بين نقيضين : السيسى وعمر بن عبد العزيز

آحمد صبحي منصور في الإثنين ٠٩ - مارس - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً

مقدمة :

1 ـ ـيلفت النظر نبرة التدين التى تجمع بين الرئيس السيسى والخليفة الأموى عمر بن عبد العزيز . نبرة التدين هذه حين يتميز بها خطاب الحاكم المستبد فهى إسلاميا تضعه فى موقع من إثنين لا ثالث بينهما : إما أن يكون صادقا يطبّق مايقول ، وإما أن يكون مجرما كذابا منافقا .

2 ــ كان عمر بن عبد العزيز حسبما تُجمع الروايات فى تاريخه صادقا ، طبّق ما يرفعه من شعارات على نفسه ، و لم يتردد أن يطبقها على غيره ، وتمسك بمنهجه واقفا ضد أسرته الحاكمة وضد تقاليد عصره ، ودفع الثمن إغتيالا بالسّم ومات شابا لم يكمل الأربعين في رجب سنة 101 هجرية ، بعد أن حكم سنتين وخمسة أشهر فقط . على العكس من ذلك تماما ، نرى السيسى الذى وصل الستين من عمره ، وكان يبكى فى صلاة الظهر خشوعا ليقنع الرئيس مرسى بتقواه ، والذى يهدد شيوخ الأزهر بأنه سيحاججهم أمام الله . الرئيس السيسى بعد أن خدع مرسى ووضعه فى السجن وخدع الشعب المصرى بالكلمات المعسولة والتقوى الزائفة يتواصل فى عهده قتل المصريين فى سياسة عملية واضحة المعالم : تقول لرجل الشرطة : لا محاكمة عليك لوقتلت ، وتقول للشعب تنتظرك المحاكمات والقتل لو تظاهرت .!!.

3 ــ سريعا نقول :  يجمع بين السيسى وعمر بن عبد العزيز أن كليهما كان حاكما مطلقا ، وأن كليهما جاء فى إطار نظام عسكرى إستبدادى ، وأن كليهما واجه معارضة مسلحة ، وأن لكليهما نبرة خطاب دينية . الخلاف بينهما أن عمر بن عبد العزيز كان فى عصر يتنفس الدكتاتورية السياسية ويعتبرها حقا شرعيا للحاكم ، وعمر بن عبد العزيز ورث إمبراطورية مستبدة ترحب به مستبدا كاسلافه ، وتعتبر الخروج عن الاستبداد الملكى ضعفا يُلقى بصاحبه الى التهلكة .  ولكنه ــ إتفاقا مع النبرة الدينية الاسلامية فى خطابه ــ ـ خرج على هذه الشرعية الاستبدادية الظالمة ، وفاجأ العالم بثورة إصلاحية سلمية ، دفع حياته ثمنا لتمسكه بها.أما السيسى فقد جاء فى  عصر الديمقراطية وحقوق الانسان ــ وأوصلته للسلطة جموع المصريين أملا فى تحقيق مبادى ثورتهم ( عيش/حرية/ عدالة إجتماعية ) واستعمل السيسى نبرة دينية اسلامية فى خطابه ، .وحتى الآن وبعد عدة أشهر فى رئاسته فقد قتل السيسى وسجن من المصريين أكثر مما فعله مبارك خلال ثلاثين عاما . الى مزيد من تفاصيل التناقض بين السيسى وعمر بن عبد العزيز  

 أولا : ( عمر و السيسى ) قبل الوصول الى السلطة :

