كتب البخاري كتابه.."صحيح الجامع"..على غير عادة الفقهاء والمحدثين في ذلك العصر، كان الشيوخ في عهده –وما قبله- يصفون أعمالهم عن الحديث بالسُنن والموطآت والمسانيد ، ويُعرف هذا التوصيف على أنه حجة قائله لفهم السنة، وليس ادعاء صدق نسبها للنبي إجماعا، جاء البخاري وسنّ سُنّة سيئة في كتابة الحديث حين وصف كتابه.."بالصحيح"..وهو لفظ يُفيد صدق انتساب هذا العمل للرسول وهيمنته على ما سواه، رغم أن الفارق بين موت النبي وولادة البخاري أكثر من 180 عاماً، فمن أين له ادعاء صدق كتابه وبينهما هذا الزمن الكبير..!
ولد البخاري عام 194هـ وتوفى عام 256هـ، أي عاش 62 عاماً كتب فيها صحيح الجامع في 22، أي ظل 40 عاماً لم يكتب فيها الأحاديث، وإن صنف في مواد أخرى عقدية وتاريخية، ويبدو من أسلوبه أنه يكره التفكير وإعمال الرأي، فلم يقل بشئ إلا وطرح له سندا، وإن لم يطرح ذكر من قال له ذلك القول، وهو منهج تقليدي يوافق طُرق تفكير المسلمين في ذلك العصر، الذي يُوصف بأنه عصر التقليد الأول.
وطبيعة التقليد أنها.."وقّافة"..أي تقف على حدود وخطوط معلومة لا تتجاوزها، فإن كان المقلد يسأل عن شئ في العقيدة لا يحل له التفكير دون استشارة من يقلده، وكذلك في الفقه وكافة العلوم، حتى العلوم الطبيعية التي لم تتشكل رسمياً إلا بعد موت البخاري بمئات السنين، ومن ذلك فتواة في شأن الطب وفضل الطعام والشراب، وكلها علوم بيئية لا تخرج عن طبيعتي.."الزمان والمكان"..أي لو كان البدو في الجزيرة العربية يُعالجون أنفسهم بطريقة ما حتماً ليست هي طريقة شعوب الصين أو الرومان أو الفرس، والحديث عن طريقة واحدة في العلاج وادعاء أنها السنة يعني عدم الاعتراف بالطُرق الأخرى رغم أنها غير مُجرّبة، ولم يبذل البخاري جهداً للتعرف عليها كي يتكلم عن علم.
مبدئياً وقبل الخوض في تلك الدراسة أشير إلى أن الفكر الديني بالعموم يُعاني من مُعضلة.."آخر الزمان"..وتعني هذه المعضلة اعتقاد المتدين أن زمانه هو آخر الأزمنة، وأن مصير البشرية متوقف عليه، فلا معنى لحياة السابقين، ولا سؤال عن حياة اللاحقين، وقد أدى ذلك إلى جمود المتدين وإهماله للمستقبل، فكل رؤية مستقبلية هي رؤية غير دينية بالعموم، رغم أن في الدين نصوص تحض على فعل الخيرات لأجل الغير، حتى لو كان هذا الغير ممن سيعيشون في المستقبل.
لكن نزعة الوصاية الدينية-وهي نزعة افتراضية إنسانية - هي التي خلقت تلك المعضلة في نفس المتدين، وطبيعي أن يعاني منها البخاري وكل كتاب الحديث في عصره، فاعتقدوا أن زمانهم هو آخر الأزمنة، وأن ما يفعلونه من نقل لسنة النبيّ هو طوق نجاة لشعوب المسلمين في ذلك الزمان.
وظهر ذلك في مضمون القصص وأخبار الملاحم وحكاوي آخر الزمان التي دوّنها البخاري وغيره، حتى أنه روي حديثاً مشهوراً يقول.."بعثت والساعة كهاتين وأشار بإصبعيه السبابة والوسطى"..ويعني أن ما بين النبي والساعة لا شئ مجازاً، وأنا أسأل لو ما بين البخاري والنبي 200 عام..ألا نفهم أن هذا الزمن هو المقصود ما بين الإصبعين؟..حتى لو كان هذا الحديث أقدم بكثير من عصر البخاري إلا أن مؤلفه ورواته كانوا يعتقدون أنهم في زمان الساعة وإلا فما معنى رفع إصبعين متجاورين كالسبابة والوسطى ولم يرفع إصبعين متباعدين كالخنصر والإبهام؟!
