ج2 / ف 3 / تشريع التواكل فى دين التصوف

آحمد صبحي منصور في السبت ٢١ - فبراير - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً

كتاب (التصوف والحياة الدينية فى مصر المملوكية )

الجزء الثانى :  العبادات فى مصر المملوكية  بين الإسلام والتصوف

الفصل الثالث: أثر التصوف في الزكاة و والصيام        

 تشريع التواكل فى دين التصوف

ولأن التبطل أضحى في عرفهم ديناً فقد أحاطوه بالتشريعات والأحكام كما يفعل الفقهاء في أمور الدين السنى .

1- والغزالي استخدم علمه بالفقه السنى ليشرع للصوفية في أحوال التبطل بعد أن وصفه بالتوكل وجعل له مقامات ، ومنها مقام ( الخواص) ذلك الرائد الصوفى الذي كان يدور في البوادي بغير زاد اعتماداً على أن الله تعالى سيبعث له في الصحراء بالزاد والماء ( والمقام الثاني من التوكل أن يترك الكسب في الأمصار منتظراً أن يسخر الله سكان البلد ليطعموه )[1]..

وفي موضع آخر يقول الغزالي (ولقد أحسن الشاعر حيث يقول..

جرى قلم القضاء بما يكون      فسيان التحرك والسكون

جنون منك ان تسعى لرزق    ويرزق في غشاوته الجنين..

  ثم يقول عن البالغ القادر على الكسب ( إن كان هذا القادر بطالاً فقد صدقوا، فعليه الكسب ولا معنى للتوكل في حقه، فإن التوكل مقام من مقامات الدين يستعان به على التفرغ لله تعالى . فما للبطال والتوكل..)[2]. ، فقد جعل التبطل ديناً يستعان به على التفرغ لله– ويعني بذلك الاتحاد لا العبادة الإسلامية ، وقد عهدنا الصوفية يهملون الصلاة والفرائض ، والغزالي نفسه اعتبرها معوقاً عن الهدف الأسمى للصوفية وهو الاتحاد أو المجالسة مع الله تعالى..

ونتابع الغزالي في تقعيده لأحكام التواكل والتبطل ، فيقول (وإن كان مشتغلاً بالله ملازماً لمسجد أو بيت وهو مواظب على العلم والعبادة فالناس لا يلومونه في ترك الكسب ولا يكلفونه ذلك ، بل اشتغاله بالله تعالى يقرر حبه في قلوب الناس حتى يحملون إليه فوق كفايته، وإنما عليه أن لا يغلق الباب ولا يهرب إلى جبل من بين الناس . وما رؤى إلى الآن عالم أو عابد استغرق الأوقات بالله تعالى وهو في الأمصار فمات جوعاً، ولا يرى قط . بل لو أراد ان يطعم جماعة من الناس بقوله لقدر عليه). أى أن الغزالي أخرج عن دائرة التواكل غير الصوفية بحجة أنهم قادرون على الكسب، ولم يطبق ذلك الشرط على الصوفية بحجة اشتغالهم بالله والعلم، وقد عرفنا جهدهم في العبادة، وبقي أن نقرر أن العلم المقصود عند الصوفية هو العلم اللدني الذي يهبه الله – بزعمهم – للصوفي بلا واسطة وذلك حين ينكشف عن قلبه الحجاب فيعلم الغيب ويقرأ اللوح المحفوظ.. ومعلوم أن ذلك ادعاء باطل..

  ويقول الغزالي عن الصوفية المتبطلين في الخوانق والربط ( واعلم أن الجلوس في  رباطات الصوفية مع معلوم (راتب) بعيد من التوكل ، فإن لم يكن معلوم ووقف وأمروا الخادم بالخروج للطلب ( أى للتسول) لم يصح معه التوكل إلا على ضعف،  ولكن يقوى بالحال والعلم كتوكل المتكسب، وان لم يسألوا ( أى يتسولوا )  بل قنعوا بما يحمل إليهم فهذا أقوى في توكلهم، ولكنه بعد اشتهار القوم بذلك (أى بعد اشتهار الصوفية بالقعود فى الخوانق والتسول) فقد صار لهم سوقاً (أى أصبحت لهم حرفة) فهو كدخول السوق )[3]. أى إعتبر الغزالى التبطل فى الخوانق ــ والعيش فيها عالة على الناس ــ حرفة مثل من يدخل السوق يبتغى الرزق.