1 ــ  عمر بن عبد العزيز قبل توليه الخلافة

(عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم ). جده هو الخليفة مروان بن الحكم . كان أبوه ولى العهد بعد أخيه عبد الملك بن مروان . وقد تولى عبد العزيز بن مروان مصر . وتوفى عبد العزيز فى حياة أخيه فعهد الخليفة عبد الملك لابنه الوليد ، وزوّج عمر بن عبد العزيز ( إبن أخيه ) من بنته فاطمة بنت عبد الملك . حكم الأمويون بالقسوة المفرطة ، وخصوصا فى الحجاز موطن المعارضة . كان الحجاج بن يوسف هو الوالي علي الحجاز مابين (73 ـ75هـ) في خلافة عبد الملك، فأذاق الناس النكال خصوصا في المدينة. كان عمر بن عبد العزيز رافضا هذا الظلم . وقد تولي عمر بن عبد العزيز إمارة المدينة سنة87هـ وكان شابا عمره خمسا وعشرين سنة . وذلك في خلافة ابن عمه الوليد بن عبد الملك. وفي إمارته علي المدينة أعاد مبدأ الشورى الإسلامي الذي أجهضه الأمويون. وكانت تلك الخطوة هي أول ما بدأ به ، يحكي ابن سعد في ترجمته أنه لما جاء المدينة واليا عليها صلي الظهر ثم دعا عشرة من كبار الفقهاء، في المدينة المشهورين بالورع وهم " عروة بن الزبير ، عبد الله بن عبد الله بن عتبة ، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث ، وأبو بكر بن سليمان بن أبي حثمة ، سليمان بن يسار القاسم بن محمد، سالم بن عبد الله ،عبد الله بن عبد الله بن عمر ، وعبد الله بن عامر بن ربيعة، خراجة بن زيد بن ثابت" وجعلهم أعوانا له يأخذ برأيهم ولا يقطع أمرا دونهم ويبلغونه بأي ظلم يقع.  وعاشت المدينة المنورة ـ والحجاز ـ أروع الأيام في العصر الأموي في ولاية عمر بن عبد العزيز  (87 ـ93 هـ)  إذ أنصف المظلوم وأطعم الجائع وأمن الخائف، وقام بتوسيع مسجد المدينة ، وحفر الآبار في طريق الحجاج ، وأقام لهم الخانات ومحطات الراحة ، وأنشأ عين ماء فوارة بالمدينة.  فجاءت ولاية عمر بن عبد العزيز بلسما داوي الجراح وأراح النفوس.

 ثم اختلف عمر مع ابن عمه الخليفة الوليد حين أراد الخليفة خلع أخيه سليمان من ولاية العهد ليولي  ابنه عبد العزيز بن الوليد، فرفض عمر بن عبد العزيز أن يوافقه ، فعزله الوليد عن إمارة الحجاز  وسجنه ،  فلم يرجع عمر عن رأيه . وفشل الخليفة الوليد  في البيعة لابنه ، ومات فتولي سليمان الخلافة ، وقد أصبح مُمتنّا لابن عمه عمه عمر بن عبد العزيز فجعله كالوزير معه ، ثم في النهاية عهد له بالخلافة علي أن يكون بعده يزيد بن عبد الملك ليظل الحكم فى ذرية عبد الملك بن مروان .

شخصية عمر بن عبد العزيز الصالحة ظهرت قبل أن يلى الخلافة . فماذا عن السيسى قبل أن يلى الرئاسة ؟

السيسى قبل رئاسته :

فى عصر مبارك وفساده  كان لا يترقى الى الرتب العليا فى الجيش إلا من يثق النظام فى فساده وولائه ، وكانت تلك مهمة المخابرات الحربية . وحظى السيسى على ثقة مبارك فترقى فى عهده ،وواصل الترقى حتى أصبح رئيس المخابرات الحربية نفسها. بالتالى كان عضوا فاعلا فى نظام مبارك وفساده وإجرامه . كما كان أول من تباهى بجريمة الشرطة العسكرية ف مارس 2011، ( كشوف العذرية) ، وزعم أنها تحمي الفتيات من الاغتصاب وتحمي الجنود من الاتهام بالاغتصاب.أى إنه إستحل إنتهاك أعراض الفتيات المصريات المناضلات ، وهو اللاتى تعرضن للتعذيب ، ومستمر إضطهاد بعضهن حتى الآن فى رئاسة السيسى . فهل مهمة الشرطة العسكرية حماية الفتيات الثائرات وتوصيلهن لبيوتهن معززات مكرمات أم إعتقالهن وضربهن وسجنهن ثم هتك أعراضهن بحجة كشف العذرية ؟ تحول خطير فى العقيدة العسكرية للجيش المصرى لا يساويها فى الإجرام سوى جرأة السيسى فى تبريرها . لأنه نفسه سيقول هذا لو تعرضت إبنته لنفس المعاملة .