الآن مر أكثر من 1400 عام بعد موت النبي ولم تقم الساعة، وهذا ليس تكذيباً للساعة ولكنه تساؤل عن حديث يقرن حياة النبي بها، وهو ما لم يصح بمرور الزمان، ألا يكون لنا الحق في السؤال عن صدق من ادعى هذا الخبر؟..وكيف لو تبين أن النبي قاله فعلاً ألا يكون ذلك دليلاً على كذب النبي؟؟..لو لم نرضَ بذلك فما الخيار غير تكذيب الراوي أو المدعي ومن دَوّن ذلك في كتابه..!
حقيقة أن موضوع السبابة والوسطى هذا نفهمه كإشارة ولغة ذلك العصر، فكلما أراد قائل أن يخلط بين أمرين أو يجعلهما أقرب يرفع هذين الإصبعين، وحتى اليوم عندما نُشير إلى معنى قرابة رحم أو مسافة أو صداقة حميمة نرفع نفس الإصبعين، كمن يقول ..هذا صديقي الروح بالروح أنا وهو كهاتين.." ويرفع السبابة والوسطى"..أو من يقول هذا جاري بيني وبينه لا شئ حتى أننا كهاتين.."ويرفع نفس الإصبعين".
وعند البخاري أحاديث تؤكد ذلك المعنى، حيث روى في صحيحه :.." حدثنا عمرو بن زرارة، أخبرنا عبد العزيز بن أبي حازم، عن أبيه، عن سهل، قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وأنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا» وأشار بالسبابة والوسطى"..(صحيح البخاري 5304)...وروى أيضاً عن سعيد بن جبير، قال: قلت لابن عمر: رجل لاعن امرأته، فقال: بإصبعيه - وفرق سفيان بين إصبعيه، السبابة والوسطى - فرق النبي صلى الله عليه وسلم بين أخوي بني العجلان "..(صحيح البخاري 5312).
والمعنى أن كافل اليتيم في الجنة بمنزلة النبي وإن قيلت مجازاً ، وفي قول ابن عمر لسعيد بن جبير معنى أن رفع ذات الإصبعين يعني الاختلاط حتى ان ابن عمر رفعهما لوصف شدة قُرب الرجل لزوجته والأخ لأخيه، وهذا رد على من يزعم أن رفع السبابة والوسطى في حديث الساعة لا يعني شدة القرابة بالقياس على عُمر الكون أو حتى عُمر الإنسان على الأرض، رغم أنه يؤمن أن ما بين آدم والنبي محمد أقل من 10 آلاف عام حسب كل مدوّنات التاريخ الإسلامية واليهودية، فما معنى أن يرفع النبي سبابته ووسطاه على قُرب قيام الساعة ولم تقم بعد مماته ب1400 عام، بما يعني أن هذه الإشارة بإصبعية لا تعني .."خُمس".. عُمر البشرية..!
الحل الوحيد أن ننظر إلى نصوص البخاري في سياقها الزمني والمكاني، فحسب جغرافيا خراسان-أرض البخاري-لم تكن صحراوية ، وبالتالي لم تتقيد نصوص البخاري بالبيئة الصحراوية وإن ذكر نصوصاً أخرى تدل على هذه البيئة لاختلاطه بالعرب في العراق ومكة والمدينة، فالرجل –حسب سيرته المكتوبة -كان رحّالاً ..أي كان يعلم جيداً ثقافات متعددة وقرأ وسمع ما لم يعلمه الكثير، وفي هذه الدراسة قد نخوض في تلك النماذج لشرح هوية الرجل لكي نفهم معنى العداء الذي كنّه البخاري للنبي في كتابه سواء علم ذلك أو لم يعلم.
سأبدأ بحديث لم ينتبه له الكثيرون حتى من نقاد البخاري ، وهو سقطة ليست فقط عقلية ولكن تاريخية دالة على أن الرجل لم يكن له باع في التاريخ، وأن تجرؤه على نسب أخباره للرسول لم يكن إلا عن عداء صريح ..معلن أو مخفٍ هذا شئ آخر، لأن من ينسب هكذا أقوالاً للرسول لا يعلم نتائجها فهو بالقطع عدوُ له مصداقاً لقوله تعالى.." يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم " [التغابن : 14]..ولا يزعم أحد أن للمؤمنين أعداء .."مُعلنين"..من أزواجهم وأهليهم، فما بالنا برجل غريب جاء من أقاصي أوزبكستان يزعم أن النبي قال وفعل، وأن على الجميع أن يلتزم بما قاله وإلا فهو كافر.