  والتفت الغزالي إلى الناس غير الصوفية والمسخرين ــ فى نظره ــ للإنفاق على الصوفية فأوسع لهم جانباً في تشريع التواكل باعتبارهم الجزء الهام في القضية . فجعل من محبي الله ( الذي يتصدق بأمواله لله ويجمع الضيفان ويهيء لهم الأطعمة اللذيذة الغريبة تقربا إلى الله .. فهو في جملة المحبين لله، وكذا لو أحب من يتولى ايصال الصدقة إلى المستحقين فقد أحبه في الله)[4]. وعند الغزالى فالصوفية هم المقصودون بالولائم ، وقد كانوا نجوم الموائد والموالد ــ ولا يزالون . وعند الغزالى ايضا فهذا تصدق لوجه الله . والغزالى لم يأت بجديد ، فقد سبقه الجاهليون الذين كانوا يقدمون النذور للأولياء أساسا ، ثم عند تقديم الصدقات لوجه الله يتوجهون بها أيضا للأولياء بصفتهم الواسطة ، وكل ما يقدمونه هو أصلا رزق من عند الله جل وعلا يقول جل وعلا عن هذا الافتراء : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنْ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136) الانعام  )

2- وفي العصر المملوكي جعل ابن عطاء من اسباب اسقاط التدبير، أى السعى فى المعاش : (اشتغال العبد بوظائف العبودية التي هى مغياة بالعمل لقوله( واعبد ربك حتى يأتيك اليقين) فإذا توجهت همته إلى رعاية عبوديته شغله ذلك عن التدبير لنفسه والاهتمام لها . قال الشيخ أبو الحسن رحمه الله تعالى: اعلم أن لله تعالى عليك في كل وقت سهماً في العبودية ، يقتضيه الحق سبحانه وتعالى منك بحكم الربوبية. والعبد مطالب بذلك كله ومسئول عنه وعن أنفاسه التى هى أمانة الحق عنده ، فأين الفراغ لأولي البصائر عن حقوق الله تعالى حتى يمكنهم التدبير لأنفسهم والنظر في مصالحها باعتبار حظوظها ومآربها ، ولا يصل أحد إلى منة الله إلا بغيبته عن نفسه وزهده فيها .. فبحسب غيبتك عن نفسك فناءاً عنها ، يبقيك الله به)[5]. . أى أن الصوفي مطالب – من دون الناس – برعاية حق الله تعالى. وذلك من شأنه التفرغ.  فأين الفراغ إلا في التبطل ؟ ثم أن هذا الحق المزعوم  المطالب به الصوفي هو ( الغيبة عن النفس) أى الإنجذاب لله تعالى والاتحاد به، وعلى أساس ذلك يكون بقاء الصوفي بالله بزعمهم ، أى إتحاده بالله جل وعلا عن ذلك علوا كبيرا.  والناس مطالبون بالإنفاق على  الصوفي وكفالته حتى ينعم بالاتحاد بالله أطول فترة ممكنة. يقول ابن عطاء( فحسب غيبتك عن نفسك فناءا عنها يبقيك الله به، لذلك قال الشيخ أبو الحسن أيها السابق إلى سبيل نجاته السائق إلى حضرة جنابه، أقلل النظر إلى ظاهرك إن أردت فتح باطنك لأسرار ملكوت ربك)[6].

فهدف التواكل عند الصوفية هو تحقق اتحادهم المزعوم بالله تعالى ، وذلك ما ألمح إليه الغزالي وصرح به الشاذلي وابن عطاء..

حسنة وأنا سيدك :

 لم نجد عنواناً مناسبا لوصف إستعلاء الصوفية المتسولين للناس الذين ينفقون عليهم ــ إلا هذا المثل الشعبي المصري ( حسنة وأنا سيدك ) وهو مثل متأثر قطعا بأحوال الصوفية الذين عاشوا عالة على الناس مع إستعلائهم على الناس .      

1- فالصوفي يتمتع باعتقاد الناس فيه وبحظوته عند الله تعالى بزعمهم ، ولذلك تنهال عليه ( الفتوحات) والهبات من مالية وعينية ليتمتع الأتباع بنظرة اهتمام من شيخهم صاحب التصريف والمدد  ..