اى برغم خطابه الدينى فإن السيسى مجرد مخادع ، سار على داب الفرعون مبارك بل وتفوق عليه . هذا بينما بدأ عمر بن عبد العزيز فى شبابه وهو والعلى المدينة بإصلاح غير مسبوق فى الدولة الأموية ، مع إن المدينة كانت موطن المعارضة السياسية للأمويين .

ثانيا : ( عمر والسيسى فى الحُكم )

عمر بن عبد العزيز فى خلافته :

 الأوامر الاصلاحية

فى خطبة العرش : تقول الرواية فى الطبقات الكبرى لابن سعد : ( كان اول ما أُنكر من عمر بن عبد العزيز)، (انه لما دفن سليمان بن عبد الملك اتي بدابة سليمان التي كان يركب فلم يركبها وركبدابته التي جاء عليها فدخل القصر وقد مهدت له فرش سليمان التي كان يجلس عليها فلميجلس عليها ثم خرج الى المسجد فصعد المنبر فحمد الله واثنى عليه ثم قال اما بعدفانه ليس بعد نبيكم نبي ولا بعد الكتاب الذي انزل عليه كتاب الا ان ما احل اللهحلال الى يوم القيامةوما حرم الله حرام الى يوم القيامة الا اني لست بقاض ولكنيمنفذ الا اني لست بمبتدع ولكني متبع الا انه ليس لاحد ان يطاع في معصية الله . الا انيلست بخيركم ولكني رجل منكم غير ان الله جعلني اثقلكم حملا  ). وبتحليل هذه الرواية يتضح أن عمر بن عبد العزيز من البداية خرج على المألوف الأموى فأنكروا عليه  رفضه البروتوكول الأموى فى مواكب الخلافة . والعادة أن يُلقى الخليفة الجديد خُطبة يُعطى فيها ملامح حكمه . وكان عمر بن عبد العزيز صريحا فى خطبته وفى تعبيره عن عقيدته الاسلامية . لم يكن  معروفا وقتها فى عصر عمر بن عبدالعزيز تعبير ( الكتاب والسّنة ) الذى تم إختراعه فيما بعد فى العصر العباسى . لذا إفتتح خطبته بالتأكيد على أنه :( ليس بعد نبيكم نبي ولا بعد الكتاب الذي انزل عليه كتاب الا ان ما احل اللهحلال الى يوم القيامة وما حرم الله حرام الى يوم القيامة ). ثم يعلن نفسه منفذا للشرع وفقا للحلال والحرام المذكور فى القرآن الكريم ، ,ان الجميع سواء أمام شريعة الله جل وعلا فى القرآن ، وأنه ليس خيرا من أحد ولكنه الأكثر مسئولية .

وكتب الخليفة عمر بن عبد العزيز بنفس الخطاب الدينى الى الولاة يدعوهم الى البيعة ، وأقواهم وأخطرهم ( يزيد بن المهلب ) وقد قرأ خطاب الخليفة الجديد فعرف ان عمر بن عبد العزيز  مخالف لمن سبقه . وعرف ابن المهلب أن لا مستقبل له مع هذا الخليفة الصالح ، فقد كان يزيد بن المهلب على طريقة الحجاج وخلفاء بنى أمية .وكان ابن المهلب هذا يحكم النصف الشرقى من الدولة الأموية وزعيم القبائل اليمنية القحطانية .
وارسل عمر بن عبد العزيز بأوامر اصلاحية الى الولاة وكف أيديهم عن المظالم وعن فرض ضرائب وأخذ رشاوى ، وألا يحكم أحدهم بقتل شخص إلا بمراجعته . وقبله كان من حق الوالى أن يقتل من يشاء ، والحجاج قتل عشرات الالوف بلا جريرة .  