لقد وضع البخاري إسم الصحابي .."سعد بن معاذ".. في حوار عن الإفك بعد وفاته بعام، أي قام بن معاذ من قبره ليحكي كلامه البخاري ويضعه في الصحيح دون أن ينتبه حتى من علم وفاة سعد بن معاذ قبل هذا الحدث..وإليكم القصة:
روى البخاري في صحيحه:.."قال رسول الله وهو على المنبر: يا معشر المسلمين، من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي؟
فوالله، ما علمت على أهلي إلا خيرا، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي.فقام سعد بن معاذ الأنصاري، فقال: يا رسول الله، أنا أعذرك منه، إن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك"..(صحيح البخاري 4750)
والحديث يرويه البخاري برواياتٍ متعددة عن حادثة الإفك أرقام .."2661-4141-4757"..أي كان حضور سعد بن معاذ ثابتاً في ذهن البخاري ضمن هذه الحادثة المشهورة، وهذا رد على من يدعي أن الخطأ هو تصحيف أو زيادة من النُسّاخ أو الورّاقين، وإلا فما معنى أن يذكره في أربع روايات واحدة منها بزيادة نسبه الأنصاري، حتى أن ابن قتيبة الدينوري.."ت276هـ" ..غفل عن هذا الخطأ في تأويل مختلف الحديث، رغم أنه أوّل أخطاءً أخرى أكثر شناعة.
والمعلوم أن حادثة الإفك حدثت عام 6 هجرية في غزوة بني المصطلق أو المريسيع كما يُطلق عليها، بينما سعد بن معاذ متوفي بعد غزوة الخندق عام 5 هجرية..وهذا يعني أن البخاري يزعم إحياء الله لسعد بعد موته بعام كي يشارك الصحابة في حديث الإفك.!!
سيقول الأزهر والسلفية أي شئ لتبرئة الرجل، فهو لديهم ليس مجرد راوٍ للحديث بل هو إمام مذهب شامل عقدي وسياسي وفقهي، وبالتالي إذا سقط الرجل وأهليته فلا معنى لمذهبهم، وهذا يُفسر دفاعهم الشرس عن الرجل أنه في الحقيقة دفاع عن الذات، وعلى طريقتهم سأطرح قولاً لابن حجر العسقلاني يشهد فيه على أن ذكر ابن معاذ في حوار الإفك هو خطأ تاريخي من البخاري..
يقول ابن حجر: قال عياض: في ذكر سعد بن معاذ في هذا الحديث إشكال، لم يتكلم الناس عليه، ونبَّهنا عليه بعض شيوخنا، وذلك أن الإفك كان في المريسيع، وكانت سنة ست فيما ذكر ابن إسحاق، وسعد بن معاذ مات من الرمية التي رميها بالخندق، فدعا الله، فأبقاه حتى حكم في بني قريظة، ثم انفجر جرحه فمات منها، وكان ذلك سنة أربع عند الجميع، إلا ما زعم الواقدي أن ذلك كان سنة خمس، قال: وعلى كل تقدير فلا يصح ذكر سعد بن معاذ في هذه القصة. (فتح الباري 8/471)
على أنه حاول استدراك هذا الخطأ لئلا يسقط البخاري وبالتالي فلا معنى لشرحه قال:.." وقال لي بعض شيوخنا: يصح أن يكون سعد موجودا في المريسيع بناء على الاختلاف في تاريخ غزوة المريسيع، وقد حكى البخاري عن موسى بن عقبة أنها كانت سنة أربع، وكذلك الخندق كانت سنة أربع، فيصح أن تكون المريسيع قبلها؛ لأن ابن إسحاق جزم بأن المريسيع كانت في شعبان، وأن الخندق كانت في شوال، فإن كانا في سنة واحدة استقام أن تكون المريسيع قبل الخندق، فلا يمتنع أن يشهدها سعد بن معاذ.
وقد قدمنا في المغازي أن الصحيح في النقل عن موسى بن عقبة أن المريسيع كانت سنة خمس، وأن الذي نقله عنه البخاري من أنها سنة أربع سبق قلم، نعم والراجح أن الخندق أيضا كانت في سنة خمس خلافا لابن إسحاق، فيصح الجواب المذكور"..(فتح الباري 8/471)
والجواب على ذلك أن عمدة هذا الكلام هو دفاع موسى بن عقبة، وكأنها كانت محاكمة للبخاري تقدم المحامي ابن عقبة للدفاع وبرء ساحة الرجل..