والصوفي – كما سبق – يتفرغ لمهمة الاتحاد بالله والجلوس في حضرته – تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ـ ويرى أن تجرده لهذه المهمة يتطلب أن يستريح من هم المعاش وتدبير الارتزاق ..

والعقيدة الصوفية تؤمن بالجبرية، أى أنهم ارتضوا التخلي عن إرادتهم في نظير التمتع بالإرادة الإلهية، أما بالنسبة للآخرين فهم يجبرون على إعاشتهم والإنفاق عليهم لينالوا شيئاً من بركات الصوفي ومدده ..  والأساس هنا هو إعتبارهم آلهة ومن ذلك المكان العالى ينظرون إلى الأتباع الذين يتقدمون إليهم بالأموال والطعام.

2- وقد عبر الغزالى عن هذه النظرة حين افترى حديثاً زعم أنه جرى بين الله تعالى وموسى عليه السلام. يقول الغزالى الكذاب :( قال موسى يا رب لما جعلت رزقى على أيدى بنى اسرائيل يغدينى هذا يوماً ويعشينى هذا يوماً ؟ فأوحى الله إليه : هكذا أصنع بأوليائى أجرى أرزاقهم على أيدى البطالين من عبادى ليؤجروا فيهم )[7]. ومطلوب من القارىء أن يصدق هذا الافتراء ، ويصدق أن الغزالى سمع هذا الحوار الذى دار بين رب العزة جل وعلا وموسى عليه السلام ، أى إن أبا حامد الغزالى كان فى عصر موسى يسترق السمع ..نحن فقط نتساءل ، وهكذا يفعل أولو الألباب ، أما الذين لا يعقلون فهم يبتلعون كل إفتراءات الغزالى وغيره مؤمنين بها . ويعقب الغزالى على ذلك إفترائه السابق بنتيجة ، يقول : ( فلا ينبغى أن يرى المعطى إلا من حيث هو مسخر ومأجور من الله تعالى)[8]. . فالمعطى المتصدق هو كالحيوان مُسخّر ومأجور ــ أجير ـ للصوفى الأعلى مقاما . و الغزالى فى تشريعه الصوفى لم يقترف فقط الإفتراء على الله تعالى – وهو إثم عظيم- بل ضمّن ذلك إساءة موجهة لله تعالى حين جعل الله تعالى يصف المحسنين بالبطالين وينعت القاعدين بأنهم الأولياء. وكلمة ( البطالين ) مصطلح صوفى لم يكن معروفا قبل العصر العباسى .    

3- وتفضيل الصوفى الآخذ على المحسن إليه ورد كثيراً فى كتاب التنوير.لابن عطاء السكندرى:  

أ) فابن عطاء جعل من فوائد التكسب والأسباب أنها تعين الصوفية المتواكلين على معيشتهم يقول( الفائدة الرابعة : إن فى الأسباب والقيام بها رحمة بالمتجردين، ومنةَ من الله على المتوجهين لطاعته والمتفرغين لها..فكيف كان يصح لصاحب الخلوة خلوته ولصاحب المجاهدته مجاهدته، فجعل الحق تعالى الأسباب كالخدمة للمتوجهين إليه المقبلين عليه)[9].. ( التجرد ) فى مصطلحات التصوف يعنى التفرغ للعبادة الصوفية ، وما يعنيه هذا من التبطل والقعود عن السعى للرزق . والعبادة عندهم هى ( المجاهدة ) فى التخلص من البشرية للإتحاد بالله بزعمهم ، وهذا يستدعى ( الخلوة ) .  وقد يقول عاقل إن الفضل يرجع للمتسببين الساعين فى طلب الرزق الذين كفلوا الصوفية وأعانوهم على طاعتهم ومجاهداتهم المزعومة .. إلا أن ابن عطاء ينكر ذلك ويجعل المتجرد للعبادة الصوفية المتواكل أفضل من المتسبب المعطي حتى لو كان على درجة واحدة من المعرفة بالتصوف . يقول ( لعلك تفهم من هذا الكلام إن المتجرد والمتسبب في رتبة واحدة ، وليس الأمر كذلك، ولن يجعل الله من تفرغ لعبادته وشغل أوقاته به كالداخل في الأسباب، ولو كان فيها متقناً، فالمتسبب والمتجرد إذا استوى مقامهما من حيث المعرفة بالله فالمتجرد أفضل، وما هو فيه أعلى وأكمل، ولذلك قال بعض العارفين: مثل المتسبب والمتجرد كعبدين للملك قال لأحدهما :اعمل وكُل من كسب يدك، وقال للآخر: إلزم انت حضرتي وخدمتي وانا أقوم لك بما تريد، فهذا قدره عند السيد أجلُ ، وصنعه به ذلك على العناية به أدل)[10]. . ولا ريب أن ذلك افتراء على الله تعالى ووصف له بالظلم.