تطبيق الاصلاحات

عزل الولاة المفسدين :                                 

بدأ عمر بن عبد العزيز إصلاحاته بعزل الولاة المفسدين إذ لا يمكن أن يقوم المفسدون بتنفيذ الإصلاح وإقامة العدل، لذلك بادر بعزل أقواهم وأفجرهم يزيد بن المهلب ، ووضعه فى السجن ، وعزل أسامة بن زيد التنوخي عن خراج مصر وكان غاشما ظلوما كثير الاعتداء وأمر بحبسه ، وظل في الحبس طيلة خلافة عمر ، ولما تولي بعده الخلافة يزيد بن عبد الملك رده إلي منصبه !!. وبادر عمر بعزل يزيد بن أبي مسلم عن شمال أفريقيا وكان أحد مجانين الظلمة وكان يأمر بتعذيب المساجين ويطرب لصراخهم ويقول للزبانية : الله أكبر سبحان الله والحمد لله اضرب يا غلام في موضع كذا.. وكانت حالته شر الحالات فعزله عمر وولي مكانه إسماعيل بن عبد الله المخزومي.وعزل باقي الولاة وولي مكانهم في العراق وخراسان وسمرقند. وبأولئك الولاة الجدد قام بتنفيذ سياسته الإصلاحية .  

إسترداد المنهوبات :

كالعادة استحل أمراء البيت الأموى ممتلكات الناس فاستولوا على الأراضى والعقارات المملوكة للغير ووزعوها ( أو أقطعوها إقطاعات ) على أنفسهم  وهذا معنى ( الإقطاع ). وكان هذا الظلم سياسة عادية ـ ولا تزال فى دول المحمديين وفى حكم الدولة المصرية العميقة فى عصر السيسى حتى الآن . وورث عمر بن عبد العزيز وفق هذا ( الشرع ) الظالم إقطاعات ، وفى سياسته الاصلاحية بادر برد كل المنهوبات ومنها الاقطاعات ، وبدأ بنفسه ، فأرجع ما أعطاه له أبوه الى بيت المال مكتفيا بميراثه الحلال ومرتبه البسيط . وأخذ جواهر زوجته فاطمة بنت عبد الملك ووضعها في بيت المال. ثم صادر عمر بن عبد العزيز كل ما سلبه أهله الأمويون وأرجعه الى بيت المال ، وسمى ذلك ( مظالم ) ففزعوا الى عمتهم فاطمة بنت مروان بن الحكم لتكلمه فرفض التراجع . وهددوه فهددهم بالتنازل عن الخلافة لمن يستحقها من العلويين ، فسكتوا على مضض. ولقد كان ابنه الأكبر عبد الملك شابا صالحا أراد أن يقف أبوه منهم موقفا حازما فقال له عمر :  يا بني إن بادهت الناس بما تقول أحوجوني إلى السيف ولا خير في خير لا يحيا إلا بالسيف.!!. أى إنه سلك معهم مسلكا سياسيا سلميا بقدر المستطاع ونجح فى مصادرة أموالهم .ويقول سليمان بن موسي " مازال عمر بن عبد العزيز يرد المظالم منذ يوم استخلف إلي يوم مات ".!!.وإن كان ذلك دليلا علي عدله فهو دليل أيضا علي كثرة المظالم وتنوعها . ولم يكن عمر يطالب الناس بالبينة القاطعة علي ما صودر من أموالهم لما كان يعرف من ظلم الولاة السابقين، وإذا مات صاحب المال المصادر أعاده لورثته . وقد وصلت أوامره بهذا الخصوص إلي الأقطار البعيدة حتي كان الوالي علي اليمين يراجعه في ذلك تحريا للأمر وتفصيلاته فكتب له عمر بأن يجتهد برأيه ولا ينتظر رأي الخليفة في كل صغيرة وكبيرة بسبب بعد المسافة بينهما. وقد امتلأت دمشق بأصحاب المظالم يشكون للخليفة ما لحق بهم ويطلبون استرداد أموالهم . فقال لهم : " الحقوا ببلادكم ".وأعطي الولاة كافة السلطات لإنصافهم في بلادهم .

