ساعات مرت بعد القصف الأخير لميلشيات .."زهران علوش"..أحياء دمشق وقتل عشرات المدنيين ، ولمن لا يعلم طبيعة هذه الميلشيات كانت هي نواة الجيش الحر منذ سنوات، ثم اتحدت جميعها في تنظيم يسمى.."جيش الإسلام"..الذي تحول بعد ذلك إلى ما يُسمى.."الجبهة الإسلامية"..وهي المدعومة عسكرياً من الولايات المتحدة ودول الخليج، وتُسيطر على مناطق في الغوطة الشرقية وحلب وبعض أرياف المحافظات إضافة إلى تشكيلها جبهة موحدة مع النصرة القاعدية في الساحل السوري.
هذه الميلشيات الجهادية هي التي أعلنت عن دعمها أمريكا وكشفت قُرب إقامة معسكرات تدريب لها داخل سوريا وخارجها، في محاولة يائسة للولايات المتحدة للضغط على الأسد وإطالة أمد الحرب، ثم أطلقت عليها لفظاً ترويجياً دعائياً وهو.."المعارضة المعتدلة"..ويستغرب البعض كيف تكون معتدلة في العُرف الأمريكي وهي ترفع شارة الجهاد الديني ؟!
هذا يدل على أن الجماعات الجهادية في الشرق الأوسط صنيعة أمريكية ، وبالعودة إلى ذكريات الجهاد الأفغاني نستدعي خطب جنرالات البنتاجون الحماسية التي كانت تُلهب حماس الأفغان وتعدهم بالجنة، في سلوك طفولي إجرامي يهدف لتأجيج الأصولية الدينية وتوظيفها لحرب الروس، وقد ارتد ذلك على أمريكا في أحداث سبتمبر وقتل السفراء وجرائم مدريد ولندن وفرنسا وغيرها، لأن دعم التطرف ليس له نتيجة إلا الهدم دون تمييز، حتى لو طال ذلك الداعمين..والتاريخ يشهد أن كل من دعم التطرف الديني أو هادنه سيكتوي بناره في الأخير.
أمريكا لا تدعم فقط الجماعات الدينية بل تدعم أيضاً الجماعات العلمانية كحركة.."حزم"..العلمانية المقاتلة في حلب، وهي إحدى التنظيمات المسلحة التي أنشأها لواء سوري منشق وهو .."سليم إدريس"..بهدف تنويع الحواضن الشعبية للمعارضة ، وحزم تخوض حرب ضارية مع جبهة النصرة خصوصاً في ريف حلب، وعليه يظهر لدينا معارضة.."معتدلة"..أمريكية تقاتل بعضها على النفوذ، وتظهر معها أزمة أمريكية بشأن الدعم وجدواه، في ظل حرب زهران علوش وحزم ضد داعش ،والأخيرة حصلت على السلاح الأمريكي القادم ضمن خطط الدعم.
وفي تطور كبير أعلنت حركة حزم منذ أيام انضمامها للجبهة الشامية الإسلامية، وهو تطور أيدولوجي يخدم الرؤى الدينية في سوريا وسير العمليات نحو تشكيل خلافة مستقبلية، وهو تطور غريب ..كيف لجماعة علمانية أن تخلع عبائتها بهذه السرعة، في تقديري أنها تخص أزمة اليسار والفكر الليبرالي ، على أن الليبراليون واليسار لم يعودوا يهتمون بفصل الدين عن الدولة كما هو شائع، بل طغت نزعاتهم المعادية للدولة في الآونة الأخيرة، وهو الطغيان الذي ساهم بشكلٍ كبير في ظهور التيار الفوضوي الأناركي الذي اجتاح سوريا والعراق مصر منذ سنوات.
لكن المعادلة المصرية لا زالت تحتفظ بمكوناتها المختلفة عن المعادلتين السورية والعراقية من حيث التكوين الطائفي والبعد المصري الخليجي الذي استعاد قوته بعد ثورة يونيو في مصر على جماعة الإخوان، وهذا يعني أن التيار الفوضوي في مصر أصبح أقل شوكة مما هو في سوريا والعراق بفضل ثورة يونيو، وظهور شخصية كاريزمية مؤثرة على المصريين كالرئيس السيسي.
والتيار الفوضوي يستمد قوته من فكرتي.."الحرية والحقوق"..المعلن عنها ضمن مبادئ العقد الاجتماعي..بحيث تُقدم حرية الفرد على حقوق الجماعة، وحقوق الفرد على حرية الجماعة ، ويرفضون فيه أي تدخل للدولة في توجيه حياة الفرد الأخلاقية والمعرفية، وعند اليسار يكتفون بضرورة تدخل الدولة في إقرار العدالة الاجتماعية، على أن الفرد في طبيعته هو القانون ولا سلطان لأحدٍ عليه، وهي القاعدة الجذرية للأناركية والشريان الدائم لهذا الفكر الهدام..مما حمل أكثرهم على رفض أي سلطة وأي نظام تُنتجه الدولة.
غالباً ما يكون العنصر الرئيسي في ميلشيات زهران علوش أو حركة حزم أو الجبهة الشامية أـو حتى جبهتي النصرة وداعش يتبنون هذا الفكر الفوضوي، بحيث كل فريق يرى أن برنامجه للإصلاح لن يأتي إلا بهدم كل ما هو كائن والشروع في تأسيس ما سيكون، وهو المطلب الذي حملهم للتحريض على انشقاق الجيشين السوري والعراقي وطالبوا به في مصر لكن الوعي المصري كان أكثر وتماسك الدولة والشعب كان أكبر.
إن القصف.."المعتدل"..لبيوت الآمنين في دمشق وتلك الأحياء المؤيدة لبشار الأسد مقصود به المساومة والضغط ليس أكثر، فالجيش السوري لا زال يفرض سيطرته على دمشق وريفها، ولديه مرونة تكتيكية لحصار الأحياء المعارضة –كجوبر- والتوسع لحصار الغوطة الشرقية بعدما قاب قوسين أو أدنى لإحكام سيطرته على محيط حلب وبالتالي حصارها على غرار حصار حمص الناجح الذي أدى إلى استسلام المعارضة والخروج باتفاق سلمي.
وبالتالي لا هدف استراتيجي من وراء قصف جيش الإسلام للمدنيين، فالنصر العسكري لا يتحقق بقتل المدنيين بل بقتال الكتائب وحصار مواقعها، قد تكون لهم الحجة المعنوية كرد على قصف الجيش السوري لهم أو لمواقعهم، ولكن في المحصلة جماعة زهران علوش في موقف ضعف، وهي محاصرة من أغلب الجهات، ولولا مئات الآلاف من المدنيين الذين اتخذوهم دروعاً بشرية لتم اجتياح مناطقهم بمعركة عسكرية تكاد تكون هي الأضخم منذ إعلان الحرب الأهلية في البلاد.
وقد يكون المقصود من عمليات القصف خلق تمرد شعبي على الحكومة السورية سواء بإحداث فوضى تؤهلهم لتخفيف الضغط أو استثمار هذا .."التقدم العسكري"..في مفاوضات روسيا أو القاهرة، ولا يهم من سقط من الشهداء فكل هذه الدماء ثمن رخيص للسياسة القذرة، وكأن الأبرياء والضعفاء في سوريا هم وحدهم من يدفعون ثمن الحماقة وخفة العقول وأدران القلوب.