ب) والأساس في هذه النظرة الصوفية أنهم ينظرون للآخرين أو (الأغيار )،المنفقين عليهم على أنهم قد سخروا لخدمتهم ، ولأن عقيدة وحدة الوجود الصوفية تجعل الصوفي لا يرى إلا الله فالصوفي البطال لا يرى فيمن يطعمه وينفق عليه إلا مجرد سبب وآداة سخرت لإطعامه وهو ساكن مستريح ، فالمال مال الله واؤلئك هم عبيده وما يفعلونه (لأولياء الله) فرض عليهم خلقهم الله من أجله ، فلا فضل لهم ولا يستحقون حتى كلمة شكر.

وترسب فى الضمير الشعبى حتى الآن أن يُقال عن الصوفية أنهم ( اهل الله )، وهو تعبير كافر باغ ظالم ، لأن الأهل هم الزوجة والولد ، وتعالى الله جل وعلا أن يكون له ولد أوصاحبة . ولكن يتردد هذا المصطلح الكافر الظالم كثيرا فى التراث الصوفى ، ومنه فيما يخص موضوعنا قول ابن عطاء : (.. وكذلك أهل الله لا يأكلون إلا على مائدة الله ، أطعمهم من أطعمهم ، لعلمهم أن غير الله تعالى لا يملك معه شيئأً ، فيسقط بذلك شهود الخلق عن قلوبهم، فلم يصرفوا لغير الله حبهم، ولا وجهوا لمن سواه ودهم ، إذ رأوا أنه هو الذى أطعمهم ومنحهم من فضله وأكرمهم. قال الشيخ أبو الحسن رحمه الله يوماً:"إن نحن لا نحب إلا الله تعالى" أى لا يتوجه الحب منا إلى الخلق ، فقال له رجل: قد أبى ذلك جدك يا سيدي بقوله: عليه الصلاة والسلام " جبلت القلوب على حب من أحسن إليها "  فقال: نعم نحن قوم لا  نرى المحسن إلا الله تعالى ، فلذلك جبلت قلوبنا على محبته أ.هـ  ومن رأى أن المطعم هو الله سبحانه وتعالى تجدد عنده مزيد الحب على حسب ما يتجدد من تناول النعم.. ومن رأى أن الله هو المطعم له صانته هذه المطالعة عن الذل للخلق ، أو انه يميل قلبه بالحب بغير الملك الحق..)[11].

ج) ولعقيدة الجبرية الصوفية جانب في ذلك الإستعلاء الصوفي على من يحسن إليهم.. يقول ابن عطاء (فعليك أيها المريد برفع همتك عن الخلق،ولا تُذلّ لهم في شأن الرزق ، فقد سبقت قسمته وجودك، وتقدم ثبوته ظهورك . واسمع ما قاله بعض المشايخ : أيها الرجل: ما قدر لماضغيك أن يمضغاه فلابد أن يمضغاه، فكله ويحك بعز ولا تأكله بذل)[12].

د) ومن دواعي الاستعلاء الصوفي على المحسن إليهم ان الأخير يتقرب إليهم بذلك الاحسان أملاً في أن يشملوه بنظرة أو مدد حسب الاعتقاد السائد في تصريف الصوفي وحظوته عند الله – تعالى عن ذلك علواً كبيراً – لذا فإن ابن عطاء يشير إلى ذلك على إستحياء حين يقول ( ووجود أهل الفاقة من نعمة الله على ذوي الغنى، إذ وجدوا من يحمل عنهم أزوادهم إلى الدار الآخرة، وإذ وجدوا من إذا أخذ منهم أخذ الله منهم [13]) وجاء ذلك المعنى صريحاً في كتب المناقب – وهى دائماً صريحة – إذا قالوا في شرح عبارة : ( اليد العليا خير من اليد السفلى) إن اليد العليا هى يد الفقير الصوفي (لأنها تعطي الباقي)[14]. اى في الآخرة..