   إلغاء المكوس والضرائب الظالمة                                                          وكان الأمويون قد ابتدعوا ضرائب ومكوسا جديدة تحت مسميات مختلفة فأمر عمر بإلغائها ومنها ما يعرف الآن بالجمارك .وكان موظفو الأمويين يفرضوا ضرائب عالية علي المحاصيل والثمار أو يشترونها بثمن بخس . وكان يحدث ذلك أكثر في فارس . حيث يقوم الأكراد بتحصيل العشور من الناس علي الطرقات ، فأمر عمر بإلغاء ذلك كله . ويقول محمد بن سعد في ترجمته إنه لما ولي عمر بن عبد العزيز وضع المكس عن كل أرض . وكانت الدولة تأخذ ضرائب علي كل فرس دينار وعلي كل غلام دينارا وعن الفدان خمسة دراهم فألغي ذلك، وأباح للمزارعين  بيع ما تحت أيديهم من الأرض ومنع محصل الضرائب من الوقوف علي الطرقات ، وجعل عمال الصدقة من أبناء البلد يأخذون الزكاة من أهلها بالعدل ، ولم يجعل عقوبة علي من يرفض دفع الزكاة . ومنع السخرة وعاقب من يتطاول من الموظفين علي الناس . وكان الأمويون قد استأثروا لأنفسهم بمناطق جعلوها محميات ممنوع علي الناس دخولها والانتفاع بها فألغي عمر ذلك . فيقولون إنه لما تولي أباح  الأحماء كلها، أباح للناس الانتفاع بها ، وكتب إلي الولاة بذلك ، ومنع أن يستولي أحد لنفسه علي الجزائر وطرح النهر وقال : إنما هو شيء أنبته الله فليس أحد أحق به من أحد .

   رفع الجزية عمن أسلم

    وكان الأمويون يأخذون الجزية من غير العرب حتي لو أسلموا بحجة أنهم دخلوا  الإسلام فرارا من الجزية . وقد كتب إليه والي مصر: إن أهل الذمة قد أسرعوا في الإسلام وكسروا الجزية ، فقال لهم عمر: " إن الله بعث محمدا داعيا ولم يبعثه جابيا". وأمر برفع الجزية عن كل من أسلم، وبعث إلي والي خراسان يأمره بتشجيع من يدفع الجزية علي الدخول في الإسلام مقابل رفع الجزية عنه، فإن أسلموا كانوا والمسلمون سواء، واقترح بعضهم علي الخليفة أن يمتحنهم بالختان فرفض عمر قائلا : أنا أردهم عن الإسلام بالختان؟ لو أسلموا كانوا إلي الطهرة أسرع . وأسلم علي هذا نحو أربعة آلاف.  وكان الذي يدخل في الإسلام قبل استحقاق الجزية بيوم لا تؤخذ منه الجزية ، بل إن عمر أمر الولاة إن كان قد دفع الجزية وأسلم وقتها فلا تؤخذ منه الجزية. 

الإحسان للموالي وأهل الذمة                                                    

 وبينما تعصب الأمويون ضد أهل الذمة والموالي وهم الأكثرية فإن عمر جاء بسياسة التسامح الإسلامية ، فقد جعل العرب والموالي المسلمين سواء في الرزق والكسوة والمعونة والعطاء، وقضي للذمي بحقه في الشفعة وأباح لأهل الكتاب الوقف علي الكنائس وبيوت العبادة ، ولم يكن الأمويون يسمحون بذلك، وكتب إلي الآفاق بالرفق بأهل الذمة ويقول في ذلك الكتاب " وإذا كبر الرجل منهم وليس له مال فأنفق عليه..".                                                        الرفق بالمساجين

