في النفس لا سيما إذا كان فيه تعصب يتعلق بالمذاهب كأشعار مناقب الصحابة، وفضائل أهل البيت،أو كالذي يحرك داعية العشق من أهل المجانة لصنعة البطالين في الأسواق ). وواضح أنه لم يشأ تصنيفهم ضمن الصوفية مع أنهم يمارسون ما يدعو إليه الغزالي .بل أنه يناقض نفسه حين يهاجم العوام المتواجدين فيقول ناسياً أقاويله السابقة عن الوجد : ( اغتر عوام الخلق وأرباب الأموال والفقراء بحضور مجالس الذكر، واعتقدوا أن ذلك يغنيهم ويكفيهم، واتخذوا ذلك عادة ،ويظنون أن لهم على مجرد سماع الوعظ دون العمل ودون الإتعاظ أجراً وربما يغتر بما يسمعه من الواعظ من فضل حضور المجلس وفضل البكاء،وربما تدخله رقة كرقة النساء فيبكى ولا غرم ، وربما يسمع كلاماً مخوفاً فلا يزيد على أن يصفق بيديه ، ويقول يا سلام سلم ، أو نعوذ بالله سبحان الله ، ويظن أنه قد أتى بالخير كله " [13].

 



[1]
تلبيس ابليس 242 ، 248 ، 249 ، 351 ، 252 .

[2] الاحياء جـ 2 / 258 .

[3] الاحياء جـ1 / 266 : 267 .

[4] الاحياء جـ 2 / 258 ، 260 .

[5] الاحياء جـ 4 / 158 : 159 ، 162 ، 161 .

[6] الاحياء جـ 4 / 352 ، 161 ، 162 ، 290 ، 299 ، 263 ، 300 ، 161 ، 160 .

[7] الاحياء جـ 4 / 12 .

[8] اللمع 63 .

[9] الاحياء جـ 4 / 22

[10] الاحياء جـ4 / 304 ، 305 ، 330 .

[11] الاحياء جـ4 / 304 ، 305 ، 330 .

[12] الاحياء جـ 4 /304 ، 305 ، 330 .

[13] الاحياء جـ 3 / 197 : 198 ، 349 .

اجمالي القراءات 9263