وعلى نفس الوزن أترك ابن القيم الجوزية يرد على موسى بن عقبة..قال:.." متى كانت غزوة بني المصطلق وفي هذه القضية أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: ( «من يعذرني في رجل بلغني أذاه في أهلي؟ " قام سعد بن معاذ أخو بني عبد الأشهل، فقال: أنا أعذرك منه يا رسول الله» ) ، وقد أشكل هذا على كثير من أهل العلم، فإن سعد بن معاذ لا يختلف أحد من أهل العلم أنه توفي عقيب حكمه في بني قريظة عقيب الخندق، وذلك سنة خمس على الصحيح، وحديث الإفك لا شك أنه في غزوة بني المصطلق هذه، وهي غزوة المريسيع، والجمهور عندهم أنها كانت بعد الخندق سنة ست، فاختلفت طرق الناس في الجواب عن هذا الإشكال، فقال موسى بن عقبة: غزوة المريسيع كانت سنة أربع قبل الخندق حكاه عنه البخاري.
وقال الواقدي: كانت سنة خمس. قال: وكانت قريظة والخندق بعدها. وقال القاضي إسماعيل بن إسحاق: اختلفوا في ذلك، والأولى أن تكون المريسيع قبل الخندق، وعلى هذا فلا إشكال، ولكن الناس على خلافه. وفي حديث الإفك ما يدل على خلاف ذلك أيضا؛ لأن عائشة قالت: إن القضية كانت بعدما أنزل الحجاب، وآية الحجاب نزلت في شأن زينب بنت جحش، وزينب إذ ذاك كانت تحته، فإنه صلى الله عليه وسلم سألها عن عائشة، فقالت: " أحمي سمعي وبصري "، قالت عائشة: وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد ذكر أرباب التواريخ أن تزويجه بزينب كان في ذي القعدة سنة خمس، وعلى هذا فلا يصح قول موسى بن عقبة." انتهى (زاد المعاد 3/237)
ترجمة كلام ابن القيم:الرجل يشهد أن غزوة بني المصطلق كانت في السنة السادسة للهجرة وهو قول الجمهور، وقد حاول تحرير هذا الإشكال"الخطير"الذي يهدم صحيح البخاري ومهنية قائله بالبحث عن عذر للبخاري ولم يستطع سوى أن يقول.."بوهم البخاري"..بقوله لاحقاً.."قال أبو محمد بن حزم: وهذا هو الصحيح الذي لا شك فيه، وذكر سعد بن معاذ وهم؛ لأن سعد بن معاذ مات إثر فتح بني قريظة بلا شك، وكانت في آخر ذي القعدة من السنة الرابعة، وغزوة بني المصطلق في شعبان من السنة السادسة بعد سنة وثمانية أشهر من موت سعد، وكانت المقاولة بين الرجلين المذكورين بعد الرجوع من غزوة بني المصطلق بأزيد من خمسين ليلة."..(المصدر السابق)
والمعنى أن ابن حزم أشكل عليه أيضاً ما قاله البخاري ولم يستطع الدفاع سوى قوله بأن البخاري قد .."وهم"..أي اختلط عليه، والسؤال كيف يختلط عليه والحوار صريح بين سعد بن عبادة وسعد بن معاذ ؟!..هذا يعني أن البخاري كان يزعم حديث بن عبادة لنفسه كما عند ابن حزم..!
ويظهر من كلام ابن حجر وشاهده موسى بن عقبة ثم بعد ذلك ابن القيم وابن حزم أن القضية هي معركة تاريخية انتصر فيها ابن القيم قياساً على تاريخ آية الحجاب التي قال فيها المؤرخون أنها نزلت في زينب بنت جحش ، وزواج النبي بزينب أواخر سنة خمس، والإفك حدثت بعد نزول آية الحجاب، وبالتالي فكلام الجمهور صحيح أن غزوة بني المصطلق سنة ست، وبالتالي لا معنى لكلام البخاري أنها كانت سنة أربع وغيره سنة خمس.
ويبقى السؤال من أين جاء البخاري بقصة سعد في الإفك؟
دعونا نخوض في المسألة فلسفياً، لا يهمنا من أين جاء البخاري بالقصة، ولماذا ذكر سعداً بالتحديد، ما يهمني أن البخاري كغيره من الرواة مجرد نقلة وحَفَظة، يعني ما نقله البخاري كان مُؤيَداً من غيره سواء موتى أم أحياء، فالراوي لا يبلغه خبراً ويحفظه إلا ويمر بمُخيلته فيراه حدثا، فالكلمة لو لم تكن مُجردة في ذهن صاحبها لا ينقلها ، لأن التجريد هو الوسيلة لفهم النص وخلعه عن مشابهاته، كالقول أن حديث الإفك منفصل عن حديث بني قريظة، هذا حدث مجرد والآخر مختلف تماماً، ، وقصة الوهم التي نسبوها للبخاري عُذراً ليست كافية لأن مُخيّلة البخاري رأت ابن معاذ يرد على الرسول ثم يرد عليه بن عبادة ثم تعصب له ابن حضير بحُكم القرابة، هذا سياق مفهوم لقائله وليس وهماً..