 كانت سجون الأمويين سيئة السمعة خصوصا في ولاية الحجاج علي العراق . وبعد وفاة الحجاج سنة 95 هـ وجدوا في سجونه 33 ألفا بدون جريمة، ومات في السجن 120 ألفا، وكان يحبس الرجال والنساء في موضع واحد ولم يكن في السجن ستر يحمي الناس من البرد والحر لذا كان يموت أكثرهم في تلك السجون. وجاء عمر بن عبد العزيز فأصلح السجون ، وأمر بالعناية بالمساجين ومنع أن يبيت أحدهم في القيود إلا إذا كان مطلوبا في دم و أجري علي المساجين النفقات. وأمر بالفصل بين أنواع المساجين حسب الجرائم ، وبالفصل  بين الرجال والنساء ،ومنع من تجاوز العقوبة ومنع أخذ الرشوة من أهل المسجون وأمر بكسوته مرة في الشتاء ومرتين في الصيف ، وأن يتم عرضهم كل يوم سبت وكتب إلي كل والي " استوصي بمن في سجونك خيرا حتي لا تصيبهم ضيعة ،  وأقم لهم ما يصلحهم من الطعام والإدام ". وخارج السجن وداخله منع الخليفة العادل من التعدي في العقوبة ومن التعذيب وإهانة الإنسان وقال: " إياك و المثلة وجر الرأس واللحية".   وكل هذا كان خلافا للمتعارف عليه فى عصره .

سياسته في الزكاة

 ومع رفع الظلم انتهج سياسة العدل في تحصيل الزكاة  وفي توزيعها، يقول ابن ثوبان " إن عمر بن عبد العزيز أخذ الصدقة من حقها وأعطاها في حقها وأعطي العاملين عليها بقدر عمالتهم وقال الحمد لله الذي لم يمتني حتي أقمت فريضة من فرائضه ". ومما يذكر له أنه منع أخذ الزكاة في الخمور وأراق جرار الخمر ، وقرر أن يكون أخذ الزكاة من أطيب الأموال.

 والتزم في توزيع الصدقات بالنص القرآني فكان الغارم يأخذ حقه من بيت المال ، وقضي ديون الكثيرين بهذه الطريقة ، وكان يعطي بعض البطارقة النصارى من الصدقات ألف دينار ضمن سهم المؤلفة قلوبهم. وقالوا إنه أعطى كثيرا من المؤلفة قلوبهم في الشام . أما الفقراء والمساكين وأبناء السبيل فقد ابتكر طريقة جديدة لإيصال مستحقاتهم إليهم إذ أنشأ دورا لإيواء الفقراء  وعلاجهم . وأنشأ خانات لإيواء المسافرين وأبناء السبيل، وأمر بالإنفاق علي طلبة العلم .ونتيجة للعدل في توزيع الصدقة والعدل في أخذ الضرائب والزكاة فقد تحول كثير من الفقراء إلي أغنياء فيقول بعض العاملين علي الصدقة " فلقد رأيت من يتصدق عليه يأتي في العام القابل وهو يعطي الصدقة "                                              

 سياسته في الضمان الاجتماعي

( العطاء ) هو مرتب سنوي أو ( معاش ) كان يُعطي فرضا للعرب من بيت المال الى كبار السّن والمقاتلين ، وقد أنشأ عمر بن الخطاب دواوين لتوزيع العطاء وتقديره. ثم جاء الأمويون وفرضوا سياستهم الخاصة فمنحوا أنصارهم وحرموا خصومهم. إلي أن جاء عمر بن عبد العزيز فأعاد فرض العطاء للجميع . وكانت المدينة تتمتع بسخط الأمويين من قبل فحرموا معظم أهلها من العطاء ، وحين تولي عمر بن عبد العزيز  بعث إلي الوالي عليها يأمره أن يفرض العطاء للناس فيها إلا من كان تاجرا، وفي خلال خلافته القصيرة منح أهل المدينة ثلاث مرات ، وكان يفرض للطفل المولود . والمحرومون من العطاء أعاد إليهم عمر بن عبد العزيز عطاءهم بأثر رجعي، ومن كان غائبا أعطي عطاءه لأهله. وجعل من بنود العطاء أن يعطي من كانت عليه أمانة ولا يقدر علي أدائها ومن أراد الزواج وعجز عن المهر وكان بعض الناس يتحايل ويدعي ليأخذ ويعرف الولاة ذلك ويقولون للخليفة فيتسامح معهم لأنهم تحملوا الكثير من ظلم الأمويين من قبل . لذلك كانوا يقولون: كل يوم يجيء خير من  عمر بن عبد العزيز. هذا في الوقت الذي عاش فيه عمر في تقشف لا يقدر عليه إلا من كان مثله في الإيمان والتقوى، وقد جاءت امرأة إلي بيت عمر تطلب شيئا فنظرت إلي البيت وما فيه شيء فقالت لزوجة الخليفة: كيف أُعمّر بيتي من هذا البيت الخرب؟ فقالت لها زوجة عمر : لقد خرّب هذا البيت عمارة بيوت أمثالك. وزوجة عمر هي فاطمة بنت عبد الملك بن مروان، أبوها خليفة ، وجدها خليفة، وأخوتها الأربعة خلفاء. وقد رضيت بأن تتنازل عن كل متع الحياة إرضاءا  لزوجها ابن عمها عمر رضي الله عنه !!. وجاءه رجل من الأنصار فقال له " يا أمير المؤمنين أنا فلان ابن فلان ، قتل جدي يوم بدر، وقتل أبي يوم أحد ، فنظر عمر بن عبد العزيز إلى أقاربه  قائلا" هذه والله المناقب، لا مناقبكم : مسكن ودير الجماجم". ومسكن ودير الجماجم من المعارك التي انتصر فيها الأمويون علي الثائرين عليهم.