4- ومن مصطلحات التصوف ( الفقر ) ومن أوصاف الصوفية ( الفقراء ) ويقال للصوفى ( فقير ) . والفقير الصوفي مختلف تماماً عن الفقير العادي الذي يستحق الصدقة . كما أن الهدايا أو (الفتوحات) التي ينالها الصوفي من أتباعه تختلف عن الصدقة التي يستحقها أربابها المذكورون في قوله تعالى : ( إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60) التوبة).

فالأساس الذى تقدم على أساسه الهدايا للصوفي هو الاعتقاد في ألوهيته والأمل في تصريفه وشفاعته ، وذلك خارج النطاق الإسلامي تماماً..

  وإذا بحثنا له عن مثيل في آيات الذكر الحكيم فسنجدها في المواضع التى تصف دين الشرك وممارساته حين كان المشركون يتقدمون للولي بالنذور في حياته أو بعد موته ، وندد رب العزة جل وعلا بموقفهم ذلك حين أعرضوا عن الله تعالى الولي واختاروا لأنفسهم ولياً يقومون هم بإطعامه، مع أن الله هو الذي يطعم الجميع، يقول جل وعلا : ( قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ (14) الأنعام ). من هذا المنطلق يمكن أن نفهم لماذا يتعالى الصوفي على من يعطيه ويعتقد أنه اليد العليا.. وأن ذلك المعطي لا وجود له في حسابه او ذهنه، وإنما هو مسخر في خدمته شأن العبيد الذين خلقهم الله جل وعلا لطاعته، مع أن الله سبحانه وتعالى هو المستحق وحده لذلك ،فهو وحده الخالق الرازق ، يقول رب العزة جل وعلا : (  وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)  الذاريات ) . وقد ذكرنا قبلاً في مبحث تصريف الولي أنهم اعتقدوا أن الولي واسطة في الرزق.. فماذا أبقوا لله سبحانه وتعالى؟؟..

5- والصوفي إذا كان متبطلاً تاركاً للحرفة والتسبب فمن أين يعيش؟ ولقد كثر انخراط أهل الحرف  في التصوف في عصر الشعراني بشكل يهدد إنقراض السعى على الرزق ، وبالتالى عدم وجود متصدقين  ينفقون علي الشعرانى وعلى بقية شيوخ التصوف . وفطن الشعرانى لهذا الخطر الذى غفل عنه بقية الشيوخ الصوفية فى عصره .  لذا افتخر الشعرانى بأنه يحثُّ الناس على التمسك بالحرف التى يعملون بها وعدم تركها ليصبحوا مريدين عاطلين يزاحمون الشيوخ فى الارتزاق .  يقول الشعرانى : ( وهذا الخلق قليل من يتنبه له من متصوفة الزمان ، بل يزينون لمن يجتمع بهم ترك الاشتغال بالحرفة.. ثم هم بعد ذلك على قسمين: أما أن الشيخ يصير يطعمهم من الصدقات وأما أن  يصيروا يسألون الناس)[15]..

فالتواكل وترك التسبب صيَر الصوفية متسولين ونشر التسول في العصر المملوكي .

وندخل بهذا على التسول بعد التبطُّل .



[1]
إحياء جـ4/ 230.

[2]إحياء جـ4/ 235.

[3]إحياء جـ4/231.

[4]إحياء جـ2/ 144 .

[5]التنوير 62: 63 .

[6]التنوير 63 .

[7]احياء جـ4 /181.

[8]احياء جـ4/181 .

[9]التنوير 242.

[10]التنوير 150: 151.

[11]التنوير 282: 283 .

[12]التنوير 294.

[13]التنوير 160.

[14]مناقب المنوفى 21مخطوط.

[15]لطائف المنن 406 .

اجمالي القراءات 7119