أي كان سعداً في مخيلة الرواة في الإفك، فلو كان ابن إسحاق والواقدي -وهم الأسبق للبخاري-قالوا أن الإفك كان سنة ست، هذا يعني أن كل أحداث المصطلق والإفك كانت محل خلاف أيضاً، نزولاً لمنطق الرواية عن المُخيّلة.
عند الشيعة أن الإفك نزل في حق مارية القبطية وليس عائشة، وعند السنة خلاف ما بين أسيد بن حضير وسعد بن معاذ في هذا الحوار، وقبل ذلك في بحث الغامدية وصل ابن حجر أن الغامدية امرأتان وليستا واحدة، فإذا وصل الأمر إلى اختلاف الشخصيات هل يقودنا ذلك إلى أن قصة الإفك برمتها محل جدل؟..قد تكون قصة غير منطقية بسياقها الحالي، وقد تكون محل طعون مذهبية في حق عائشة بالذات أن الله برأ مارية ولم يُبرئ عائشة، وقد تكون رويت لفضائل بعض الصحابة كأبي بكر الصديق وعليّ بن أبي طالب وسعد بن معاذ.
فالمعهود في ذلك الزمن حين يريد الراوي اختراع مناقب لصحابي ما يخترع رواية بأكملها، وسلوكه في الغالب يأتي لمعالجة موقف كإرضاء خليفة أو ذوي جاة وسلطان أو رداً على فرقة معينة أو رأي فقهي أو انتصاراً لعقيدة وما شابه، ونموذج اختراع حد الردة يفضح هذا السلوك من الراوي حين أراد أن يخترع منقبةً لعبدالله بن عباس طعن في عليّ ابن أبي طالب، ومرت الراوية مرور الكرام وأصبحت دليلاً على قتل المرتد رغم أن الراوية هي طعن صريح في أخلاق واحد من أهم الصحابة الذي اتفقت على فضله كل فرق المسلمين.
هذا الخطأ التاريخي للبخاري ليس هو الإشكال الأعظم من رواية الإفك، ولكن ذكر البخاري لسعد وهو يتقدم للذود عن عائشة ويُقر أنه على استعداد لقتل من شوّه سمعتها..يعني بلا جدال أن النبي كان يشك في أمر زوجته قبل نزول البراءة وإن لم يعلن ذلك على المنبر، وإلا فما معنى أن يرضى بقتل فلانٍ دون نفس، وقد قال تعالى.." يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى"..[البقرة : 178]
فمقالة سعد وسكوت النبي تعني أن النبي يرضى بجرائم القتل على الشرف، وهو سلوك جاهلي مخالف لكتاب الله الذي وضع الدم مقابل الدم لا العرض، وكذلك في شتم الصحابي أسيد بن حضير لسعد بن عبادة ووصمه بالمنافق، فإذا كان سب الصحابة يُوجب الكُفر لماذا لم يكفر بن حضير؟..بل لماذا يتكلم النبي عن شرفه وهو على المنبر أصلاً وقد أمر في مواضع أخرى أن يتستر العبد حين الابتلاء؟..فلو كان الجواب أن شيوع الإفك يلزم رده على الملأ قلت لا يجوز رده قبل البراءة الإلهية، فلا معنى لدفاعٍ مرسل لم يرَ عائشة مع صفوان ، بل سمع على طريقة قيل وقال.
إن إسهاب البخاري في قصة الإفك كان هو الخنجر الذي طعن به عائشة وشرف النبي، لم يكن الدفاع عن أم المؤمنين يوماً بذكر هذه التفاصيل التي يصعب وصلها لعائشة، فكلما تقدم الزمن يصعب على الحافظة البشرية فهم الفكرة والسياق فما بالك بالجُمَل والألفاظ، وحديث الإفك كما عند البخاري مروي في 98 سطر و1460 كلمة و5 صفحات من القطع الكبير، من يستطيع حفظ هذا الكمّ الكبير من الألفاظ والجمل على مدار 200 عام من الحفظ دون مراجعته من كتاب؟..فلو قيل أنهم حفظوا القرآن وهو أعظم قلت أن القرآن كان مكتوباً ولو لم يكن مكتوباً ما حفظوه، واختلاف روايات جمع القرآن نموذج على أن الحافظة البشرية لا تتسع لهذا الكم الكبير من السطور دون وجود أصل لمراجعته، ولو اتسعت فهي على المدى القصير لا الطويل.