 

 وقد سألوه أن يتحفظ في طعامه وأن يكون له حرس إذا صلي حتي لا يتعرض للاغتيال ، فرفض ، فقالوا له: إن الخلفاء قبلك كانوا يفعلون ذلك فقال لهم : فأين هم الآن ؟  

وفي الوقت الذي كان الدعاء للخليفة من شعائر الخطبة للجمعة نجده يكتب إلي الولاة "لا تخصوني بشيء من الدعاء ، ادعوا للمؤمنين والمؤمنات عامة، فإن أكن منهم أدخل فيهم "!! وبينما كان الأمويون يعتبرون أنفسهم في مكانة أعلي وفوق جميع المسلمين فإن عمر كان لا يري ذلك ويأمر بالمساواة بينهم وبين الناس ،  يقول للوالي علي المدينة " لا يكن أحد من الناس أثر عندك من أحد، ولا تقولن هؤلاء من أهل بيت أمير المؤمنين فإن أهل بيت أمير المؤمنين وغيرهم عندي اليوم سواء ". وكان عمر بن عبد العزيز يواصل الليل بالنهار في عمل دؤوب في تحمل مسئولية الخلافة ، يقول محمد بن قيس " رأيت عمر بن عبد العزيز إذا صلي العشاء دعا بشمعة من مال الله ليكتب في أمر المسلمين وفي المظالم فترد في كل أرض، فإذا أصبح جلس في رد المظالم وأمر بالصدقات أن تقسم في أهلها" !!

     وألزم عمر الولاة أن يسيروا بنفس الطريقة، فكان واليه علي المدينة أبو بكر بن محمد بن عمر بن حزم يعمل بالليل كعمله بالنهار لأن عمر كان يحثه علي ذلك!!

السلام والقوة        

أوقف عمر غزو القسطنطينية عام 99 هجرية  . وفى نفس العام أغارت الترك على أذربيجان فقتلوا من المسلمين جماعة، فوجه عمر حاتم بن النعمان الباهلي فقتل أولئك الترك ولم يفلت منهم إلا اليسير. كانت الدولة الأموية تمتد من آسيا الوسطى الى آسيا الصغرى والى حدود فرنسا الجنوبية . ولم يوجه عمر بن عبد العزيز حملة حربية تواصل الفتوح وفى نفس الوقت لم يتسامح فى الاعتداء على المسلمين فى أطراف دولته . وكتب عمر بن عبد العزيز إلى ملوك السند يدعوهم إلى الإسلام على أن يملكهم بلادهم ولهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، وقد كانت سيرته بلغتهم، فأسلم بعضهم وتسموا بأسماء العرب. ثم إرتدوا عن الاسلام فى خلافة هشام بن عبد الملك .

 

 و كان بنو أمية يسبون أمير المؤمنين علي بن أبي طالب،إلى أن ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة، فترك ذلك وكتب أن يُقرأ عوضه: (إن الله يأمر بالعدل والاحسان ..).

مع الخوارج :

كانت المعارك مستمرة بين الخوارج والأمويين ، وفى عام 100 هجرية ثاروا فى الكوفة بقيادة شوذب ( بسطام اليشكرى )، فكتب عمر بن عبد العزيز إلى والى الكوفة ألا يتعرض لهم إلا إذا سفكوا الدماء ، فإن فعلوها حاربهم . واستعد والى الكوفة بجبش قوى لمواجهتهم ، وفى نفس الوقت أرسل عمر بن عبد العزيز الى قائد الخوارج رسالة يقول له فيها : ( بلغني أنك خرجت غضباً لله ولرسوله ولست أولى بذلك مني، فهلم إلي أناظرك، فإن كان الحق بأيدينا دخلت فيما دخل الناس، وإن كان في يدك نظرنا في أمرك.) فكتب شوذب إلى عمر:( قد أنصفت وقد بعثت إليك رجلين يدارسانك ويناظرانك.). وجاء الرجلان الى عمر بن عبد العزيز فى محل إقامته ودارت بينه وبينهما مناظرة علنية .وفى المناظرة إعترفا بعدله ، وتغلب عليهما عمر فى المناظرة ، ولكنهما أحرجاه عن مسئوليته عن تولى ابن عمه يزيد بن عبد الملك الخلافة من بعده ، والمفروض أن يكون الأمر شورى بالاستحقاق وليس بالوراثة .وبكى عمر عجزا عن الاجابة وطلب مهلة للتفكير .( فخاف بنو أمية أن يخرج ما بأيديهم من الأموال وأن يخلع يزيد ولاية العهد، فوضعوا على عمر من سقاه سماً، فلم يلبث بعد ذلك إلا ثلاثاً حتى مرض ومات. ! ). وعاد الأمويون لنفس سيرتهم .  توفي عمر بن عبد العزيز في رجب سنة101 ، ودفن بدير نصرانى ( دير سمعان) . وكانت خلافته سنتين وخمسة أشهر، ومات شابا لم يبلغ الأربعين .  وترك سيرة ناصعة فى التاريخ تجمع بين العظمة التاريخية( النجاح السياسى ) والعظمة الانسانية ( النجاح الأخلاقى ). وقلما يتوفر هذا لغير الأنبياء .                                 

 فماذا عن السيسى ؟ 

بعد عدة أشهر من توليه الرئاسة واجه السيسى ــ مع إختلاف الظروف ـ نفس التحديات التى واجهها عمر بن عبد العزيز . فساد الادارة والمسئولين ونهب أراضى الدولة وسلب ثروات الناس وسوء أحوال الفقراء . إنحاز السيسى للمفسدين على حساب المقهورين ، بينما إنحار عمر بن عبد العزيز للحق والعدل وواجه أهله وأعمدة دولته بلا هوادة .

واجه عمر بن عبد العزيز الخوارج الثائرين عليه برغم عدله فاستعد لهم حربيا بمعاقبتهم إن سفكوا الدماء ، ودعاهم للمناظرة العلنية على قدم المساواة  ، ولما تبين له قوة حجتهم فى مسئوليته عن فرض ولى عهد بعده على المسلمين دون مشورة إعترف لهم بالحق باكيا ، فكان فى هذا مقتله على يد أسرته . أما السيسى  فهو يقاتل معارضية المسلحين والمُسالمين بلا هوادة وبلا تفرقة . وبينما يخرج عمر بن عبد العزيز عن المتعارف عليه فى التعامل مع المساجين الجنائيين وفق حقوق الانسان التى نعرفها اليوم فإن السيسى تزدحم سجونه بخصومه السياسيين، ويوضع فى السجون بعضهم بلا محاكمة طبقا لقانون ظالم يمتد به الحبس الاحتياطى ليشمل من تغضب عليه السلطة وتضعه فى الحبس بلا أمل فى الخروج وبلا محاكمة ، وحيث يتعرض للتعذيب بلا مساءلة .  وتتوالى الأنباء عن مقتل مساجين ومحتجزين فى أقسام الشرطة وحالات إغتصاب ..

اخيرا

نتوقف اليوم عن تقييم السيسى .. ننتظر ونرى . وقد نعود اليه مرة أخرى إذا جدّ جديد يستحق المزيد .         

اجمالي القراءات 11016